نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

ويصف في موضع آخر العلم اللامحدود لله تعالى بهذا الرسم الذي يفوق حد التصور (وَلَوْ انَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ اقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ ابْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ). (لقمان / ٢٧)

في واقع الأمر أنّ هذه الصورة تتضمن الإشارة إلى حالة غير متناهية إلّاأنّها صورة حية ، لأنّ العدد اللامتناهي قد يستفاد منه بشكل جامد في الرياضيات والتوضيحات الفلسفية ، وقد يستفاد منه وهو ينبض بالحياة على شاكلة الصورة التي وردت في هذه الآية بحيث ترتقي بفكر الإنسان ، إلى ذرى اللانهاية.

ونحن عندما نستطيع أن نقف على عمق المعارف الإسلامية فيما يخص أدق المسائل التوحيدية والأسماء والصفات الإلهيّة نكون قد بحثنا دورة لكل القرآن المجيد بهذا الصدد (١).

* * *

وحينما يضع القرآن اللبنات الاولى لمسألة المعاد والحياة بعد الموت نجده تارة يفند جميع المزاعم والافتراضات الخاطئة للمناوئين في جملة مختصرة ويقول : (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). (الأعراف / ٢٩)

وتارة يقول في تبيان أوسع : (اوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمواتِ وَالارْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلَّاقُ العَليمُ* انِّمَا امْرُهُ اذَا ارَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (يس / ٨١ ـ ٨٢)

وتارة اخرى يجسم لهم مشهد المعاد والبعث في لوحة حية بدون أن يكلفوا تفكيرهم عناء الاستدلال : (يَا ايُّهَا النَّاسُ انْ كُنْتُم فِى رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَانَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارْحَامِ مَا نَشَاءُ الَى اجَلٍ مُّسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُم طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا اشُدَّكُمْ وَمِنْكُم مَّنْ يُتَوَفّى وَمِنْكُم مَّنْ يُرَدُّ الى ارْذَلِ

__________________

(١) يراجع ج ٣ من هذا التفسير ، للحصول على معلومات واسعة ومنظمة بهذا الصدد.

١٠١

العُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً فَاذَا انْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَانْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَانَّهُ يُحْىِ المَوْتى وَانَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ). (الحج / ٥ ـ ٦)

وبناء على ذلك يبين القرآن مشهد البعث في عالم الإنسان وطيّه لمختلف المراحل الجنينية التي تُعدُّ كل واحدة منها بعثاً عظيماً ، وفي عالم النباتات أيضاً نلاحظ مشهد الموت والحياة وبعثها في كل شتاء وربيع من كل سنة.

إنّ الآيات التي تطرقت إلى الحياة بعد الموت والأدلة المختلفة عليها تعرضت إلى المنازل والمشاهد المتعددة للآخرة ، وما يقع هناك من حوادث ، وكيفية تجسُّم الأعمال والحساب والكتاب والميزان والشهود في يوم القيامة ، وتحتوي هذه الآيات على امور ومسائل دقيقة ، تجعل الإنسان عند مطالعتها والتأمل فيها في حالة غامرة من العجب ، وبإمكانكم مطالعة نبذة من هذه المسائل بشكل موسع في المجلد الخامس والسادس من هذا الكتاب.

* * *

١٠٢

٣ ـ إعجاز القرآن في تصور العلوم الحديثة

قبل الدخول في هذا البحث لابدّ من الإشارة إلى نقطتين لتصحيح أي نوع من سوء الفهم بصدد هذا البحث :

١ ـ يجب أن لا يتوقع أحد أن يُبيّن القرآن الكريم جميع مسائل العلوم الطبيعية وأسرار وخواص كل الأشياء ، لأنّ القرآن لم ينزل لبيان هذه الامور ، فهو ليس دائرة للمعارف أو كتاباً لعلم طبقات الأرض «الجيولوجيا» أو لعلم النبات وإنّما هو كتاب للتربية والهداية ، نزل ليقود الناس إلى حياة طيبة مقترنة بالسعادة والفضيلة ويحكمها الصدق والأمانة والنظام والرحمة ، وليوصلها في النهاية إلى القرب من الله تعالى.

وأمّا الغرض من قوله تعالى في صدد القرآن الكريم : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانَاً لِّكُلِّ شَىءٍ). (النحل / ٨٩)

فهو لبيان كليات الامور التي تتعلق بنجاة الإنسان وسعادته وتربيته ولذلك يقول تعقيباً على هذه الجملة : (وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلمُسْلِمِينَ). (النحل / ٨٩)

بيدَ أنّ بعضاً من الآيات الإلهيّة ومن أسرار الخلق في العالم وفي وجود الإنسان ذاته تساعد على معرفة الله والتعرف على عظمة عالم الخلائق الذي هو من صنع الله تعالى ، لذلك قد نجد أحياناً إشارات إلى هذه المسائل بين الآيات القرآنية وقد رفعت الستار عن امور خفيت واستترت عن جميع علماء العالم في ذلك الوقت.

وملخص الكلام هو : أنّ الإتيان ببعض أسرار العلوم وحقائق عالم الوجود في القرآن لا لعرض العلوم الطبيعية أو لتأليف دائرة للمعارف بل الغرض منه هو تبيين الأهداف التربوية

١٠٣

والأخلاقية ، وتعليم درس التوحيد ومعرفة الله ، وفهم أسماء وصفات الحق ، أو الاطلاع على جانب من أسرار المعاد وما شاكل ذلك.

٢ ـ هل من الصحيح التشبث بمثل هذه البحوث وتطبيق الآيات القرآنية على الاكتشافات العلمية؟ هل يحق لنا أن نطبق المسائل المختلفة للعلوم الطبيعية على الآيات القرآنية ، أو بالعكس؟ في حين أنّ آراء العلماء لا تستقر على حال ، وهي في تغير دائم ، ولذلك ليس من المنطق في نظرنا أن نطبق أمراً ثابتاً مستحكماً على آخر متغير؟

للاجابة عن هذا السؤال لابدّ من القول : إنّ هناك ثلاثة آراء مختلفة ، فأتباع الرأي الأول وهم الذين اتخذوا جانب الإفراط في هذا المجال ، فقد طبقوا الآيات القرآنية على الفرضيّات العلمية لأدنى تناسب أو توافق بينهما ـ لا على الحقائق المسلَّمة والقطعية للعلوم ـ ظناً منهم أنّهم قد أسدوا خدمة إلى معرفة القرآن من هذا الطريق.

في حين أننا نعلم في وقتنا الحاضر أنّ القيام بهذا العمل يعد خطأً كبيراً لأنّه لا يعد عدم خدمة للقرآن فحسب ، بل سبباً لسقوط اعتبار القرآن ومكانته ، لأنّ الفرضيات العلمية ـ لا القوانين المسلَّمة ـ في حالة تحول وتغير مستمر ، ولذلك ليس من المنطق ولا هي خدمة للعلم والعقيدة أن نقوم بتطبيق الحقائق القرآنية الثابتة على جملة من الامور المتحولة والمتغيرة ، والمشكوكة أو المظنونة.

وأمّا القائلون بالرأي الثاني : فهم الذين سلكوا طريق التفريط ، واعتقدوا بعدم جواز التطبيق في أي مورد من الموارد حتى في المسلّمات العلمية التي تنسجم بصورة أو بأخرى مع العبارات القرآنية الصريحة ، وهذا يعدُ نوعاً من التعصب والجمود والبعد عن المنطق والدليل أيضاً.

وأمّا الرأي الثالث وهو الذي يمثل الحالة الوسط بين هاتين النظريتين الخاطئتين ، فلو خرجنا من حيز الافتراضات ودخلنا في عالم القوانين العلمية الثابتة بالدلائل القطعية أو الشواهد المُسَلَّمة لكانت دلالة القرآن على هذه الامور صريحة وواضحة.

فما هو المانع من تطبيق هذه المسائل على آيات القرآن؟ ولماذا نتخوف من هذا

١٠٤

الانسجام الذي هو أحد الأدلة على عظمة هذا الكتاب السماوي؟ وإذن ما المانع من أن يكشف القرآن الستار بوضوح عن البحوث التوحيدية ومعرفة الله تعالى ، والمسائل التربوية المستندة لجملة من الحقائق العلمية المجهولة بصورة كاملة في ذلك العصر ، ومن ثم يوجه أتباعه ويوقفهم على هذا الأمر ، فبالإضافة إلى تحقق النتائج التوحيدية والأخلاقية من وراء ذلك ، يعتبر إمارة واضحة على حقانية القرآن فضلاً عن أنه يفتح باباً واسعاً للعلوم والمعارف.

وعلى هذا الأساس سنتطرق بدقة إلى نقطتين مهمتين في هذا البحث المتواصل وهما :

١ ـ سنختار المسائل الثابتة والمسلَّمة مائة بالمائة من العلوم الطبيعية مثل قانون الجاذبية ، والزوجية في عالم النباتات ، حركة الأرض ، وحركة المنظومة الشمسية ، وأمثال ذلك ممّا ثبت بالأدلة الحسية في يومنا هذا.

٢ ـ سننتخب من الآيات في هذا المجال ما هو صالح للانطباق على القواعد العلمية العصرية بدون أدنى تكلُّف أو تأويل ، أو بعبارة اخرى فدلالة الآيات التي تقع مورداً للقبول ، هي التي تكون وفق القواعد الأدبية التي يكثر فيها استفادة المعاني من الجمل والكلمات.

* * *

١ ـ القرآن وجاذبيته العامة

نقرأ في قوله تعالى : (اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ). (الرعد / ٢)

مما يستحق الإهتمام في هذه الآية ، أنّ القرآن لا يقول : إنّ السماء ليس لها عمد ، وإنّما يقول : ليس لها عمد قابل للرؤية والمشاهدة. يستفاد جيداً من هذا التعبير أنّ أعمدة السماء غير مرئية وأنّ هذه الأعمدة هي التي أرست دعائم السماء (١).

__________________

(١) يستفاد من ظاهر الآية أنّ «ترونها» وصف ل «عمد» ، وقول البعض : إنّ مفهوم الآية «ترونها بغير عمدٍ» هو أنّكم ترون السماء بغير عمد (وعلى هذا ، فعبارة «بغير عمد» جار ومجرور ومضاف إليه متعلقة بـ «ترونها» ، خلاف الظاهر أولاً ، وثانياً ، إنّ هذا التعبير يشير إلى أنّكم ترون السماء بدون عمد في حين أنّ لها اعمدة في حقيقة الأمر.

١٠٥

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وقد سأله أحد أصحابه وهو «حسين بن خالد» عن معنى قوله تعالى : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ) ...». (الذاريات / ٧)

فقال الإمام عليه‌السلام : «سبحان الله ، أليس اللهُ يقول : «بغير عمدٍ ترونها»؟ قلت : بلى ، فقال : ثَمَّ عمدٌ ولكن لا ترونها» (١).

فهل يوجد توجيه وتفسير لهذا الحديث سوى العمد الذي نطلق عليه في عصرنا هذا إسم «التوازن بين القوة الجاذبية والدافعة».

وتوضيح ذلك ، يكمن في أنّ النظرية الوحيدة التي غزت أفكار علماء ذلك العصر ـ زمان نزول القرآن الكريم ـ ومن ثم القرون السابقة واللاحقة ، هي نظرية «الهيئة» لبطليموس التي سيطرت بقوة تامة على المحافل العلمية الدولية. ووفقاً لذلك صوَّرت السماوات على شكل كرات متداخلة نظير طبقات البصل المتلاصقة وكانت الأرض في مركزها ، ومن الطبيعي أن تستند السماوات كل منها إلى الاخرى.

إلّا أنّه ثبت بطلان هذه العقيدة بالأدلة القطعية بعد مرور زهاء الالف سنة من نزول القرآن ، وذهبت تماماً نظرية الأفلاك ـ قشور البصل ـ إلى غير رجعة ، وأصبح من المسلّمات أنّ كلّاً من هذه الكرات السماوية معلقة وثابتة في مدارها وموضعها ، وأنّ المجاميع والمنظومات متحركة ، والشيء الوحيد الذي يحافظ على ثباتها واستقرارها هو نفس هذا التعادل بين القوة الجاذبة والدافعة.

إنّ الذي يتسبب في التحرك السريع لكل الكرات السماوية ومن ثم اجتماعها في مركز واحد ، هو القوة الجاذبة ـ التي تقول : إنّ الجاذبية بين كل جسمين تتناسب طردياً مع وزنيهما ، وعكسياً مع الجذر التربيعي للمسافة بينهما ـ ، بَيدَ أنّ الحركة الدورية موجودة في الكواكب السيارة أو المنظومات ـ ولا يخفى أنّ الميزة الدورية هي نفس القوة الطاردة المركزية وهي التي تؤدّي إلى الابتعاد السريع لهذه الكرات والمنظومات عن بعضها (على

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٧٨. ورد هذا الحديث في التفسير المزبور عن طريقين ، عن تفسير علي بن إبراهيم ، وكذلك عن تفسير العياشي.

١٠٦

شاكلة الهروب من دائرة النار في حالة دورانها وذلك عندما ينقطع سلكها ويتطاير الشرر من قطع النار المتقاذفة) ، أمّا لو كانت القوة الجاذبة متساوية مع القوة الدافعة بدون أدنى نقيصة أو زيادة ، فسيظهر في هذه الحالة العمد اللامرئي القوي حتى يثبتها في موضعها الخاص كما أنّ الكرة الأرضية تتحرك في دورانها حول الشمس بمدار معين ملايين السنين بدون أن تقترب منها أو تبتعد عنها ، وهذه من دلائل عظمة الله وإعجاز القرآن.

ومن الظريف أنّ المفسرين القدامى وقفوا على هذه النكتة إجمالاً بيد أنّهم لم يعبِّروا عنها سوى بالقول بمسألة القدرة الإلهيّة ، بحيث يقول «ابن عباس» وفقاً لنقل الطبرسي في «مجمع البيان» والآلوسي في «روح المعاني» : إنّ معنى الآية هو أنّ السماء تكون بدون عمد قابل للمشاهدة ، وعليه يكون عمدها هو القدرة الإلهيّة الهائلة (١).

* * *

٢ ـ القرآن وخلقُ العالم

إنّ للقرآن الكريم تعابير وإشارات متعددة حول حدوث العالم ، إذ يقول في أحد المواضع : (ثُمَّ اسْتَوَى الَى السَّمَاءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلَارْضِ ائتِيَا طَوْعَاً اوْ كَرْهَاً قَالَتَا اتَيْنَا طَائِعِينَ). (فصلت / ١١)

وفي موضع آخر يقول : (اوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا انَّ السَّموَاتِ وَالْارضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَىءٍ حَىٍّ افَلا يُؤْمِنُونَ). (الأنبياء / ٣٠)

لقد اشير في هاتين الآيتين إلى ثلاث نكات مهمة في صدد خلق العالم والموجودات الحيّة :

١ ـ كان العالم في بادىء الأمر على شكل غاز وبخار.

٢ ـ كان العالم متصلاً في البداية ثم فصلت الكرات السماوية عن بعضها الاخرى.

٣ ـ بدأت خلقة الموجودات الحية من الماء.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٧٤ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ١٣ ، ص ٧٨.

١٠٧

وهذه هي نفس الامور التي عرفت في هذا اليوم بعنوان النظريات العلمية المسلمة.

ويتقرر توضيح ذلك : بأنّه بالرغم من وجود فرضيات مختلفة لم تخرج عن حدود الفرضية في صدد كيفية نشوء العالم ، إلّاأنّه نظراً للمطالعات التي اجريت على المجرات والمنظومات التي تتجه نحو التكون والحدوث ، بدا من المسلَّم أنّ العالم كان على شكل أكوام من الغاز في بادىء الأمر نظير الشيء المضغوط الذي تنعزل منه قطعاته وتتطاير أوصاله على أثر دورانه حول نفسه ، وهذه القطع تبرد شيئاً فشيئاً ثم تظهر بشكل مائع أو جامد في كثير من الأحيان لتشكل الكرات المسكونة وغير المسكونة.

وبعبارة اخرى تدل دراسات العلماء الفلكيين في مجال السُحب ، والعوالم البعيدة عن متناول اليد والتي تأخذ طريقها نحو التكامل على أنّهم أخرجوا هذه النظرية وهي كون الدنيا على شكل أكوام من غاز البخار من حيِّز الفرضية واعتبروها من النظريات القطعية ، والتي تم تأييدها من قِبل المحافل العلمية الدولية.

وكذلك نقرأ في بداية الآية الاولى بصراحة بـ «أن السموات» الكرات السماوية كانت في بداية الأمر على هيئة دخان وهذه الآية تنسجم مع الاكتشافات العلمية للعلماء التي لم تزل حديثة العهد ، وفي ذلك دلالة واضحة على الاعجاز العلمي للقرآن الذي يكشف عن الحقيقة التي كانت مجهولة في زمن نزول القرآن بصورة كاملة.

والآية الثانية أيضاً تُعبِّر عن حالة الارتباط الموجودة في العالم في بادىء الأمر ، ومن ثم انفصال أجزائه الاخرى وهذا أيضاً أيدته المحافل العلمية كأصل من الأصول في يومنا هذا ، وكذلك الحال بالنسبة إلى ظهور الموجودات الحية من ماء البحار في بادىء الأمر ـ سواء كانت نباتية أو حيوانية ـ هي الاخرى تعتبر اليوم من النظريات العلمية المعروفة ، وإن كان البحث قائماً على قدم وساق بين العلماء في صدد كيفية التحول والتطور ، وظهور الأنواع المختلفة للنباتات والحيوانات.

والقرآن أيضاً يفصح عن حقيقة ظهور كافة الموجودات الحية من الماء في الآية الثانية المتقدمة الذكر ، وفضلاً عن ذلك تصرح الآيات التي تنسب خلقة الإنسان إلى التراب ، بأنّ

١٠٨

هذا التراب كان ممتزجاً مع الماء على هيئة طين.

ونقرأ أيضاً في قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّنْ مَّاءٍ). (النور / ٤٥)

وللمفسرين أحاديث مطولة في صدد «الرتق» و «الفتق» الواردين في الآية الثانية واللذيْنِ هما في الأصل بمعنى «الإتصال» و ««الإنفصال».

اختار البعض المعنى المتقدم ، وهو السماء والأرض واللتين كانتا على هيئة كُتل عظيمة من البخار والغاز الُمحترق ، وتجزأت شيئاً فشيئاً على أثر الانفجارات الداخلية وحركتها حول نفسها ، ومن ثم ظهرت الكواكب والنجوم ، من جملتها المنظومة الشمسية.

ويرى البعض الآخر أنّ ذلك إشارة إلى الوحدة النوعية في مواد العالم ، بحيث كانت متداخلة في بداية الأمر حيث ظهرت على هيئة مادة واحدة ، لكنها انفصلت عن بعضها الآخر ، وتشكلت مع مرور الزمان بتركيبات جديدة.

وذهب جمع آخر أيضاً إلى أنّ ذلك إشارة إلى عدم نزول المطر ونمو النباتات من الأرض ، بمعنى أنّ السماء كانت في بداية الأمر متصلة مع بعضها الآخر ، ولم يكن ينزل المطر ، والأرض أيضاً كانت متصلة مع بعضها الآخر ، فلم يكن للنبات وجود فيها ، ثم بأمر من الله تعالى انفجرت السماء ونزل المطر ، وتفتحت الأرض فخرجت النباتات.

وقد أشارت إلى المعنى الأخير روايات متعددة من طريق أهل البيت عليهم‌السلام ، وكذلك قسم من الروايات الواردة من طريق العامة (١) ، في حين تضمنت بعض الروايات الاخرى الإشارة إلى المعنى الأول (٢) ، وتبدو الإشارة إلى هذا الاتصال أيضاً في الخطبة الاولى من نهج البلاغة ، وفي كل الاحوال ينسجم ظاهر الآية مع التفسير الأول ، علاوة على عدم وجود مانع من الجمع بين التفاسير المتقدمة ، فمن الممكن الجمع بين كل من المعاني الثلاثة في المفهوم الجامع للآية.

وممّا يسترعي الإنتباه ما ورد في قوله تعالى : (ءَانْتُمْ اشَدُّ خَلْقَاً امِ السَّمَاءُ بَنها ...

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٤٢٤ ، الأحاديث ٥٢ ، و ٥٣ ، و ٥٤ ، و ٥٥ ؛ وتفسير در المنثور ، ج ٤ ، ص ٣١٧.

(٢) المصدر السابق.

١٠٩

وَالارْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحهَا* اخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا). (النازعات / ٢٧ ـ ٣٢)

وتدل هذه الآيات بوضوح أيضاً على كون السماء مخلوقة قبل الأرض ، ثم إنّ ظهور الماء والنباتات والجبال كان بعد الانتهاء منها.

وبناءً على ذلك ، يكون هذا الأمر هو الشيء الذي يؤكّد عليه العلم الحديث ، وهو يرى أنّ الأرض وجدت بعد وجود الشمس ، ويعتبر ظهور الماء من سطح الأرض ، ومن ثم النباتات وكذلك ظهور الجبال بعد خلق الأرض.

* * *

٣ ـ القرآن وحركة الأرض

نقرأ في قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِى اتْقَنَ كُلَّ شَىءٍ انَّهُ خَبيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ). (النمل / ٨٨)

تتجلّى في هذه الآية عدّة نكات :

أولاً : إنّ الجبال التي تبدو ساكنة في نظركم ، هي في حركة سريعة كسرعة حركة السحب ، (وينبغي الالتفات إلى أنّ السرعة الفائقة تُشَبَّهُ عادة بسرعة السَّحاب ، إضافة إلى خلو الحركة السريعة للسحب من التزلزل والصخب).

ثانياً : إنّ هذا هو صنع الله الذي خلق كل شيء بميزان معين.

ثالثاً : إنّ الله عزوجل مطلع على أفعالكم.

عند التأمل بدقّة في هذه الجمل الثلاث ، يتضح أنّ الآية لا ترتبط بيوم القيامة كما تخيَّل بعض المفسرين ، بل ترتبط بنفس هذه الدنيا ، إذ تقول : «أنتم تتخيلونها وتتصورونها هكذا في حين أنّها ليست كذلك» ، وأمّا حركة الجبال في القيامة أو على مشارف القيامة فليست هي من الامور المخفية والمبهمة ، بل إنّها واضحة ومهوِّلة بحيث لا يقوى أحد على تحملها والصبر على مشاهدتها.

١١٠

إضافة إلى أنّ الاتقان في الخلقة وحاكمية النظم والموازين فيها ، هو إشارة ودلالة على وضعها الفعلي لا على زمن اقتراب يوم القيامة ، حيث سيتلاشى النظام العالمي ليبنى على أنقاضه نظام جديد.

فضلاً عن ذلك فإنّ العلم الإلهي بالأفعال التي نقوم بها يرتبط بأفعالنا في هذه الدينا ، وإلّا فإنّ القيامة يوم حساب لا يوم عمل.

ويتضح من خلال هذه القرائن الثلاث أنّ هذه الآية لا تطابق حركة الجبال في نهاية مسيرة العالم ووقوع يوم القيامة بأيّ شكل من الأشكال ، غاية ما في الأمر أنّ جماعة من المفسرين لم يتمكنوا من إدراك عمق المفهوم في الآية ، فما وجدوا بُدّاً سوى القبول بخلاف ظاهر الآية ، وتفسيرها بمسألة القيامة.

كما تتضح هذه المسألة أيضاً وهي أنّ حركة الجبال لا تنفصل عن حركة الأرض ، بل هما مترابطتان مع بعضهما الآخر كوحدة واحدة ، فاذا تحركت الجبال تحركت الأرض الحركة الدائبة.

وربّما ينقدح في الذهن هذا السؤال : لماذا اقتصر الله تعالى على ذكر الجبال ، ولم يقل إنّك ترى الأرض فتحسبها ساكنة في حين أنّها متحركة.

والجواب عن هذا السؤال واضح ، لأنّ الجبال من أعظم الموجودات على وجه الأرض ، وهي مظهر من مظاهر الصلابة والصمود والاستحكام ، ولذا نقول لضرب المثل المعروف :

«إنّ الشخص الفلاني منيع وصامد كالجبل» ، ولذلك يمكن اعتبار حركة الجبال على عظمتها وصلابتها وثباتها ، أحد العلائم على القدرة اللامتناهية للحق تعالى ، لكن ممّا لا جدال فيه أنّ حركة الجبال هي احدى التجليات الواضحة لحركة الأرض.

وفي كل الاحوال ، تعتبر الآية المذكورة أحد المعاجز العلمية المهمّة للقرآن ، إذ من المعلوم أنّ العقيدة الرائجة والحاكمة لدى كافة المحافل العلمية الدولية في عصر نزول القرآن وزهاء الألف سنة بعد ذلك هي نظرية ثبات الأرض ودوران الكرات حولها ، والتي نشأت من هيئة «بطليموس».

١١١

ومن العلماء الأوائل الذين اكتشفوا حركة الأرض هم كل من «غاليلو» الايطالي ، و «كبرنيك» البولندي ، وذلك بعد مرور ما يقارب الألف سنة ، إذ اعلنوا عقيدتهم في آواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر الميلاديين ، ممّا أثار على الفور حفيظة أرباب الكنيسة بشدّة بحيث هدّدوهما بالقتل ، في حين أنّ القرآن الكريم كشف الستار عن هذه الحقيقة بعشرة قرون قبلها ، وطرح بعباراته البديعة المتقدمة حركة الأرض باعتبارها إحدى علائم التوحيد والعظمة الإلهيّة.

وعلى كل حال ، فممّا لا شك فيه أنّ هذه الآية تتحدث عن حركة الجبال (وبتعبير آخر حركة الأرض) في هذه الدينا ، ذلك لأنّ حركة الجبال عند وقوع يوم القيامة ، تُحدثُ زلزالاً قوياً في الكرة الأرضية بحيث يقول تعالى عنها (يَومَ تَروْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ وتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكارَى وَمَاهُمْ بِسُكارَى ...). (الحجّ / ٢)

وهذا الكلام لا ينسجم مع جملة : (تَحْسَبُها جَامِدَةً) على الاطلاق.

إضافة إلى أنّه لا يبقى مجال لأفعال الخير والشر في تلك اللحظات الحرجة ، حتى يتأتى القول بأنّ الله تعالى مطلع على الأفعال التي نقوم بها.

والقول بأنّ الآيات التي تسبق الآية المتقدمة أو ما بعدها ترتبط بالقيامة لا يمكن اعتباره دليلاً قطعياً على أنّ مفهوم هذه الآية يرتبط بالقيامة ، لأنّ هذا ليس أحد المصاديق النادرة في القرآن ، فَرُبَّ آية تتحدث في مسألة معينة وتتحدث التي قبلها أو بعدها عن مسألة اخرى. وبعبارة اخرى فالإطلاع على محتوى الآية نفسها والقرائن الموجودة فيها أهم وأفضل من الملاحظات الاخرى.

وهذه النكتة تستحق الاهتمام أيضاً وهي أنّ التشبيه بحركة السحب بالإضافة إلى أنّه إشارة إلى السرعة الفائقة لها ، يعتبر جواباً قاطعاً عن هذا السؤال ، وهو إذا كانت الأرض متحركة فلماذا لا نشعر بها؟ فيأتي الجواب إنّها تتحرك ببطءٍ ومرونة وهدوءٍ بحيث لا يمكن تشخيص ذلك ، كما لو صعد أحد على السحاب مثلاً ، فانّه لم يكن يشخص حركتها أيضاً.

وممّا يدعو إلى الاهتمام هذه النكتة أيضاً وهي أنّ القرآن يقول : (الَمْ نَجْعَلِ الارْضَ

١١٢

كِفَاتَاً* احْيَاءً وَامْوَاتَاً). (المرسلات / ٢٥ ـ ٢٦)

ونشاهد في قواميس اللغة التي من جملتها «المفردات» للراغب وكتاب «العين» أنّه قد ذكر معنيان للفظة «كِفات» المأخوذة من مادة «كَفْت» وهما الجمع والطيران السريع ، فاذا كان المعنى الأول هو المقصود ، يكون مفهوم الآية على أن جعلنا الأرض محطاً لاجتماع بني البشر في حياتهم ، وما تحت الأرض مقراً لاجتماعهم بعد مماتهم ، وإذا كان المقصود المعنى الثاني ، يكون مفهومها الطيران السريع للأرض. وهذا يتناسب مع الحركة الانتقالية للأرض حول الشمس التي تسير دائريّاً بسرعة فائقة ـ تقدر بـ (٢٠) كيلو متر في كل ثانية و (١٢٠٠) كيلو متر في كل دقيقة ـ ثم إنّها تحمل الأموات والأحياء معها وتدور بهم حول الشمس.

ولعل السبب في اطلاق لفظة «كَفْت» على الطيران السريع ، هو أنّ الطيور عندما تريد أن تطير بسرعة فائقة في السماء تجمع أجنحتها بصورة كاملة وبشكل متناوب وتسبح في الفضاء ، لكن نظراً لكون لفظة «كَفْت وكِفات» تحتمل معنين ، لم نذكر هذه الآية بعنوان أحد الأدلة القطعية على مسألة دوران الأرض.

* * *

٤ ـ القرآن وحركة المنظومة الشمسية

يقول القرآن الكريم : (وَالْشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِى لَهَا انْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). (يس / ٣٨ ـ ٤٠)

كما تقدمت الإشارة إليه من قبل أنّ النظرية التي تحدثت في صدد السماء والأرض وسيطرت على المحافل العلمية في عصر نزول القرآن والقرون السابقة واللاحقة عليه ، هي نظرية الهيئة ل «بطليموس» الذي كان يعتبر الأرض مركز العالم ، ويعتقد أنّ النجوم والشمس مندكَّة في قلب الأفلاك البلورية ، ويتصور أنّ الأفلاك تدور حول أطراف الأرض.

١١٣

ويذكر القرآن في الآيات أعلاه مطلباً يتنافى مع هذا الكلام بصورة كاملة ، فهو يقول :

أولاً : إنّ الشمس تتحرك باتجاه احدى المقرات (أو إنّ الشمس تتحرك في قرارها المختص بها) ، لا أنّ الشمس مع فلكها البلوري تدور حول الأرض.

ثانياً : إنّ كلّاً من الشمس والقمر يسبح في فلكه الخاص به.

وبعد إنهيار دعائم فرضية «بطليموس» على أثر اكتشافات القرون الأخيرة ، وتحرُّر الأجرام السماوية من قيود الأفلاك الخارجية ، استحكمت هذه النظرية التي ترى أنّ الشمس ساكنة وثابتة في مركز المنظومة الشمسية ، وتدور حولها المنظومة الشمسية بأكملها.

وفي هذا المضمار أيضاً لم تكن هناك معلومات عن حركة الشمس باتجاه قرارها الخاص أو في دائرة نفسها.

وهكذا تطور العلم أكثر فأثبت من خلال مشاهداته النجومية بالاستفادة من المراصد الفلكية القوية جدّاً أنّ للشمس حركتين على أقل تقدير : الحركة الموضعية حول نفسها ، والحركة الانتقالية بصحبة المنظومة الشمسية بأكلمها باتجاه نقطة معينة من السماء ، او بتعبير آخر باتجاه نجم «ويكا» وهو يعتبر من نجوم الصورة الفلكية التي تسمى «الجاثي على ركبتيه» (١).

جاء في إحدى دوائر المعارف : أنّ للشمس ـ بالإضافة إلى الحركات الظاهرية ـ حركة واقعية ، «الحركة الدورية للمجرات تسير بالشمس وتدور بها في الفضاء بسرعة مليون ومائة وثلاثين ألف كيلو متر في الساعة تقريباً ، وكذلك ليست الشمس ثابتة في داخل المجرات ، بل تتحرك باتجاه الصورة الفلكية التي تدعى «بالجاثي» بسرعة تناهز (٧٢) ألف كيلو متر في الساعة ، والسبب في عدم اطلاعنا على الحركة السريعة للشمس في الفضاء هو الدورة الفلكية للأجرام السماوية».

__________________

(١) تطلق الصورة الفلكية «الجاثي على ركبتيه» على النجوم التي تكون بمجموعها على هيئة شخص جاثٍ على ركبتيه يريد القيام ، ونجم «ويكا» يعد من هذه المجموعة التي تدور حولها المنظومة الشمسية بما فيها الشمس.

١١٤

ثم تضيف على ذلك بالقول : إنّ للشمس في دورانها حول نفسها حركة دورية موضعية أيضاً (الدورة الموضعية لحركة الشمس في استوائها تستغرق (٢٥) ليلة تقريباً (١).

إذن ممّا لا يقبل الشك أنّ الآية : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) لا تتلاءم مع نظرية الأفلاك البلورية ل (بطليموس) التي أثبتت كل واحدة من الكرات في موضعها الخاص ، وتنسجم تماماً مع اكتشافات العلم الحديث ، علاوة على أنّ الحركة باتجاه «المستقر» إشارة اخرى إلى حركة الشمس باتّجاه أحد جوانب المجرات أيضاً ، وفي الواقع فإنّ بيان هذا الموضوع يُعدُّ معجزةً.

* * *

٥ ـ القرآن واتساع العالم

نقرأ في قوله تعالى : (وَالْسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِاييْدٍ وَانَّا لَمُوسِعُونَ). (الذاريات / ٤٧)

«أيدٍ» : (على وزن صيدٍ) معناه القدرة والقوة ، كما جاء هذا المعنى في آيات اخرى من القرآن أيضاً ، وذكر بعض المفسرين إضافة إلى ما قلناه معنى (النعمة) لـ «أيد» أيضاً ، في حين أن «يَدْ» تأتي بمعنى «النعمة» في بعض الأحيان والتي يكون جمعها أيدي» وجمع جمعها «أيادي».

وعلى أيّة حال ، تدل جملة «انّا لَمُوْسِعُون» بوضوح على أنّ الله تعالى الذي خلق السموات بقدرته التامة يضفي عليها عامل الاتساع والاستيعاب بصورة مستمرة ، وبناء على عدم وضوح هذا المطلب بالنسبة للعلماء والمفسرين سابقاً ، فقد فسَّر الكثير منهم هذه الجملة بأنّها تعطي معنى سعة رزق الله تعالى على عباده من خلال نزول المطر ، أو من خلال طرق مختلفة. وفسَّرها بعض أنّها تعطي معنى الغنى والكفاف ، وبأنّ الله تعالى كلما أجزل نعمة وأعطى لا تنقضي خزائنه أبداً. بيدَ أنّنا لو ألقينا نظرة على ما أثبتته المشاهدة النجومية بواسطة المراصد الفضائية نلاحظ أنّ المجرات تبتعد إحداها عن الاخرى بسرعة ، وأنّ

__________________

(١) قاموس دهخدا ، ج ٢٢ ، مادة (الشمس) «باللغة الفارسية».

١١٥

العالم في حالة اتساع مطَّرد ، ولكي يتّضح مفهوم هذه الجملة في أذهاننا بصورة كاملة ، نقرأ في كتاب «بداية ونهاية العالم» لمؤلفه «جان ألدر» :

«لقد كشفت أحدث وأدق الحسابات على طول مسيرة الأمواج التي تنبعث من النجوم ، الستار عن إحدى الحقائق العجيبة والمدهشة ، حيث بيّنت أنّ مجموعة النجوم التي تشكل هيئة العالم تبتعد بسرعة فائقة عن مركز العالم بصورة مستمرة ، وكلما اتسعت الفاصلة بينها وبين مركز العالم كلما زاد ذلك من سرعة سيرها ، ويبدو أنّ النجوم بأكملها كانت مجتمعة في هذا المركز في يوم من الأيّام ثم تشتت شملها بعد ذلك ، وانفصلت عنها مجموعة من النجوم الكبيرة لتشق طريقها في مسالك الفضاء المختلفة ، علاوة على أنّ العلماء استفادوا من هذا الموضوع على أنّ للعالم نقطة شروع في بداية الأمر» (١).

ونقل في نفس الكتاب عن «جورج كاموف» قوله في كتاب «خلق العالم» :

«إنّ فضاء العالم المتكون من مليارات المجرّات ، في حالة اتساع مطَّرد ، وفي الحقيقة أنّ عالمنا ليس في حالة سكون وإنّما في حالة انبساط ، والتوصل إلى الحقيقة القائلة بأنّ هذا العالم هو في حالة انبساط وتوسع ، هو المفتاح الذهبي للتعرف على لغز هذا العالم ، قولنا : إنّ العالم في حالة انبساط حالياً ، يستلزم منه أنّ العالم كان في حالة انقباض شديد جدّاً في يوم من الأيّام» (٢).

ونقرأ في كتاب «حدود النجوم» لمؤلفه «فورد هويل» حول سرعة الانبساط واتساع العالم مايلي :

«تصل أقوى درجات السرعة لتقهقر الكرات التي خضعت للقياس إلى وقتنا هذا إلى حدود ستة وستون ألف كيلو متر في الثانية ، إنّ نور المجرات الأبعد يبدو ضعيفاً بنظرنا إلى درجة بحيث يتعسر علينا قياس سرعتها ، نظراً لعدم وجود النور الكافي ، لقد بيّنت الصور التي التقطت من السماء بوضوح أنّ فاصلة هذه المجرّات ابعد بكثير من فاصلة المجرّات القريبة» (٣).

__________________

(١) بداية ونهاية العالم ، ص ٧٤ ـ ٧٧ (باختصار).

(٢) المصدر السابق.

(٣) حدود النجوم ، ترجمة رضا أقصى ، ص ٣٣٨ ، عن النسخة الفارسية.

١١٦

وعلى هذا الأساس نقف على تفسير واضح جدّاً في صدد الآية السابقة واتساع السموات ، والتي تكشف الستار عن السر وراء أحد المعجزات العلمية للقرآن.

وممّا يستحق الاهتمام أيضاً أنّ عبارة : «إنّا لَمُوْسِعُونَ» والتي استعمل فيها اسم الفاعل والجملة الإسمية للدلالة على حالة الاستمرار والديمومة ، وعلى تداوم حالة التوسع والانبساط.

* * *

٦ ـ القرآن ووجود الحياة في المجرات الاخرى

جاء في قوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ اذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ). (الشورى / ٢٩)

يا ترى هل العيش والحياة مختص بالكرة الأرضية ، والكرات الاخرى ليست مسكونة اطلاقاً؟ لقد كان العلماء الأوائل يتابعون هذه المسألة دائماً بشيء من التردّد أو الحكم المنفي ، بيدَ أنّ التحقيقات الأخيرة للعلماء أثبتت لنا أنّ الحياة لا تختص بالكرة الأرضية.

ونقرأ في كتاب «الحياة في العالم» من منشورات مجلة «لايف» ما يلي :

«من الممكن حسب احصاءات العلماء أن تتواجد في مجرتنا ملايين النجوم التي تكون سياراتها التابعة لها آهلة بالسكان».

وذهب البعض إلى أكثر من ذلك حيث اعتقدوا بوجود موجودات حية في بعض الكرات السماوية تفوق حالة التطور لدى الإنسان بكثير ، فالإرسالات الراديوية التي يبثونها في الفضاء ولا نستطيع الإتيان بمثلها ، قابلة للاطلاع عليها بصورة كاملة من خلال أجهزة الاستقبال التي بحوزتنا ، وإن كنّا لا نفهم لغتهم ولا نعي مغزاها.

وعلى أيّة حال فتصريح الآية المتقدمة بالقول : إنّ الله تعالى بث الموجودات الحية في السموات والأرض ، يخبر عن حياة الموجودات الاخرى بشكل واضح ، ومن الاشتباه بمكان أن نتصور أنّ المقصود من الموجودات الحية في السماء هي (الملائكة) ، وذلك لكون

١١٧

كلمة «دابة» تطلق على الموجودات الجسمانية فحسب ولا تطلق على الملائكة.

ولهذا ففي الموضع الذي يريد القرآن الكريم أن يذكر الملائكة يتحدث عنها بصورة مستقلة بعد ذكر كلمة «الدابة» ، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمواتِ وَمَا فِى الارْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ). (النحل / ٤٩)

بحيث نجد أنّ «الملائكة» جعلت في قبال «الدابة» ، وهذا يدل على عدم شمول كلمة الدابّة للملائكة في الآية التي جاء ذكرها في بحثنا هذا.

ومن الظريف ما يقوله «الفخر الرازي» في تفسير الآية الواردة في بحثنا هذا بأنّه : «لا يستبعد أن يقال إنّ الله خلق في السموات أنواعاً من الموجودات الحية تمشي كما يمشي الإنسان على وجه الأرض» (١).

ونقرأ في حديث ظريف عن الإمام علي عليه‌السلام ما يلي : «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض مربوطة كل مدينة إلى عمودٍ من نور» (٢).

ووردت في بعض المصادر الإسلامية روايات اخرى في هذا المجال (٣).

ومن المعلوم أنّ هذه المعلومات استقيت من نفس المصدر الذي استقاه القرآن الكريم ، وإلّا لم يطلع أحد على هذه المسائل في ذلك العصر.

* * *

٧ ـ القرآن وخلق الجبال

وردت في القرآن الكريم عبارات مختلفة وغنية في معانيها في مجال خلق الجبال ، يقول تعالى في أحد المواضع : (وَالْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ انْ تَمِيدَ بِكُمْ وَانْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). (النحل / ١٥)

وفي موضع آخر يقول تعالى : (الَمْ نَجْعَلِ الارْضَ مِهَادَاً* وَالْجِبالَ اوْتَادَاً). (النبأ / ٦ ـ ٧)

ونقرأ في آية اخرى قوله عزوجل : (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَواسِىَ شَامِخَاتٍ وَاسْقَيْنَاكُمْ مَّاءً فُرَاتاً). (المرسلات / ٢٧)

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٧ ، ص ١٧١.

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٥٧٤ ، مادة (النجم).

(٣) لمزيد من الاطلاع راجع كتاب «الهيئة والإسلام».

١١٨

ويقول تعالى أيضاً : (وَالْقَى فِى الارْضِ رَواسِىَ انْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ). (لقمان / ١٠)

وهناك آيات اخرى بهذا المضمون أو قريبة منها في القرآن الكريم أيضاً.

الأمر الذي نواجهه لأول وهلة في هذه الآيات ، هو تأثير وجود الجبال في الحفاظ على استقرار الأرض ، والتي عبر عنها تارة بـ «الأوْتاد» والتي تستخدم عادة في اقفال أقسام مختلفة من الأبواب والصناديق والسفن وما شابه ذلك ، أو صيانة المخيمات وتقويتها في مقابل هبوب الرياح.

وتارة اخرى عبر عنها بـ «أنْ تَميدَ بِكُم» المأخوذة من مادة «مَيْدان» بمعنى الاهتزاز والاضطراب ، ومعنى ذلك أنّ الجبال تَحُدُّ دون اضطراب الأرض واهتزازها. ولم يطلع أحد على هذا المطلب في ذلك العصر ، ونحن في هذا الوقت نعلم جيداً مدى دور الجبال على هذا الصعيد ، وذلك للنقاط التالية :

أولاً : إنّ الجبال في واقع الأمر هي في قوة أحد الدروع الفولاذية التي تحيط بالأرض من كل جوانبها ، ونظراً لقوة ارتباطها واتصالها باعماق الأرض تشكل بدورها أحد الشبكات القوية الشاملة ، وإذا لم يكن كذلك وكانت الرمال الناعمة تغطي صعيد الأرض ، لوقعت تحت تأثير الجاذبية القوية للقمر بكل سهولة ، ولهزَّ الجزر والمدُّ كل شيء على اليابسة نظير المد والجزر في البحار ، واستولى الاضطراب والاهتزاز والحركة على وجه الأرض في الليل والنهار ، ولتعرض لإمكان الانهدام والسقوط كل مبنى من المباني.

بيدَ أنّ وجود هذا الحصن المنيع في الأرض ينزل بالمد والجزر إلى أدنى مستوى ، وحالياً تأخذ القشرة السميكة للأرض بالارتفاع والانخفاض بمقدار ثلاثين سانتيمتراً في كل يوم وليلة أيضاً ، وهذا بعكس البحار التي ترتفع وتنخفض على أثر الجزر والمد امتاراً متعددة أحياناً.

وتوجِد جاذبية الشمس المد والجزر أيضاً وإن كان ضعيفاً ، ولو وقع مسير الشمس والقمر في خط واحد واتصلت الجاذبيتان في جانب واحد ، لاشتدت قوة هذه الحركات

١١٩

وتضاعفت قوتها ، إلّاأنّ القرآن يذهب بالقول إلى أنّ الجبال التي هي أوتاد الأرض تصونها من الاهتزاز.

ثانياً : إنّ الضغط الداخلي للأرض بواسطة حرارتها المركزية الهائلة يؤثر على قشرة الأرض بصورة دائمة ، ولولا وجود الجبال لأصبح مصدراً من مصادر الاضطراب المستمر للأرض.

والآن تدبّروا لو اشتد الاضطراب الناجم عن المد والجزر والضغط الداخلي على أثر مرونة قشرة الأرض وطراوتها ، فهل سننعم بالهدوء والاستقرار الذي نعيشه الآن على الكرة الأرضية؟ وهل سنجد بيتاً وملجأً ومأوىً نلجأ إليه؟

ثالثاً : لقد ثبت في وقتنا الحاضر أنّ الجبال بأعمدتها القوية تحرك معها الهواء الحاصل في أطراف الأرض ، والآن لو فرضنا أنّ الأرض تتحرك في دورانها حول نفسها بسرعتها الذاتية المعهودة ـ أي ما يقارب الثلاثين كيلو متر في الدقيقة ـ ، فلو لم تكن الجبال ، لما تحقق مثل هذا الدوران للهواء الموجود في أطرافها ، ولثارت ثائرة العواصف والأعاصير والرياح الشديدة على أثر اصطدام جزيئات الهواء بوجه الأرض ، فضلاً عما يولِّد ذلك من حرارة هائلة تحرق الأخضر واليابس. كما أنّ الطائرات السريعة لو سارت في الطبقات السفلى للجو لارتفعت درجة حرارة أجنحتها بحيث قد يؤدّي ذلك إلى عواقب وخيمة ، لهذا تضطر إلى الصعود في الطبقات العليا للجو لتتحرك في وسط الهواء الرقيق جدّاً حتى يقل احتكاكها بالهواء الذي هو المنشأ لإيجاد الحرارة.

أجل ، لقد أزالت منخفضات ومرتفعات وجبال الأرض هذه الازمة وحرَّكت الطبقة السميكة للجو مضافاً إلى حركة الأرض ، تماماً كدوران أسنان الدواليب ذات المقود التي تدور مع دورانها بقية الأشياء الاخرى.

فبناءً على ذلك ، تعتبر الجبال وسيلة من وسائل استقرار الأرض واستقرار ساكنيها سواء في مقابل جاذبية القمر والشمس ، أو في مقابل الضغط الداخلي ، أو في مقابل العواصف الشديدة والمستمرة ، أو في مقابل تولد الحرارة الشاقة.

من جهة اخرى ، تقدمت الإشارة في الآيات السابقة إلى وجود العلاقة بين الجبال وبين

١٢٠