نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

فقال لهم يسوع : «أما جاء في شريعتكم أنّ الله قال : أنتم آلهة؟ ماذا كان الذين تكلموا بوحي من الله يدعوهم الله آلهة ، على حد قول الشريعة التي لا ينقضها أحد ، فكيف تقولون لي ، أنا الذي قدّسه الأب وأرسله إلى العالم : أنت تجدف لأنّي قلت : أنا ابن الله؟ إذا كنت لا أعمل أعمال أبي فلا تصدقوني وإذا كنت اعملها فصدقوا هذه الأعمال إن كنتم لا تصدقوني حتى تعرفوا وتؤمنوا أنّ الأب فيّ وأنا في الأب» (١).

يتضح من خلال هذه العبارات عدّة نكات :

١ ـ اتّهم اليهود عيسى من ذي قبل أنّه ادعى الالوهية وأصدروا حكماً بتكفيره ورميه بالحصى.

٢ ـ يقول المسيح تارة في صدد الدفاع عن نفسه : أنا الذي قلت إنّي ابن الله ، وأنّ أبي الله ، وتارة اخرى يقول : أنا أقوم بأعمال إلهيّة ، ولو لم أنجز ذلك فلا تصدقوا كلامي ، ولو انجزت ذلك فصدقوا أني حالٌّ في الله والله حالٌّ في نفسي.

إنّ التعبير بالأب والابن والقيام بأعمال إلهيّة ، والقول بحلول الإنسان في الله والله في الإنسان ، كلها تعبيرات إلحادية ، لا تلتئم مع كافة الموازين المنطقية ، ولا دليل على أن يدلي أحد الأنبياء بمثل هذه العبارات في حق نفسه وحق الله تعالى ، ولو بصورة مجازية ، لأنّ ذلك يؤدي إلى وقوع البسطاء في دوامة الاشتباه والالتباس ، ويساهم في أن يجد الأعداء الذريعة المناسبة لأنّ يرموه بالحصى متى ماشاءوا.

هذا في الوقت الذي يقول القرآن في الآيات التي تلوناها سابقاً بصراحة تامة إنّه لم يصدر من المسيح عليه‌السلام أي ادّعاء سوى العبودية لله ودعوى النبوة والرسالة وكان في غاية الخضوع والتذلل في مجال العبودية والتسليم لأمر الله تعالى.

وفي آيات اخرى يقول أيضاً : إنّ كل ما أنجزه من معاجز كان جميعه بإذن الله ، نقرأ في قوله تعالى : (وَاذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ بِاذْنِى فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيراً بِاذنِى وَتُبرِىُء الاكمَهَ وَالأَبرَصَ بِاذنِى وَاذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِاذْنِى). (المائدة / ١١٠)

__________________

(١) انجيل يوحنا ، باب ، اليهود يرفضون المسيح ، ص ٢٨٩.

١٨١

إنّ المقارنة بين هذا النوع من المسائل التاريخية في القرآن وبين ماورد منها في الانجيل من شأنه أن يضع الحدود الفاصلة بينهما ويبين أيّهما هو الصادر من قبل الله حقاً ، وأيّهما هو المحرف والمختلق من الذهن البشري.

* * *

١٠ ـ حضور المرأة العاصية في مجلس السيد المسيح عليه‌السلام

لم تظهر في الآيات المختلفة للقرآن التي وردت في حق السيد المسيح حتى الحد الأدنى من ترك الأولى ، وقد وصفت الآيات التي وردت في شأن أمه مريم قداستها في أجلى صورها ، بحيث إنّها ذعرت بشدة والتجأت إلى الله حينما شاهدت ملك الوحي الذي جاءها من قبل الله ليهبها ولداً ، (لأنّه ظهر أمامها على هيئة شاب جميل مجهول) حتى أنّها لما قاست من آلام وضع الحمل ، وجسدت في مخيلتها مستقبل حياتها ، بأنّ من الممكن أن ينسب لها الأعداء والبسطاء النسب القبيحة ؛ قالت : (يَالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَّنْسِيّاً). (مريم / ٢٣)

غير أنّ نبيّاً بهذه القداسة بحيث ينطلق لسانه بأمر من الله في المهد ، ويبرهن عملياً على طهارة امه ، ويتحدث عن الصلاة والزكاة ، وكل مظهر من مظاهر التقوى من تلك اللحظة ، مثل هذا النبي يرد وصفه في بعض الأناجيل بأوصاف تبعث كلّ قارىء على الدهشة والاستغراب.

والآن لنستمع وننظر إلى مابينه «انجيل لوقا» عن حكاية المرأة السيئة الصيت التي جاءت إلى المسيح عليه‌السلام وتابت : «ودعا أحد الفريسيين (إحدى فرق اليهود ، والفريس بمعنى المُعتزل) إلى الطعام عنده فدخل بيت الفريسي وجلس إلى المائدة وكان في المدينة امرأة خاطئة فعلمت أن يسوع يأكل في بيت الفريسي وجاءت ومعها قارورة طيب ، ووقفت من خلف عند قدميه وهي تبكي واخذت تبل قدميه بدموعها وتمسحهما بشعرها ، وتقبلهما وتدهنهما بالطيب فلما رأى الفريسي صاحب الدعوة ماجرى ، قال في نفسه : «لو كان هذا

١٨٢

الرجل نبيّاً لعرف من هي هذه المرأة التي تلمسه وما حالها فهي خاطئة!» فقال له يسوع : «ياشمعون ، عندي ما أقول لك» ، فقال شمعون : «قل يامعلم» ، فقال يسوع : «كان لمدين دين على رجلين : خمسمئة دينار على أحدهما وخمسون على الآخر وعجز الرجلان عن ايفائه دينه ، فاعفاهما منه فأيّهما يكون أكثر حبّاً له؟».

فأجابه شمعون : «أظن الذي أعفاه من الأكثر» فقال له يسوع : «أصبت» والتفت إلى المرأة وقال لشمعون (١) : «أترى هذه المرأة؟ أنا دخلت بيتك فما سكبت على قدميَّ ماء ، وأمّا هي فغسلتهما بدموعها ومسحتهما بشعرها ، أنت ما قبلتني قبلة ، وأمّا هي فما توقفت منذ دخولي عن تقبيل قدميَّ ، أنت ما دهنت رأسي بزيت ، وأمّا هي فبالطيب دهنت قدميَّ ، لذلك أقول : غفرت لها خطاياها الكثيرة لأنّها أحبتني كثيراً ، وأمّا الذي يغفر له القليل فهو يحب قليلاً» ثم قال للمرأة : «مغفورة لك خطاياك!» فأخذ الذين معه على المائدة يتساءلون ، من هذه حتى يغفر خطاياها» (٢).

ملخص هذه الحكاية أنّ السيد المسيح ينزل في بيت لأحد الفريسيين وهم كانوا طائفة من اليهود ، ولا يبدي له صاحب البيت احتراما بالغاً ، وما أن اطّلعت المرأة العاهرة والمنحرفة (٣) التي تسكن ذلك البلد على حضوره حتى توجهت إلى بيت اليهودي وكانت العادة الجارية في ذلك العصر على غسل رجل الضيف اكراماً له ، وطلي شعره بالدهن أحياناً لأنّ الناس كانوا يمشون حفاة غالباً ، ونظراً لعدم امتلاكهم وسيلة للتغطية والحفظ في الأسفار كانت شعور وقشور أبدانهم تصاب بالجفاف على أثر هبوب الرياح.

ووفقا لهذه الحكاية المفتعلة قامت المرأة العاهرة بغسل رجلي المسيح عليه‌السلام بدموعها عوضاً عن الماء ، وجففتهما بشعرها الطويل عوضاً عن المنشفة ، وقبّلتهما بشفتيها بحرارة ،

__________________

(١) شمعون في الأصل بمعنى السامع ، وقد اشير إلى اسماء ١٠ أشخاص في الكتاب المقدس للمسيح طبقاً لما قاله مؤلف كتاب (قاموس الكتاب المقدس) ، وكان أحدهم شمعون الفريسي.

(٢) انجيل لوقا ، باب يسوع يغفر لامرأة خاطئة ، ص ١٨٣.

(٣) هذه المرأة هي مريم مجدليته كانت عاهرة ومتمولة ، فأعلنت عن توبتها على يد السيد المسيح عليه‌السلام طبقاً لماجاء في انجيل لوقا في الباب الثامن.

١٨٣

بحيث أدّى هذا المشهد المثير إلى استياء الرجل اليهودي صاحب البيت وقلقه ، وقال في نفسه إن كان هذا نبياً وواقفاً على سيرة هذه المرأة لصدها عن هذا العمل على الأقل ، المسيح بفراسته علم بذلك ، وأقنعه بذلك من خلال المثال الذي ضربه في صدد الشخصين المديونين وأعرب له : إنني كنت ضيفك إلّاأنّك لم تقم بما قامت به المرأة المنحرفة من حسن الضيافة ، فأنت لم تغسل رجليَّ بالماء وهي غسلته بدموع عينيها وأنت لم تقبلني وهي قبلت رجليَّ بلا انقطاع ، ولم تدلك رأسي بالدهن وهي دلكت رجلي بالعطر.

والآن لنبدأ قليلاً بتحليل هذه القصة ، لنرى هل من المناسب لهذا النبي العظيم وحتى لمؤمن عادي أن يضع نفسه تحت تصرف امرأة عاهرة كي تعامله بمثل هذه المعاملة.

أولاً : إنّ السيد المسيح عليه‌السلام كان شاباً يناهز عمره الثلاثين عاماً في ذلك العصر ، ولابدّ أن تكون تلك المرأة العاهرة شابة وجميلة أيضاً ، ولا يعقل أن تكون قبيحة المنظر منهوكة القوى في الأعم الأغلب فكيف يتأتى لنبي عظيم بعث لتهذيب الأخلاق ونشر مظاهر التقوى أن يسمح لامرأة فاجرة بأن تتمسّح برجليه مرات متعددة ثم تغسهما بدموع عينيها وتجففهما بشعرها الناعم وتدهنهما بيديها الظريفتين وتطبع عليهما قبلات حارة ، فهل يُعقل هذا؟

وعلى فرض أنّها أرادت التوبة من وراء ذلك فإنّ للتوبة حدوداً وقيوداً أيضاً ، وهل سبق لأحد إلى يومنا هذا أن يتعامل مع أحد الروحانيين أو الرهبان العاديين بمثل هذه المعاملة ، حتى تصل إلى نبي من أنبياء الله؟

وعلى كل حال فالآثار الخرافية لهذه الرواية ظاهرة من بين ثناياها بصورة كاملة ، فضلاً عن أنّ ما ذكره السيد المسيح عليه‌السلام من المثال لا يعتبر جواباً عن استفسار اليهودي على الاطلاق.

فإشكال اليهودي لم يقع على عظم محبّة هذه المرأة حتى يأتي الجواب على أنّ عظم محبتها وشدّة تعلقها ناتج عن كثرة ذنوبها ، وإنّما وقع للاستفسار عن السبب في سماح نبي من أنبياء الله بأنّ تمسح أمراة عاهرة وسيئة السمعة برجليه إلى هذه الدرجة ثم تغسلهما

١٨٤

بدموع عينيها ، وتجففهما بشعرها ، وتدلكه بالعطر والدهن ، فمما لا شك فيه أنّ كثرة الذنوب وقلتها لا صلة له بهذا العمل من قريب أو بعيد.

وعليه فما جاء في تواريخ القرآن من وقائع وحوادث عن السيد المسيح عليه‌السلام تنزهه وتبرء ساحته من مثل هذه النسب السيئة.

* * *

نتيجة البحث :

يستنتج ممّا ذكر سابقا ضمن هذه النقاط العشر ومن خلال ما أجريناه من مقارنة واضحة بين تواريخ العهدين (الكتب المقدسة لليهود والنصارى) هي نفس الكتب التي عُدّت من أهم المصادر التاريخية للأديان في عصر نزول القرآن ـ على أنّ القرآن لا يمكن أن يكون وليد الفكر الإنساني اطلاقاً ، لأنّ ذلك يستلزم أن يتأثر بها ، وقابلية التأثر هذه تترك أثرها في نقل وقائع هذه القصص ، فدلت نزاهة التواريخ التي ينقلها القرآن من هذه الخرافات والنسب القبيحة خصوصاً فيما يتعلق بشرح وقائع الأنبياء على أنّه صادر من مصدر العلم الرباني وأنّه معجزة خالدة على مر الدهور.

* * *

١٨٥
١٨٦

٥ ـ الاعجاز القرآني في سن القوانين

من المعلوم أنّه قد ورد في القرآن الكريم بالإضافة إلى المعارف والتعاليم المرتبطة بالمبدأ والمعاد والمسائل الأخلاقية والتاريخية والتشريعات المتعلقة بالعبادات ، مجموعة من القوانين الاجتماعية أيضاً ، والتي ترسم معالم القانون الأساسي للاسلام وبعض القوانين المدنية ، الحقوقية والجزائية المتعلقة به.

إنّ الدقّة والحكمة الموجدتين في النصوص القرآنية تكفيان لوحدهما في اظهار معجزة القرآن استناداً إلى أنّ ظهور وبروز هذه القوانين الحكيمة جدّاً ـ والتي ستأتي أمثلتها فيما بعد ـ في محيط تحكمه شريعة الغاب ، أو بعبارة اخرى : في جو يضجُّ بالفوضى والتسيب ، هذه القوانين بإمكانها أن تحمل كل فرد منصف على التسليم والاذعان ، لذا نحن لسنا ملزمين بأنّ نفتش عن عظمة هذا الكتاب السماوي واعجازه في المسائل المرتبطة بالفصاحة والبلاغة ، أو المعارف والعلوم والجوانب التاريخية فقط ، بل إنّ الاقتصار على البحث في مجموعة القوانين القرآنية يفتح نافذة بوجه هذا العالم الكبير.

وهنا ينبغي ـ وقبل كل شيء ـ أن نقدم مقدمة قصيرة حول بيان معنى القانون الصالح وحقيقته ، وذلك من أجل تدعيم أساس هذا البحث.

ماهي أفضل القوانين؟

من الصعوبة الجواب عن هذا السؤال ، ولكن إذا وقفنا على الحكمة الواقعية من وراء وضع القوانين في المجتمعات الإنسانية فإنّ معالم الطريق ستصبح واضحة.

١٨٧

إنّ المسألة تكمن في كون الإنسان يميل فطرياً إلى الحياة الاجتماعية ، ويعود الفضل في رُقيه وتطوره إلى حياته الاجتماعية ، فمن خلال هذه الحياة تتلاقح أفكار العلماء والمفكرين وتتآزر الاكتشافات والاختراعات والإبتكارات العلمية الموجودة في المجتمع وتنتقل من جيل إلى جيل آخر ، ففي كل يوم نشهد تطوراً وتقدماً ورقياً على صعيد العلوم والتفكر والخصارة الإنسانية.

وأيّاً كان الدافع من وراء الاهتمام بهذا التعايش المشترك فإنّ له موضوعاً مستقلاً للبحث ، ولكن ممّا لا شك فيه إذا كانت حياة الناس مبعثرة ومشتتة شأنها شأن حياة الحيوانات الاخرى لم يكن هناك أي فرق بين إنسان اليوم وإنسان العصر الحجري ، ولا يوجد معنى للعلم والحضارة والاختراع والاكتشاف ولا الصناعات والفنون ولا اللغة والآداب ولا لأي شيء آخر ، إلّاأنّ لهذه الحياة الاجتماعية طواريء ومشاكل إذا لم تتمّ الوقاية منها بشكل صحيح فإنّها تؤدّي إلى حدوث نكبات وويلات تُودي بحياة الأجيال فضلا عمّا يترتب على ذلك من توقفٍ لعجلة التكامل والرقي.

إنّ هذه الافرازات عبارة عن : الصراعات التي تنشأ من تعارض المصالح وتزاحم الحقوق وطلب الاستعلاء ، وحب الاستئثار ، والأنانيات والمنافع الشخصية والتي تؤدّي بدورها إلى حدوث الخلافات والنزاعات والمناوشات الفردية أو الجماعية ونشوب الحروب الأقليمية ، أو الدولية ، ولهذا أدركت المجاميع الإنسانية منذ تلك اللحظة هذه الحقيقة وهي أنّه لو لم توضع المقررات اللازمة لتعيين حدود صلاحيات الأفراد وحقوقهم واسلوب حل المنازعات والد عاوى والمشاجرات ، لانقلبت الموازين الاجتماعية رأساً على عقب وأدّت إلى حدوث كارثة كبرى.

وأساساً إنّما يأخذ المجتمع الواقعي طريقه إلى الوجود والظهور بعد أن تسوده حالة التعاون والتعاضد والتعاطف بين أفراده ، ومثل هذا الأمر لا يتحقق إلّافي ظل وضع القوانين والمقررات ، وفي الواقع ليس هناك مفهوم للتعاون من دون تعهد أخلاقي ، وهذا التعهد بحد ذاته منشأ حدوث القانون.

١٨٨

علاوة على ذلك فإنّه من الخطأ أن نعتبر وظيفة القانون منحصرة في نطاق الحد من حدوث الاعتداءات وإنهاء النزاعات ـ وإن كان هذا هو الهدف من وضع الكثير من القوانين ـ بل يقع على عاتق القانون قبل هذا مسؤولية توثيق العلاقات الاجتماعية وإيجاد الضمانات والتعامل معها بصدق وأمانة وتأمين الحرية اللازمة من أجل تمكين وتربية القابليات وتنميتها ، وتمركز القوى وتعبئة الإمكانيات باتّجاه معين من أجل توسيع رقعة التكامل.

والواقع إنّ القانون هو بمثابة الدم الجاري في عروق المجتمع البشري ، لهذا لابدّ من القول بصراحة : إنّه إذا انعدم القانون لم يكن لوجود المجتمع معنى ، ولم يتحقق التقدم والازدهار.

إذن لم يعد الجواب عن السؤال المتقدم صعباً ، فالقانون الأفضل هو الذي يمتلك صلاحية أكثر في تأمين الامور التالية :

١ ـ أن يجمع بين كافة القوى المؤلفة للمجتمع الإنساني تحت راية واحدة قوية ، ويحل مشكلة الاختلافات الموجودة فيه كاختلاف الألوان والقوميات واللغات.

٢ ـ أن يهيء الأرضية المناسبة لنمو الاستعدادات الكامنه وتطوير القدرات الخلاقة لدى المجتمع.

٣ ـ أن يؤمّن الحرية الواقعية حتى يتمكن جميع الأفراد من العمل على تنمية استعداداتهم في ظلها.

٤ ـ يحدد الحق المشروع لكل شخص من الأشخاص وكل فئة من الفئات كي يقف حاجزاً دون حصول النزاعات والاختلافات والاعتداءات.

٥ ـ أن يعمق في النفوس روح الاعتماد والاطمئنان من خلال تعيين نظام إجرائي صحيح مضمون.

٦ ـ القانون الصالح ليس كما يتصوره البعض بأنّه القانون الذي يحمل معه مجموعة من القوانين العريضة والموسعة والتي تشتمل على الأجهزة القضائية الواسعة والشرطة والسجون الكثيرة ، بل إنّ هذا يدل على ضعف ذلك القانون وذلك المجتمع وعجزهما ،

١٨٩

فالقانون الصحيح هو الذي يتخذ إجراءات وقائية مناسبة من خلال وضع التعليمات الثقافية والمقررات الصحيحة حتى لا تدعو الحاجة إلى التوسل بمثل هذه الامور.

إنّ الأجهزة القضائية والعقوبات والسجون بمثابة الطب العلاجي ، أو بعبارة أصح ، بمثابة إجراء عملية جراحية للمريض ؛ بينما القوانين السليمة والمقررات الدقيقة بمثابة الطب الوقائي الذي يعتبر أقل مؤونة وأسلم طريقة لخلوه من الطواريء والأخطار.

بعد هذه المقدّمة نعود إلى القرآن مرّة اخرى لندقق في قوانينه ونبحثها.

مزايا القوانين القرآنية :

قبل كل شيء نرى من اللازم أن نذكر هذه النكتة وهي : إنّ جميع هذه القوانين إنّما خرجت في محيط الحجاز ، ذلك المحيط الذي لايعرف للقانون معنى تقريباً ، والأمر الوحيد الذي حكم بشكل قانوني في اوساط قبائله هي العادات والتقاليد المحدودة والممتزجة بالخرافات ، لذا فإنّ ظهور القوانين الإسلامية في مثل هذا المحيط يعدّ بحق ظاهرة عجيبة لا يمكن تبريرها وتصورها تصوراً طبيعيا وعادياً ، ومن هنا فلابدّ أن نتعرف على خصائص القوانين الإلهيّة ، وليس لنا سوى القبول والتسليم بأنّ ذلك كله صادر من الله تعالى.

أولاً : الشمولية والسعة

بالرغم من أنّ القرآن نزل في محيط مغلق من جهات مختلفة ، ومحدود في ارتباطه مع عالم ما وراء شبه الجزيرة العربية ، وكان الطابع الذي يسود ارجاءه هو طابع القومية والعنصرية والحياة القبلية ، فكان من الطبيعي حتماً أن يصطبغ مثل هذا المحيط بصبغة القومية العربية ، بل بصبغة التعصب القبلي ممّا يلفت النظر إلى أنّ القوانين لم تصطبغ بهذه الصبغة بأي شكل من الأشكال حتى أنّه لم يرد الخطاب بـ (يا أيّها العرب) ولا مرّة واحدة في القرآن ، بل إنّ الخطاب كان موجهاً إلى عامة الناس في كل المواضيع والخطابات حيث

١٩٠

ورد بصيغة ـ يا بني آدم (١) ويّا أيها الناس (٢) ويا أيّها الذين آمنوا (٣) وياعبادي (٤) ويا أيّها الإنسان (٥) ـ فالمخاطبين في القرآن هم جميع أهل العالم ، وقوانينه ناظرة إلى البشرية جمعاء.

وممّا يدل على هذا المدعى أيضاً هذه الآية : (وَمَا ارْسَلْنَاكَ الَّا رَحمَةً لِلعَالَمِينَ). (الأنبياء / ١٠٧)

والآية : (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الفُرقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيراً). (الفرقان / ١)

والآية : (انْ هُوَ الَّا ذِكْرٌ لِّلعَالَمِينَ). ونظائرها. (يوسف / ١٠٤)

لقد نبذ القرآن التمييز العنصري ـ في ذلك المحيط العنصري ـ بحيث أولى اهتماماً كبيراً وعناية فائقة للأواصر الأخوية ولجميع أبناء البشرية من خلال اطروحته الرائعة المتضمنة هذا المعنى «أنتم جميعاً أبناء آدم وخلقتم من أب واحد وام واحدة» فأنتم جميعاً اخوة لُاسرة واحدة ، يقول عزّ من قائل في هذا المضمار : (يَا ايُّهَا النَّاسُ انَّا خَلَقنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَانثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا انَّ اكْرَمَكُم عِندَ اللهِ اتْقَاكُم). (الحجرات / ١٣)

وفي موضع آخر ينفي كافة الارتباطات المحدودة ويبلور العلاقة القائمة بين المؤمنين في إطار الاخوة والصداقة التي هي من أقرب العلائق التي تقوم على أساس المساواة والمواساة ، إذ يقول عز من قائل : (انَّمَا المُؤمِنونَ إخوَةٌ) (الحجرات / ١٠)

وممّا يدعو إلى الانتباه والالتفات إلى ما في هذه الآية هو مجيء كلمة (إنّما) التي تستعمل للحصر ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى أحاطت هذه القوانين بشموليتها سائر أنحاء الحياة البشريّة بدءاً بأهمّ المسائل الاعتقاديّة (كالتوحيد) وانتهاءً بأبسط المسائل الأخلاقيّة والاجتماعية ، (كالرد على السلام وعلى أي لون من ألوان التحية والاستقبال) ،

__________________

(١) وردت ٥ مرات.

(٢) وردت ٢٠ مرّة.

(٣) وردت ٨٠ مرّة.

(٤) وردت ٥ مرات.

(٥) وردت مرّتين.

١٩١

فعلى سبيل المثال يقول تعالى في أحد المواضع : (وَاذَا حُيِّيتُم بِتَحَّيةٍ فَحَيُّوا بِاحْسَنَ مِنْهَا اوْ رُدُّوها انَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىٍء حَسِيبَاً). (النساء / ٨٦)

وقد ضمَّ القرآن الكريم بين دفتيه آيةً تُعدُّ من أطول الآيات القرآنية التي دار الحديث فيها حول كتابة الديون والحقوق ، فقد ذكر فيما يتعلق بهذه المسألة عشرين حكماً إلهياً ، وهي (الآية ٢٨٢ من سورة البقرة) وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أن تطرق القرآن للمسائل المرتبطة بالعقائد والمعارف الإسلامية لايتنافى بتاتاً مع بيانه للأحكام الضرورية العملية أيضاً ، ولا نقصد من ذلك أنّه قد تمّ بيان جميع جزئيات الأحكام والقوانين على صعيد الظواهر القرآنية ، لأنّ ممّا لا يقبل الشك أنّ حجمها يعادل أضعاف حجم القرآن ، وإنّما المقصود أنّه تعالى قد بيَّن الاصول والقواعد الضرورية في كل مورد من الموارد القرآنية.

ولا يضير في هذا المجال أن نشير إشارات مختصرة إلى مقتطفات من هذه الأصول :

* * *

١ ـ أكَّدَنا أنّ القرآن الكريم استند في المسائل الاعتقادية قبل كل شيء على (أصل التوحيد) ، وقد ذكر هذا المفهوم مئات المرات في الآيات القرآنية ، بحيث رسم الخطوط العريضة لأدقّ المفاهيم التوحيدية إلى أن يقول في صدد الحديث عن ماهية الله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ). (الشورى / ١١)

وقد بين صفاته الجلالية والجمالية في مئات الآيات ، ويمكنكك في هذا المجال مراجعة المجلد الثالث من هذا الكتاب (نفحات القرآن) ، ولا يقتصر الأمر عند تعريفه بوحدانية الله من كل جهة ، بل يعتبر نبوة الأنبياء دعوة واحدة أيضاً ، بحيث لا يرى وجود الاختلاف والتفرقة بينهم ، لذا يقول : (لَانُفَرِّقُ بَيْنَ احَدٍ مِّن رُسُلِهِ). (البقرة / ٢٨٥)

وبالرغم من حمل كل واحدٍ منهم مسؤولية خاصة به وفقاً للمتطلبات الزمنية التي يعيش فيها كل نبي ، إلّاأنّ حقيقة دعوتهم وجوهرها واحدة في كل المواقع. بالإضافة إلى أن مسألة

١٩٢

التوحيد تفرض سيطرتها على مرافق المجتمع الإنساني أيضاً ، وكما قلنا سابقاً : يعتبر أفراد البشر أعضاء لأسرة واحدة ، ويعبّر عنهم بالأخوة المولودين من أب واحد وأم واحدة.

٢ ـ (العدالة الاجتماعية) وتعتبر من أهم تعاليم الأنبياء يقول تعالى : (لَقَدْ ارْسَلْنَا رُسُلَنا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ). (الحديد / ٢٥)

وتعقيباً لهذه الغاية فقد حرّض الله تعالى كافة المؤمنين على هذا الأمر سواء كونهم كباراً أو صغاراً ، شيباً أو شباباً ، وبغض النظر عن انتمائهم العنصري أو اللغوي ، فيقول : (يَاايُّهَا الَّذينَ آمنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى انْفُسِكُم اوِ الوَالِدَينَ وَالأَقرَبِينَ). (النساء / ١٣٥)

٣ ـ وأما على صعيد «الروابط الاجتماعية» والاتفاقيات وكل عهد وميثاق فيدعو الله الجميع إلى الالتزام بهذا الأصل ، ويقول : (يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اوْفُوا بِالعُقُودِ). (المائدة / ١)

ويقول أيضاً : (وَاوفُوا بِالعَهْدِ انَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً). (الاسراء / ٣٤)

إنّ امتداد وسعة هذه الآيات شملت حتى المعاهدة والمفاوضة مع غير المسلمين ، وفرضت سيطرتها على العلاقات الاجتماعية والفردية والاتفاقيات الدولية أيضاً.

٤ ـ وعلى صعيد «الوقوف بوجه الاعتداءات» ، وتفادي الاحباطات ، يقول تعالى في عبارة مختصرة ودقيقة جدّاً : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُم فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَااعْتَدَى عَلَيكُم وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا انَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ). (البقرة / ١٩٤)

٥ ـ وعلى صعيد «الدفاع» يقدم اطروحة أصيلة ومتينة عامة متجسدة بقوله تعالى : (وَاعِدُّوا لَهُم مَّااستَطعتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُم). (الانفال / ٦٠)

وفي هذا الصدد يوصي «بإعداد القوة وتعبئة القوى بصورة عامة» ، وتجهيز القدرة الحربية لذلك العصر بصورة خاصة «بعنوان أحد المصاديق» وذلك من أجل الحد من وقوع الحرب ، والارهاب ، وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء ، وهذا من الأهداف المنطقية الكبرى لتقوية البنية العسكرية.

١٩٣

٦ ـ وأما من ناحية المناوشات الكلامية والنزاعات التي تقع بين أصحاب المذاهب والرقباء الاجتماعيين فله وصية اخرى يقول فيها : بدلاً من المقابلة بالمثل وإعداد القوى استخدموا أسلوب مقابلة الضد بالضد ، وردّوا القبيح بالحسن كي تُقتلع بذرة النفاق والعداوة من جذورها ، يقول عزّ من قائل : (ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ احْسَنُ فَاذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَانَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّهَا الَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَايُلَقَّاهَا الَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). (فصلت / ٣٤ ـ ٣٥)

٧ ـ أما بصدد (المصير الإنساني) يقول بصراحة : إنّ مصير كل شخص بيده ، وموقوف على جهده وسعيه : (كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ). (المدثر / ٣٨)

(وَان لَّيسَ لِلإِنَسانِ الَّا مَا سَعَى * وَانَّ سَعيَهُ سَوفَ يُرَى). (النجم / ٣٩ ـ ٤٠)

٨ ـ وحول «حرية العقيدة» وإنّه لا يمكن النفوذ في الحيز الفكري لشخص معين إلّاعن طريق الاستدلال وتوضيح معالم الدين يقول تعالى : (لَا اكرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَّبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَىّ). (البقرة / ٢٥٦)

وفي مجال «حرية الإنسان» يقول : إنّ أحد الأهداف المهمّة لبعثة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله هو اطلاق سراح الناس من قيود وسلاسل الأسر والعبودية : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ اصْرَهُم وَالاغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيِهْم). (الأعراف / ١٥٧)

ولهذه الأغلال مفهوم واسع بحيث تشمل كافة أنواع سلب الحرية الإنسانية.

٩ ـ وفي صدد «عدم التدخل في الأمور الشخصية للآخرين» ، والمحافظة على كرامة الأفراد ، وعدم هتك حرمتهم يقول تعالى : (يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيرَاً مِّنَ الَظَّنِّ انَّ بَعضَ الظَنِّ اثمٌ وَلَاتَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَّعضُكُم بَعْضاً). (الحجرات / ١٢)

١٠ ـ ومن المباديء التي أكد عليها القرآن الكريم هو مبدأ «التعايش السلمي» مع كافة الأفراد المسالمين الذين يعدونهم من أهل التفاهم والحوار في الأهداف المشتركة ، أو على الأقل من الذين اتخذوا طريق الحياد والاعتدال ، لذا يقول تعالى : (لَّايَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُم انْ تَبَرُّوهُم وَتُقسِطِوُا إِلَيهِم انَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ) ، ثم يعقب على ذلك بقوله : (انَّمَا يَنَهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلوُكُم فِى الدِّينِ

١٩٤

وَأَخرجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخرَاجِكُمْ انْ تَوَلَوْهُمْ وَمَن يَتَولَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (الممتحنة / ٨ ـ ٩)

* * *

ثانياً : تقوية الروابط الاجتماعية

إنّ المجتمع البشري هو المصدر الرئيسي لكل تطور وتقدم علمي واجتماعي ويستطيع أن يصل إلى هدفه المطلوب عندما تحكمه روابط وثيقة ومحكمة جدّاً ، وفيما عدا ذلك فسوف يتحول إلى جحيم لا يطاق يحمل في طياته مآسي وويلات اجتماعية ، هذا فضلاً عن عدم استثماره لمعطياته ومكتسباته الذاتية ، فمن جانب يؤكد على الوحدة الشمولية للعالم البشري بصفتهم أعضاء لُاسرة واحدة ، وإخوة من أب واحد وأم واحدة ، كما جاء ذلك في سورة الحجرات الآية ١٣ وأشرنا إليه سابقاً.

ومن جانب آخر يعتبر المؤمنين أعضاء لكيان واحد بغض النظر عن الاختلافات الموجودة بينهم من الناحية اللغوية والعرقية ، لذا يقول تعالى : (بَعضُكُم مِن بَعْضٍ). (آل عمران / ١٩٥)

ويقول في موضع آخر : (وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم اوْلِيَاءُ بَعضٍ). (التوبة / ٧١)

ولم يكتفِ بهذا الأمر فقط ، فبالإضافة إلى العلاقات الإنسانية والإيمانية أوصى وأكد على الروابط الشخصية أيضاً والتي تتحقق في نطاق أضيق وأقرب.

ولذا يعتبر نقض هذا العهد والحلف جريمة كبرى ، يقول تعالى في هذا الصدد : (الَّذِينَ يَنقَضوُنَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعدِ مِيثَاقِهِ وَيَقطَعُونَ مَا امَرَ اللهُ بِهِ انْ يُوصَلَ وَيُفسِدُونَ فِى الارْضِ اولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ). (البقرة / ٢٧)

ونقرأ في سورة محمد الآية ٢٢ و ٢٣ قوله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُم انْ تَوَلَّيتُم انْ تُفسِدُوا فِى الارضِ وَتُقَطِّعُوا ارحَامَكُم* اولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَاصَمَّهُم وَاعمَى ابصَارَهُم).

١٩٥

وبناءً على ذلك يرى أن قطع هذه العلاقات مقارن للفساد في الأرض ، ومن دواعي فقدان البصيرة والجمود الباطني.

وتنبثق أهميّة هذه الروابط في الإسلام من أنّ كل ما يساهم في تحكيم العلاقات الاجتماعية يعتبر أمراً ضرورياً ، حتى أنّ الكذب الذي هو من أبشع الذنوب يعدّ جائزاً لأجل إصلاح ذات البين ، وعلى العكس من ذلك فإنّ كل مايساهم في تضعيف هذه الارتباطات وتفككها يعتبر أمراً منبوذاً ومرفوضاً تحت أي عنوان وإسم كان.

* * *

ثالثاً : احترام حقوق الإنسان

إنّ القانون الناجح والممتاز هو القانون الذي يُقدم ـ بالإضافة إلى امتيازاته الاخرى ـ أطروحة جامعة ودقيقة في مجال حقوق الإنسان ، وبناءً على هذه الحقيقة ، كلما ألقينا نظرة حول الآيات القرآنية التي وردت في هذا المجال تجلّت عظمة هذه القوانين أكثر فأكثر.

فالقرآن حرص كثيراً على مسألة حفظ النفس والمال والنواميس البشرية ، بحيث وصل به الأمر إلى أن يعتبر النفس الإنسانية الواحدة مساوية لنفوس الناس جميعاً ، لنقرأ قوله تعالى : (مَن قَتَلَ نَفْسَاً بِغَيْرِ نَفْسٍ او فَسَادٍ فِى الارْضِ فَكَانَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَن احْيَاهَا فَكَانَّمَا احْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). (المائدة / ٣٢)

ولا نجد لهذا التعبير مثيلاً في أي قانون آخر.

ويذهب القرآن في صدد مسألة حقوق الإنسان إلى أنّ أصل العدالة يحتل مركز الصدارة على جميع الأمور في إجراء الحقوق ، ويحذر من أن تقضي النزاعات الشخصية أو العلاقات الحميمة إلى عدم إجراء العدالة والعمل بها.

يقول تعالى في محكم كتابه : (وَلَا يَجرِمَنَّكُم شَنَئَانُ قَومٍ عَلَى الَّا تَعدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ اقْرَبُ لِلتَّقوَى). (المائدة / ٨)

وفي مجال آخر يتعرض القرآن الكريم إلى تأثير الصداقة على إجراء العدالة حيث

١٩٦

يوجه هذا الانذار بقوله تعالى : (يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى انفُسِكُم اوِ الوَالِدَينِ وَالاقرَبِينَ انْ يَكُن غَنِيّاً او فَقِيراً فَاللهُ اولَى بِهِمَا). (النساء / ١٣٥)

وتتضح هذه المسألة أكثر من خلال التأكيدات الكثيرة للقرآن على مسألة رعاية الأيتام والمراقبة الدقيقة لأوضاعهم ، والتعهد بكفالتهم إلى أن يكبروا ويبلغوا سن الرشد ، فيقول في هذا الصدد : (ان تَقُومُوا لِليَتَامَى بِالقِسْطِ). (النساء / ١٢٧)

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم جعل مسألة الحماية والرعاية للأيتام مرادفة للتوحيد وللمسائل الإنسانية والأخلاقية الاخرى ، فيقول عزّ من قائل : (... لَاتَعبُدُونَ الَّا اللهَ وَبِالوالِدَينِ احْسَاناً وَذِى القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسناً وَاقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ). (البقرة / ٨٣)

ومن طريف القول : إنّه تعالى قرر خمسة قوانين إنسانية لها علاقة بحقوق الإنسان في ضمن شعيرتين من أهم الشعائر الإسلامية على صعيد الاعتقاد والعمل ، ألا وهما ـ التوحيد والصلاة.

* * *

رابعاً : الحرص على تأمين الحرية والأمن

من أهم الأمور التي اهتمت بها القوانين القرآنية هي : حرية العقيدة ، وحرية الإنسان ، واستقرار الأمن على في الأصعدة والمجالات كافّة ، وتشير إلى هذا المعنى الآية الكريمة : (لَآاكرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَّبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَىّ). (البقرة / ٢٥٦)

ومن الأهداف المهمّة لبعثة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هي القضاء على الأسر والقيود والاغلال إذ يقول سبحانه : (وَيَضَعُ عَنهُم اصْرَهُم وَالاغلَالَ الَّتِى كَانَت عَلَيهِم). (الأعراف / ١٥٧)

وفي موضع آخر يخاطب المؤمنين بقوله : (يَاعِبَادِىَ الَّذِينَ آمَنُوا انَّ ارْضِى وَاسِعَةٌ فَايَّاىَ فَاعبُدُونِ). (العنكبوت / ٥٦)

وينقل القرآن قصة عجيبة عن «أصحاب الاخدود» ، أولئك الذين كانوا يعذبون المؤمنين

١٩٧

ويلقونهم في حفر النيران لا لشيء إلّا لأنّهم حملوا اعتقادات راسخة ، لذا يصفهم بالقول : إنّ هذه الزمرة المتسلطة ما أقدمت على عملها هذا إلّالأجل سلب حرية العقيدة والإيمان ، ثم يبين لهم أشد العقوبات الإلهيّة النازلة بحقهم لنقرأ قوله تعالى : (انَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤمِنيِنَ وَالمُؤمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُم عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُم عَذابُ الحَرِيقِ). (البروج / ١٠)

وكثيراً ما يُشيد القرآن الكريم بنعمة (الأمن) بحيث يعتبره مقدماً على أي شيء آخر ، ولهذا السبب حينما قدم إبراهيم الخليل عليه‌السلام على الأرض القاحلة ، ذات الحرارة المحرقة والخالية من النبات والشجر في مكة ، وبنى الكعبة ، فإنّ أوّل حاجة طلبها من الله تعالى لساكني هذه الأرض مستقبلا هي نعمة الأمن كما ورد ذلك في القرآن : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارزُق اهْلَهُ مِنَ الَّثمَراتِ). (البقرة / ١٢٦)

وقد ورد هذا الموضوع في مكان آخر من القرآن وبتعبير آخر ، فيقول تعالى : (رَبِّ اجعَلْ هَذًا البَلَدَ آمِناً وَاجنُبنى وبَنِىَّ ان نَّعُبدَ الاصنَامَ). (ابراهيم / ٣٥)

ففي الآية الاولى تقدم ذكر الأمن على الأمور الاقتصادية ، وفي الآية الثانية تقدم ذكره أيضاً على مسألة التوحيد ، ولعله إشارة إلى عدم تحقق الضمان الديني والدنيوي للمجتمع بدون انتشار الواقع الأمني في المحيط القائم ، بالإضافة إلى أنّ القرآن يصف حالة انعدام الأمن بأنّها أسوأ حالاً من القتل وسفك الدماء ، فيقول : (وَالفِتَنةُ اشَدُّ مِنَ القَتلِ). (البقرة / ١٩١)

وبالرغم من أنّ للفتنة معاني كثيرة ، (كالشرك ، والتعذيب والتنكيل والفساد) ، ولكن لايستبعد أن يكون مفهوم الآية شاملاً بحيث يستوعب كل هذه المعاني.

وعليه فإنّ إيجاد حالة من انعدام الأمن والفساد تفوق بمراتب حالة سفك الدماء لأنّها بالإضافة إلى كونها مصدراً لسفك الدماء ، هي مصدر للمفاسد الاخرى أيضاً.

وتجدرالإشارة إلى هذه النكتة أيضاً وهي : إنّه قد تقرر في الإسلام نوع خاص من «الأمن» لم يسبق له وجود في أي قانون من القوانين الدولية ألا وهو الحفاظ على حيثية الأفراد وكرامتهم ، حتى في دائرة أفكار الآخرين.

١٩٨

وبتعبير أدق : إنّ الإسلام لايسمح لأي مسلم أن يحمل في نفسه الظن السيء والتفكير الخاطيء تجاه الآخرين فيعمد إلى خدش كرامة الآخرين وحرمتهم في دائره التفكير الشخصي ، وقد تجسد هذا المعنى بقوله سبحانه في الآية : (يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجتَنِبُوا كَثِيراً مِن الظَنِّ انَّ بَعضَ الظَنِّ اثمٌ وَلَاتَجَسَّسوُا). (الحجرات / ١٢)

إنَّ الإسلام يريد أن تسود حالة الامن والاطمئنان التام في المجتمع الإسلامي ، ولا يقتصر الأمر على النزاعات الشخصية بين الآخرين فحسب ، وإنّما يشمل المناوشات الكلامية ، وأكثر من ذلك على صعيد الاتجاهات الفكرية بين الأفراد مع بعضهم البعض ، بحيث يشعر كل واحد منهم بأنّ أخيه لا يسدد باتجاهه سهام التهمة والافتراء ، وهذه الحالة تمثل أعلى مستويات الأمن ولاتتحقق إلّافي ظل وجود المجتمع الإيماني وسيادة القوانين الإسلامية.

والجدير بالذكر إنّه قد ورد النهي عن الكثير من الظنون ، ولكن في أثناء بيان العلة يقول : إنَّ بعض الظنون إثم ، ولعل منشأ التفاوت في التعبير عائد إلى أنّ الظنون السيئة تجاه الآخرين تطابق الواقع أحياناً ، ولاتطابقه أحياناً اخرى ، وبناءً على أنّ النوع الثاني يعدُّ ذنباً من الذنوب ، فلابدّ من الابتعاد عن كل الظنون السيئة الواقعة تحت عنوان «كثيراً من الظن».

النكتة الأخيرة في هذا البحث : هي أنّ الإسلام انطلاقاً من اهتمامه الكبير بتحقيق الأمن الداخلي في المجتمعات الإسلامية أجاز التوسّل بالقوة والقدرة العسكرية لحل الاختلافات والمجابهات الداخلية في حالة فشل الأساليب والطرق السلمية ، ونطالع هذا المعنى في قوله تعالى : (وَانْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَاصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَانْ بَغَتْ احدَاهُمَا عَلَى الاخَرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ الَى امْرِ اللهِ فَانْ فَاءَتْ فَاصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَاقسِطُوا انَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ). (الحجرات / ٩)

إنّ مَن يمعن النظر جيداً في تعبير هذه الآية : يجد أنَّ كلَّ مقطع من المقاطع فيها يحكي عن تحديد صورة لمنهج دقيق يقضي بإنهاء أي شكل من أشكال الاضطراب والفتن

١٩٩

الاجتماعية وذلك من خلال استخدام أفضل السبل السلمية ، أو اللجوء إلى القوة في نهاية المطاف إذا لم تثمر الأساليب الاخرى.

ومن البديهي أنّ المقصودين بالخطاب في هذه الآية هم أفراد المجتمع الإسلامي ، أو بعبارة اخرى الحكومة الإسلامية.

* * *

خامساً : ضمانات تنفيذ القوانين القرآنية

إنّ وجود القوانين الدولية لا يمثل سوى حبرٍ على ورق ، وغاية ماتقوم به من تأثير ذاتي أنّها تنقل النصيحة والموعظة لكن بدون الاستناد إلى أي دليل ، وبعبارة اخرى فإنّ القوانين بحد ذاتها لاتنطوي إلّاعلى بعد ذهني وفكري ، وحتى تكتسب قيمة اجتماعية تحتاج إلى أن تستند إلى قاعدة معينة تلزم أفراد المجتمع باتباعها والانصياع لها ، وهذه القاعدة هي التي يطلقون عليها عنوان «الضامن التنفيذي» أو «الضمانة التنفيذية».

يتضح جيداً من هذه المقدّمة أنّ قيمة القانون وصلاحيته متوقفة على مدى قوّة الضمانات لتنفيذ هذه القوانين وقدرتها ، فمتى ما كانت الضمانة الإجرائية لأحد القوانين أقوى وأدق كانت قيمتُهُ الاجتماعية أعلى وأكثر.

إنّ الكثير من الضمانات التنفيذية للقوانين تنطوي على آثار سيئة للغاية ، وتخلق مشاكل ومساويء على صعيد المجتمع ؛ وتؤدّي أحياناً إلى الاصطدام وانعدام الثقة ، وسوء الظن بين الأفراد ، أو أنّها تعكس القانون بشكل صارم ورهيب وهذه بحد ذاتها تعتبر خسارة كبرى.

ولو كانت الضمانة التنفيذية تستند إلى مجموعة من المباني الثقافية والأخلاقية والعاطفية ، لما اشتملت على أيٍّ من هذه المساويء.

إنّ العالم المعاصر ومن أجل تطبيق القوانين الوضعية يمر في دوامة قاتلة.

وهذه الدوامة ناشئة من عدم وجود ما يضمن تنفيذ هذه القوانين سوى العقوبات المادية

٢٠٠