نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

٢ ـ كتبت السيدة (فاغلري) العالمة الاوربية المعروفة كتاباً بعنوان (انتشار الإسلام السريع) يمكن اعتباره شاهداً آخر على هذه المسألة ، إذ اعتبرت الانتشار السريع للإسلام بأنّه أمر اعجازي ، كما أنّ القرآن كتابٌ اعجازىٌّ لا يمكن أبداً لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله العربي الامي أن يبتدعه.

٣ ـ وعبَّر باحث ايطالي في أحد فصول كتابه عن تاريخ الرياضيات حول (الرياضيات عند المسلمين) بأنّها احدى معجزات العرب.

واعتبر أنّ ما أحدثه الإسلام سريعا وعميقاً إلى درجة يعجز المنطق والتعبير العادي عن تفسيره.

ثم يضيف : «إنّ ما ينسبه البعض من المسلمين للمشيئة والقدرة الربانية في ظهور الإسلام وثقافته ... هو في الحقيقة دلالة على أنّ أصل تطور الحضارة البشرية هذا كان غير متلائم مع موازين إمكانات ومقتضيات تلك الأزمنة إلى الحد الذي جعلهم لم يستطيعوا أن يجدوا له تفسيرا سوى مشيئة الله وتقديره» (١).

٤ ـ يقول الكاتب الانجليزي الشهير (برنارد شو) في أحد كتبه حول عظمة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنني أنظر دائماً إلى دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله باحترام كبير ، لأنّه يتمتع بحركة وطراوة عجيبة ، وأعتقد بأنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتطابق مع أدوار الحياة المختلفة ، ويتلائم مع كل عصر وزمان ... نحن ننظر إلى القرآن ككتاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفس التعظيم والثقة التي ينظر فيها المسلمون له ويعتبرونه كتاب الله» (٢).

٥ ـ يتنبأ هذا العالم الانجليزي (برنارد شو) في مقال عن جاذبية الإسلام وانتشاره ويقول : «إنّ الإسلام وبما يمتلكه من نفوذ معنوي يزيد باضطراد من اتباعه خاصةً في البلدان الاوربية» (٣).

وإذا أردنا جمع شهادات المؤرخين المسلمين وغير المسلمين حول هذا الموضوع فإنّها

__________________

(١) قاموس دارسي الشؤون الإسلامية الأجانب ، ج ١ ، ص ٦٠ ، تأليف حسين عبد اللهي خوروش (باللغة الفارسية).

(٢) المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٧٤.

(٣) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٥٠٥.

٢٨١

تشكل كتابا ضخماً ، لذا نكتفي بهذا المقدار :

١ ـ الأخلاق والصفات الخاصة الاخرى لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بذاتها شاهد معبر على أنّه يبتغي هدفاً مقدساً ، وينفذ مهمّة إلهية ، ولم تلاحظ أي علامة من علامات المدعين الكاذبين ومنتهزي الفرص المنتفعين في أخلاقياته.

وأشارت كل كتب التاريخ تقريباً ـ سواء التواريخ التي كتبها المسلمون أو غير المسلمين ـ إلى قضية نزاهته وأمانته وإلى ذلك الحد الذي يعرف فيه كل الناس هذه الصفات حتى في الجاهلية ويلقبونه بـ (الأمين) ، بل وبعد ظهور الإسلام كذلك كان معارضوه وأعداؤه يودعونه أماناتهم ، ولهذا السبب عندما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الهجرة إلى المدينة بعد مضي (١٣) عاماً من ظهور الإسلام أمر علياً عليه‌السلام أن يبقى في مكة ليعيد للناس أماناتهم ثم يهاجر إلى المدينة.

ومن المناسب أن نتأمل في هذا الحديث عن لسان الآخرين ، لنرى ما لدى أولئك الذين هم غرباء عنه في الظاهر من شهادات صريحة عن هذا الموضوع :

ينقل عن كتاب (الاعتذار إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) للانجليزي (جان ديفن بورت) قوله : «بلا شك إذا لم نأت به «محمد» كواحد من نوادر العالم وكأطهر نابغة استطاع الكون تربيتهم حتى الآن ، فيجب أن نعتبرهُ من أعظم البشر ، والشخصية الوحيدة التي يمكن لقارة آسيا أن تفتخر بوجود هكذا ابن لها» (١).

٢ ـ في كتاب (محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله) نقلاً عن كتاب (الإسلام من وجهة نظر فولتير) أن (نابليون) قال منتقداً (مسرحية فولتير) التي وردت فيها اهانات لساحة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ فولتير خان التاريخ والوجدان الإنساني لأنّه أنكر السجايا السامية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصور هذا الرجل العظيم الذي سلط نوراً إلهياً على وجوه العاملين ، على صورة موجود آخر» (٢).

٣ ـ وصدفة أنّ (فولتير) نفسه غير رأيه بهذه المسرحية المهينة أواخر عمره واعترف

__________________

(١) عذر التقصير إلى ساحة محمد والقرآن ، ص ١٤ (فارسي).

(٢) محمد رسول الله ، ص ١٤٢.

٢٨٢

صراحة بالقول : «يوجد في محمد شيء يدفع الجميع لاحترامه ، وأنني أسأت كثيراً بحق محمد» (١).

٤ ـ جاء في كتاب (دائرة المعارف البريطانية) في ذيل كلمة (القرآن) : «يعتبر محمد من بين الرجال والشخصيات الدينية العظيمة في العالم ، أكثر الشخصيات توفيقا وظفراً ، وكانت رسالته مرادفة للنجاح والانتصار» (٢).

٥ ـ يقول الفرنسي (غوستاف لوبون) مؤلف الكتاب المعروف (حضارة الإسلام والعرب) : «إنّ بساطة ووضوح اصول العقائد الإسلامية بالإضافة إلى التعامل مع الناس بالعدل والاحسان الذي طبع وجه الدين الإسلامي بطابعه المنير صار سبباً في أن يبسط نفوذه على وجه الأرض كلها».

٦ ـ يقول (لامارتين) الشاعر الفرنسي المعروف بعد بيان مفصل في مدح نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هذا هو محمد الذي لو أردنا أن نزنَ عظمته بأي ميزان فإننا سوف نضطر للقول : بأنّه ما من رجل في العالم أعظم من محمد» (٣).

٧ ـ طبيب وكاتب لبناني مسيحي معروف اعتبر في أشعاره التي نظمها عن (نبي الإسلام) صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه أفضل مدبر وحكيم وعالم ، ورب للكرم والكلام ، ورجل العقل والسياسة ، وبطل ميدان المعارك ، ووصفه بصفات ليس لها نظير (٤).

٨ ـ مع أنّ البعض من مؤرخي الغرب المغرضين والمنتفعين حاولوا أن يعطوا صورة عن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله مخالفة للواقع ، ولكن الرد عليهم هو نفس الرد الذي كتبه أحد من باحثيهم باسم (يوحنا واكنبرت) الذي انتقد في كتابه (محمد والإسلام) الكتاب المتعصبين والمغرضين الذين كتبوا عن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله خلافاً للحقيقة ، يقول : «بالقدر الذي يعود فيه الشخص إلى الحقائق المعتبرة تاريخياً ، والمصادر الموثقة والصحيحة التي كتبت عن أقوال

__________________

(١) محمد رسول الله ، ص ١٤٣.

(٢) دائرة المعارف البريطانية ، مادة (قرآن).

(٣) نقلاً عن كتاب (تاريخ تركيا) حسب كتاب (قاموس دارسي الشؤون الإسلامية ، الاجانب) ص ٦١ (فارسي).

(٤) قاموس دارسي الشؤون الإسلامية الاجانب ، ص ٥٣٤ (فارسي).

٢٨٣

وأفعال وحالات محمد فسوف يبدو في نظره شاتمو هذا النبي أمثال (ماركس) و (برايدر) وسائر هؤلاء الأشخاص توافه وحقراء وضعفاء جدّاً» (١).

ملخص القول : ليس أصدقاؤه واتباعه فحسب ، بل ومخالفوه والبعيدون عنه تحدثوا عن صفاته وسجاياه وملكاته الأخلاقية الفاضلة ، وبرامج حياته الشخصية والاجتماعية القيمة بالقدر الذي لو جمعت أقوالهم هذه لشكلت عدة كتب كبيرة.

* * *

من مجموع هذه القرائن العشر التي كان لنا في كل منها إشارة عابرة ، يمكن أن نستنتج بأنّه كان نبيّاً صادقاً ورسولاً حقيقياً ومبعوثاً من الله العظيم ، ولا يوجد في ذلك أدنى شك أو تردد وحتى لو غضضنا النظر عن كل معجزاته وخوارق العادات التي جاء بها.

هذا الدليل يعتبر كافياً لوحده ، بل وكما أشرنا سابقاً أيضاً أنّ هذا الدليل بالنسبة للعلماء أسمى وأعلى من المعجزات.

* * *

__________________

(١) محمد من وجهة نظر الآخرين ، نقلاً عن قاموس دارسي الشؤون الإسلامية ، الاجانب ، ج ١ ، ص ١٦٤ (فارسي).

٢٨٤

الطريق الثالث :

البشارات والإشارات

٢٨٥
٢٨٦

الطريق الثالث : البشارات والإشارات

تمهيد :

الدليل الثالث ، وهو من الأدلة التي يمكن إقامتها لتصديق أقوال نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله هي البشارات والإشارات التي جاءت في (الكتب السماوية السابقة) ، وبالرغم من أنّ الكثير من هذه البشارات قد غطتها سحب من التعصب وتم حذفها أو تغييرها وتزويرها من كثرة التحريفات التي جرت على الكتب السماوية السابقة ، ولكن لازالت إشارات كثيرة عن هذا الموضوع تبدو للناظر في نفس كتب الديانات الاخرى الموجودة بين أيدينا اليوم.

وتشير القرائن إلى أنّ هذه الإشارات والدلالات كانت في متناول اليد في بداية ظهور الإسلام أكثر من الوقت الحاضر بالشكل الذي كان القرآن الكريم يستند إليها مكرراً ويدعو (اليهود) و (النصارى) للتدقيق فيها ، وبلا شك إذا لم يكن ذلك موجوداً ، فلا يمكن للقرآن أن يعتمد على تلك الإشارات بهذه الصراحة.

وهناك نقطة تثير الانتباه ، فكما صرحت الكثير من كتب التاريخ أنّ مجيء مجموعة من اليهود إلى أرض المدينة كان بدافع البشارات التي قرأوها في كتبهم عن ظهور نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الشوق وتمني إدراك زمان ظهوره هو الذي أجبرهم على ترك ديارهم والجلاء عن أوطانهم وسكنوا المدينة ، وإلّا فإنّ بيئة الحجاز عموماً والمدينة خاصةً ليس فيها مايجذب للحياة المادية من قبيل التجارة أو الزراعة أو تربية المواشي حتى يختاروها وطنا لهم.

كانوا يعتبرون أنفسهم أكثر أهلية من الآخرين في قبول الدين الذي كانوا ينتظرونه ،

٢٨٧

ولكن بعد ظهور الإسلام وتعرض مصالحهم غير المشروعة للخطر. غيّر قسمٌ منهم شكل القضية ، وهبوا في النهاية لمواجهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا مجال للتعجب والاستغراب هنا لأننا نشاهد مثل هذا في علاقات الكثير من الأصدقاء والروابط الودية لمجموعة من المتحابين.

بهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم ، ونتابع الآيات التي تشير إلى هذا المعنى ، وتوبخ اليهود والنصارى بسبب عدم توجههم لها :

١ ـ (الَّذِينَ آتَيَنَاهُمُ الكِتَابَ يَعرِفُونَهُ كَمَا يَعرِفُونَ ابنَاءَهُمْ). (البقرة / ١٤٦) (الأنعام / ٢٠)

٢ ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكتُوبًا عِندَهُم فِى التَّورَاةِ وَالإَنِجِيلِ). (الأعراف / ١٥٧)

٣ ـ (وَاذْ قَالَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ يَابَنى اسرَائِيلَ انِّى رَسُولُ اللهِ الَيكُم مُّصَدِّقاً لِمَا بَينَ يَدَيَّ مِنَ التَّورَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعدِى اسمُهُ احمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالبَيَّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ). (الصف / ٦)

٤ ـ (وَلَمَّا جَاءَهُم كِتَابٌ مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُم وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَستَفتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّاعَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعَنةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ). (البقرة / ٨٩)

٥ ـ (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَايَّاىَ فَاتَّقُونِ* وَلَاتَلبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُم تَعلَمُونَ). (البقرة / ٤١ ـ ٤٢)

* * *

إنّهم يعرفونه جيداً :

أول آية جاءت في سورتين من القرآن الكريم تقول :

(الَّذِينَ آتيَنَاهُمُ الكِتَابَ يَعرِفُونَهُ كَمَا يَعرِفُونَ أَبنَاءَهُمُ) أي أنّهم ليسوا مطلعين على أصل ظهوره ودعوته فحسب ، بل ويعرفون أيضاً إشاراته وخصوصياته وجزئياته ، ويقول تعالى في ذيل الآية التي جاءت في سورة البقرة : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنهُم لَيَكتُمُونَ الحَقَّ وَهُم يَعلَمُونَ). (البقرة / ١٤٦)

٢٨٨

وينقل عن (عبد الله بن سلام) ـ الذي يعد من علماء اليهود الكبار ثم أعتنق الإسلام ـ (أنا أعلم به مني بابني) (١).

وجاء في رواية اخرى : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما جاء إلى المدينة قال (عمر) لعبد الله بن سلام : إنّ الله أنزل آية على نبيّه تقول : إنّ أهل الكتاب يعرفون كما يعرفونه أبناءهم ، فما هي هذه المعرفة؟ ، فقال عبد الله بن سلام : «إننا نعرفه بصفاته التي بينها الله ، وعندما نراه فيكم نشخصه من بينكم كما يشخص أحدنا ابنه عندما يراه بين الأولاد» (٢).

والتفسير المشهور للآية والذي ينطبق جيداً مع ظاهرها هو هذا التفسير الذي بيّناه ، ولكن تمّ عرض احتمالين آخرين في تفسير الآية وهما :

الأول : إنّ الضمير في (يعرفونه) يعود إلى (الاطلاع على النبوة).

والثاني : إلى (مسألة القبلة) ، وبناءً على ذلك فإنّ الأول هو إشارة لاطلاع ومعرفة أهل الكتاب بمسألة (النبوّة) ، أمّا الثاني فهو إشارة لمعرفتهم بأمر (تغيير القبلة) عند المسلمين من (بيت المقدس) إلى (الكعبة). وكلا الاحتمالين ضعيفان جدّاً.

* * *

في الآية الثانية ـ ورد ذكر تسعة أوصاف من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي هي في الواقع دلائل على حقانيته من زوايا مختلفة ـ بعضها إشارة إلى المضمون الرفيع لدعوته وبرامجه ، وبعضها إشارة إلى قرائن اخرى مثل أمّيته وعدم تعليمه ، وشفقته ورحمته ، وأمثال ذلك ، وتستند في قسم آخر من هذه الدلائل إلى مسألة أوصافه وعلاماته وسماته في الكتب السماوية السابقة (التوراة والانجيل) ـ يقول تعالى :

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الَرّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّيَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِندَهُم في التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ ... اولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ).

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ؛ وتفسير المنار في ذيل الآية مورد البحث.

(٢) تفسير روح المعاني ، ج ٧ ، ص ١٠٣ ؛ وتفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٢٨٢ ؛ وتفسير روح البيان ، ج ٣ ، ص ١٨.

٢٨٩

ومع عدم ذكر اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية صراحة ولكن الأوصاف التي ذكرتها ترمي بوضوح إلى أنّ المقصود هو نفسه.

فكيف يمكن القبول بأنّ القرآن يتحدث مع اليهود والنصارى بهذه الصراحة ، ويخبرهم بوجود دلائل وعلامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبهم ولكن هذه المسألة لا تطابق الحقيقة وأنّهم يسكتون؟ ويقينا إذا لم تكن هذه الإشارات والعلامات موجودة في كتبهم فإنّهم سيتخذونها حجة وذريعة مهمة ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولصرّحوا بها في كل مكان ، وإذا كان ذلك قد حصل لنقله التاريخ لنا.

وبناءً على هذا فعلى الأقل أنّ سكوتهم يعتبر دليلاً ساطعاً على وجود هذه القرائن والأوصاف في كتبهم ، وعلاوة على ذلك على حد قول الفخر الرازي : إذا لم تكن لهذا الأمر حقيقة واقعية لكان موجباًلنفرة اليهود والنصارى من الإسلام ، والشخص العاقل لا يقدم مطلقا على ما يوجب تنفر الناس (خاصةً في مجال الدعوة) (١) ، وكما سيمر علينا لاحقاً فإنّ قسماً من هذه الدلائل والإشارات موجودٌ حتى في كتبهم المحرّفة الحالية.

والملفت للنظر هو أنّ القرآن لايقول : (يجدون علائمه ودلائله) ، بل يقول : (يجدونه) ، أي يجدون نفس ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة والانجيل ، وهذا التعبير الذي يعني حضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبهم هو تأكيد على منتهى وضوح هذا الأمر.

وفي البعض من الروايات الإسلامية جاء في ذيل الآية : إنّ بعض المسلمين سألوا شخصين من المطلعين على التوراة كلاً على حدة وأنّهما ذكرا أوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدقة متطابقة (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٥ ، ص ٢٣.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٤ ص ٢٧٣٥ (الملخّص).

٢٩٠

في الآية الثالثة نقرأ عن لسان عيسى بن مريم أنّه أعطى البشارة أمام بني اسرائيلـ (وَاذْ قَالَ عِيسَى ابنُ مَريَمَ يَابنَىِ اسرَائِيلَ انَّى رَسُولُ اللهِ اليَكُم مُّصَدِّقاً لِمَا بَينَ يَدَىَّ مِنَ التَّورَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَاتى مِن بَعدِى اسمُهُ احمَدُ) ، ويقول في نهاية الآية : (فَلَمَّا جَاءَهُم بالبَيَّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحرٌ مُبِّينٌ).

والمثير للاهتمام هو أنّ القرآن ينقل أقوال هؤلاء في مخالفتهم ومعارضتهم للمعجزات واتهامهم عيسى عليه‌السلام بالسحر ، ولكنه لم يتحدث عن معارضتهم حول إخبار (المسيح عليه‌السلام) بمسألة مجيء (أحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وهذا دليل واضح على أنّهم لاينكرون هذا الخبر.

* * *

في الآية الرابعة نواجه نقطة جديدة تقول : (وَلَمَّا جَآءَهُم كِتَابٌ مِّن عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّما مَعَهُم وَكَانُوا مِن قَبلُ يَستَفِتحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّاعَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الكَافِرِينَ).

إنَّ هذه الآية جاءت لتشير إلى السبب الذي استوجب نزولها من أن (اليهود) هاجروا من أرضهم وديارهم إلى المدينة لرؤيتهم علامات نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله التي في كتبهم ، ولأنّهم قرأوا فيها أنّ محل هجرة هذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بين جبلي (عير) و (احد) ـ وهما جبلان على طرفي المدينة ، ولهذا فقد جاءوا وسكنوا المدينة وكتبوا حتى لإخوانهم بإننا وجدنا الأرض الموعودة فتعالوا إلينا.

فقال أولئك الذين ليسوا بعيدين جدّاً عنها : إنّه لا تفصلنا فاصلة كبيرة عن تلك المنطقة وحين يهاجر إليها النبي الموعود نلتحق بكم! وعندما يصطدمون مع سكان المدينة الأصليين من قبيلتي (الأوس) و (الخزرج) يقولون : «نحن في ظل النبي الجديد سوف ننتصر عليكم» (١).

__________________

(١) اقتباس عن سبب النزول الذي جاء في الدر المنثور من تفاسير أهل السنة. وتفسير العياشي عن الإمام الصادق (عليه‌السلام) (وذكره الكثير من مفسري الشيعة وأهل السنة أيضاً في ذيل الآية المذكورة) ـ ومع أنّ البعض من ـ

٢٩١

ولكنهم للأسف عندما ظهر هذا النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نهضوا لمخالفته ، لأنّهم لم يروه ملبياً لميولهم وأهدافهم غير المشروعة.

وهذه كلها تدلل على أنّ مسألة ظهور نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله جاءت واضحة في كتبهم إلى حدٍ ما.

النقطة الجديرة بالتأمل أن عبارة «مصدقٌ لما معهم» أو مايشابهها من تعبير وردت في القرآن الكريم أكثر من عشر مرات ، وليس مفهومها أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤيد كتبهم السماوية مع ما حدث فيها من تحريف) ، بل المقصود أنّ أوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله موافقة ومتطابقة مع العلامات والإشارات التي في أيديهم ، وبتعبير آخر أنّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه السماوي نفس الأوصاف التي كانوا يعرفونها من قبل بالضبط وكان في الحقيقة تصديقاً لكتبهم السماوية من ناحية تطابقها تماماً مع صفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبهذا الترتيب تعتبر كل الآيات التي جاء فيها هذا التعبير في زمرة الآيات التي نحن بصددها في هذا البحث.

* * *

وختاماً فإنّ الآية الأخيرة ـ التي تخاطب اليهود حول الموضوع ـ ضمن تأكيدها على وجوب الإيمان بالكتاب السماوي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يتطابق ومالديهم من علامات ، تقول : (وآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَّا مَعَكُم وَلَاتَكُونُوا اوَّلَ كَافِرٍ بِهِ).

أي أنّ عبدة الأوثان من العرب إذا كفروا به فلا عجبَ في ذلك ، بل العجب كل العجب هو أن تنكروه أنتم وتكفروا به ، لأنّ المتوقع منكم أن تكونوا أولّ المؤمنين به ، وإلّا ألستم الذين هجرتم مدنكم ودياركم وجئتم إلى المدينة شوقاً للقائه أوَ لَم تعدوا الأيّام والليالي انتظاراً لظهوره؟ ... إذن لِمَ تنعكس القضية وتكونون أنتم أوّل الكافرين به؟!

__________________

ـ المفسرين مثل الفخر الرازي اعطوا احتمالات متعددة لعبارة (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) ولكن أغلبها ترجع إلى نفس المعنى الذي ذكر أعلاه.

٢٩٢

ثم تشير الآية إلى الباعث ل «تغيير أسلوبهم» هذا وتقول لهم : لا تكتموا الحقائق من أجل المنافع المادية : (وَلَا تَشتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَايَّاىَ فَاتَّقُونِ).

وهذه إشارة إلى أنّ أيَّ ثمن يأخذونه مقابل ذلك فهو لا شيء ، حتى ولو كان العالم كله ، ولكنكم يا أصحاب الهمم الدنية ، من أجل مصالحكم المادية التافهة (أحياناً من أجل ضيافة سنوية) كتمتم الآيات التي تحمل علامات وأوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثم تقول الآية تأكيداً للمراد : (وَلَا تَلبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكتُمُوا الحَقَّ وأَنتُم تَعلَمُونَ).

وفي الحقيقة فإنّ اليهود ارتكبوا عدّة مخالفات في هذا المجال :

الاولى : إنّهم تعاهدوا على أن يكونوا أول المؤمنين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حين كانوا أول الكافرين به.

الثانية : إنّهم لبسوا الحق بالباطل حتى يطمسوا وجهه ويوقعوا الناس في المتاهات.

الثالثة : إنّهم كتموا الحق وهم يعلمون بأنّه حق واشتروا بالآيات الإلهيّة ثمناً قليلاً.

وهناك في القرآن الكريم آيات متعددة اخرى بنفس المعنى (أي تحكي عن «كتمان الحقائق» من قبل اليهود) والظاهر أنّ تلك الآيات كلها تشير إلى نفس مسألة كتمان آيات النبوة.

ويستفاد من مجموع ماجاء في الآيات الآنفة بأنّ اوصاف وعلامات نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وحتى اسمه المبارك قد وردت في الكتب السابقة ، وقدمت بشارات وإشارات كثيرة بالنسبة لظهوره.

ونتجه الآن صوب كتب العهدين الموجودة في متناول أيدينا (التوراة والانجيل) ، لنبحث في نماذج من هذه العلامات والإشارات :

* * *

التبشير بظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتب السماوية :

كما أشرنا من قبل ، فإننا نجد في كتب اليهود والنصارى الموجودة اليوم علامات ذلك

٢٩٣

النبي العظيم ، ولكن قبل ظهوره كانت توجد يقيناً مسائل كثيرة طمست في ظلمات الكتمان على أثر عدم انسجامها مع التعصبات العمياء الصماء أو متطلبات مصالح زعمائهم.

وحول (بشارات العهدين) كتبت مؤلفات متعددة ، أو خصصت لها أقسام من بعض الكتب ، لا يسعنا ذكرها في هذه العجالة ، ونكتفي ببعض النماذج البارزة :

تمّ التأكيد في ثلاثة موارد من «انجيل يوحنا» على لفظة (فارقليط) أو (فارقليطا) والتي تعني في العربية بـ (المُعزّي).

ونقرأ في مورد منها : «وسأطلب من الأب أن يعطيكم معزياً آخر (فارقليطا) ، يبقى معكم الى الأبد» (١).

وجاء في مورد آخر : «ومتى جاء المعزي الذي أرسله إليكم الأب ، روح الحق المنبثق من الأب ، فهو يشهد لي» (٢).

وفي الباب التالي له : «صدقوني ، من الخير لكم أن أذهب ، فإنْ كنت لا أذهب لا يجييئكم المعزي أما إذا ذهبت فارسله إليكم» (٣).

ممّا يجلب الانتباه أنّ الفخر الرازي ينقل في الجزء (٢٩) من تفسيره صفحة (٣١٣) عن الأناجيل الموجودة في عصره (انجيل يوحنا ـ الباب ١٤) : (وأنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويؤتيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد). وهذا عين ماذكرناه أعلاه ولكن بالتصريح بلفظة (فارقليط) ، ويذكر نفس المعنى بالتصريح بلفظة (فارقليط) أيضاً في الباب ١٥ و ١٦ منه.

إنّ (فارقليط) التي تلفظ باللغة اليونانية (بريكلتوس) أو (براقليتوس) فسرها الكثير من المسيحيين بمعنى (المُعَزّي) أو (روح القدس) ، ولكن جمعاً منهم ذكر أنّ معناها (كثير الحمد) وهو مايتطابق تماماً مع اسم أحمد ومع الآية التي تقول : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ احْمَدُ). (الصف / ٦)

__________________

(١) انجيل يوحنا ، الباب ١٤ ، الجملة ١٦.

(٢) المصدر السابق ، الباب ١٥ ، الجملة ٢٦.

(٣) المصدر السابق ، الباب ١٦ ، الجملة ٧.

٢٩٤

وإنّ مايتضح من المطالعة الدقيقة لجذور هذه الكلمة هو أن (فارقليط) كلمة يونانية الأصل ، وأنّ جذرها (بريقلتوس) ومعناه (كثير الحمد) التبس عليهم مع (براقليتوس) التي تعني (المُعَزّي).

ينقل السيد حسينيان مؤلف كتاب (السراج) (١) في بداية كراسه الصغير والمليء بالمضامين ، عين المتن اللاتيني لإنجيل يوحنا عن كتاب باسم (الأناجيل) من تأليف «لامينيه» ـ طبع باريس ـ والموجود حالياً في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي :

مايدلل جيداً على أنّ كلمة (فارقليط) وردت هناك على صورة (بِرِكليت) ـ التي تعني بالعربية (أحمد) وبالفارسية (كثير الحمد) وليس بصورة بَرَكليت (باراكليت) التي تعني (المُعَزّي) (٢) ، ولكن للاسف حُذف التعبير الأول فيما بعد من متون الأناجيل وحلَّ محلّه التعبير الثاني.

ويضيف أيضاً : «إنّ قدماء النصارى فهموا من لفظ «براكليت» اسماً خاصاً لشخص ، لأنّ في التراجم السريانية جاء عين اللفظ «أي فارقليط» ، وفي التراجم العبرانية الموجودة لدي ورأيتها شخصياً «فرقليط». ولأنّهم يعتبرونه اسم إنسان «معين» ، والترجمات العبرانية والسريانية عند المسيحيين لها كمال الأهميّة والاعتبار» (٣).

وفي الواقع فإنّ مفردات من قبيل (محمدٍ) و (علي) و (حسن) و (حسين) وأمثالها لا يمكن مطلقا ترجمتها عند ترجمة العبارات ، فمثلاً : بدل جملة (جاء علي) لايقول الفارسي أبداً : (بلند مرتبه آمد) بل يقول (علي آمد) ، ولكن المؤسف أنّ العلماء المسيحيين في الأزمان المتأخرة ، ومن أجل محو علامة نبوة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه أبدلوا أولاً : لفظة (بركليت) بـ (باراكليت).

وثانياً : اخرجوها من صورتها كاسم علم إلى معنىَّ وصفيٍّ وقالوا بدلها «المُعَزّي» (فتأمل).

__________________

(١) (چراغ) ـ فارسي.

(٢) كتاب جراغ ، ص ١.

(٣) المصدر السابق ، ص ٦.

٢٩٥

يتضح من هذا الكلام أنّ اللفظة الأصلية إذا كانت (بريقليتوس) فإنّ معناها (كثير الحمد) ومن غير المستبعد التباسها مع (براقليتوس) ، وطبعاً أنّ احتمالات التعمد في هذا التفسير كثيرة جدّاً.

يقول المرحوم (العلّامة الشعراني) في كتابه «نثر طوبى» : «رأيت في أحد قواميس اللغة اليوناينة أنّ «فارقليط» ترجم معناها بـ «كثير الحمد» أي من تتناقله الألسن ويذكر بالخير.

ثم يضيف : إنّ قواميس اللغة اليونانية باللغة الانجليزية ، والقواميس الفرنسية موجودة في كل مكان و (يمكنكم مراجعتها ولكن) يعتبرها المسيحيون مصحفة ومحرفة. ويترجمونها بمعنى (المعزي) وقد كتبنا نحن رسالة مستقلة في هذا الباب» (١).

ونطالع في كتاب قاموس مفردات القرآن (٢) تأليف الدكتور قريب : «أنّ المستفاد من الروايات هو أنّ الأنبياء العظام كل بنوبته قد بشروا في كتبهم بحضرة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم ينقل عن الكثير من المصادر الإسلامية أنّ اسمه في الانجيل «الفارقليطا» التي يكون معناها (أحمد)» (٣).

وفيما عدا ذلك ففي تعبيرات الانجيل نفسه توجد جمل تشير إلى أنّ هذه الكلمة وبأي تعبير تكون فهي تتحدث عن نبي يظهر ويبقى دينه خالداً.

فجملة (وسأطلب من الأب أن يعطيكم معزياً آخر يبقى معكم إلى الأبد) (٤) دليل واضح على أنّ المقصود من (المعزي) هو نبي دينه أبدي وخالد.

ويقول هناك : «ومتى جاء المعزي الذي ارسله اليكم الأب ، روح الحق المنبثق من الاب ، فهو يشهد لي» (٥).

وواضح أنّ هذا المعزي هو نبي وليس روح القدس. وتكمنُ في تعاليمه كل الحقائق ولن يبق شيء يستحق القول.

__________________

(١) نثر طوبى ، ج ١ ، ص ١٩٧.

(٢) فرهنك لغات قرآن (فارسي).

(٣) فرهنك لغات قرآن (فارسي) ، ج ١ ، ص ٣٥١.

(٤) انجيل يوحنا ، الباب ١٤ ، الباب ١٦

(٥) المصدر السابق ، جملة ٢٦.

٢٩٦

وعلى أيّة حال فلا مجال لأي شك أو ترديد بأنّ كلمة (أحمد) أو مفردات من قبيلها كانت موجودة في الأناجيل المتوفرة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلّا فإنّ الآية السادسة من سورة الصف ستكون في مظان الاعتراض الشديد من قبلهم ولأصبحتْ حجةً قوية لهم في محاربة الإسلام. في حين لم ينقل لنا التاريخ الإسلامي مثل هذا الشيء.

وبناء على ذلك يبدو أنّ البعض من علماء المسيحية حينما رأوا أن مواقعهم معرضة للخطر اتخذوا قرارهم بتحريف وتبديل تلك المعاني إلى معانٍ اخرى. وحتى يمكن مشاهدة نفس الاسم المقدّس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض كتب المسيحيين التي كانت موجودة لقرون بعد ظهوره صلى‌الله‌عليه‌وآله في زوايا العالم المختلفة.

والشاهد على هذا الكلام بيان مثير لأحد العلماء المسيحيين الذين أعلنوا إسلامهم في كتابه (أنيس الاعلام) وهو كتاب تحقيقي فريد أزاح الستار عن هذا الجانب.

وباعتباره كان بنفسه أحد القساوسة المسيحيين المعروفين وأنهى دراسته عند كبار علماء المسيحية ووصل إلى مقام كبير في نظرهم ، يشرح في مقدمة كتابه المذكور قصة اسلامه العجيبة بهذا الشكل ، يقول : «بعد تنقيب كثير وجهود خارقة وجولات في المدن المختلفة وصلت إلى قسيس رفيع المستوى كان ممتازاً من ناحية الزهد والتقوى. ويعود إليه أبناء الطائفة (الكاثوليكية) من ملوك وغيرهم بأسئلتهم الدينية ، وقد درست عنده فترة مذاهب النصارى المختلفة ، وكان عنده تلامذة كثيرون ولكن كان له تعلق خاص بي من دونهم وكانت مفاتيح المنزل كلها بيدي إلّامفتاح واحد لأحد الخزائن كان يحتفظ به عنده.

في تلك الأثناء أحس القسيس المذكور يوماً بوعكة صحية ، فقال لي : قل للتلاميذ أنني لا طاقة لي على التدريس ، وعندما جئت للطلبة وجدتهم مشغولين بالبحث والنقاش الذي انجر إلى معنى لفظة (فارقليطا) في السريانية و (بريكلتوس) باللغة اليونانية ... وقد امتد جدالهم وطال ، وبدا لكل واحد منهم رأيٌ ... بعد أن عدتُ إلى الاستاذ سألني : ما بحثتم اليوم؟ فقدمت له تقريراً عن اختلافهم في لفظ (فارقليطا) ... قال : وأنت أي الأقوال انتخبت؟

٢٩٧

قلت : انتخبت ما اختاره فلان مُفسِّر.

فقال القس : ما قصّرت ولكن الحق والواقع يخالف كل هذه الأقوال ، لأنّ الحقيقة لايعلمها (إلّا الراسخون في العلم) وقليل من هؤلاء أيضاً من يعرفها ، فألححت عليه أن يقول لي معناها ، فبكى بشدّة وقال : إنني لا أبخل عليك بأي شيء ... إن في تعلم معنى الاسم أثراً عظيماً ولكن بمجرّد شيوعه سيقتلوننا أنا وأنت وإذا عاهدتني بأنّ لا تقول لأحد سأبيّن لك المعنى ... فأقسمت له بكل المقدّسات أن لا أبوح باسمه ، عندئذ قال : إنّ هذا الاسم هو من أسماء (نبي المسلمين) ومعناه (أحمد) و (محمد) :

ثم أعطاني مفتاح تلك الغرفة الصغيرة وقال : افتح باب الصندوق الفلاني. وآتني بكذا وكذا كتاب ، فجلبت الكتابين له وكانا مكتوبين بالخط اليوناني والسرياني قبل ظهور نبي الإسلام ، على الجلد.

وقد ترجم لفظ (فارقليطا) في كلا الكتابين بمعنى (أحمد) و (محمد) ، ثم اضاف الاستاذ قائلاً : لم يكن عند علماء النصارى أي اختلاف قبل ظهور نبي الإسلام بأنّ (فارقليطا) تعني (أحمد ومحمد) ولكن بعد أن ظهر محمد أوَّلوا اللفظة واخترعوا لها معنىً آخر من أجل الابقاء على رئاستهم ومنافعهم المادية ، وقطعاً أنّ هذا المعنى لم يقصده صاحب الانجيل.

فسألته : ما تقول عن (دين النصارى)؟ قال : نسخَ بمجيء الدين الإسلامي وكرر هذا اللفظ ثلاث مرات ، فقلت : في هذا الزمان ما هو طريق النجاة والصراط المستقيم ...؟ قال : أنّه منحصر في اتّباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قلت : وهل أنّ تابعيه من أهل النجاة؟ قال : أي والله (كررها ثلاثا) ...

ثم بكى الاستاذ وبكيت أنا أيضاً ، وقال : إذا كنت تريد الآخرة والنجاة فيجب أن تقبل دين الحق ... وسوف أدعو لك دائماً ، بشرط أن تشهد لي يوم القيامة بأنني كنت مسلماً في الباطن ومن أتباع حضرة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ... وليس من شك اليوم أنّ «دين الإسلام» هو دين الله على وجه الأرض ...» (١).

__________________

(١) اقتباس مع قليل من الاختصار عن (الهداية الثانية) مقدمة كتاب أنيس الاعلام.

٢٩٨

وكما تلاحظون فإنّ علماء أهل الكتاب ـ وفق هذا السند ـ فسروا وبرروا اسم وعلامات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ظهوره بشكل آخر من أجل مصالحهم الشخصية.

سؤال :

يطرح هنا سؤال وهو : إنّ الاسم المعروف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (محمد) في حين سمي في الآية ٦ من سورة «الصف» باسم (أحمد) ، وهاتان المفردتان وإن لم تختلفا كثيراً في دلالتهما على معنى ومفهوم (محمود) ولكنهما في الظاهر اسمان مختلفان. وبناءً على ذلك إذا كانت (فارقليطا) تعني (محمود) ، فإنّها تنسجم مع كليهما ، ولكن تعبير القرآن بـ (أحمد) لاينسجم مع الاسم المعروف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الجواب :

ستتضح الاجابة جيداً عن هذا السؤال ببيان بعض النقاط :

١ ـ جاء في التواريخ بأنّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ طفولته اسمين ، وحتى أنّ الناس كانت تخاطبه بكليهما. أحدهما : (محمد) والآخر (أحمد) ، والأول : اختاره له جده (عبد المطلب). والثاني : أُمه (آمنة) ، وقد ذكر هذا الموضوع بالتفصيل في السيرة الحلبية.

٢ ـ من بين الذين ينادونه مراراً بهذا الاسم ، عمه (أبو طالب) ، وفي أيدينا اليوم كتاب بعنوان (ديوان أبي طالب) نشاهد فيه قصائد كثيرة ذَكرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعنوان (أحمد) مثل :

أرادوا قتل «أحمد» ظالموهم

وليس بقتلهم فيهم زعيم

وإن كان «أحمد» قد جاءهم

بحق ولم يأتهم بالكذب (١)

وفي غير (ديوان أبي طالب) نقلت عنه أشعار في هذا المجال مثل :

لقد أكرم الله النبي محمداً

فأكرم خلق الله في الناس أحمد (٢)

__________________

(١) ديوان أبي طالب ، ص ٢٥ و ٢٦.

(٢) تاريخ ابن عساكر ، ج ١ ، ص ٢٧٥.

٢٩٩

٣ ـ ويرى هذا التعبير أيضاً في أشعار (حسان بن ثابت) الشاعر المعروف في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ومفجعة قد شفها فقد أحمد

فَظَلَّت لآلاءِ الرسولِ تعدد

والأشعار التي جاء فيها اسم (أحمد) بدلاً من محمد سواءً في ديوان أبي طالب أو غيره كثيرة جدّاً ولا مجال لنقلها كلها هنا. ونختم هذا البحث ببيتين آخرين لابن أبي طالب (علي عليه‌السلام) حيث يقول :

أتامرني بالصبر في نصر «أحمد»

ووالله ماقلتُ الذي قلتُ جازعاً

سأسعى لوجه الله في نصر «أحمد»

نبي الهدى المحمود طفلاً ويافعا (١)

٤ ـ نقرأ في الروايات التي جاءت تتحدث عن مسألة المعراج أنّ الله خاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج مرات باسم (أحمد) وربّما من هنا اشتهر بأنّ اسمه في السماء (أحمد) وفي الأرض (محمد).

وجاء أيضاً في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة أسماء جاءت خمسة منها في القرآن وهي : (محمد) و (أحمد) و (عبد الله) و (يس) و (ن) (٢).

٥ ـ عندما تلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الآيات المذكورة (آيات سورة الصف) لأهل المدينة ومكة وسمعها أهل الكتاب أيضاً ، لم يعترض أي واحد من المشركين وأهل الكتاب بأنّ (الانجيل) بشر بمجيء (أحمد) بينما اسمك (محمد). وسكوتهم هذا دليل على اشتهار هذا الاسم في ذلك المحيط ، لأنّه إذا حدث مثل هذا الاعتراض لكان قد نُقل إلينا. مع أنّ اعتراضات الأعداء وحتى في الموارد الجارحة جدّاً مثبتة في التاريخ.

نستخلص من مجموع هذا البحث أنّ اسم (أحمد) كان من الأسماء المعروفة لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لدى أهل الكتاب.

* * *

__________________

(١) الغدير ، ج ٧ ، ص ٣٥٨.

(٢) المصدر السابق.

٣٠٠