نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

على أن البيئة التي ظهر فيها نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله هي من أحط البيئات وأكثرها تأخراً ، بيئة لا تنسجم أبداً مع ظهور هكذا دين وتعاليم متطورة في الأصعدة كافة.

* * *

٢ ـ تاريخ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وخصائصه الأخلاقية

إنّ الخصائص الأخلاقية هي احدى أفضل الطرق إلى معرفة الدعاة الصادقين من الكاذبين ، فهذه الخصائص يمكن اعتمادها كقرائن وأدلة واضحة لنفي أو إثبات احقية الداعي ، وكلما شوهدت مظاهر الطهارة والتقوى ، والعظمة والتسامح والرأفة والمحبّة ، والزهد والتقشف ، والشجاعة والشهامة والماضي الاجتماعي الحسن في المدّعي ، فمن الصعوبة بمكان أن لا نعتبره صادقاً ، وبالعكس فاذا كان محبّاً للدنيا ، ومنكباً على المادة ، ومتعلقاً بالمال ، والمقام ، والجاه ، والقدرة المصحوبة بالتهور والكذب ، والحقد وحب الانتقام ، وما شابه ذلك من رذائل خلقية (لا سمح الله) ، فلا يمكن اعتبار مدعي النبوة هذا صادقاً مطلقاً.

ولحسن الحظ فإنّ سوابق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل نبوته هي سوابق ساطعة ومضيئة حيث قضى أربعين عاماً بين ظهرانيهم والتاريخ الذي كتبته أيادي الأصدقاء والأعداء يعطى صورة ناطقة ومعبرة عن ذلك.

ففي كل التواريخ اعتبرت نزاهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمانته بأنّها مسألة متفق عليها وأن لقب (الأمين) سمعوه يطلق عليه من قبل الجميع.

والملفت للنظر هو أنّ الناس ـ بالرغم من مخالفتهم له ـ بعد بداية دعوته للإسلام بقوا يودعون أماناتهم عنده ، ولذا أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً عليه‌السلام أثناء الهجرة إلى المدينة المنورة ـ أي بعد مرور ثلاثة عشر عاماً من البعثة ـ بأنّ يبقى في مكة ليؤدّي عنه الأمانات إلى أهلها ، ثم يهاجر إلى المدينة.

إنّ حسن خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحسن معاشرته وسخائه وكرمه ، وخلاصة الصفات التي تليق

٢٦١

بقائد إلهي عظيم يمكن مشاهدتها به صلى‌الله‌عليه‌وآله بوضوح خلال الوقائع المختلفة في حياته ، وخاصةً أثناء فتح مكة ، ومعركة احد ، وكذلك في تعامله مع أسرى الحرب ، والرقيق ، وطبقات المجتمع المحرومة ، إلى الحد الذي اعتبروا فيه هذه المسألة بأنّها نقطة ضعف عنده ، وأنّ دينه هو دين العبيد والمحرومين ، وابتعد عنه الأغنياء والأثرياء ، وعرضوا عليه طرد الحفاة والمستضعفين وإبعادهم مقابل تأييدهم له وتقربهم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد جاء هذا المعنى بإشارة واضحة في قوله تعالى :

(وَاصْبِر نَفسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدعُونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ والعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَينَاكَ عَنهُم تُرِيدُ زِيَنةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَلَاتُطِعْ مَنْ اغْفَلنَا قَلبَهُ عَن ذِكرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً). (الكهف / ٢٨)

وهو الذي صفح عن (أبو سفيان) ألدّ اعدائه والمؤجج الخطير لنيران الحروب ضد الإسلام ، وجعل من بيته أثناء فتح مكة ملجأً ومأمناً لأهل مكة ، وأعلن العفو العام عن المكيّين الذين ارتكبوا جرائم كثيرة ضده وضد أتباعه ، وهذا الخُلق الحسن والتسامح واللُّطف والكرم صار السبب في جعلهم يلتفون حوله.

وفي (معركة احد) أيضاً عندما فرّ جماعة من حديثي الدخول في الإسلام من أرض المعركة وتركوه وحيداً بين الأعداء متحملا ضربات شديدة منهم ، عاد وأعلن العفو العام ، وصفح عن الجميع إلى درجة استوجبت نزول الآية المباركة : (فَبما رَحمةٍ مَن اللهِ لِنْتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظّاً غَليظَ القلبِ لَانْفَضُّوا مِن حَولك فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُم فِى الأَمْرِ). (آل عمران / ١٥٩)

فقد بيّنت هذه الآية لين قلب وباطن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفاء سريرته وكذلك لهجته الرقيقة والمليئة بالعاطفة التي لم تأمره بالعفو عن أخطائهم فحسب ، بل أمرته أيضاً بطلب المغفرة لهم من الله تعالى ، وأن يحترم شخصياتهم ويشاورهم.

لقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله رحيماً بالمؤمنين وغير المؤمنين بالقدر الذي يجعله يتألم بشدّة من عدم إيمان البعض ، وإلى حد يوشك فيه على الهلاك أسفاً عليهم.

٢٦٢

ونقرأ في قوله تعالى ما يتضّمن معنى التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفسَكَ عَلَى آثَارِهِم انْ لَّمْ يُؤمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ اسَفَاً). (الكهف / ٦)

وشبيه هذا المعنى جاء في قوله تعالى : (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ الَّا يَكُونُوا مُؤمِنينَ) (١). (الشعراء / ٣)

وحقاًإذا لم يتصف القائد بهذه الصفات فلا يستطيع أن يجسّد المعنى الحقيقي والواقعي للقيادة ، وقد جاء في قوله تعالى : (لَقَدْ جَاءَكُم رَسُولٌ مِّن انفُسِكُم عَزِيزٌ عَليَهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ). (التوبة / ١٣٨)

ومن المسلَّم به أنّ البحث حول الملكات الخلقية للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وخصائصه الأخلاقية أوسع وأشمل من أن يضمها حديث قصير ، وأنّ غايتنا فقط هي الإشارة العابرة لهذه المسألة باعتبارها إحدى القرائن.

* * *

٣ ـ مضمون الدعوة

إنَّ تحقيق ودراسة محتوى أيّ دعوة يشكل في الغالب دليلاً مقنعاً للتوصل إلى صدق أو كذب المُدّعي ، فالدين السماوي الذي يصدر عن جهة السماء ، وينزل عن طريق الوحي ، له مزاياه الخاصة ، في حين أنّ الدين الكاذب الذي يبتدعه فرد أو أفراد لأهداف مادية وشيطانية له مزايا اخرى.

فالأول : غايته هداية البشرية ، وتقوية النفوس ، وإقامة العدل ، وتهيئة متطلبات الصلح والسلام والأمن ، وأخيراً تكامل الإنسان مادياً ومعنوياً.

في حين أنّ الثاني. يسعى لتحميق الإنسان وتخدير فكره ، والانتفاع الأكثر منه والاستعمار والاستثمار له ، ومسلّماً أن أهدافاً كهذه تتطلب خططاً وبرامج اخرى.

وبملاحظة ما ذكر آنفا نلقي نظرة إجمالية على مجموع المعارف والقوانين والبرامج

__________________

(١) «باخع» من مادة «بَخْع» على وزن «نَقْع» تعنى الهلكة من شدة الغم والحزن ، وبتعبير آخر ، الموت غصة.

٢٦٣

الإسلامية ، لاسيّما تلك التي استند إليها القرآن الكريم وأكد عليها :

١ ـ إنَّ أول شيء يبدو للناظر ويشكل الأساس الرئيسي لكل العلوم والقوانين الإسلامية هو مسألة (التوحيد) ومحاربة كل أنواع الشرك بالاعتماد على هذا الأصل ، فقد حرر رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله الإنسان من قيود كل عبودية إلّاعبودية الله الأحد ، ودعا البشرية إلى عبادة الآله الواحد الأحد خالق السماوات والأرض ، وجامع كل صفات الكمال ، المطلع على ظاهرهم وباطنهم ، وحطم سلاسل الأوهام والخرافات وعبادة البشر أو الحجر أو الخشب وأنواع الأوثان والأصنام.

وقد ذّم القرآن الكريم اليهود والنصارى لعبادتهم البشر بقوله تعالى : (اتَّخَذُوا احبَارَهُم وَرُهبانَهُم ارباباً مِّن دُونِ اللهِ). (التوبة / ٣١)

وفي مقارنة بديعة على لسان نبي الله يوسف وهو يخاطب رفاقه في السجن يقول تعالى : (ءَاربَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ امِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ). (يوسف / ٣٩)

٢ ـ إنّ القرآن لايعتبر أيَّ مؤثر في مصير الإنسان إلّاالله تعالى ويدعو الجميع للتوكل عليه ويقول : (الَيسَ اللهُ بِكَافٍ عَبدَهُ). (الزمر / ٣٦)

٣ ـ ومن جهة اخرى يعتبر الإنسان مرهوناً بأعماله ، وأنّ طريق الخلاص والفلاح الوحيد هو الجد والاجتهاد الأكثر ، فيقول تعالى : (وَان لَّيسَ لِلانَسانِ الَّا مَا سَعَى). (النجم / ٣٩)

ويقول : (كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). (المدثر / ٣٨)

٤ ـ إعتبر الإسلام كل بني البشر ومن أي عنصر ولون وفي كل زمان متساوين ، وبناءً على هذا لا يوجد أيّ تمايز بينهم أو تفاضل إلّاب (التقوى) والورع كما أشارت إلى ذلك الآية ١٣ من سورة الحجرات.

٥ ـ يخاطب القرآن كل المؤمنين بأنّهم (إخوة) لبعضهم البعض ، ويعتبر أنّ أقرب رابطة ممكنة بين إنسانين هي الرابطة التي تقوم على العدالة والمساواة ، بقوله تعالى : (انَّمَا المُؤمِنونَ اخوَةٌ فَاصْلِحُوا بَينَ أَخَوَيْكُم وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرحَمُونَ). (الححرات / ١٠)

٢٦٤

٦ ـ يعتبر القرآن (العدالة الاجتماعية) أصلاً اساسياً حاكماً على المجتمعات البشرية ويدعو كل المؤمنين للقيام بالقسط ، فيقول : (وَلَايَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى الَّا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ اقرَبُ لِلتَّقَوى وَاتَّقُوا اللهَ). (المائدة / ٨)

وأن لا تكون صلة القرابة والابوة والبنوة ونظائرها حائلاً دون إجراء العدالة وترجيح كفّة الحكم لصالحهم ـ بدون دليل ـ كما أشارت إلى ذلك الآية ١٣٥ من سورة النساء.

٧ ـ أقرَّ الإسلام حاكمية أصل (الإنفاق) على العلاقات الإنسانية ، ودعا الجميع إلى الإنفاق ممّا رزقهم الله من نعم على الآخرين : (وَمِمَّا رَزَقَناهُم يُنفِقُونَ). (البقرة / ٣)

يؤكّد على (صلة الرحم) ورعاية رابطة القرابة (البقرة ـ ٢٧). وقد أولى (الأب والام) خاصةً احتراماً بالغاً إلى الحد الذي أوصى بالتعامل الحسن معهما حتى وإن لم يكونا مسلمين في سورة لقمان الآية ١٤ و ١٥.

٩ ـ من المسائل التي أكد عليها الإسلام أيضاً هي : (حماية المظلومين) في شرق العالم وغربه ، حتى أنّ ظواهر الآيات القرآنية لم تفرق بين أبناء الدين الإسلامي وغيرهم في هذه المسألة ، كما ورد في قوله تعالى : (وَمَا لَكُم لَاتُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالمُستَضَعِفينَ مِنَ الرِجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلَدانِ). (النساء / ٧٥)

١٠ ـ أكد أيضاً على (احترام حقوق المرأة) في ذلك المحيط الذي أهدر كل حقوقها ولم يعطها حتى الحق في الحياة ، ويقبرُ البنات وهنّ أحياء ، فأعاد إليها مكانتها إلى الحد الذي يقول تعالى فيه : (ولَهُنَّ مِثلُ الَّذِى عَلَيهِنَّ بِالمَعُروفِ) (البقرة / ٢٢٨)

والحق لا ينفصل عن الواجب أبداً.

١١ ـ دعوته ل (التعايش مع أتباع الأديان الاخرى) وحملة الكتب السماوية ، ودعوته كذلك الجميع اللالتفاف حول نقاط الالتقاء والاشتراك ، كما نقرأ في قوله تعالى : (قُل يَاأَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا الى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَينَكُم الَّا نَعبُدَ الَّا اللهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِ شَيئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضاً اربَاباً مِّن دُونِ اللهِ). (آل عمران / ٦٤)

١٢ ـ أعطى الإسلام أهميّة بالغة لـ (العلم والمعرفة) ، وقد أشارت مئات الآيات القرآنية

٢٦٥

إلى ذلك ، وهذا الأمر كان مثيراً وملفتاً للنظر لاسيما إذا لاحظنا المحيط الذي نزل فيه القرآن ، والذي كان مركزاً للجهل والامّية ، وأول الآيات التي نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تؤكد على العلم كما جاء في سورة العلق الآية ١ ـ ٥.

ويقسم في مكان آخر بالقلم كما جاء في سورة القلم الآية ١ ، واعتبر أنَّ أفضلية (آدم) ، والبشر بصورة عامة تكمن في (فضيلة العلم والمعرفة) هذه. (البقرة / ٣١ ـ ٣٣)

١٣ ـ تعتبر فريضة (الأمر بالمعروف) و (النهي عن المنكر) احدى المميزات المشرقة لهذا الدين والتي يعتبرها نوعاً من الاشراف والرقابة العامة على كل المجتمع بواسطة كل المجتمع ، ومسؤولية متقابلة لكل أفراده في مقابل أي نوع من المفاسد الاجتماعية أو ترك القيام بالواجب ، انظر إلى سورة آل عمران الآية ١٠٤ و ١١٠ وآيات اخرى.

١٤ ـ بما أنّ مصدر الكثير من المفاسد الاجتماعية هو الميل الشديد للقضايا المادية ، والتنافس في حب التجمّل والبذخ في الحياة فقد دعا الإسلام إلى (العيش البسيط) ونبذ حب التجمل من أجل اغلاق مصدر الشر هذا كما في سورة الزخرف الآية ٣٣ ـ ٣٥ ، في نفس الوقت الذي اعتبر الانتفاع المعقول والمنطقي من المواهب المادية وحتى التزيينية والكمالية بأنّه مباح وقد أشار إليه في سورة الأعراف الآية ٣٢.

١٥ ـ دعوته إلى لـ (مراعاة الاداب) ، وحسن المواجهة مع الآخرين ، وملاحظة الموازين الأخلاقية في أي مكان ، وقد أشار لهذه المسألة في سورة لقمان ، الآيتين ١٨ و ١٩ ، وسورة الحجرات ، الآيتين ١١ و ١٢ ، وسورة الفرقان ، الآية ٧٢ ، وآيات اخرى. وورد ايضاً في الآية : (خُذِ الَعفوَ وأْمُرْ بِالعُرفِ وَأَعرِضْ عَنِ الجاهلِينَ) (١). (الأعراف / ١٩٩)

١٦ ـ استخدام (البحث المنطقي) في الحوار مع اتباع الأديان الاخرى بدلاً من التعصب الأعمى ، يقول القرآن الكريم : (ادعُ الَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالموَعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِى هِىَ احسَنُ). (النحل / ١٢٥)

__________________

(١) في حديث للإمام الصادق عليه‌السلام أن هذه الآية أكثر الآيات الأخلاقية شمولاً في القرآن المجيد (تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث).

٢٦٦

١٧ ـ (الخضوع للحقِّ) وقبوله من أيٍّ كان لأنه يعتبر واحداً من المبادئ السامية للدين الإسلامي ، يقول تعالى : (فَبَشِّر عِبَادِ* الّذِينَ يَستَمِعُونَ القَولَ فَيتَّبِعُونَ احْسَنَهُ اولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَاولَئِكَ هُمْ اولُوا الالبَابِ). (الزمر / ١٧ ـ ١٨)

١٨ ـ (اخلاص النية من الدوافع غير الإلهيّة) من الاصول التي أكد عليها القرآن الكريم والروايات الإسلامية مراراً ، واعتبرها من الأعمال النزيهة المقبولة عند الله تعالى ، والتي تؤدي إلى النجاة والسعادة هي الأعمال التي لم يقصد بها التظاهر والرياء ، وإنّما التي يراد بها غايات إنسانية واخلاقية وإلهيّة سامية تشكل ركناً اساسياً ، واستندت سبعة آيات من القرآن إلى جملة (مُخْلِصِين لَهُ الّدِينَ) (١).

ومن جهة شبّهَ صدقات المؤمنين ـ الخالصة ـ في سورة البقرة ، الآية ٢٦٥ بالبستان المليء بالثمر عندما تنزل عليه رحمة المطر الإلهيّة تتضاعف ثماره ضعفين.

ومن جهة اخرى شبّه في سورة البقرة ، الآية ٢٦٤ أعمال المرائين ـ غير المؤمنين ـ بالبذور التي بُذرت في تراب قليل على صخر صلد جرفه المطر عندما نزل عليه.

١٩ ـ انتقد الإسلام بشدة (الاسراف والتبذير) وسمى المبذرين بإخوان الشياطين : (انَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا اخَوانَ الشَّيَاطِينِ). (الاسراء / ٢٧)

٢٠ ـ من الاصول الأساسية للإسلام أيضاً : (رعاية الأطفال الأيتام وفاقدي المعيل) وأكدت آيات وروايات كثيرة على ذلك إلى الحد الذي اعتبرت فيه أكل أموال الأيتام كأكل النار : (انَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ امْوَالَ اليَتَامَى ظُلماً انَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِم نَاراً). (النساء / ١٠)

وفي مكان آخر اوصى بإصلاح شؤونهم ، يقول تعالى : (وَيَسئَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى قُلْ اصلاحٌ لَّهُم خَيْرٌ). (البقرة / ٢٢٠)

٢١ ـ احترام الاسرى في الإسلام ، وقد أوصى بحسن معاملتهم واعتبر مساعدتهم وإعانتهم في القرآن الكريم بأنّها جزء من أعمال الابرار والاخيار : (وَيُطعِمُونَ الطَّعَامَ عَلى حُبِّهِ مِسكِينَاً وَيَتِيماً وَاسِيراً). (الدهر / ٨)

__________________

(١) الأعراف ، ٢٩ ؛ يونس ، ٢٢ ؛ العنكبوت ، ٦٥ ؛ لقمان ، ٣٢ ؛ غافر ، ١٤ و ٦٥ ؛ البينة ، ٥.

٢٦٧

وجاء في حديث للإمام علي عليه‌السلام : (اطعام الأسير والاحسان إليه حقٌ واجبٌ) (١).

٢٢ ـ ومن المسائل المهمّة التي أكد عليها القرآن الكريم والروايات الإسلامية هي مسألة (التشاور في الامور) ، حتى أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عقله الكامل كان مأموراً بالاستشارة : (وَشَاوِرهُم فِى الامر). (آل عمران / ١٥٩)

واعتبر التشاور في الامور الاجتماعية المهمّة بأنّه احدى علائم الإيمان : (وَامْرُهُم شُوَرى بَيْنَهُم). (الشورى / ٣٨)

٢٣ ـ كانت (محاربة الخرافات) أيضاً من المهام الرئيسية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حين كان مدّعو النبوة الكاذبون يصرون على نشر الخرافات وتسميم أفكار الناس عن طريقها ، ولترغيب العامة لقبول خرافاتهم ، ولكن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله حطم هذا السد ، بل كان يحارب كلّ خرافةٍ حتى لو كان الإسلام يستفيد منها ظاهراً.

وأي خرافة أكبر من (عبادة الأوثان) التي اجتاحت جزيرة العرب بأسرها ، إلى حد أنّ مخالفتها والإعراض عنها أصبح مشكلة عويصةً وعجيبةً جدّاً ، بل عدّ أحياناً من علامات الجنون ، وأثناء ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو لعبادة الإله الواحد الأحد ، قالوا : (اجَعَلَ الآلِهَةَ الهَاً وَاحِدَاً انَّ هَذَا لَشَىءٌ عُجَابٌ). (ص / ٥)

وظاهراً إن أحد أسباب نعت نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بالجنون هي أنّه نهض لمحاربة قضية عبادة الأصنام التي كانت من أكثر بديهيات تلك البيئة والمحيط.

والخلاصة هي أنّ عرب الجاهلية كانت تخيم عليهم خرافات كثيرة يطول شرحها ، وقد حاربها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كلها.

٢٤ ـ من المسائل التي أعطاها الإسلام أهميّة كبيرة هي تحرير الإنسان من ربقة الهوى والهوس واستعباد الآخرين ، أو الوقوع في أسر الأعراف والتقاليد والسنن المغلوطة ، إلى درجة اعتبر فيها أن احدى صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هي : (وَيَضَعُ عَنهُم اصرَهُم وَالاغلَالَ الَّتِى كَانَت عَلَيهِم). (الأعراف / ١٥٧)

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ٦٩ أبواب جهاد العدو ، الباب ٣٢ ، ح ٣.

٢٦٨

وجاء في الحديث النبوي المعروف : أنّ أحد الذنوب التي لايغفرها الله أبداً هي أن يسلب الإنسان حرية الإنسان الآخر ويستعبده ويبيعه (١).

٢٥ ـ أحد البرامج الأساسية لهذا الدين (المنع من التكاثر) وطلب الزيادة والحرص والطمع في الامور المادية ، وقد اشير إلى ذلك في آيات متعددة من القرآن الكريم ، وكذلك الروايات الإسلامية ، إلى حد اعتبرها من الصفات المذمومة في الحياة الدنيا ، وجعلها مرادفة للهو واللعب والتفاخر (الحديد ـ ٢٠) ، وعدها سببا في عدم الإيمان بالله ، وذم بشدة أولئك الذين يتوجهون صوب القبور لحساب قبور موتاهم حتى يثبتوا كثرة قبائلهم : (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرتُمُ المَقَابِرَ). (التكاثر / ١ ـ ٢)

ويقصُّ عليهم ـ بالتفصيل ـ قصة «قارون» المستكبر المستكثر الذي كان يرى نفسه فوق الجميع ، وعاقبته وعاقبة أمواله بعد أن خسفت به الأرض ، وينهى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مد عينيه إلى الإمكانات المادية لهؤلاء الأفراد أو اعتبارها علامة على أفضليتهم وعلوهم ، (طه / ١٣١ ، القصص / ٧٦ فما بعد).

٢٦ ـ (الدعوة إلى الاتحاد والتضامن) يمكن اعتبارها جزء من الأوامر التي تحتل صدر قائمة البرامج الإسلامية ، والتي ذكرها القرآن الكريم بتأكيد شديد ، فكان يدعو الجميع إلى الاتحاد وينهاههم عن التفرقة ، ويحذرهم من العودة إلى اختلافات الجاهلية وعد الأفراد المتفرقين المشتتين على شفير هاوية من النار ، (آل عمران ـ ١٠٣) واعتبر التنازع والاختلافات مصدراً لضعف المجتمع ، وضياع قدرته وشوكته ، (الانفال / ٤٦).

٢٧ ـ (احترام القانون) يعتبر من اهم وصايا الإسلام التي أكد عليها لدرجة أنّه قال : احترموا القانون حتى لو حكم ضدكم ، وجاء في القرآن : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى انفُسِكُمْ اوِ الْوَالِدَينِ وَالاقرَبِينَ). (النساء / ١٣٥)

واعتبر نقض حرمة القانون حراماً ، والتعدي على (حدود الله)) ظلماً وجوراً : (وَمَنْ يَتَعدَّ حُدُودَ اللهِ فَاولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ). (البقرة / ٢٢٩)

__________________

(١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ الله تعالى غافر كل ذنب إلّامن جحد مهراً ، أو اغتصب أجيراً أجره ، أو باع رجلاً حراً ، سفينة البحار ، مادة (أجر).

٢٦٩

وإنّ الإيمان الصادق هو التسليم المطلق لقانون الحق وترك معارضته حتى في حيّز الفكر والعقل كما ورد في الآية ٦٥ من سورة النساء.

٢٨ ـ (نبذ حب الانتقام) ولم تكن هذه الصفة الحميدة مختصة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن تجلّت بوضوح كامل في حروبه وخاصةً في فتح مكة ، وإنّما أوصى أتباعه مراراً وتكراراً إلى العفو والصفح ، وغض النظر عن زلات الآخرين وتذكيرهم بالعفو الإلهي : (وَليَعفُوا وَليَصفَحُوا الَا تُحِبُّونَ انْ يَغفِرَ اللهُ لَكُم). (النور / ٢٢)

بل تعدى ذلك إلى القول : (ادفَع بِالَّتِى هِىَ احسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَينَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَانَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ). (فصلت / ٣٤)

ولكنّه مع كل هذا لا يسمح بأنّ يستغل الأعداء الحاقدون رحمة الإسلام ورأفته ، بل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر أصحابه : مثلما عليكم أن تكونوا لينين وعطوفين مقابل الأصدقاء والأعداء المخدوعين فيجب عليكم أن تتعاملوا مع الأعداء الأشداء بخشونة وشدّة ، حتى أنّه وصف الصادقين بأنّهم : (اشِدَّآءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَينَهُم). (الفتح / ٢٩)

٢٩ ـ (الدعوة إلى التقوى) وهي من القضايا التي يستند إليها الإسلام في كل مناسبة ، ويعتبرها السبيل الوحيد لخلاص الإنسان ، وزاد آخرته (١) ، ومعيار شخصيته (٢) ، وبركة الدنيا (٣) ، وسعادة الآخرة (٤) ، وسبباً للبصيرة والمعرفة (٥).

٣٠ ـ (الحب والبغض في الله) من اسس التعاليم الإسلامية أيضاً ، أو بتعبير أوضح اعتبر الإسلام كل من يخطو في محجة الإيمان ، والحق ، والعدل ، والتقوى ، والنزاهة ، صديقاً يجب توثيق العلاقة معه ، وبالعكس أوصى بالابتعاد عن الاشرار وذوي السمعة السيئة والملوثين والظالمين ، واعتبر القرآن الكريم الامتثال لذلك من علائم الإيمان الأصلية (حزب الله) (٦). واعتبرتها الروايات الإسلامية بأنّها من أقوى عرى الإيمان والإسلام (أوثق

__________________

(١) البقرة ، ١٩٧.

(٢) الحجرات ، ١٣.

(٣) الأعراف ، ٩٦.

(٤) مريم ، ٦٣.

(٥) الانفال ، ٢٩.

(٦) المجادلة ، ٢٢.

٢٧٠

عرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله) (١) ، وأفضل الأعمال (٢).

هذه طائفة من تعاليم الإسلام في الاصول والفروع.

فهل يصدق أن يأتي إنسان امّي لم يتلقَّ أي تعليم ، وهو ابن بيئة غمرتها ظلمات الجاهلية ، وعاش في بؤرة الكفر والفساد والجور والخشونة ، بمثل هذه التعاليم؟ كلا بالطبع إلّا إذا كان مسدداً عن طريق الوحي السماوي والالهام والتأييد الإلهي.

إنَّ دراسة مضمون ومحتوى الدعوة لأي دين من أفضل الأدلة التي يستخدمها العلماء لإثبات صدق أو كذب مايدعيه ذلك الدين ، وأحياناً تكون مقدمة على الكثير من المعجزات ، لأنّ العديد من الوساوس التي تبرز من قبل المعاندين اللجوجين لها (من قبيل اتهامه بالسحر وأمثاله) تصبح لا معنى لها عند البحث في محتوى الدعوة ، بل وحتى يمكن تأليف كتاب ضخم حول هذا الموضوع وخاصةً حول تعليمات الإسلام في كافة الجوانب الاعتقادية والأخلاقية والاجتماعية ، وكذلك الميدان الواسع والفسيح لهذا المبحث في المسائل الفردية والجماعية المعنوية والمادية.

بديهي أنّه لا يمكن أن تكون هذه المجموعة من التعاليم الصادرة من عربي صحراوي امي خرج من أكثر البيئات تخلفاً هي مسألة عادية ، وباعتقادنا أنّه لا توجد أي معجزة أكبر من هذه المعجزة ، أو على الأقل هي قرينة إذا ضممناها إلى القرائن الاخرى شكلت مجموعة مطمئنة وقوية.

* * *

٤ ـ عمق تأثيره في محيطه

صحيح إنَّ التأثير الواسع الذي تتركه مدرسة من المدارس في بيئة معينة لا يمكن أن يكون بمفرده دليلاً على صحتها ، لأننا نعرف العديد من الديانات والتعاليم الخاطئة تركت

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٢٥.

(٢) سفينة البحار ج ١ ، ص ٢٠١.

٢٧١

تأثيرها على بيئات واسعة وكانت نهايتها أن انفرط عقدها أو لازال البعض منها متصلاً ، ولكن كيفية هذا التأثير وماهيته يمكن اعتباره كقرينة حية إلى جانب القرائن الاخرى.

وعندما يكون هذا التأثير على شكل قفزة وفي جوانب إيجابية ومع أقل الاضرار ، فمن المسلَّم به أن يدلِّل على عمق تلك المدرسة وأصالتها.

ومن له أدنى اطلاع على تاريخ العرب والإسلام لا ينكر الفاصلة الزمنية التي مدّتها ٢٣ عاماً وهي سني دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الفاصلة التي أحدثت (طفرة فلسفية) أكثر ممّا هي ثورة؟

فالمنبوذون الذين لم يتركوا في التاريخ اسماً ولا رسماً ... ومن وجهة نظر علم الاجتماع لم يخطّ على جباههم أي استعداد للتطور المذهل حتى لو بعد عدة قرون ، يتحولون فجأة ويدخلون مرحلة جديدة من الحضارة العظيمة ، ولم يغيّروا أنفسهم فقط ، بل غيروا أيضاً العالم المعاصر لهم ولتبقى آثار هذه الثورة والتغيير ظاهرة في القرون اللاحقة وإلى زمان غير محدود ...

حضارة حولت مسير تاريخ البشرية ، وغطت باشعاعها الحضارات الخمس العظمى في عصرها ، أي : (حضارة الروم) و (ايران) و (مصر) و (بابل) و (اليمن).

وهذا بالضبط مالم يستطع المؤرخون وعلماء الاجتماع تفسيره وفق المعايير المعروفة التي بين أيديهم ، وإن كانوا قد الّفوا كتباً بعنوان : تاريخ حضارة الإسلام ، أو مسميات اخرى ، ولكنهم يعترفون بأنّه لازالت عندهم نقاط كثيرة غامضة لم تجد الحل حول ظهور الإسلام ونفوذه في العالم.

والملفت هو أنّ هذه الثورة وهذا التحول ـ خلافاً لسائر الثورات ـ لم يحدث على صعيد واحد ، ولم تكن له جوانب سياسية أو اقتصادية فحسب ، بل وغيّر كل نُظُم المجتمع كالثقافة ، والأخلاق ، والاقتصاد ، والآداب ، والتقاليد ، وكل شيء.

ملخص الكلام : هو أنّ ابعاد تأثير الإسلام في محيط ظهوره ، ثم في العالم كله ، وكل التاريخ البشري ، هو موضوع يستحق الدقّة التي تجعله قرينة ساطعة من قرائن حقانيته ، وأن شرحه وبيانه يتطلب وضع كتاب منفصل.

٢٧٢

٥ ـ ما هي الوسائل الكفيلة لبلوغ الهدف

كل فرد أو مجموعة مضطرون ـ من أجل الوصول إلى أهدافهم ـ إلى الاستفادة من وسائل معينة. واختبار هذه الوسائل يمكنه أن يساعد إلى حد بعيد في التعرف على اصالة وأحقية تلك المدرسة أو على تزويرها وخداعها.

وبديهي أنّ أولئك الذين يعتبرون الاستفادة من كل وسيلة ـ للوصول إلى أهدافهم ـ جائزة ، ويجعلون أصل (الغاية تبرر الوسيلة) ، أو (الغايات تبرر الوسائط) برنامجهم الأصلي هم بعيدون عن الاصالة.

أمّا أولئك الذين يستخدمون الوسائل المقدسة لنيل أهدافهم المقدّسة فهم يعطون الدليل على أحقيتهم ، ويمكن تمييز مُدّعي النبوّة الصادقين من الكاذبين عن هذا الطريق.

الأشخاص الذين لا يعترفون بأي قيد أو شرط للوصول إلى أهدافهم ويعتبرون كل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة مباحة والذين يعتبرون مفاهيم من قبيل العدالة والامانة والصدق والاحترام للقيم الإنسانية محترمة طالما أنّها تعينهم للوصول إلى أهدافهم وإلّا تركوها ونبذوها فمسلّماً أنّهم في مُدّعي النبوّة الكاذبين.

إنَّ الأنبياء الإلهيين هم أولئك الذين يحترمون الاصول الإنسانية حتى في حروبهم ، ولا يعدلون عنها في الشدائد والمحن مطلقا ، وعند انتصارهم لا يتجاوزون أصول العدالة ، والعفو ، والتسامح مع أعدائهم ، وفي أوقات الخطر واحتمال عدم تحقيق النصر لا يلتجأون إلى الوسائل غير الإنسانية.

وإذا قسنا هذا الأصل الكلي مع حياة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله والتفتنا إلى سلوكه مع الأعداء والأصدقاء ، في اوقات تحقيق النصر أو عدم تحقيقه ، في الشدّة والرخاء ، فسوف ندرك جيداً أنّه كان متّبعاً لقيم خاصة في اختيار وسائل الوصول إلى الهدف.

لم يلجأ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مطلقاً في لحظات الخطر إلى استخدام أساليب غير إنسانية ، بل وراعى المسائل الأخلاقية الدقيقة حتى في ساحة القتال.

فعند انتصاره في (فتح مكة) أصدر (العفو العام) عن أخطر أعدائه ، وصفح حتى عن القتلة ومجرمي الحرب.

٢٧٣

ولما سمع أحد قادة الجيش يعلن شعاراً ثأرياً ويقول :

(اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذلّ الله قريشاً) أمر فوراً بعزله وقال : ليقولوا بدل هذا الشعار (القبيح وغير اللائق) : (اليوم يومُ المرحمة ... اليوم أعزّ الله قريشاً) (١).

وحتى حين وقف كبراء مكة صفاً ليروا حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأنهم (وكان الكثير من الناس يتوقعون أن يشدد الرسول ويقسو على هؤلاء الأعداء الحاقدين) التفت إليهم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : «ما تظنون أنّي فاعلٌ بكم؟» قالوا : لا نظنُّ إلّاخيراً. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أقول لكم ماقال يوسف لإخوته : (لَاتَثْرِيبَ عَلَيكُمُ اليَوْمَ يَغَفِرُ اللهُ لَكُم وَهُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ). (يوسف / ٩٢)

«اذْهَبُوا فأنتم الطلقاء».

وعندما قتل (خالد بن الوليد) أسرى بني خزيمة بدون سبب ووصل الخبر إلى نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله. تألم بشدّة وقال مرّتين أو ثلاث : «اللهم إنّي أبرءُ إليك ممّا صنع خالد» ، ثم أمر علياً عليه‌السلام أن يذهب مع مبلغ من المال إلى تلك القبيلة فيعطيهم دِيَة قتلاهم ويعوض ممتلكاتهم التي تضررت بالمال وأن يسعى في جلب رضاهم (٢).

إنَّ هذه الامور لا يمكن مشاهدتها في حروب عالم اليوم ، وحتى في مهد الحضارة الصناعية ، فقد شهد العالم افضع مآسي الانتقام في نهاية الحرب العالمية الاولى والثانية ، والجرائم التي لا تُعدّ للجيوش المنتصرة.

والآن كيف اتصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بكل هذا العفو والرحمة بين قوم نصف متوحشين؟ هذا السؤال يجب أن يجيب عليه العقلاء والحكماء.

كان ورعه واجتنابه عن الأساليب اللإنسانية إلى درجة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يرفضها حتى ولو تهيأت مقدماتها وأسبابها بصورة طبيعية ، ومهما بدت في الظاهر أنّها مؤيدة له ، ففي حادثة وفاة إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قيلَ : إنّ الشمس كسفت تزامنا مع هذه الواقعة ، وقال بعض الناس : إنّها كرامة ومعجزة من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ الشمس كسفت لوفاة إبراهيم.

__________________

(١) نقلت هذه القضية بعبارات مختلفة في بحار الأنوار ، ج ٢١ ، ص ١٠٥ و ١٣٠ ؛ وفي حبيب السير : ج ١ ، ص ٢٨٨ ؛ وتفسير جامع البيان في ج ٢ ، ص ٣٣٤ ؛ وكامل ابن الأثير ج ٢ ، ص ٢٤٦.

(٢) حبيب السير ، ج ١ ، ص ٣٨٩.

٢٧٤

لكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صعد المنبر وقال : «أيّها الناس إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فاذا انكسفا أو أحدهما صلوا ، ثم نزل من المنبر فصلى بالناس صلاة الكسوف ، فلما سلَّم قال : «ياعلي قم فجهز ابني» (١).

تشير هذه القصة إلى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سارع إلى هذا العمل حتى قبل اجراء مراسم دفن ابنه إبراهيم كي يقضي على هذه الفكرة الخاطئة قبل شيوعها وإن كانت لصالحه ظاهراً ... إنّه لا يريد أن ينتفع من أساليب مغلوطة وغير مشروعة في التقدم لنيل أهدافه ومقاصده.

وعلى الرغم من أنّ الحديث قد طال حول هذا الموضوع ، ولكن لابدّ في الختام من ذكر هذه النقطة وهي : إنّ دقائق الامور التي جاءت في اداب الحرب في الإسلام وأكد عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأثبت عمليا التزامه بها هي شاهد آخر على الادّعاء الآنف الذكر.

فحينما كان الجيش الإسلامي يستعد للتحرك إلى أحد ميادين الجهاد ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يبين لهم واجباتهم الحساسة بهذه العبارات : «سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ، لاتغلو ، ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلّاأن تضطروا إليه».

وفي حديث آخر : «... ولا تحرقوا النخل ، ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه ولا تعقروا من البهائم يؤكل لحمه إلّا ما لابدّ لكم من أكله» (٢).

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ملتزماً بكل المبادئ الأخلاقية السامية إلى تلك الدرجة التي جعلته في معركة خيبر يرفض اقتراح من أشار عليه بقطع الماء عن اليهود المحاصرين لمدّة طويلة في داخل قلاع خيبر القوية ، وأجابه صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : «إنني لا أقطع عنهم الماء أبداً».

وعندما قال له راعٍ لمواشي اليهود : إنني حاضر لأنّ أعطيك هذه المواشي كلها ، رفض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك ونهاه أن يخون الأمانة التي أودعوها عنده (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٢ ، ص ١٥٥ ، ح ١٣ (باب عدد أولاد النبي).

(٢) جاء هذا الحديث في مصادر متعددة وبعبارات مختلفة ، من جملتها كتاب الوسائل ، ج ١١ ، ص ٤٣ باب آداب امراء السرايا وأصحابهم ، ح ٢ و ٣.

(٣) سيرة ابن هشام ، ج ٣ ص ٣٤٤.

٢٧٥

٦ ـ إيمانه وتضحيته في سبيل هدفه

من القرائن الرئيسة الاخرى لمعرفة المدعين للنبوّة الصادقين من الكاذبين هو إيمانهم بما يدّعونه وتضحيتهم وايثارهم في سبيله ، ولأنّ المدعين الكاذبين مطّلعون على حقيقة الأمر فإنّهم بالطبع لا يضحون كثيرا في سبيل هدفهم ، بالإضافة إلى أنّهم مستعدون للمساومة وتحريف مدعياتهم ، في حين أنّ الصادقين منهم لا يُجوِّزون لأنفسهم أيّاً من ذلك.

صحيح أنّ هذا الأمر بمفرده غير كاف ، ولكن يعتبر قرينة جيدة تضم إلى القرائن الاخرى.

ولم ير في أيٍّ من كتب التاريخ أنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تراجع أو تنصل عن معتقداته ، أو فرَّ من ميدان الجهاد ، وحتى في معركة (احد) عندما وصلت الحرب إلى أقصى درجات الشدة وفرّ من ساحة المعركة أغلب الجيش (أو كله عدا علياً عليه‌السلام وبعض المخلصين والتجأوا إلى مكان ليضمنوا نجاتهم ، هنالك حيث بقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صامداً في الميدان ، محتملاً أذى الجراحات بسبب اصابته في جبهته وأسنانه ولم يبق له في الظاهر أي أمل في النجاة ولكنه ظل صامداً.

وفي قصة (مرض أبي طالب) وطلب قريش منه ـ التي قرأناها في بداية الجزء السابق ـ أن يعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكفَّ عن محاربته لعبادة الأصنام ، ويكف عن الدعوة إلى الإله الواحد الأحد ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ماتركته» (١).

ونقرأ في قصة اخرى : إنّ قريشاً جاءت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعطته وعداً بأنّ تضع تحت اختياره من المال مايجعله أغنى رجال مكة ، وأن يُزوِّجوه أي امرأة يريدها ، ويجعلوه عليهم سيداً ، بشرط (أن يدع تسفية أصنامهم. وقالوا له : إذا لم تقبل فلدينا اقتراح آخر ينفعك وينفعنا وهو أن تعبد الهتنا مثل (اللات) و (العزى) عاماً ونحن نعبدُ آلهتك عاماً لنرى ما تكون العاقبة) ،

__________________

(١) تفسير جامع البيان ، ج ٢ ص ٦٧.

٢٧٦

وهنا نزلت سورة (يَاأَيُّها الكَافِرُونَ) ، وردّ عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسلب (١).

وفي تفسير سورة طه (الآية الثانية) نقرأ : حينما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعد نزول الوحي والقرآن ـ يتعبدُ كثيراً إلى حد تورّمت قدماه المباركتان ، فنزلت الآية الآنفة لتمنعه من هذا العمل المُرهق ، وقالت : (مَآانزَلنَا عَلَيكَ القُرآنَ لِتَشقَى). (طه / ٢)

وهذه دلالة على أنّه إلى أي حدٍّ كان مؤمناً بتعاليمه.

و (قصة المباهلة) ودعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعداءه ـ أن إذا كنتم تقولون حقا فتعالوا بأهلكم ، ويطلب كل منا من الله أن ينزل العذاب على الكاذب ويفضحه ـ هي دلالة اخرى على إيمانه الراسخ بدينه ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلن استعداده التام لهذا الغرض ، وتراجع مخالفوه لأنّهم غير مطمئنين بأحقيتهم في المباهلة.

وقد نقل مؤرخو الشرق والغرب قصصاً وحكايات كثيرة عن (صمود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمام الحوادث ومواجهته للمشاكل الكبرى التي يعجز الإنسان العادي عنها.

قال (غوستاف لوبون) المستشرق الفرنسي المعروف : إنّه لا يهرب من أي خطر ، وفي نفس الوقت لا يلقي بنفسه إلى الخطر بدون دليل (٢).

ويقول تلميذ تلك المدرسة العظيم أمير المؤمنين (عليه‌السلام بشأن أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في سوح القتال : «كنّا إذا احمر البأس ولقى القوم القوم اتقينا برسول الله فما يكون أحدٌ أقرب إلى العدو منه» (٣).

* * *

٧ ـ من هم المؤمنون به؟

عادة ما يجتذب الأفراد غير الصالحين حولهم أفراداً مثلهم ، وهذه القاعدة وإن لم تكن دائمة ولكنها في الغالب هكذا.

__________________

(١) تفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٧٠.

(٢) حضارة الإسلام والعرب ، ص ١١٩.

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٦ ، ص ٢٣٢ ، وبنفس المضمون مع بعض التفاوت في نهج البلاغة. الكلمات القصار ، الكلمة ٩.

٢٧٧

ويتضح ذلك من مطالعتنا للمثل المعروف : (إنّ المزور يُعرف من زائريه) ، وعلة ذلك واضحة لأنّ أهل الدنيا ومنتهزي الفرص يتجهون دائماً إلى أولئك المهيئين للتساوم معهم ، يعطونهم امتيازات ويأخذون منهم اخرى ، ليصلوا إلى مقاصدهم غير المشروعة.

وهذه المسألة خاصة تظهر أكثر وضوحا حول المقربين والخواص وحافظي أسرار ذلك الشخص ، فاذا رأينا اخلاص خواص تلك المدرسة ، وحملة أسرارها ، وممن تثق بهم ، أدركنا بالنهاية نزاهة وإيمان وصدق قائدها ، وبالعكس ، فاذا التفَّ حوله أفراد كذابون ، نفعيون فسوف نفهم بأنّ الماء ينبع من منبع آسن.

والآن لنلقي نظرة على الخلّص وحملة الأسرار والتلاميذ الأصليين لمدرسة نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ... أفراداً مثل (علي بن أبي طالب) ، وفي مراحل لاحقة أفراداً مثل (سلمان) و (أبو ذر) و (المقداد) و (عمار بن ياسر) و (صهيب) و (بلال) وأضرابهم ، فنرى كل واحد منهم كان نموذجا للتقوى والفضيلة والإيمان والمعرفة والزهد.

ونموذج آخر من هؤلاء الأفراد هم (أصحاب الصفة) المهاجرون الأبرار الذين هجروا كل ما يملكون في مكة ، والتحقوا بصفوف أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا يعيشون في أسوأ الأوضاع الاقتصادية.

أو مجموعة السبعين شخصاً الذين توجهوا إلى منطقة (نجد) لنشر الإسلام ، ثم تجرعوا كأس الشهادة كلهم في هذا السبيل ، وكانوا يقضون الليل بالعبادة ، والنهار بجمع الحطب ليضعوا ما تجود به أيديهم باختيار أصحاب الصفة أولئك (١).

وكان من بين خلص أصحابه أفرادٌ يعيشون في مستويات دنيا من حيث الموقع الاجتماعي ، والجوانب المادية والظاهرية ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكرمهم لمميزاتهم المعنوية ويقدمهم على الآخرين ، إلى ذلك الحد الذي سبب اعتراض مخالفيه الشديد وجاءه عدد من أعيانهم وكان عنده أفرادٌ من أمثال سلمان ، وصهيب ، وأبي ذر ، وعمار ، وخباب ،

__________________

(١) منتهى الآمال ـ وقائع السنة الهجرية الرابعة ـ وجاء نفس المعنى مع بعض الاختلاف في تاريخ الكامل لابن الاثير ، ج ٢ ، ص ١٧١.

٢٧٨

ونظرائهم من المعوزين والفقراء ، وحينما وقعت أعينهم على هذا المشهد قالوا بغرور وتكبر : (لو نحيت عن هؤلاء روائح صنانهم ... جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك فلا يمنعنا من الدخول عليك إلّاهؤلاء).

وهنا نزلت الآية الكريمة : (وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَبّهُم بِالغَدَاةِ وَالعَشِىّ). (الكهف / ٢٨)

وأُمرَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ يكون دوماً مع هذه الزمرة الحفاة من أصحاب القلوب الطاهرة ، وأن لا يمد عينيه إلى الأُبَّهة الظاهرية للأثرياء الأنانيين (١).

وفي الآية التي بعدها تَردُ كلمات حادة وموجعة على ما يطلبه المستكبرون فتقول : (وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شَآءَ فَليُؤمِنْ وَمَنْ شَآءَ فَليَكفُرْ انَّا أَعْتَدنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً احَاطَ بِهِم سُرَادِقُها). (الكهف / ٢٩)

وهذا البيان الصريح والقاطع يثبت بشكل جيد أنّ الإسلام عن أي طبقة يدافع؟ وما هي الطبقات التي تحتل الصفوف المتقدمة فيه؟

ويعتبر القرآن الكريم التفاف الأفراد المؤمنين المخلصين والأبرار حول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه واحد من شواهد حقانيته صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يقول : (افَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنهُ). (هود / ١٧)

ولكنّ أكثر المفسرين يعتقدون بأنّ (البينة) هي نفس القرآن والمعجزات ، وأنّ المقصود بـ (الشاهد) هم الاتباع المضحون المؤمنون المخلصون أنفسهم.

ومن البديهي أنَّ إيمان شخصٍ كعلي عليه‌السلام بما يتصف به من المميزات العلمية والمعنوية والأخلاقية التي اتضحت في (نهج البلاغة) يمكن أن يكون شاهداً ناطقاً على حقانية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

__________________

(١) نقل هذه القصة الكثير من المفسرين والمؤرخين بعبارات مختلفة ، تفسير مجمع البيان والقرطبي في ذيل الآية ٢٨ من سورة الكهف.

٢٧٩

٨ ـ التطور السريع

إنّ التطور السريع ، والتقدم الخارق لدين ما ، وإيجاده لتحول عظيم وواسع ، يمكنه أن يشكل قرينة اخرى على أصالته وحقانيته ، لأنّ تأثيراً كهذا يكون ممكناً فقط إذا كانت قواعد هذا الدين مستندة إلى فطرة الحياة وواقعياتها ، ومنطبقة مع قوانين الخلق والإبداع ، أي نفس القوانين المتحكمة بحياة البشر.

فالقانون غير الفطري ، وغير المنسجم مع التركيب النفسي والبدني للإنسان ، يتقدم بصعوبة بالغة ، وإذا تقدم فبسبب استخدام عوامل سلطوية مشددة ، فمثلاً في بداية دعوة الشيوعية لنفسها كان لها تقدم سريع ومثير ، ولكننا نعرف جميعاً أنّ ذلك تمّ باللجوء إلى استخدام القوّة وسفك الدماء والدكتاتورية الشديدة ، في حين أنّ التقدم الفكري السريع والعميق إذا جرى في عمق أفكار المجتمع كان دلالة على أصالته ، ونحن نعلم بأنّ الإسلام قد انتشر في مناطق شاسعة في القرون الاولى من ظهوره بدون أن تطأها أقدام حتى جندي مسلم واحد.

على كل حال إنّ الانتشار السريع للإسلام في ظاهر المجتمع البشري وباطنه ، وبمناطق شاسعة من هذا العالم ، وذلك في خلال برهة زمنية قصيرة أيضاً ، ليس بالشيء الذي يبقى خافياً على أحد ، والمثير أنّ هذا الدين ظهر في منطقة نصف متوحشة ، وبسط نفوذه على كل العالم المتمدن في ذلك الزمان وفي مدّة وجيزة.

وهذا النفوذ السريع والشامل لازال يشكل لغزاً مُحيّراً للمؤرخين الكبار من غير المسلمين ، وكنموذج على ذلك :

١ ـ عندما يصل مؤلفو كتاب (حضارة الغرب ومرتكزاتها في الشرق) وهم ثلاثة من العلماء الغربيين المعروفين ـ إلى فصل ظهور وانتشار الإسلام ، يعترفون بصراحة قائلين : «كل المحاولات التي جرت لمعرفة الإسلام وانتشاره السريع ـ إلى الحد الذي استطاع أن يبسط ظلاله على القسم الأعظم من العالم المتحضر آنئذٍ في أقل من قرن ـ وعلى الرغم من كل التفسيرات والتحليلات التي وردت عن هذه الحقبة التاريخية فلا زالت هذه القضية باقية على شكل لغز من الألغاز» (١).

__________________

(١) حضارة الغرب ومرتكزاتها في الشرق ، فصل ظهور الإسلام وانتشاره.

٢٨٠