نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

٥ ـ نبوءة اخرى عن الانتصار في معركة بدر

يدور الكلام في الآية الخامسة عن أحد الوعود الصريحة بالنصر الذي منَّه الله على المؤمنين من قبل ، يقول عز من قائل : (وَاذْ يَعِدُكُمُ اللهُ احدَى الطَّائِفَتِينِ انَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ انَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ انْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ).

ثم يضيف على ذلك بقوله : (لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الُمجرِمُونَ).

وتوضيح ذلك أنّ «أبو سفيان» سيد مكة وزعيم المشركين كان في حال عودته من الشام على رأس قافلة كبيرة تحمل معها بضائع تجارية تقدر بخمسين الف دينار كانت تتعلق به وبجماعة من أساطين مكة وأكابرها.

وأصدر رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرا إلى أصحابه بأن يعدوا أنفسهم للهجوم على القافلة ، وذلك لتحطيم جزء من القدرة الاقتصادية للأعداء عن طريق مصادرة أموالهم لأنّهم لم ينفكوا لحظة واحدة في اظهار العداء للمسلمين وإيجاد العراقيل.

اطلع أصحاب «أبو سفيان» في المدينة على هذه القضية ممّا حدا بهم إلى ايصال الخبر إلى مسامع أبي سفيان.

فلما علم بذلك اسرع في إرسال أحد الأشخاص إلى مكة ليطلعهم على الخطر الكبير الذي يهدد أموالهم وممتلكاتهم ، ولم تمضِ إلّافترة قصيرة حتى تحركت رجالات قريش وقواتها مع سبعمائة بعير ومائة فارس ، وكان يقود عسكرهم أبو جهل ، وقد حملت هذه المسألة على محمل كبير من الجد والخطورة بحيث أخذ زعماء مكة يهددون بهدم بيت كل من يستطيع الالتحاق بجبهة الحرب ثم يمتنع عن ذلك.

من جانب آخر سلك أبو سفيان طريقا آخر لينجو من قبضة المسلمين وأخذ يسير في طريق مجهول لكي يبعد نفسه عن مواطن الخطر.

ووصل «نبي الإسلام» مع أصحابه البالغ عددهم ٣١٣ ـ مع عدّة وعتاد حربي بسيط ولكن بقلوب مملوءة بالايمان والعزم والإرادة ـ على مقربة من منطقة بدر أحد المنازل القريبة الواقعة بين مكة والمدينة ، وجاءه الخبر هناك بتحرك جيش قريش المسلح من مكة

٢٢١

إلى المدينة ، فبدأ يشاور أصحابه في ذلك المكان وما يرتأونه من ملاحقة القافلة التجارية أو الوقوف بوجه معسكر الأعداء ، فوافق البعض على مواجهة الأعداء إلّاأنّ البعض الآخر كان يميل باطنياً إلى ملاحقة القافلة والسبب في ذلك يعود إلى أنّهم لا يجدون في أنفسهم الاستعداد الكافي لمواجهة القدرة العسكرية الهائلة للأعداء.

لكن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله اختارالمسلك الصحيح وأصدر أمراً بالتحرك باتجاه العدو ، ووصل الجيش الإسلامي إلى ناحية بدر (وبدر هو اسم لبئر في تلك المنطقة من الأرض نسبة إلى صاحبها الأصلي المسمى بهذا الاسم ، اطلق على جميع هذه الأرض بعد ذلك).

إنَّ الآية السابقة ناظرة إلى هذه الواقعة حيث تقول : إنّ الله وعدكم أن تكون احدى الطائفتين (جيش قريش أو قافلتهم التجارية) من نصيبكم ، إلّاأنّكم أحببتم الحصول على الطائفة غير المسلحة أي القافلة التجارية ، لكن الله يريد اظهار الحق والقضاء على الكافرين.

لذا خاطب النبي المسلمين في ذلك الموضع أنّ الله تعالى قد وعدنا أن تكون احدى الطائفتين لنا وسنتحرك باتجاه جيش الأعداء ، وسننتصر عليهم وأننا سنشاهد بأعيننا مصرع «أبي جهل» ومحل قتله ....

وتحقق هذا الوعد كما أراده الله ورسوله حيث اشتبك الجيشان مع بعضهما البعض ، وبعد حرب طاحنة وتضحيات جسيمة وردت تفاصيلها في مجمل التواريخ الإسلامية ، انتصر المسلمون وهزم مشركو مكة هزيمة مُرّة بحيث خلّفوا وراءهم سبعين قتيلاً ، وسبعين أسيراً ، ولاذ الباقون بالفرار.

وقعت هذه الحرب في اليوم السابع عشر لشهر رمضان المبارك في السنة الثانية للهجرة ، وتركت تاثيراً بالغاً جدّاً في مسيرة التاريخ الإسلامي ، بحيث إنّ مجاهدي بدر كانوا يعدونها دائماً من أمجادهم ومآثرهم العظيمة.

هنا يطرح هذا التساؤل وهو : هل كان من المتوقع وفقا للمقاييس الاعتيادية أن يتحقق مثل هذا النصر للمسلمين بشكل أو بآخر؟ والجواب عن ذلك ، كلا لأنّه :

٢٢٢

أولاً : لم يتحرك المسلمون بنية القتال ومن الطبيعي لم تكن في حوزتهم العدة والعتاد الكافي ، لأنّهم كانوا بهدف الاستيلاء على القافلة فاذا بهم يباغتون بجيش جرار ومسلح من قريش (طبعاً في مقياس ذلك الزمان).

ثانياً : من جهة الموازنة بين القوى فقط كان المسلمون يعيشون في وضع سيء في الظاهر فقد كان عدد أفراد جيش العدو يفوق عدد أفراد المسلمين بثلاثة أضعاف ، وكانت في حوزتهم الخيول والجمال الكثيرة والمستلزمات الحربية الكافية ، في حين كان المسلمون يمتلكون فارسين فقط ، وكانت عدتهم الأساسية تتكون من ٧٠ ناقة يركبها كل واحد منهم بالتناوب.

ثالثاً : كان يوجد هناك أفراد أقوياء وشجعان بين صفوف جيش قريش ، وكان الوازع والدافع النفسي للحرب ناشئاً من احساسهم بأنّهم لا يرون أنّ أموالهم وثروتهم هي المعرضة للخطر فحسب ، بل كل شيء يمتلكونه هو معرض للخطر أيضاً.

لكن بالرغم من ذلك كله فإنّ الله وعد المسلمين بالنصر وفقاً للآية الصريحة التي تقدم ذكرها ، وأكّد النبي على ذلك تأكيداً بالغاً أيضاً.

والجدير بالذكر أنّه قد ظهرت على مدار هذه الحادثة قضايا مختلفة عبرت عن وجود «امدادات غيبية» من جملتها أنّ المسلمين غطوا في نوم هاديء في ليلة وقعة بدر بحيث أعدتهم وعبأت قواهم ليوم المنازلة ، كما هطل المطر من السماء ليغتسلوا ويتطهروا ممّا هم عليه ، ثم لتصبح الأرض الرخوة التي يصعب التحرك عليها صلبة ومتماسكة وصالحة للنزال ، وهذا هو ما أشارت إليه الآيات اللاحقة بالقول : (اذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ امَنَةً مِّنهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيَطانِ وَلِيَربِطَ عَلَى قُلُوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الَاقدَامَ). (الانفال / ١١)

ملخص الكلام أنّه يتضح جيداً من مجموع الآيات المتعلقة بملحمة بدر في القرآن الكريم مدى الاضطراب والتزلزل الروحي لدى بعض المسلمين من تزايد أفراد العدو وقدراته العسكرية وتفوقهم على المسلمين ، لذلك كان من الطبيعي جدّاً التنبوء بهزيمة

٢٢٣

المسلمين ، لكن على الرغم من كل هذه القرائن يقول القرآن : لقد وعد الله المسلمين بالنصر من قبل وانتصروا في نهاية المطاف.

قد يقال : إنّ هذه الآيات نزلت بعد الانتصار في بدر كما يعبر عنه لحنها وسياقها ، وعليه لا يمكن اعتبارها جزءً من التنبؤات القرآنية ، إلّاأنّ الاجابة عن هذا الإشكال تتضح من خلال الدقّة والتأمل في نفس هذه الآيات ، لأنّ القرآن يقول بصراحة : إنّ الوعد بالنصر قد جاءكم من قبل ثم تحقق هذا الوعد بعد ذلك.

* * *

٦ ـ الوعد بالعودة

في الآية السادسة وهي ـ الآية ٨٥ من سورة القصص ـ وعد الله تعالى نبيّه بالعودة إلى الحرم الإلهي الآمن ، وقد جاء هذا الوعد في أصعب أيّام حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي في الوقت الذي أراد أن يكسر طوق حصار الأعداء الحاقدين ويخرج من ضيق خناقهم ويهاجر من مكة إلى المدينة.

وقد قام بهذا العمل واتجه صوب المدينة ولما وصل إلى منطقة الجحفة التي لا تبعد عن مكة إلّاقليلاً تذكر موطنه الحرم الإلهي الآمن ، وبدت على ملامح وجهه آثار هذا الشوق الممتزج بالحزن والاسى ، وفي هذا الأثناء نزلت الآية الآنفة الذكر ، وأبلغ على هذا النحو : (انَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ الَى مَعَادٍ).

إنّ التنبوء بعودة النبي إلى مكة بصورة صريحة وقاطعة غير وارد في تلك الظروف الحرجة والعصيبة عادة خصوصاً مع اقترانها بنزول القرآن وبأنّ الله المنزل للقرآن سيقوم بهذا العمل قطعاً ، لكننا نعلم أنّ هذا الوعد الإلهي تحقق في النهاية ، وعاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع جيشه القوي المقتدر إلى مكة منتصراًبعد عدّة سنين ، وانضم الحرم الإلهي الآمن تحت راية الإسلام بدون أي قتل وقتال ، وهذه هي احدى النبوءات الاعجازية للقرآن التي أخبر فيها عن المستقبل بصورة صريحة وقاطعة ، وبدون أي قيد أو شرط ، هذا في الوقت الذي لم

٢٢٤

تظهر فيها القرائن والعلائم على تحقق النصر اطلاقاً.

يقول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : «في الآية دلالة على صحة النبوة لأنّه أخبر به من غير شرط ولا استثناء وجاء المخبر مطابقاً للخبر» (١).

ويقول الفخر الرازي في تفسيره أيضاً : «قال أهل التحقيق : وهذا أحد ما يدل على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّه اخبر عن الغيب ووقع كما أخبر» (٢).

واحتمل البعض في هذا المقام أنّ المراد من «المعاد» هو معاد يوم القيامة ، وهذا الاحتمال ضعيف كما نقل المحققون القول عن المفسرين ، لأنّ المعاد لايختص بنبي الإسلام حتى يوجه الخطاب إليه فقط ، بالإضافة إلى أنّ كلمة «لرادك» لاتتناسب نوعا ما مع معاد يوم القيامة ، لأنّ العودة إلى مكان ما هي فرع الخروج منه.

كما أنّ الاستناد إلى نزول القرآن في جملة : (انَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيكَ القُرآنَ) التي وردت قبله ، وكذلك جملة : (قُلْ رَبّىِ أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ظَلَال مُّبِينٍ) التي وردت بعده ، كلاهما قرينة على أنّ الحديث يدور حول حقانية نبي الإسلام والقرآن ، لا حول مسألة المعاد في يوم القيامة ، فضلاً عن أنّ هذا التفسير لا يلتئم مع شأن نزول الآية أيضاً.

بالإضافة إلى لفظة «المعاد» على مانقله المرحوم الطبرسي عن القتيبي هو بلد الإنسان ووطنه (معاد الرجل بلده) ، لأنّه أينما يذهب يعود من حيث ذهب.

وتجدر الإشارة إلى أنّ كلمة «المعاد» وردت مرّة واحدة في القرآن الكريم وذلك في هذا الموضع الذي هو بمعنى مسقط الرأس والموطن.

* * *

٧ ـ لن ينال الإيمان أبداً

يدور الحديث في الآية السابعة حول أحد المشركين المعروفين وهو «أبو لهب» عم

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٧ و ٨ ، ص ٢٦٩ في ذيل الآية مورد البحث.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٢٥ ، ص ٢١ في ذيل الآية مورد البحث.

٢٢٥

النبي ، وابن عبد المطلب ، وهو الشخص الوحيد الذي ورد ذكره في القرآن من بين مشركي مكة ، وأكد على أنّه من أهل النار وفيه إشارة واضحة إلى أنّه لن يؤتى الإيمان أبداً ، يقول عزّ من قائل : (تَبَّتْ يَدَا ابِى لَهَبٍ وَتَبَّ* مَااغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَارَاً ذَاتَ لَهَبٍ).

وبالرغم من أنّ أبا سفيان كان عدواً خطيراً لكنه آمن إيماناً ظاهرياً في نهاية الأمر ، وآمن الكثير من الأفراد الخطرين والمجرمين إيماناً ظاهرياً أمثال «وحشي» قاتل حمزة.

إنَّ هذا التنبوء القاطع عن مصير شخص ك (أبو لهب) لم يكن يتأتى من الطرق العادية ، فهذه النبوءة القرآنية لا تتأتى إلّامن طريق الاعجاز.

إنّ الكثير من مشركي مكة آمنوا إيماناً واقعياً ، والبعض آمن إيمانا ظاهرياً ، لكن من الذين لم يؤمنوا لا في الواقع ولا في الظاهر هو : أبو لهب وزوجته «ام جميل» شقيقة أبي سفيان ، وقد صرح القرآن بوضوح أنّهما لن يؤمنا أبداً ، وهذه من الأخبار الغيبية للقرآن الكريم.

كيف يتأتى للقرآن أن يتحدث عن جهنمية شخص ما يمكن له أن يقف إلى جانب المسلمين في نهاية الأمر ، أو يتظاهر بالاسلام على الأقل إذا لم يكن صادراً من عند الله تعالى.

يدعى أبو لهب «عبد العزى» (وعزى هو اسم لأحد الأصنام الكبيرة للعرب) ، وكنيته : أبو لهب ولعل اختياره لهذه الكنية عائد إلى كونه ذا وجه يطفح بالحمرة والشرر ، ولا ريب في أنّ هذه الآيات نزلت في زمن حياة أبي لهب ، ولذا يقول : (تبت يدا أبي لهب) ، وما نقله أغلب المفسرين عن شأن النزول يدل كذلك على أنّ هذه المسألة حدثت في حياته ، وذلك حينما أمر النبي بأنّ يدعو عشيرته الاقربين إلى الإسلام ويحذرهم من الكفر والشرك ، في تلك الأثناء صعد النبي إلى قمة جبل من جبال مكة يدعى بـ (جبل صفا) ونادى : ياصياحا ، (وهذه الجملة لا تستخدم إلّاحين الهجوم المباغت للعدو) فظن أهل مكة أنّ هناك هجوماً عدوانيا على مكة من الخارج ، فلما اجتمعوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم : (انِّى نَذِيرٌ لَكُم بَيْنَ يَدَىْ

٢٢٦

عَذَابٍ شَدِيدٍ) ، احذركم من عبادة الأصنام وادعوكم إلى التوحيد.

فاستشاط أبو لهب غضباً وقال : «تباً لك أما جمعتنا إلّالهذا» فعندئذ نزلت الآيات الآنفة الذكر ، وقالت : الموت له لأنّه سيكون طعمة لنار جهنم في النهاية (١).

* * *

٨ ـ إنّا أعطيناك الخير الكثير

نطَّلع في المقطع الثامن من الآيات وهي «سورة الكوثر» على ثلاث نبوءات هامة ، لأنّه تعالى يقول : (انَّا اعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر* انَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ).

ذكر معظم المفسرين شأن نزول هذه الآية ، وهي متقاربة مع بعضها البعض ومن جملتها ما قاله «البرسوي» في روح البيان : «وذلك أنّهم (أي المشركون) زعموا حين مات أولاده القاسم وعبد الله بمكة ، وإبراهيم بالمدينة ، أن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ينقطع ذكره إذا ما مات وذلك لفقدان نسله ، فنبّه الله سبحانه الى : إنّ الذي ينقطع ذكره هو الذي يشنأه ، فأمّا هو فكما وصفه الله تعالى : (ورفعنا لك ذكرك) ، وذلك أنّه أعطاه نسلاً باقياً على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت والعالم ممتليء منهم» (٢).

وقال «الطبرسي» في «مجمع البيان» : «قيل : نزلت السورة في العاص بن وائل السهمي وذلك أنّه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج من المسجد فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا ، واناس من صناديد قريش جلوس في المسجد ، فلما دخل العاص قالوا : مع من كنت تتحدث؟ قال : مع الأبتر ، وكان قد توفى قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو من خديجة ، وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتراً فسمته قريش عند موت ابنه أبتراً» (٣).

ونقل الفخر الرازي ستة أقوال في شأن نزول هذه الآية بأنّ عدّة أفراد قالوا للنبي

__________________

(١) نقل الكثير من المفسرين والمؤرخين شأن النزول هذا مع اختلاف طفيف (تفسير مجمع البيان ؛ القرطبي ؛ المراغي ؛ الكبير ؛ الدر المنثور ؛ في ظلال نهج البلاغة ؛ كذلك الكامل لابن الاثير ، ج ٢ ، ص ٦٠).

(٢) تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٥٢٥.

(٣) تفسير مجمع البيان ، ج ٣٠ ، ص ٥٤٩.

٢٢٧

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك «ابتر» ، وهذه السورة ناظرة إلى هؤلاء الأشخاص (١).

وعلى الرغم من أنّه قد ذكر افراداً متعددين ، إلّاأنّ المحتوى والمضمون واحد في جميعها ، وأنّ جميعهم كانوا يسمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «بالأبتر» حقداً وعداوة ، وقد رد عليهم القرآن بأجمعهم ، لأنّ هذه الأقوال الستة لا تتنافى مع بعضها البعض ، فمن المحتمل أنّ هذا التعبير صدر من جميعهم ، والرد القرآني ناظر إليهم جميعاً.

وعلى أيّة حال فإنّ لفظة «الأبتر» في الأصل ، تعني قطع عضو من أعضاء جسم الحيوان ، ومن المتعارف أنّها تطلق على قطع الذنب ، ثم اطلقت بعد ذلك على الأشخاص المقطوعي النسل ، وكذلك على الذين ينقطع ذكرهم الحسن ، أو يمحى من الخواطر ، والخطبة «البتراء» أيضاً تقال للخطبة التي لا تبدأ باسم الله (أو أنّها لا تشتمل على ذكر الله).

وورد في المقاييس أيضاً أنّ «البتر» هو القطع ، و «السيف الباتر» هو السيف القاطع ، ويقال لمن لا عقب له : «ابتر». أمّا «الكوثر» فهي مأخوذة من مادة الكثرة (٢) ، وهي نفس هذا المعنى ، ولها هنا في هذا المقام معنى واسع وشامل ، وهو عبارة عن الخير الكثير والبركة الكثيرة ، واحد مصاديقها البارزة هم الأبناء الصالحون والسلالة الطيبة ، واجلى مصداق لذلك هي بنت نبيِّ الإسلام و «سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين» فاطمة الزهراء عليها‌السلام.

وذكر المفسرون احتمالات كثيرة لمعنى «الكوثر» بحيث نقل الفخر الرازي خمسة عشر قولاً ، ونقل صاحب تفسير روح المعاني عن بعض المفسرين ستة وعشرين قولاً ، وأشار إليه المرحوم العلّامة الطباطبائي في «الميزان» أيضاً ، ومن جملة التفاسير المشهورة له هو نفس «حوض الكوثر» المتعلق بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي يرتوي منه المؤمنون عند دخولهم إلى الجنّة (٣).

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ١٣٢.

(٢) يقول الآلوسي في تفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٢٤٥ : الكوثر صيغة مبالغة ، بمعنى الكثرة التي تجاوزت حداًمعيناً ، وفي لسان العرب ؛ الكوثر هو الكثير من كل شيء.

(٣) تفسير مجمع البيان ، ج ٣٠ ، ص ٥٤٩.

٢٢٨

وفسره البعض أيضاً بأنّه مقام النبوة ، أو القرآن ، أو نهر في الجنّة ، أو الشفاعة. وكما قلنا : إنّ لهذه الكلمة معنى واسعاً وشاملاً لكل هذه المعاني وغيرها ، ولا يمنع من جامعية المفهوم تعدد مصاديق هذا المفهوم ، فليس ثمّة تضاد وتنافر بين هذه التفاسير المتعددة.

وعلى أي حال يستكشف من هذه السورة ثلاث نبوءات هامة :

أولاً : إنّه يقول : (انّا أعطيناك الخير الكثير)

إنّ كلمة «اعطيناك» وإن خرجت بهيئة الفعل الماضي إلّاأنّها من الممكن أن تكون من قبيل المضارع القطعي المبين بصيغة الفعل الماضي.

وهذا الخير الكثير في الحقيقة يستوعب كل الانتصارات التي حظي بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي لم تكن متوقعة حين نزول هذه السورة.

هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار شأن النزول وكلمة «الأبتر» التي اطلقها الأعداء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون أحد المصاديق الجلية لهذا الخير الكثير هم «الأبناء» ، والسلالة الخيرة التي تفرعت من ابنته الوحيدة «فاطمة الزهراء عليها‌السلام» ، وانتشرت في سائر أنحاء الكرة الأرضية ، وعلى حد قول البعض : إنّهم ملأوا العالم في يومنا هذا ، وهذا هو الذي لم يكن متوقعا في ذلك العصر.

وأشار إلى هذا الموضوع ـ بصراحة ـ جماعة من مفسري أهل السنّة أيضاً ، من ضمنهم الفخر الرازي ، فالقول الثالث الذي ينقله في تفسير «الكوثر» هم نفس أولاده وأبنائه وهذه السورة إنّما نزلت رداً على من عابه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه الله تعالى نسلاً يبقون على مر الزمان ، فانظركم قتل من أهل البيت ، والعالم ممتليء منهم ، ولم يبق من بني امية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثم انظركم من الأكابر من العلماء : كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام والنفس الزكية وأمثالهم (١).

وجاء هذا المعنى في تفسير روح المعاني أيضاً : وقيل : هو أولاده صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ السورة نزلت رداً على من عابه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم والحمد لله كثيرون قد ملأوا البسيطة (٢).

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٣٢ ، ص ١٢٤.

(٢) تفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٢٤٥.

٢٢٩

من جهة ثانية يخبر أنّ أعداءه سيكونون «مبتورين» ، وبلا عقب ، وتحققت هذه النبوءة أيضاً ، ووصلت حالة التشرذم والتشتت بأعداء الرسول بحيث لم يبق لهم أثر في هذا اليوم.

إنّ «أبو سفيان» وأبناءه وعشيرة بني امية الذين كانوا من الأعداء الشرسين للإسلام قد وقف بعضهم بوجه النبي والبعض الآخر بوجه أبنائه ، كانوا في يوم من الأيّام جمعاً غفيراً ، بحيث تجاوز عدد ذويهم وأبنائهم وأرحامهم عن حد الاحصاء ، لكن لم يبق لهم شيء يذكر في يومنا هذا فكل شيء عنهم انطوى في صفحة النسيان.

يقول الآلوسي في روح المعاني : «الأبتر ، هو الذي لا عقب له ، حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر ، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة» (١).

إنّ هذه السورة وإن دلّ شأن نزولها وفقاً للرواية المشهورة على أنّ القائل لهذا الكلام هو «العاص بن وائل» الذي كان من الأعداء الألداء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاأنّه من البديهي أنّ هذه السورة ليست ناظرة إلى الشخص فقط ، بل إنّ كلمة «شانىء» المأخوذة من مادة «شنآن» التي هي بمعنى البغض والعداوة ، لها مفهوم واسع وشامل لكل الأعداء ، وهذا التنبؤ صادق في حقهم جميعاً ، لأنّه لم يبق لهم ذكر يؤثر ، ولا أبناء معروفون ولم يكن التكهن بهذا المعنى ممكنا في ذلك اليوم الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعيش في مكة ، والمسلمون في منتهى القلة.

* * *

٩ و ١٠ ـ أولئك لن يضروكم بشيء

في الآيتين التاسعة والعاشرة من هذا البحث نلاحظ تنبؤات مهمّة :

١ ـ «إنّ أهل الكتاب لن يتمكنوا أن يلحقوا بكم ضررا ذا بال ويهددوا وجود الإسلام والمسلمين بالخطر لأنّ اضرارهم طفيفة وغير مؤثرة» (لَنْ يَضرُّوكُم الَّا اذىً).

إنّ كلمة «أذىً» وان شملت على حد قول «الراغب» في «المفردات» كل مايلحق الضرر بروح الإنسان وجسمه ومتعلقاته لكنه نظرا إلى أنّها وردت بصيغة الاستثناء من جملة «لن

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ، ص ٢٤٧.

٢٣٠

يضروكم» ، ومجيئها بصيغة النكرة أيضاً ، دلّ ذلك على أنّ المقصود منها هي الاضرار الجزئية سواء كانت مبادرة بشكل كلام جارح ، أو بشكل حركات استفزازية سطحية.

ولا تتأتى هذه النبوءة المستقبلية الصريحة إلّامن طريق الوحي نظراً إلى القوة العسكرية الهائلة التي كان يتمتع بها أهل الكتاب وبالأخص اليهود ، وإلى حالة الضعف التي يعانى منها المسلمون من الناحية الظاهرية.

٢ ـ ثم يقول تعالى : إنّ هؤلاء سيكون نصيبهم الفشل والاندحار والفرار متى ما قاتلوكم وأثبتوا وجودهم في ميدان النزال : (وَانْ يُقَاتِلُوكُم يُوَلُّوكُم الادْبَارَ ثُمَّ لَايُنْصَرُونَ).

إنّ هذا التنبؤ عن أنّ مصير اليهود وسائر أهل الكتاب هو الفشل والتراجع في كل حرب تقع بينهم وبين أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن بالشيء اليسير ولا يتأتى هذا التنبوء من الطرق العادية أيضاً.

٣ ـ إنّ هؤلاء اليهود لن يصمدوا بحال من الأحوال ، وأينما وجدوا كُتِبَ عليهم الذل والهوان إلّابالارتباط بالله (وإعادة النظر في سلوكهم الخاطيء) ، أو الارتباط بالناس والتبعية لهذا وذاك : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلّةُ ايْنَ مَا ثُقِفُوا الَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ).

وتحققت هذه الوعود والبشائر السماوية الثلاثة في عصر النبي كما ذكر التاريخ الإسلامي ، وبالأخص أنّ اليهود في الحجاز وهم «بني قريظة» ، و «بني النضير» ، و «بني قينقاع» ، و «يهود خيبر» ، و «بني المصطلق» ، قد خسروا الجولة في نهاية الأمر ، وتواروا عن مسرح الحياة بعدما قاموا به من انتهاكات كثيرة ، وتحركات مثيرة ضد الإسلام ، هذا وإن لم يرد التصريح بذكر اليهود في الآيات السابقة ، لكن يستفاد من القرائن الموجودة في هذه الآية والآيات المشابهة لها (كالآية ٦١ من سورة البقرة التي ذكر فيها اسم اليهود صريحاً).

إنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى اليهود ، وبالأخص بالنسبة لما جاء في الآية الأخيرة من أنّ هؤلاء إنّما يستطيعون أن يمسحوا عن جبينهم وصمة الذل في صورتين :

الاولى : في صورة «الرجوع إلى الله ، وترك العصيان ، والذنب ، والفساد في الأرض» ، ولا يتمّ ذلك (إلّا بحبل من الله).

٢٣١

والثانية : في صورة «إتباع الناس والاتكال على الآخرين» ، (وحبل من الناس).

وهذه الآية تشير إلى نفس الظاهرة المشهورة في حياة اليهود إلى يومنا هذا ، وتاريخهم يفصح إمّا عن حالة الضياع والتشرد والذل ، وإمّا عن حالة التبعية والانقياد للقوى الاخرى ، وتسخير الذات في خدمة مقاصدهم السيئة ، (وتشاهد الحالة الاولى في العصر الأخير في عهد النازيين والحالة الاخرى في يومنا هذا).

وبالرغم ممّا ذكره المفسرون من احتمالات متعددة لتفسير «حبل من الله وحبل من الناس» إلّاأنّ ما تقدم ذكره آنفاً هو الأنسب ظاهراً ، ويمكن الأخذ ببعض تفاسير هؤلاء بعنوان مصداق لهذا المفهوم الكلي الذي ذكرناه.

* * *

٢٣٢

٧ ـ الاعجاز القرآني

في عدم وجود التناقض والاختلاف

من الدلائل الاخرى على اعجاز القرآن الكريم ، وكونه نازلاً من قبل الله تعالى ، هو عدم وجود التناقض والاختلاف في سائر أنحائه ، في حين أنّ الصفة الغالبة على الظروف التي نزل فيها القرآن والمبعوث به تدلل على أنّه لو لم يكن صادراً من قبل الله لوقع فيه الاختلاف والتناقض ، بل الاختلافات والتناقضات الكثيرة ، وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى : (افَلَا يَتَدَبَّروُنَ القُرآنَ وَلَوْ كَانَ مِن عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اختِلَافَاً كَثِيراً). (النساء / ٨٢)

ويمكن الوقوف على النكتة الأساسية لهذه المسألة من خلال تحليل بسيط ، فنقول : إنّ الحالات الروحية لأي إنسان في تغير مطرد ـ وقانون التكامل يحيط بالإنسان فكراً وروحاً في حالة وجود ظروف طبيعية ، وعدم حصول وضع استثنائي فهو يحدث على مرّ الأيّام والشهور والسنين تحولاً مستمراً في ألسنة البشر وأفكارهم وأحاديثهم ، وإذا ألقينا نظرة فاحصة على تصانيف أحد الكتّاب فسوف لن نجدها على نسق واحد اطلاقاً ، بل لابدّ من وجود تفاوت في بداية الكتاب ونهايته ، خاصة إذا ماكان الإنسان واقفاً أمام موجة من الأحداث الكبيرة والساخنة ، الأحداث التي تضع الحجر الأساس لأحد الانقلابات الفكرية والاجتماعية والدينية الشاملة ، فهو مهما سعى وأراد أن يكون كلامه على سياق ونسق واحد ، ومعطوفاً على سابقة لا يقوى على ذلك وخاصة إذا ما كان اميّاً وناشئاً في محيط متخلف جدّاً.

٢٣٣

أمّا القرآن فقد نزل على حسب الاحتياجات والمتطلبات التربوية للمجتمع في ظروف وملابسات مختلفة تماماً طيلة ٢٣ عاماً ، فهو الكتاب الذي تحدث عن مواضيع متنوعة ، وهو ليس كسائر الكتب التي تواكب أحد البحوث الاجتماعية أو السياسية أو الفلسفية أو الحقوقية أو التاريخية فحسب ، بل أحياناً يتحدث عن التوحيد وأسرار الخلقة ، وأحياناً عن الأحكام والقوانين ، والآداب والسنن ، وتارة يتحدث عن الامم السابقة وقصصهم المثيرة ، وتارة اخرى عن المواعظ والنصائح ، والعبادات ، والعلاقة القائمة بين الله تعالى وعباده ، وعلى ضوء قول الدكتور «غوستاولبون» : إنّ الكتاب السماوي للمسلمين ـ وهو القرآن ـ لا يقتصر على التعاليم والدساتير الدينية فحسب ، بل تندرج فيه الدساتير الاجتماعية والسياسية للمسلمين أيضاً.

إنَّ مثل هذا الكتاب المشتمل على هذه الخصوصيات لا يمكن أن يخلو من التضاد والتناقض واختلاف الأقوال الكثيرة عادة ، لكن عندما نرى الانسجام القائم بين آياته كلها ، وخلوها من كل ألوان التضاد والاختلاف والتهافت يمكننا حينئذٍ الحدس بأنّ هذا الكتاب ليس وليد أفكار الناس ، بل هو صادر من قبل الباري تعالى ، كما بيّن القرآن نفسه هذه الحقيقة في الآية السابقة.

وبعبارة اخرى ـ إنّ كافة الموجودات المادية ـ ومن ضمنها الإنسان الذي له صبغة مادية بأحد اللحاظات ـ في تغّير وتحول دائم ومطرد وتنقل هذا التغيّر إلى الموجودات الدائرة حوله ، إنّ قابلية التأثر والتأثير جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان ، وطبيعة أي موجود مادي آخر ، ولهذا السبب تتبدل أفكار الإنسان وآراؤه مع تقدم الزمن ، علاوة على أنّ ازدياد تجارب الإنسان ورقي مستوى إبداعه في المسائل المختلفة يساهم في تصعيد هذا التغير ، وهذه هي التي تؤدّي حتما إلى التغير والتضاد واللاإنسجام في المذكرات التي تعود إلى سنين متمادية لأحد الأشخاص فيما لو جمعت ونسقت بعد ذلك ، والله القادر المتعال وحده هو الذي يكون بمعزل عن هذه التغيرات وقابلية التأثر والتأثير ، فليس في كلماته تضاد أبداً وهذه هي إحدى الطرق في معرفة كلام الحق وتمييزه عن كلام غيره ، حتى أنّ البعض من

٢٣٤

المفسرين صرحوا بأنّه لايقتصر الأمر على عدم وجود التضاد في القرآن فحسب ، بل يتعداه إلى عدم وجود التفاوت والاختلاف في درجة فصاحته وبلاغته أيضاً ، ومن الصحيح القول بأنا نجد بعض الآيات القرآنية أبلغ من بعضها الآخر ، وعلى حد قول الشاعر : متى كانت «تبت يدا» بمنزلة «ياأرض ابلعي» ولكن هذا يتأتى عند اختلاف المقامات أي أنّ كل واحدة منها تعتبر من أفضل التعابير وانسبها في مقامها الخاص بها ، ومن هذه الجهة لا يوجد تفاوت واختلاف.

سؤال :

وهناك سؤال لابدّ من طرحه وهو : إذا لم يكن هناك تضاد واختلاف في القرآن الكريم فما هو السبب من وجود آيات ناسخة وآيات منسوخة؟

الجواب :

سبق وأن قلنا في بحث الناسخ والمنسوخ في القرآن : إنّ الآيات المنسوخة تشتمل على قرائن تدل على أنّ أمدها المضموني قصير وسينتهي في يوم من الأيّام ، بمعنى وجود دواعي النسخ في مضمونها ، وبناء على هذه النكتة فليست لا تضاد فيها فحسب ، بل ـ علاوة على ذلك ـ يوجد فيها نوع من التناسب والتوافق بينها.

وعلى سبيل المثال لو أردنا أن نعد برنامجاً دراسياً لمقاطع زمنية مختلفة حتى نساعد الأفراد الدارسين في دائرة التعليم والتربية على تخطي المراحل المختلفة ، والوصول بهم إلى المرحلة النهائية ، فإنّ التغيرات الطارئة على البرامج في فترات مختلفة لا تعد بعنوان تضاد وتناقض وذلك لوجود قرائن في متن هذه البرامج ، بل على العكس هناك نوع من التوافق والانسجام بينها.

وممّا قلناه آنفاً اتضح الجواب عن سؤال مشابه أيضاً يطرح في مورد آيات «العام والخاص» أو «المطلق والمقيد» ذلك أنّ الجمع بين العام والخاص عن طريق التخصيص ،

٢٣٥

وكذلك الجمع بين المطلق والمقيد هو جمع عرفي متعارف ، ولا يعد تناقضاً بأي شكل من الاشكال.

فمثلاً لو أعلنت الحكومة عن موافقتها على حرية التصدير بشكل مطلق ، ثم قررت وضع استثناءات معينة بعد ذلك ، فإنّ وجود هذه الاستثناءات ليس دليلاً على التضاد ، وبالأخص إذا ما تجسد هذا العمل على شكل سُنّة وخطّة معينة بحيث يقال له : حكم عام ، ثم يقومون بتقييده وتخصيصه بعد ذلك ، علاوة على أنّه لا يوجد حكم بدون استثناء عادة.

إلى هنا نصل إلى نهاية البحث في الاعجاز القرآني والصور المختلفة للاعجاز.

* * *

٢٣٦

خرق العادات والنواميس الطبيعية

ممّا لا شك فيه أنّ لنبي الإسلام معجزات اخرى كثيرة غير القرآن الكريم ، وقد أجمع المسلمون في العالم كافة على هذه المسألة ودلت عليها روايات متواترة أيضاً ، وكما أنّ القرآن الكريم أشار إليها مراراً وتكراراً ، فذكرها تارة بشكل مجمل ومقتضب ، وتارة بشكل مفصل من خلال الإشارة والتنويه إلى المعجزات الخاصة.

وممّا تجدر الإشارة إليه هنا هو المقطع الأول من الآية التالية :

١ ـ (وَاذَا ذُكِّرُوا لَايَذْكُرُونَ* وَاذَا رَأَوا آيَةً يَستَسخِرُونَ* وَقَالُوا انْ هَذَا الَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ). (الصافات / ١٣ ـ ١٥)

التعبير بـ (رأَوا آية) يدل بوضوح على أنّهم لو شاهدوا معجزة أو معاجز للنبي ، فبدلاً من أن يؤمنوا بها صدرت منهم ردود فعل وممارسات سلبية ، من بينها ، أولاً : إنّهم أخذوا يتوسلون بمنطق الاستهزاء والسخرية ، وثانياً : إنّهم اعتبروا ذلك «سحراً مبيناً».

ومن المسلَّم أنّ الآيات القرآنية سمعيّة وليست بصريّة ، وعليه لا يمكن أن تكون لفظة «الآية» هنا ناظرة إلى الآيات القرآنية ، بالإضافة إلى ذلك فإنّ التعبير بـ «السحر المبين» يتناسب تماماً مع المعجزات وخوارق العادات ، والواقع أنّ اتهامهم نبي الإسلام بالسحر ، وترويجهم لهذه المسألة بشكل واسع يدل على أنّهم رأوا منه خوارق عادات ومعجزات ، وفضلاً عن ذلك كله كيف يتأتى للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينقل في كتابه السماوي المعاجز الحسية للأنبياء السابقين كمعجزة «اليد البيضاء» ، و «عصا موسى» ، والمعجزات التسعة الصادرة منه (النمل / ١٢) ، أو المعجزات المتعددة للسيد المسيح ، نظير «إحياء الأموات» ،

٢٣٧

«وشفاء المكفوفين الذين فقدوا بصرهم منذ الولادة» ، و «المرضى الذين يستحيل علاجهم» وما شابه ذلك ، وكذلك المعاجز التي جاء بها الأنبياء العظام إبراهيم ، وصالح ، ويوسف ، وسليمان ، وداود ، والتي ورد ذكرها جميعاً في القرآن ـ ثم لا يأتي بنفسه بمعجزة حسية؟! كيف يمكن له أن يقنع الناس بأنّ جميع الأنبياء كانوا يمتلكون معاجز حسية وهو لايمتلك شيئا منها في حين أنّ نبوّته أفضل النبوّات ، ودينه أفضل الأديان؟ إنّ كل هذه القرائن ـ مضافاً إلى الآية السابقة ـ تدل على أنّه كانت له صلى‌الله‌عليه‌وآله معجزات اخرى.

* * *

بالإضافة إلى الآية السابقة فهناك آيات كثيرة اخرى بصدد بيان مسألة معاجز نبي الإسلام ، وقد وردت عن ائمة الدين روايات في تفسيرها وذكر سبب وتاريخ نزولها ، إنّ معاجز نبيّ الإسلام لا تعدّ ولا تحصى ، فعلى سبيل المثال لا الحصر نلاحظ نماذج منها :

١ ـ نطالع في قوله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِى اسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ الَى المَسْجِدِ الاقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا انَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ). (الاسراء / ١)

لا شك أنّ الذهاب من «المسجد الحرام» إلى «المسجد الاقصى» ، وأكثر من ذلك الصعود إلى السماوات ، خاصة في الظروف الموضوعية لذلك الزمان ، كان أمراً خارقاً للعادة ، بيدَ أنّه ما لم يشاهد الناس هذا المشهد لايمكن أن تكون له صبغة إعجازية ولا يمكن أن يقع في طريق إثبات دعوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّاأنّ الروايات الإسلامية تدل على أنّ الناس اطلعوا على هذه القضية عن طريق الأخبار التي ألقاها النبي على القافلة أو القوافل التي كانت تشق طريقها بين مكة والشام (١).

٢ ـ جاء في ذيل قوله تعالى : (انّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ). (الحجر / ٩٥)

__________________

(١) جاء في إثبات الهداة ، ج ١ ، ص ٢٤٧ ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر عن رؤية قافلة أبي سفيان ومرورها ببئر قبيلة فلان بحثاً عن ناقة لهم ذات وبر أحمر ، كما وصف سوق الشام الذي لم يره قط (تفسير مجمع البيان ج ١ ، ص ٣٩٥ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٤٣ ـ ٤٤).

٢٣٨

أنّ ستة مجموعات (أو أقل) كانت كل واحدة منها تتعامل مع نبي الإسلام بنوع من أنواع الاستهزاء ، وكلما انبرى إلى دعوة الناس كانوا يسعون من خلال أحاديثهم إلى تفريق الناس من حوله ، غير أنّ الله تعالى ابتلى كل واحد منهم ببلاء معين ، ووصل الأمر بهم إلى أن ينشغلوا بأنفسهم كثيراً بحيث نسوا النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

٣ ـ يقول تعالى : (يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُم اذْ هَمَّ قَوْمٌ انْ يَبْسُطُوا الَيْكُم ايْدِيَهُمْ فَكَفَّ ايْدِيَهُمْ عَنْكُم). (المائدة / ١١)

ورد في بعض الروايات أنّ هذه إشارة مستبطنة ناظرة إلى المؤامرة التي دبرها «يهود بني النضير» لاغتيال نبي الإسلام ، وذلك حينما توجه النبي إليهم مع جمع من أصحابه ليتباحثوا حول الاتفاقية التي كانت معقودة بينهم بالنسبة إلى دِيَة المقتولين ، فقالوا : لا مانع من ذلك ، اجلسوا وتناولوا الطعام حتى يتحقق مرادكم ، وفي تلك الحالة كان في نيّتهم أن يقوموا بحملة مباغتة ويقضوا على النبي وأصحابه ، فأطلع الله تعالى النبي على ذلك وأخبر النبي بذلك أصحابه فعادوا بسرعة ، «وكانت هذه احدى معجزات النبي» (٢).

٤ ـ تعقيباً على قوله تعالى : (وَاذَا قَرأْتَ القُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابَاً مَّسْتُوراً). (الاسراء / ٤٥)

ورد أنّ بعض الأعداء كانوا ينوون القضاء على حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حالة انشغاله بتلاوة القرآن ، فأسدل الله تعالى حجاباً على أبصارهم يحول بينهم وبين رؤية نبيّه.

وورد في الحديث الذي نقله المرحوم الطبرسي في الاحتجاج عن علي عليه‌السلام : إنّ الله تعالى أسدل خمسة حجب على انظارهم للحيلولة بينهم وبين رؤية محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد اشير إلى هذه الحجب الخمسة في القرآن الكريم.

في أحد المواضع من سورة يس يقول : (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ ايْدِيهِم سَدَّاً) ، فهذا هو الحجاب الأول ثم يعقب بقوله : (وَمِنْ خَلْفِهِم سَدَّاً). (يس / ٩)

وهذا هو الحجاب الثاني.

__________________

(١) نقل الطبرسي في تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ـ ٦ ، ص ٣٤٦ ، وكذلك العلّامة المجلسي في بحار الأنوار ، ج ١٨ ، ص ٤٨ ، وابن هشام في السيرةج ٢ ، ص ٥٠ ، وبقية المفسرين والمؤرخين شرحاً وافياً لهذه الواقعة.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٦٥.

٢٣٩

ثم يقول بعدها : (فَاغْشَيْنَاهُم فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ) وهذا هو الحجاب الثالث.

ثم إنّه يقول : (وَاذَا قَرأْتَ القُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذينَ لَايُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابَاً مَّسْتُوراً).

وهذا هو الحجاب الرابع.

وقال تعالى بعد ذلك : (انَّا جَعَلْنَا فِى اعْنَاقِهِم اغْلَالاً فَهِىَ الَى الاذْقَانِ فَهُمْ مُّقمَحُونَ) (١). (يس / ٨)

ولذا لا يرون شيئاً ، وهذا هو الحجاب الخامس.

إنّ هذه الحجب سواء كان لها صبغة مادية أو معنوية ، فهي وقفت حاجزاً أمام المؤامرات المختلفة المدبرة ضد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه بحد ذاتها تمثل إحدى المعاجز النبوية الشريفة.

٥ ـ نطالع في قوله تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ). (البقرة / ١٣٧) إنّ الأشخاص المحيطين علماً بالتاريخ الإسلامي هم القادرون على الاطلاع على عمق مفهوم هذه الآية التي يُستشف من ظاهرها أنّ الأعراب المعاندين والمتعصبين الجاهليين وخاصة الاشراف من مشركي مكة الذين تعرضت منافعهم اللامشروعة للخطر مع ظهور الإسلام ، لم يدخروا جهداً في القضاء على الإسلام والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

في الوقت ذاته تعطي الآية التي نحن بصددها وعداً صريحاً بأنّ الله تعالى سوف يدفع شرورهم ، ويسفِّه أحلامهم ، ويفشل مؤامراتهم ، وهذه من إحدى النبوءات الاعجازية.

٦ ـ وردت الإشارة في القرآن الكريم إلى اعجاز آخر حدث في حرب الأحزاب ، يقول عز من قائل : (يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم اذْ جَاءَتْكُم جُنُودٌ فَارْسَلْنَا عَلَيهِم رِيحَاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيِراً). (الأحزاب / ٩)

إنّ الذين يطالعون قصة «حرب الأحزاب» في القرآن الكريم ، والروايات والتواريخ ، يجزمون على وجود بون شاسع بين المسلمين واعدائهم ، فقد فرض الأعداء حصاراً شديداً على المدينة بحيث أصبح سقوطها حتمياً بحسب الظاهر ، ووصلت الحالة بالمسلمين إلى

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٤٢٣ ، ح ٢.

٢٤٠