نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

ضربة عنيفة لكثير من الأعمال اليومية التي يقوم بها الإنسان. ولهذا السبب تنجز الحيوانات ذوات الأربع كثيراً من أعمالها بفمها أو رأسها.

وبعبارة اخرى يمكن القول : إنّ وجود الأصابع لدى الإنسان يعتبر من العوامل المهمّة للتقدم الحضاري له ، والتعبير بـ «البنان» المأخوذ من مادة الإقامة والدوام ، إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة نفسها ، وذلك لصعوبة وجوده في العالم بدونها.

يقول الله تعالى في الآية الآنفة الذكر : إنّ بإمكاننا أن نعيد العظام الصغيرة الدقيقة في يوم القيامة أيضاً فضلاً عن العظام الكبيرة.

واحتمل جماعة من المفسرين أيضاً أنّ المقصود من تسوية البنان هو وصالها مع بعضها واخراجها بصورة حافر حيوان من ذوات الأربع وليس لهذا التفسير تناسب مع آيات السورة.

من الامور التي يمكن استنتاجها من هذه الآية هو هذا الاكتشاف المهم ، فقد أصبح من الثابت أنّ معرفة هوية أحد ما يتمّ بوسيلة رؤوس أصابعه. وهي أوثق وأدق من كل امضاء ولا يستطيع أحد تزويره ، في حين أنّ التزوير قادر على التسرب إلى أعقد التواقيع ، ولهذا السبب أصبحت مسألة «أخذ البصمات» من الحقائق العلمية في عصرنا الحاضر واستحدثت لأجلها دائرة خاصة في المراكز الأمنية ، من خلالها يكشف النقاب عن كثير من المجرمين ، فيكفي أن يضع أحد السراق يده على مقبض الباب ، أو زجاج الغرفة ، أو على القفل والصندوق والكرسي عند دخوله لأحد الغرف أو المنازل فيبقى أثرها على تلك الأشياء ، أو يتمّ العثور على سلاح في قضية قتل ، عليه بصمات أحد الأشخاص ، وهذا يكفي لأخذ نماذج فورية لها فتتم مطابقتها على بصمات الأشخاص المشكوك بهم في تلك الحادثة ، ـ إضافة لما لديهم من معلومات عن المجرمين والسراق ـ ومن ثم يلقون القبض على الجاني.

إذن يكون مفهوم الآية بناءً على هذا التفسير : إنّنا لسنا قادرين على أن نجمع العظام الكبيرة والصغيرة فحسب ، بل إنّ في مقدورنا أيضاً أن نعيد الأصابع وبصماتها بجميع

١٤١

مزاياها ، التي هي من أدق ما في البدن من خصوصيات إلى حالتها الاولى.

وبعبارة اخرى أنّ مفهوم تسوية البنان (ومعناها التنظيم والترتيب) ، شامل لجميع الخصوصيات والجزئيات ، من جملتها بصمات الأصابع.

ومن الجدير بالذكر هو ما نجده من توافق بين هذا المعنى وبين مسألة القيامة ، المحكمة الكبرى للعدل الإلهي ، التي يجب التحقيق فيها مع المجرمين والمذنبين ، ذلك أنّ هذه المسألة يستفاد منها أيضاً في محاكم الدنيا ، قبل أي مكان آخر.

* * *

١٦ ـ القرآن يكشف الستار عن عظمة خلق السماوات

نقرأ في قوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّمَواتِ وَالارضِ اكبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ). (المؤمن / ٥٧)

صحيح أنّ أغلب المفسرين اعتبر هذه الآية رداً على جدال المشركين في (المعاد) (١) ، أي إنّكم تشكون في بعث الإنسان من جديد ، في حين أنّ خلق الإنسان ليس بأعظم من خلق السماوات ، بل إنّ خلق السماوات والأرض أهم من ذلك وأعظم ، بيدَ أنّ جملة (ولكنّ أكثر الناسِ لا يَعلَمُون) ، هي إشارة إلى حقيقة أنّ عظمة السماوات كانت مجهولة لدى معظم الناس سابقاً.

وبالرغم ممّا اكتشفه العلم الحديث من اسرار عظيمة ومهمة جدّاً عن وجود البشر لم يكن واحد من الألف منه معروفاً في العصور السابقة ، إلّاأنّ الاكتشافات التي تحققت في مجال عظمة السماوات ، تدل على أنّ خلقها والأرض يفوق بمراتب خلق البشرية بكل ما تنطوي عليه من عجائب.

إنّ آخر ما توصل إليه العلماء بصدد السماوات وبالأخص المجرات يقول : إنّه قد اكتشف إلى اليوم أكثر من مليارد مجرة بواسطة المراصد الفلكية الكبيرة ، ومنظومتنا الشمسية ما هي

__________________

(١) تفاسير مجمع البيان ؛ الصافي ؛ الكبير ؛ الكشاف ؛ روح المعاني ؛ وروح البيان.

١٤٢

إلّا جزء ضئيل من احدى المجرّات التي تسمى بـ «درب التبانة» ، ففي مجرّتنا فقط أكثر من مائة مليارد كوكب والشمس بعظمتها هي احدى النجوم المتوسطة في هذا الجيش الجرّار للنجوم.

الفضاء واسع جدّاً بحيث إنّ سبر اغواره ليس يستحيل بالمركبات الفضائية البشرية فحسب ، بل إنّنا لو ركبنا ذرات الضوء ـ التي تسير بسرعة فائقة تصل إلى ثلاثمائة الف كيلو متر في الثانية الواحدة ـ لاستغرقت رحلتنا هذه ملياردات السنين الضوئية أيضاً حتى يمكننا أن نقطع المساحة المكتشفة في هذا العالم.

وكلما كان حجم المراصد الفلكية أكبر وأدق ، كلما كشفت لنا الحجب عن عوالم جديدة اخرى.

بالرغم من هذه الاكتشافات فإنّنا لحد الآن لم نتوصل إلى ما وراء ما عرفناه وشاهدناه ، وإنّ ما اكتشف بأكبر المراصد هو زاوية صغيرة وتافهة من هذا العالم العريض.

وحسب قول أحد العلماء : فإنّ كل هذا العالم الواسع الذي نشاهده ليس إلّاذرة صغيرة ، وجزء لا حدود له من عالم أكثر عظمة (١).

ومن هنا نقف على عمق الآية الآنفة الذكر التي تقول : (لَخَلقُ السَّمَواتِ وَالارض اكبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعلَمُونَ).

ونتساءل ألا يُعدُّ بيان مثل هذه الامور من قبل فرد امي في عصر نزول القرآن وفي بقعة من أكثر بقاع العالم تأخراً ، معجزة؟

وبهذا النحو نصل إلى نهاية بحث الاعجاز العلمي للقرآن ، وإن كانت لا تزال هناك ملاحظات كثيرة لم نتطرق إليها.

ونعتقد أنّ البحث في النماذج الستة عشر السابقة أثبت بشكل منصف ولكل إنسان واع حقيقة استحالة أن يكون هذا الكتاب العظيم أي (القرآن) من صنع عقل البشر.

* * *

__________________

(١) مجلة الفضاء ، العدد ٥٦ ، سنة ١٩٧١.

١٤٣
١٤٤

٤ ـ الاعجاز التاريخي للقرآن

دور التاريخ في المسائل التربوية :

ممّا لا يقبل الشك أنّ القرآن ليس كتاباً تاريخياً ، لكنه ولأسباب مختلفة فانه يضم بحوثاً تاريخية متنوعة ، وذلك لأن المسائل التربوية وبالأخص الاجتماعية لا يمكنها أن تنفصل عن المباحث المرتبطة بـ (تاريخ القدماء) لأنّ التاريخ من أكبر معلمي الحياة وهو معيار جيد لتحديد وتبيين مزايا وخصائص المباديء الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفصل الحقائق عن الأوهام والمثاليات عمّا يناقضها.

إنَّ عظمة التاريخ تكمن في اظهاره المسائل الفكرية والعقلائية في قالب محسوس تؤدي خدمة كبيرة لفهم المسائل الإنسانية بصورة صحيحة ، فمن جملة المسائل التي تُستنبط من التاريخ هي : إلى أين تؤول عاقبة الظلم والجور والاستبداد ، وماهي نتيجة الاختلاف والتشرذم ، وما هي خاتمة التعصب والعناد والانانية ، وعدم الاعتناء بالحقائق الواقعية؟

ولهذا السبب يمكن القول : إنّ التاريخ هو معين الحياة الذي يمد الإنسان بالعمر والبقاء ، فمن خلال مطالعة تاريخ القدماء نحصل على صفحات مركزة هي عصارة آلاف السنين من التجارب الإنسانية توضع بين يدي جيل الحاضر والمستقبل.

وأشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة المهمّة بجملة مختصرة إذ يقول :

(لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّاوْلي الأَلبَابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىءٍ وَهُدىً وَرَحمَةً لِّقَومٍ يُؤمِنُونَ). (يوسف / ١١١)

١٤٥

والجدير بالذكر هنا أنّ القرآن بيّن هذا المفهوم بعد قصة النبي يوسف عليه‌السلام المليئة بالحوادث والعبر التي يستفاد منها في الأبعاد المختلفة للمسائل التربوية.

وفي موضع آخر يعتبر القرآن قصص وتاريخ القدماء وسيلة لإيقاظ الأفكار والعقول فيقول : (فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفكَّرُونَ). (الأعراف / ١٧٦)

وفي آيات اخرى يُعد تاريخ الأنبياء الاوائل وسيلة ناجحة ل (تثبيت قلب) نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقوية إرادته ولتوعية المؤمنين وايقاظهم ، فيقول عز من قائل : (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيكَ مِنْ انْبَاءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجاءَكَ فِى هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلمُؤمِنِينَ). (هود / ١٢٠)

ويقول الله سبحانه وتعالى في صدد التعريف بقصّة نوح عليه‌السلام : (وَلَقَدْ تَّرْكنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ). (القمر / ١٥)

ويذكر الآثار المتبقية للقدماء بتعبير حي جميل ، فيقول : (افَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا او آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فانَّهَا لَاتَعْمَى الابْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ). (الحج / ٤٦)

وعلى هذا ، فالأحداث التاريخية المفصلة والآثار التاريخية الغابرة للقدماء تساهم في إنارة البصائر وتفتح آفاق جديدة رحبة.

ومن خلال هذه الإشارة إلى فلسفة تاريخ القدماء نعود إلى القرآن مرة ثانية لنلقي نظرة على الاعجاز التاريخي للقرآن.

* * *

الخطوط العريضة للتاريخ في القرآن :

سبق القول إلى أنّ مقطعاً مهماً من المباحث التربوية والمواعظ والنصائح والبشائر والنُذر والعهود والآمال القرآنية بُيِّنت بصفتها مسائل تاريخية شيقة ومعبرة ومؤثرة تجذب السامع تلقائياً نحو الأهداف العليا ، ولانستطيع الوقوف على عظمة البحوث التاريخية

١٤٦

المعجزة في القرآن مالم نطالع بدقة سورة يوسف ، والأنبياء ، وطه ، والقصص ، ومريم ، وآل عمران ، وأمثالها.

وتنطوي البحوث التاريخية على الخصوصيات الأساسية التالية :

١ ـ الاستناد إلى المقاطع الحساسة وإلقاء نظرة فاحصة ونافذة على المسائل التربوية المهمّة.

٢ ـ خُلّوها من أي شكل من أشكال الحشو والإضافات.

٣ ـ خُلّوها من حالات التضاد والتناقض وعدم السنخية والانسجام.

٤ ـ خلافاً لُاسلوب كتابة التاريخ المتعارف في ذلك الزمان (وحتى في القرون التي تلته) ، حيث طرح التاريخ فيها كمادة مسلية ، ووسيلة للإطلاع على اوضاع الماضين ، فلم يشتمل على أيّة نظرة فاحصة محللة تشكل فلسفة التاريخ والدروس والعبر المستلهمة من حياة القدماء.

بينما اهتم القرآن المجيد في تواريخه بأصول المسائل وبظواهرها أيضاً بشكل يُنمي روح حب الإطلاع في نفس القارىء والمتلقّي ويحفز ذهنهما على التفكير الدقيق في الحوادث.

ومن الجدير بالذكر : إنّه لم يرد ذكر للحوادث التافهة التي لا هدف لها سوى اطالة الكلام وإتلاف الوقت في أي واحدة من آياته.

٥ ـ أولى القرآن اهتماماً بالغاً وبشكل دقيق بمسألة فصل الحقائق التاريخية عن الأساطير ، وهي من المسائل المعقدة أحياناً ، لأنّ هناك عوامل مزجت التاريخ بالأساطير الكاذبة دائماً : من جملتها ، الترفيه وإرضاء العواطف الطفولية ، إدارة الخيال وإيجاد الروابط المفتعلة ، بحيث يمكن القول : إنّ الأساطير والخرافات تستأثر بمقطع مهم من تواريخ القدماء وتشكل أحد أركانها الأساسية.

فبناءً على ذلك لو فرضنا أنفسنا في زمن نزول القرآن وأجواء حياة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لشاهدنا مدى امتزاج تواريخ ذلك الزمان بخرافات تُتناقل على الألسنة وتعد في قائمة

١٤٧

المسلمات بحيث لايستطيع المتعلمون الفصل بينهما ، فضلاً عن أحد الامّيين.

وقد كان علماء ذلك العصر من الربانيين و (أحبار) اليهود والنصارى ومشركي العرب يدافعون عن هذه الأساطير والخرافات ، ومن الطبيعي أنّ من يعيش في مثل تلك البيئة ويصل سنّه إلى الأربعين تنسج أفكاره بهذه الأساطير والخرافات ويستحيل الفصل بينها عادة ، ترى هل يستطيع أحد أن يُنقي التاريخ في تلك البيئة المظلمة ويفصل الحقائق عن الأوهام والخرافات؟ إنّ أحداً من المحققين ، والمطلعين على التاريخ في يومنا هذا لا يتمكن من القيام بمثل هذا العمل إلّابشق الأنفس ، فكيف يمكن توقع ذلك من شخص امّي لا يعرف القراءة في ذلك العصر؟

والآن نتوقف عند بعض الأمثلة في القرآن وبشيء من المقارنة يتضح ماقلناه سابقا :

* * *

١ ـ كيفية خلق «آدم» كما ورد في القرآن وفي العهدين

بيّنَ القرآن الكريم (خلقة) الإنسان في سورة البقرة في الآيات (٣٠ إلى ٣٧) بالشكل التالي :

(وَاذْ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائِكَةِ انِّى جاعِلٌ فِى الْأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا اتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيَها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ انِّى اعْلَمُ مَالَا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ الاسْماءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ انْبِئُونِى بِاسْماءِ هؤُلَاءِ إنْ كُنْتُم صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا الَّا مَاعَلَّمْتَنَا انَّكَ انْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ* قَالَ يَاآدَمُ انبِئهُمْ بِاسَمائِهِم فَلَمَّا انبَاهُمْ بِاسمائِهِم قَالَ الَمْ اقُلْ لَّكُمْ انِّى اعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالارضِ وَاعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* وَاذْ قُلْنا لِلمَلَائِكةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا الَّا ابلِيسَ ابَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ* وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ انْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنَها رَغَداً حَيْثُ شِئْتَما وَلَاتَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ* فازَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنهَا فاخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنا اهْبِطُوا بَعْضُكُم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الارضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ الَى حِينٍ* فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَّبِّهِ كَلِماتٍ فَتَابَ عَلَيهِ انَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (البقرة / ٣٠ ـ ٣٧)

١٤٨

وقد أشير إلى هذا المعنى أيضاً في سور قرآنية اخرى كالأعراف وطه.

ويستفاد من الآية (١٢) من سورة طه بشكل واضح ، أنّ الشيطان خدع آدم من خلال قوله له : إنّ هذه الشجرة ، شجرة الحياة الأبدية ، في حين أنّ آدم تلقى إنذاراً مُسبقاً يقضي بأنّ الشيطان عدوٌّ لك فلا تغتر بأقواله.

وكذلك يستفاد من الآية (٢٦ و ٢٧) من سورة الأعراف و (١٢١) من سورة طه هذا المعنى أيضاً هو أنّ آدم وزوجته كانا يرتديان الأثواب في الجنّة لكن عندما تناولا من تلك الشجرة المُحرّمة عليهم ، خُلعت عنهما أثواب الجنة.

وصنعوا لأنفسهما لباساً من اوراق اشجار الجنة ، واستناداً إلى الآيات السابقة نستنتج مايلي :

أولاً : من المميزات الأساسية لشخصية آدم عليه‌السلام هي نيله مقام الخلافة الإلهيّة وسجود الملائكة له ، وهي نفس حالة اطلاعه على «علم الأسماء» وعلمه بالحقائق والأسرار الكونية.

ثانياً : السبب وراء خروج آدم من الجنّة ، هو تناوله من تلك الشجرة التي حُظرت عليه من قبل وإن كان القرآن لم يذكر اسماً لهذه الشجرة ، لكن ظاهر الأمر أنّها كانت تحمل فاكهة طيبة ولذيذة والغاية من الأمر بتركها هو اختبار آدم عليه‌السلام وامتحانه من أجل غربلة إيمانه وصقل إرادته في مقابل الوساوس النفسانية والشيطانية.

ويتضح من عبارة (فأزَلَّهُما الشَّيطانُ) معنى أنّ التناول من تلك الشجرة المحظورة لايعدو أن يكون مخاضاً من المخاضات وليس هو من نوع ارتكاب الذنب والطغيان أمام قدرة الله وانتهاك حرمة العبودية.

والآن نعرج على التوراة لنرى كيف امتزجت هذه الحادثة التاريخية بأنواع الخرافات والمسائل غير المنطقية والصبيانية؟

جاء في الفصل الثاني من (سفر التكوين ٧ ـ ٢٥) مايلي :

* ثم صور الله تعالى آدم من صعيد الأرض ونفخ في انفه نسمة الحياة ، فأخذ روح آدم ينبض بالحياة.

١٤٩

* وغرس الله تعالى بستاناً في الجانب الشرقي من عدن ، وأنزل الإنسان الذي صوره هناك.

* وأنبت الله تعالى كل شجرة بديعة ولذيذة المطعم ، وانبت شجرة الحياة وسط البستان وشجرة المعرفة (بالحسن والقبُح) ...* وأخذ الله تعالى آدم وأنزله في بستان عدن ليرعاه ويحرسه.* وأمر الله تعالى آدم وقال انك مخير بأنّ تأكل من كل اشجار البستان.* ولكن لا تأكل من شجرة المعرفة ، لأنك ستستحق الموت حين تناولك منها ...* وكان آدم وزوجته كلاهما عاريين ولا يستحيان.

ووردت تتمة هذه الواقعة في الفصل الثالث من (سفر التكوين) نفسه على النحو التالي :

١ ـ خلق الله الأفعى (الشيطان) أمكر من كل ذي روح يدب على وجه الصحراء ، فقالت للمرأة : هل قال الله حقاً لا تأكلا من جميع أشجار البستان.

٢ ـ وقالت المرأة للافعى بأننا نأكل من فاكهة أشجار البستان.

٣ ـ إلّاأنّ الله تعالى أمرنا بأنّ لا نأكل من ثمار الشجرة التي في وسط البستان ولا نلمسها حتى لا نموت.

٤ ـ وقالت الأفعى للمرأة وبالطبع لا تموتان.

٥ ـ الحقيقة أنّ الله يعلم أنكما يوم تأكلان منها تتنور بصيرتكما ، وتصبحان كالآلهة (الملائكة) الذين يعلمون الحسن والقبح.

٦ ـ فرأت المرأة أنّ من الصلاح أن تأكل من الشجرة التي تبدو رائعة المنظر ، جذابة لمن يعشق المعرفة فوظفت من ثمارها واكلت واعطت لزوجها أيضاً فأكل.

٧ ـ حينئذٍ تنورت بصيرتهما ، وعلما أنّهما عاريان فحاكا من أوراق شجرة التين إزاراً لهما.

٨ ـ وسمعا صوت الله تعالى حينما كان يتبختر صباحاً في البستان ، فاختفى آدم وزوجته بعيداً عن حضرة الله بين الأشجار.

٩ ـ ونادى الله آدم وقال له اين أنت؟

١٠ ـ فأجابه إنني سمعت نداءك في البستان وأصابني الهلع ، لأنني عارٍ من اللباس ولهذا اختفيت.

١٥٠

١١ ـ فقال الله من قال لك إنّك عارٍ؟ هل تناولت من الشجرة التي أمرتك أن لا تأكل منها؟

١٢ ـ وقال آدم : إنّ المرأة التي منحتها لي لتكون معي هي التي أعطتني من تلك الشجرة فأكلت.

١٣ ـ وقال الله تعالى للمرأة ما هذا الذي فعلت؟ قالت المرأة لقد أغوتني الأفعى فأكلت.

١٤ ـ وقال الله تعالى للأفعى : لأنك فعلت ذلك فأنت ملعونة من بين كل البهائم ، والحيوانات الصحراوية ستمشين على بطنك وستأكلين التراب طيلة أيّام حياتك ...

٢٢ ـ وقال الله تعالى نظراً لأنّ آدم أصبح واحداً منّا لعلمه بالحسن والقبح ، فلا ينبغي أن يمد يده إلى شجرة الحياة أيضاً فيأكل منها ويعيش عيشاً أبدياً.

٢٣ ـ إذن لهذا السبب ابعده الله تعالى من بستان عدن ، ليشتغل بزراعة الأرض التي نشأ منها.

٢٤ ـ وأبعد آدم واسكن الكروبيين (الملائكة) في الجانب الشرقي من «بستان عدن» وكانوا يطوفون حول شجرة الحياة بالسيف البتار ليحرسونها.

وخلاصة ما جاء في التوراة بصدد تاريخ خلق آدم وخروجه من الجنّة على النحو التالي :

خلق الله آدم ، وأسكنه بستاناً في الجانب الشرقي من عدن ، ليرعاه ، وختم هذا البستان بين أشجاره شجرتين.

إحداهما : (شجرة العلم ، بالحسن والقبح) وهي شجرة يحصل من يأكل من ثمارها على العقل والذكاء ، ولأنّ آدم لم يكن قد تناول منها شيئاً ، فلم يدرك معنى الحسن والقبح. ولهذا السبب لم يستح من عُريه هو وزوجته قط ، والاخرى : كانت (شجرة الحياة) ومن أكل منها حَظي بالعمر الخالد.

وأمر الله تعالى آدم أن لا يتناول شيئاً من شجرة العلم ، المعرفة والحسن والقبح على الاطلاق وإلّا فسيموت ، وسرعان ما ألقى الشيطان وسواسه في روع زوجة آدم (حواء) وقال لها : لِمَ لا تأكلين من (شجرة العلم ، والمعرفة) لأنّك لو أكلت لانُيرت بصيرتك ولاطّلعت على الحسن والقبح كالملائكة ، وكان منظر تلك الشجرة جذاباً جميلاً ، ومن ثمّ

١٥١

أكلت منها حواء واعطت منها لآدم أيضاً فتفتحت عيناهما ، واطلعا على الحسن والقبح ، وأدركا قبح العري فصنعا من الورق العريض لشجرة التين ستراً لهما وربطوه حولهما ، حينما كان الله تعالى يتمشى في الجنّة عمد آدم إلى اخفاء نفسه بين أشجارها ، فلم يشاهده الله تعالى وناداه أين أنت؟ فأجاب الله تعالى إنّي هنا بين الأشجار وقد أخفيت نفسي لأنني عارٍ فسأله الله تعالى : من أين علمت أنّك عارٍ؟ لعلك تناولت شيئاً من شجرة الحسن والقبح (شجرة العلم والمعرفة) ، فالقى التبعة على عاتق زوجته ، لما عُوتبت حواء ألقت التبعة على عاتق الأفعى (الشيطان) ، هنا عاقب الله الأفعى ، بأنّ تزحف على بطنها ، وتأكل من تراب الأرض طيلة حياتها.

من ناحية اخرى ، بعد أن تناول آدم من (شجرة العلم والمعرفة) وأصبح كأحد الآلهة ، احترس الله تعالى من أن يتناول من (شجرة الحياة) أيضاً ويحظى بالعمر الخالد. ولذلك اصدر الله تعالى أمراً بإخراجه من الجنّة وأمر الملائكة أن يحرسوا شجرة الحياة بالسيف البتار لئلا يقترب منها آدم.

ولا يخفى علينا أنّ هذا هو التوراة نفسه الذي يعد اليوم (الكتاب المقدس) لجميع يهود ومسيحيي العالم ، ويؤمن جميعهم بمحتواه ويعتقدون أنّه الكتاب عينه الذي كان في أيدي اليهود والنصارى في عصر نزول القرآن.

وبطبيعة الحال فإنّنا لا نعتقد بوجود مثل هذا النوع من الخرافات الصبيانية المبتذلة في الكتاب السماوي لموسى عليه‌السلام ، أو أنّ الأنبياء بعده دافعوا عنه ، ولكن على أي حال احتوت هذه الاسطورة الغريبة على امور جارحة في حق الله تعالى ، بحيث إنّ كل واحدة منها أشنع من الاخرى ومن جملتها :

١ ـ نسبة الكذب إلى الله تعالى استناداً إلى ما نقلوه من قوله أنّكما لو تناولتما شيئاً من شجرة (العلم والمعرفة) فستموتان.

٢ ـ نسبة البخل إليه جل وعلا بمانقلوه من أنّه لم يوافق على أن يأكل آدم وحواء من شجرة العلم والمعرفة ، فيحظيا بالعقل والإدراك وكان يريد لهما البقاء على جهلهما وعدم معرفتهما.

١٥٢

٣ ـ إنّ الله تعالى لم يمنحهما العقل والعلم الكافيين ليدركا قبح كونهما عاريين ، بل وكان تعالى كثيراً ما يرتضي لهما هذه الحالة.

٤ ـ القول بأنّ له جسماً وأنّه يتمشى على قدميه في البستان ، وفي الوقت نفسه يغفل ولا يعلم بما يدور حوله ، بحيث يمكن لآدم وحواء أن يتواريا عن نظره وكل واحد من تلك الامور يعد كفراً ، ولا ينسجم مع مقام الألوهية اطلاقاً.

٥ ـ إنّ الشيطان (نعوذ بالله) أشد حرصاً من الله تعالى على آدم وحواء لأنّه أرشدهما إلى معرفة الحسن والقبح ، وهو لم يكف عن اضلاله فحسب بل دعاهما إلى طريق التكامل ، بينما الحقيقة هي أننا ندين الشيطان في علومنا ومعارفنا.

٦ ـ إنَّ الجنة منزل الجهال والأغبياء لأنّ الله أخرج آدم وحواء من الجنّة بجريرة حصولهما على العلم.

٧ ـ إنّ الشيطان إنّما لعن وطرد من ساحة الرحمة الإلهيّة ، لأنّه كان يطلب الخير لآدم ، فعوقب من دون أن يرتكب ذنباً معيناً.

وكذلك فيما يخص الخرافات الاخرى ، كالعلم والمعرفة والحياة ، وثمار أشجار البستان ، أو أنّ غذاء الأفعى هو التراب دائماً ، وأمثال ذلك.

والآن يمكننا اجراء مقارنة بسيطة بين ما بينه القرآن في صدد تاريخ نشوء آدم وصراعه مع الشيطان ، وبين ما قرأناه في العبارات السابقة ، لنعلم أيّهما هو الكتاب السماوي وأيّهما نتاج عقل إنسان جاهل؟

* * *

٢ ـ لقاء إبراهيم عليه‌السلام بالملائكة

يبيّن القرآن الكريم قصة مجيء الملائكة إلى إبراهيم في حالة مسيرتهم إلى قوم (لوط) لإنزال العقاب بحقهم في قوله تعالى ، على النحو التالي :

(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا ابْرَاهِيمَ بالبُشْرَى قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ ان جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ* فَلَمَّا رَءَآ ايْدِيَهُمْ لَاتَصِلُ الَيهِ نَكِرَهُمْ وَاوْجَسَ مِنْهُم خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ انَّا ارْسِلْنَا

١٥٣

الَى قَومِ لُوطٍ* وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرنَاهَا بِاسحقَ وَمِنْ وَرَاءِ اسحقَ يَعْقُوبَ* قَالَتْ يَاوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَانَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلى شَيْخاً إِنَّ هذَا لَشَىءٌ عَجِيبٌ* قَالُوا أتَعْجَبِينَ مِنْ أَمِرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُم اهْلَ البَيْتِ إِنّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ* فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ ابْرَاهيِمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ ابْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ* يَاابْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وإِنَّهُم آتِيِهِم عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ). (هود / ٦٩ ـ ٧٦)

في هذا المقطع التاريخي لا نواجه شيئا غريباً ومعقداً وغير متعارف أو غير منطقي مطلقاً ، فالقصة واضحة المعالم بكل تفاصيلها : حيث أمر الله الملائكة بمعاقبة قوم لوط عليه‌السلام ، وقبل ذلك جاءوا إلى إبراهيم عليه‌السلام يبشرونه بأنّه سيرزق ولداً ، فقرر أن يطعمهم ، وسرعان ما اطلع على حقيقة الأمر وأراد أن يشفع لقوم لوط عليه‌السلام ليدفع العذاب عنهم ، غير أنّ الأمر قد انتهى فقوم لوط لا يستحقون الشفاعة ، ثم يبشرونه وزوجته بولادة ابن لهما ، وتنتهي فصول هذه القصة.

ولكن لنرى ماذا نسج الكتاب المقدس ـ (كما يسمونه) ، وهو مورد قبول اليهود والنصارى من أساطير في هذا المجال وما الذي طرحه من مسائل غير منطقية؟

نقرأ في الفصل الثامن عشر من سفر التكوين مايلي :

«وظهر الله تعالى في معبر يسمى «بلوطستان» بينما كان (إبراهيم) جالساً على باب الخيمة في يوم قائظ ، وما أن فتح عينيه حتى رأى ثلاثة أشخاص واقفين أمامه. وحينما رآه أخذ يعدو من الخيمة لاستقباله وانحنى إلى الأرض وقال : سيدي الآن وقد حزتُ على التفاتة منك أرجوك ألّا ترحل قبل أن آتيك بقليل من الماء لأغسل رجليك ، وتستريح تحت هذه الشجرة وسأجلب بعض الخبز لتقوي به قلبك ، وبعد ذلك أرحل لأنّهم سيقولون لقد عمل كما أمره عندما عبر بالقرب مني.

ثمّ هرع إبراهيم إلى (سارة) في الخيمة ، وقال : عجلي في ثلاثة مكاييل من الحنطة أعجنيها واخبزيها أقراصاً بالتنور ، ثم اسرع إبراهيم إلى قطيع الأبقار وأخذ عجلاً ذكراً يافعاً واعطاه لشاب فأعده وحضره بسرعة ثم حمل الزبد والحليب مع العجل الذي أحضره ووضعه أمامه ووقف بالقرب منه تحت تلك الشجرة ليتناول طعامه!

١٥٤

ثمّ قال له : أين امرأتك سارة؟ فقال : ها هي في الخيمة ، وقال آخر : سأعيد لك عمرك وهذه امرأتك سارة سيكون لها ولدٌ ، وكانت سارة عند باب الخيمة وراءه تسمع ذلك وهي وإبراهيم كانا عجوزين طاعنين في السن ، وانقطعت عن سارة عادة النساء ضحكت سارة من دون قصد ، وقالت : بعد أن هرمت أنا وزوجي هل يمكن أن أكون مسرورة؟!

ثم قال الله تعالى لإبراهيم : لماذا ضحكت سارة؟ قالت : هل سألد حقّاً بعدما أصبحت عجوزاً ، وهل يصعب على الله أمر ما ، والحال سأعيد لك عمرك في الوقت الموعود ، وسيكون لسارة ولد ، وانكرت سارة وقالت : لم أضحك ، لأنّها ذعرت ، فقال : ليس كذلك بل ضحكت حقاً!

ونهض هذا الشخص من هناك واتجه إلى سدوم وشايعه إبراهيم ليسلك الطريق.

وقال الله : لا أخفي على إبراهيم الأمر الذي أفعله ، لأنّ إبراهيم سيكون حقاً قوماً عظيماً وكبيراً وتتبرك به كافة طوائف الأرض ...

وقال الله تعالى : حيث إنّ صيحة (سدوم) و (عموراه) وعالية ذنوبهم عظيمة فسأهبط لأرى هل قاموا بهذه الصيحة كما أخبرت ، وإذا لم يكن كذلك فسأطلع على الأمر ، وتوجه هؤلاء الأشخاص من هناك وتحركوا باتجاه (سدوم) والحال أنّ إبراهيم لازال واقفاً أمام الله ، ثم أخذ إبراهيم يتقرب وقال : هل ستقوم باهلاك الصالح مع الطالح حقاً؟ من الممكن أن يوجد ٥٠ فرداً صالحاً ، في أعماق المدينة ، هل يمكن أن تهلك المكان ولا تنقذه بسبب مايوجد في الأعماق من ٥٠ فرد صالح ، حاشا لك أن تقوم بهذا العمل وتهلك الصالحين مع الطالحين فيكون الصالح مساوياً للطالح ، حاشا لك ، هل يمكن لمن يحكم الأرض بأجمعها أن لا يكون عادلاً؟

ثم قال الله تعالى : إذا وجدت ٥٠ فرداً صالحاً في وسط مدينة سدوم فسأخلص كافة أهل ذلك المكان بسببهم ، وقال إبراهيم في الجواب : الآن وقد شرعت في الكلام من التراب والرماد ، أطلب من سيدي ، لو انقصنا خمسة أفراد من مجموع ٥٠ فرد صالح .. هل يمكن أن تهلك كل أهل المدينة بسبب أولئك الخمسة أفراد؟ فقال الله : لو وجدت ٤٥ فرداً لما أهلكتها.

١٥٥

وتحدث معه مرة اخرى ، قال لو وجد فيها ٤٠ شخصاً ، فقال هو : لا أقوم بهذا الأمر بسبب ٤٠ شخصاً ، وقال : إبراهيم أرجو أن لا يغضب سيدي حتى أتكلم بل وجد فيها ٣٠ شخصا ، قال : لو وجدت فيها ٣٠ شخصا لما فعلت ذلك.

وقال اخرى : والآن وقد منح لي أن أتكلم مع سيدي ، بل وجد هناك ٢٠ شخصاً ، قال هو لا أهلكها بسبب ٢٠ شخص ، وقال تارة اخرى ، أرجو أن لا يغضب سيدي حتى أتكلم مرّة اخرى بل وجد هناك ١٠ أشخاص ، فقال هو سوف لا أهلكلهم بسبب ١٠ أشخاص وعندما قضى الله الكلام مع إبراهيم بدأ المسير وعاد إبراهيم إلى مكانه» (١).

استناداً إلى هذه المخطوطة في التوراة إطلع الله تعالى وثلاثة من الملائكة على إبراهيم في معبر يدعى «بلوطستان» في أحد الأيّام الحارة ، ويقوم إبراهيم باستقبال الملائكة الثلاثة استقبالاً حاراً ، وهم بدورهم يتناولون من طعامه (وفهم البعض من هذه العبارة أنّ الله تعالى أكل من طعامه!! وأنّ هؤلاء النفر الثلاثة كانوا من المظاهر الثلاثية لله وفقاً لعقيدة التثليث) وعلى كل حال حمل الله البشارة إلى «سارة» بأنها سترزق ولداً ، إلّاأنّ سارة ضحكت وعاتب الله سارة بالقول لماذا ضحكت فأنكرت ذلك بأنّها لم تضحك إلّاأنّ الله أكد عليها بأنّك ضحكت.

ثم إنّ هؤلاء عزموا على الرحيل وأخذ إبراهيم يشايعهم ، وفي منتصف الطريق يحدث الله نفسه بأنّه لماذا لا يخبر إبراهيم بالقرار الذي يريد أن يتخذه في حق قوم لوط ، لذلك قال له : سمعت ضجة كبيرة من بلاد قوم لوط وقد نقل عنهم ارتكابهم لمعاصي كثيرة ، فهبطت من السماء لاحقق النظر فيما أخبرت به هل كان صحيحاً أم لا ، وإذا كان صحيحاً فسأبيدهم عن آخرهم ، ثم إنّ هؤلاء الثلاثة تحركوا تجاه «سدوم» غير أنّ إبراهيم لم يزل واقفاً أمام الله تعالى ، وبدأ بالمحاورة والمجادلة أو بالاصطلاح (الرد والبدل) فقال : ليس من العدالة بمكان أن تهلك هذه البلاد لو وجد فيها ٥٠ فرداً صالحاً ، فطمأنه الله تعالى على أنّه لو وجد فيها ذلك لما أهلكهم ، ثم يبدأ إبراهيم بالعد التنازلي بشيء من الحيطة والحذر ، وفي كل مرة

__________________

(١) التوراة ، سفر التكوين ، الفصل ١٨.

١٥٦

يشرع في حديثه يطلب العفو والمسامحة لئلا يغضب الله تعالى ، حتى أنّه قال مرتين بصراحة : (أرجو أن لا يسبب ذلك في ازعاجك وغضبك) إلى أن وصل العدد إلى عشرة ، ويبدو أنّ إبراهيم لم يجرأ على التنزل أكثر من ذلك ، لذا في هذه الحالة اختار السكوت على مواصلة الحديث ، ولما وصلت المحاورة إلى طريق مسدود ، انتهى كلام الله مع إبراهيم وتحرك الله تعالى باتجاه (سدوم) وعاد إبراهيم إلى مقره الأصلي ، وانطلاقاً من أنّ المقصود من الله عزوجل في هذه الآيات (أو بالأصح ، الجُمل) هو نفس باري هذا الكون يمكن أن نستنتج المطالب التالية.

أ) نسبة الجسمانية إلى الله تعالى وقد لاحظنا هذا الموضوع في موارد متعددة من هذه العبارات.

ب) نسبة الجهل إلى الله تعالى وذلك بقوله هبطت إلى الأرض ، لاحقق النظر في شأن قوم لوط.

ج) التعصب والتشدد الإلهي! بحيث يلتمس منه إبراهيم أن لا يغضب ، وكان يتوسل بالحيل اللطيفة ، من أجل النزول بحالة الغلظة والحدة الإلهيّة ازاء عباده إلى ادنى مستوى ممكن!

د) الملائكة يتناولون الطعام!

ه) (سارة) تلك المرأة المؤمنة العارفة ضحكت على أثر بشارة الله ثم بعد ذلك أنكرت أيضاً.

هذه من نقاط الضعف الواضحة لهذه الاسطورة الكاذبة في التوراة المحرفة التي نسبت إلى الله عزوجل ولكن عندما نطالع أصل الواقعة في القرآن ، لا نشاهد أي واحدة من هذه الاشتباهات والنسب الشنيعة ، فمن خلال هذه المقارنة تتبين حقائق كثيرة في هذا المضمار.

٣ ـ منشأ اختلاف اللغات

من المسائل المثيرة التي كانت تقع دائماً في قائمة الأولويات الأساسية هي مسألة

١٥٧

اختلاف ألسنة شعوب العالم بالرغم من تولدهم جميعاً من وأب واحد وام واحدة ، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد : (ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمواتِ وَالارْضِ وَاخْتِلافُ الْسِنَتِكُمْ وَالْوانِكُمْ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلعَالِمِينَ). (الروم / ٢٢)

إنّنا اليوم نعلم أنّ منشأ اختلاف اللغات في الواقع يكمن في شيئين :

أولاً : وجود قدرة (الابتكار) والاختراع في ذهن البشر فهم يعمدون إلى خلق لغات جديدة وصياغة جمل جديدة في سبيل تأمين حاجاتهم الذاتية.

وثانياً : الفواصل القائمة بين الملل والشعوب ، ففي العصور السابقة عندما كانت الأقوام والشعوب تتباعد عن إحداها عن الاخرى ، كانت تتحقق تغيرات وتحولات في ألفاظهم وعباراتهم القائمة شيئا فشيئاً ، وذلك لعدم وجود وسائل الاعلام وأخذت هذه التغيرات تتضاعف عبر آلاف السنين فبدأت اللغات والألسنة تنفصل إحداها عن الاخرى فكان ذلك سبباً لبداية نشوء الاختلافات في الألسنة واللغات.

وانطلاقاً من كون اختلاف اللغات هي أحد دعائم التعرف على الأقوام المختلفة واعتبر ذلك من العوامل المساعدة والمؤثرة في مسألة التعرف على المجتمع البشري وإذا كان القرآن الكريم يعدّ اختلاف اللغات إلى جانب اختلاف الألوان من آياته وعلائمه فهي إشارة إلى هذه الحكمة نفسها ، لأنّ كلاً من اختلاف الألوان واللغات وسيلة وأداة للتعارف ، غاية ما في الأمر أن الأول خارج عن اختيار البشر والثاني له ارتباط واضح بالإبتكار والإبداع البشري.

والآن لننظر إلى ما تقوله (التوراة) المحرفة على صعيد اختلاف اللغات.

فقد ورد في الفصل الحادي عشر من سفر التكوين مايلي :

«وكان اللسان والكلام واحد في جميع أنحاء الأرض ـ وحدث عندما أخذوا بالرحيل من الجانب الشرقي «إشارة إلى أبناء نوح وقبائلهم» أن وجدوا وادياً في أرض شنعار «الاسم القديم لبابل» وسكنوا فيه ـ وقال بعضهم للآخر هلموا لنصنع الآجر وذلك بحرق اللبن بالنار ، وكان الآجر يستعمل بدلاً عن الحجر ، والطين اللازب بدلاً عن الجص ـ وقالوا

١٥٨

هلموا لنبني لنا بلدة وبرجاً يناطح السماء ، ولنختار لنا إسماً لئلا نتفرق على وجه الأرض ـ ولان الله تعالى أراد أن يرى مايصنعه بنو البشر من بلدة وبرج ، نزل ـ وقال : إنّ هؤلاء القوم مجموعة واحدة وهم على حد سواء في اللسان وشرعوا بالقيام بهذا العمل ، ولا شيء يمنعهم عما يريدون ـ بناءه ـ تعال لننزل إلى الأسفل وهناك نقوم بخلط ألسنتهم حتى لا يفهم أحدهم لسان الآخر ـ ومن هناك عمد الله إلى تفريقهم على وجه الأرض بأكملها ، وحال دون اتمام بناء البلدة وصار سبباً لتسميتها ببابل ، لأنّ الله خلط كل الأرض فيها ، ومن هناك فرقهم على جميع وجه الأرض» (١).

ووفقاً لهذه الرواية الموجودة في التوراة ، كانت لغة جميع الناس واحدة على وجه الأرض في البداية إلى أن اجتمع أبناء نوح وقبائلهم في (شنعار) بابل ، وصمموا على عمل مهم ، وهو بناء بلدة كبيرة وبرجاً عالياً ، ولم يكن هذا العمل مرضياً عند الله تعالى ، فكان قلقاً من تحركهم ومايؤول ذلك من نتائج لذا قال لبعض الملائكة هيا اهبطوا إلى الأرض لايجاد الاختلاف في السنتهم حتى يتفرقوا (فأوجد الاختلاف بينهم حتى افرض هيمنتي الإلهية) ووقع هذا الأمر ، ونظرا لعدم فهم أحدهم للغة الآخر انتشروا في البقاع المختلفة ، وحال دون اتمام بناء البرج العظيم.

وقد أشير في كتاب (أعلام القرآن) إلى وجه تسمية «بابل» بهذا الاسم بالقول :

(رواة القصة ظنوا أنّ لفظة «بابل» مأخوذة من بلبل وقالوا إنّ الناس اجتمعوا في هذه المدينة بعد طوفان نوح وشيدوا فيها برجاً لتصبح علامة على مركزيتهم وشكلوا فيها المجاميع الرسمية ولكنهم عندما ناموا في الليل واستيقظوا في الصباح اختلفت ألسنتهم واخذ كل منهم يتكلم بلغة جديدة ، وعلى أثر عدم حصول التفاهم بينهم افترقوا في أنحاء العالم ونشأ من كل واحد منهم شعب من الشعوب (٢).

هذه الاسطورة تنطبق تماماً مع مانقلناه سابقاً في متن التوراة التي دلت على أنّ

__________________

(١) التوراة ، سفر التكوين ، الفصل ١١ ، من الجملة ١ إلى ٩.

(٢) اعلام القرآن ، ص ٢٣٨.

١٥٩

الاختلاف في اللغات تحقق من قبل الله تعالى من أجل مقارعة قدرة المجتمع البابلي.

إلّا أنّ السيد «هاكس» مؤلف كتاب «القاموس المقدس» له كلام آخر لتبرير ما ورد من جمل في التوراة إذ يقول : «كانت الدنيا بأجمعها تمتلك لهجة ولغة واحدة إلى حدود الألفين عام تقريباً ... لكن بعد مائة سنة من الطوفان ، أي في زمن عصيان الكوشيون (١) في بابل ، أوجد الله تعالى بشكل خارق للعادة الاختلاف في لغاتهم ، وبسط ولايته على وجه الأرض مع هذه الأقوام المختلفة والألسنة المتنوعة» (٢).

وفي موضع آخر يقول :

«بناء على عدم كون هذه المسألة وهي (بناء البرج العالي) موافقة للإرادة الإلهية أوجد الله تعالى الاختلاف في ألسنتهم بحيث لم يكن بمقدور أحدهم أن يفهم كلام الآخر ولهذا السبب انتشروا في جميع بقاع المعمورة وتحققت على إثر ذلك امنية الله تعالى وتعمرت الأرض» (٣).

هذه التعابير توحي إلى أنّ الغاية الإلهيّة من ايجاد هذا التبعثر في لغة مجتمع بابل ، هي العمران والتشييد ، والحال أنّ التوراة في العبارة التي نقلناها تقول بصراحة : إنّ الهدف من ذلك لم يكن سوى إضعاف مجتمع بابل وكسر قدرتهم ووحدتهم وشوكتهم ، إلّاأننا نعلم على كل حال بأنّ منشأ اختلاف اللغات لم يكن مثل هذا الأمر على الاطلاق ، وأنّ العامل الأساسي لهذا الأمر هو مرور الزمان وتباعد الأقوام فيما بينهم ، ولازال الحديث في المطلب متواصلاً أيضاً.

* * *

٤ ـ عباده العجل من قبل بني اسرائيل

وردت الإشارة إلى قصة عجل السامري في القرآن الكريم فبعدما جاء موسى عليه‌السلام إلى

__________________

(١) «كوشيان» ، هو اسم والد نمرود.

(٢) القاموس المقدس ، مادة (اللغة).

(٣) المصدر السابق ، مادة (بابل).

١٦٠