نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

من البله والسذاجة بحيث لا يدركون الفرق بين عمل نمرود وبين الحياة والموت التي تحصل عن طريق الله.

ويقول : إن قصد نمرود هو قوله : أتراك تزعم أنّ الله يقوم بذلك من دون أيّة واسطة؟ هذا غير صحيح ، وإن كان ذلك يحصل عن طريق الاستفادة من عالم الأسباب ، فإنّ ذلك بإمكاننا أيضاً (١).

ولكن يبدو أنّ الفخر الرازي نسي هذه النقطة ، وهي : أنّ الجهلاء في كل عصر وزمان ليسوا قليلين ، خاصة المتملقين الذين يحيطون بحكام الجور والاستبداد والتجبر.

وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في حياة موسى وفرعون حيث حاول فرعون استغفال وخداع أهل مصر بكلماته الركيكة المضحكة ودعاهم إلى عبادته.

إن تفسير الفخر الرازي يلائم جماعة من الفلاسفة يجتمعون مع بعضهم ويصطنعون مثل هذه السفسطات ، أمثال لو كان الفاعل فاعلاً بالواسطة لكان كذا ولو كان بلا واسطة لكان كذا.

* * *

الآية الثامنة تعتبر إيجاد الحياة والموت أمراً خاصاً بالله ، شأنها شأن الآية الثالثة ، وتعتبر عودة جميع الخلق إلى بارئهم عزوجل.

* * *

وفي الآية التاسعة يخاطب الله تعالى المشركين بلهجة حازمة فيقول : (اللهُ الَّذِى خَلَقَكُم ثُمَّ رَزَقَكُم ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِّنْ شَىءٍ) ، هل بامكانهم إحياء شيء أو إماتته؟ أو رزقه؟ وما دامت كل هذه الأمور خاصة بالله ، فما لكم تشركون به : (سُبْحَانَهُ وَتَعالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

* * *

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٧ ، ص ٢٤.

٨١

وأخيراً وفي الآية العاشرة والأخيرة يطرح الله قضية حياة النباتات ، وهو وجهٌ مشرق ، جميل ومليء بالأسرار من وجوه الحياة ، ويعرض على البشر صورة الأراضي الميتة كيف يُلبس هذه الصحارى اليابسة الفاقدة للحياة لباسَ الحياة بزخة مطر واحدة أو عدة زخات ، فتتصاعد من كل جانب من جوانبها أنغام الحياة فتتجلى ساحة البعث والنشور في هذه البقعة.

وَيضيف في آخر الآية : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ، يسمعون انغام تحميد وتسبيح النباتات ويصغون بآذان قلوبهم لهمسات التوحيد من كل نبات يخرج من الأرض ويردد ذكر «وحده لا شريك له» : (انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).

* * *

توضيحان

١ ـ لغز الحياة الكبير

كشف تطور العلم والمعرفة البشرية النقابَ عن الكثير من الحقائق ، وأوضح العديد من قضايا هذا العالم الكبير ، ولكن كما أشرنا فعلى الرغم من ذلك فما زالت هنالك الكثير من الألغاز تواجه الإنسان ، وأحد أهم هذه الألغاز هو لغز الحياة ، القضية التي لم يُمَط اللثام عن وجهها لحد الآن رغم جهود ومساعي آلاف الّآلاف من العلماء والعقول المفكرة على مرّ التاريخ البشري ، وما زالت مستترة خلف ستار من الابهام.

واللطيف أن القرآن الكريم خاطب المشركين قبل أربعة عشر قرناً قائلاً : (يَا ايُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوْا لَهُ إِنَّ الَّذِيْنَ تَدْعُوْنَ مِنْ دُوْنِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيئاً لَّايَسْتَنْقِذُوْهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).

المثير أنّ عجز البشر اليوم عن خلق الذبابة بمقدار عجزه قبل أربعة عشر قرناً ، وعجزه أزاء هجوم الذباب والجراد وبقية الحشرات يصل إلى درجة عدم جدوى كل ما يستخدم من أجهزة التسميم والمكافحة الحديثة.

٨٢

قد يُقال : إنّ الإنسان صنع أجهزة قيّمة أكثر أهميّة من خلق الذباب كالسفن الفضائية والعقول الألكترونية المعقدة وأمثال ذلك.

ولكن هذا خطأ كبير وقياس باطل ، إذ ليس للسفينة الفضائية أو العقل الألكتروني أي نمو أو تحول ذاتي ويستحيل أن ينجب مثيله ، ولا يمكن من داخل نفسه ترميم ما يطرأ عليه من الأضرار ، فهو لا يُصلح قطعاته التالفة أبداً ، ويحتاج إلى الهداية والقيادة من خارجه ، والحال أنّ للذبابة من هذه الوجوه أفضلية واضحة على تلك السفينة الفضائية أو جهاز الكومبيوتر ، ولكن كثرة الذباب أدى إلى تصوره من قبلنا كموجود حقير ولا أهميّة له ، ولو كانت هنالك ذبابة واحدة فقط في العالم لاتّضح آنذاك مدى ما سيوليه العلماء لها من الاهتمام.

وفضلاً عن هذا فإننا لا نحتاج أساساً إلى هذه المفاضلة ، فالهدف هو إيضاح أن بناء الكائن الحي حتى لو كان خلية واحدة والتي أشرنا إليها إشارات واضحة في البحوث الماضية ، على قدر من الغموض والتعقيد بحيث يدلّ على أنّ صانعه ذو علم وقدرة غير متناهيين وذو اطلاع تام بقوانين الحياة المعقدة ، وبتعبير أصح أنّه هو الذي وضع هذه القوانين.

كيف يمكن أن تحتاج معرفة ظاهرة كهذه إلى كل هذا العقل والشعور ولا يحتاج صنعها إلى أي عقل أو شعور؟!

وهذا هو الأمر الذي نحن في صدد إثباته في هذه البحوث ، والذي يشكل هدف القرآن من الآيات المذكورة وآيات مشابهة أخرى.

نختم هذا الحديث بذكر نقطة ، وهي أنّ الحياة والعيش رغم أنّها من أبرز الظواهر ، ولكن حقيقتها غير واضحة لحدّ الآن لأحد ، إنّ ما نراهُ هو آثار الحياة التي تمثل (النمو والتحول والتغذية والتناسل ، والاحساس والحركة والتفكير) ، ولكن ما هي تلك الحقيقة التي تكون بمثابة المصدر لهذه الآثار؟ لا يعلم أحد بذلك لحد الآن ، وما زالت العقول في حيرة من ذلك.

* * *

٨٣

٢ ـ هل بامكان الإنسان صناعة كائن حي؟

لا شك أنّ الكائنات الحية وجدت في البداية من كائنات غير حية ، سواء حدث هذا الأمر على الكرة الأرضية أو على الكواكب السماوية الأخرى ، ولكن تحت أي ظروف؟ ووفقاً لأي معادلة حدثت هذه الطفرة العظيمة؟ إنّ هذا الأمر بقى مجهولاً لحد الآن ولم يتسن لأحد معرفته ، طبعاً أنّ البعض من العلماء يأملون بأنّهم سوف يكتشفون هذه المعادلة وهذه الظروف ، ويقولون : لعلنا في النتيجة نستطيع أن نصنع خلايا حية من مركبات غير حية.

لا أحد يعلم جدوى ومنطقية هذا الأمل؟ وهل سيتحقق مثل هذا الأمل عملياً في نهاية المطاف أم لا؟ وعلى فرض أنّ الإنسان سيكتشف ظروف بداية الحياة ومعادلتها وسوف يستطيع صناعة خلايا حية في داخل المختبرات ، ولكن يجب أن لا ننسى أن :

أولاً : إنّ هذا العمل حين يأتي عن طريق تقليد عالم الخلقة وتركيب المواد المختلفة مع بعضها لن يكون سوى ما يشبه الصناعات التجميعية التقليدية.

ثانياً : على فرض أنّ مشكلة صناعة الخلية الحية سوف تُحل ، ولكن تبقى هنالك مشكلة الكائنات المعقدة متعددة الخلايا ، كبنية الذبابة أو الجرادة أو الطائر أو الأسماك الكبيرة وأخيراً الإنسان ، فمن الذي يستطيع أن يوجد مثل ما ذكرنا عن طريق الصناعة؟

يقول أحد العلماء وهو «البروفسور هانز» : سوف يصل الإنسان بعد ألف سنة إلى سر الحياة ، ولكن هذا لا يعني أنّه سيستطيع صناعة ذبابة أو حشرة أخرى أو حتى خلية حية.

ثالثا : لنفترض أننا ضمنّا مثل هذه الأهداف بمعونة الهبة الإلهيّة المسماة بالعقل ، وتطورت العلوم وتقليد قوانين الطبيعة ، لكن هذا لن يكون له أدنى تأثير على ما نحن بصدد الوصول إليه ، لأنّه إن كان بالإمكان إيجاد خلية حية واحدة باستخدام كل هذه النماذج الموجودة والمواد الطبيعية الجاهزة يحتاج إلى كل هذا العلم والمعرفة ، فما مقدار العلم والمعرفة اللازمة لخلق أنواع متعددة من الموجودات الحية بلا نموذج أو مواد سابقة؟ هل يمكن أن نعتبر للطبيعة الجامدة الفاقدة للشعور والعقل دوراً في خلق هذه الموجودات؟

٨٤

وألفت انتباهكم إلى عبارة ظريفة عن «غرسي موريسن» رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتاب «سر خلق الإنسان» ، يقول :

«قال هيغل : أعطوني الهواء والماء والمواد الكيميائية والزمان وسوف أخلق بها إنساناً ، لكن هيغل نسي أنّه بحاجة إلى نطفة وجرثومة الحياة من أجل هذا المشروع أيضاً ، إنّه بعد أن يجمع الذرات اللامرئية ويرتبها إلى جانب بعضها ضمن نظام وترتيب خاص بخلقة الإنسان ، عليه أن يمنح الروح لهذا القالب! وعلى فرض أنّه وُفّق للقيام بكل هذه الامور الخارقة للعادة ، هنالك احتمال واحد فقط من بين ملايين الاحتمالات لخلق حيوان لم تشاهد عين الدهور شيئاً أغرب منه ، والأعجب هو أن هيغل لن يقول بعد الموفقية في هذا الأمر أنّ هذا الموجود العجيب ظهر بحسب الصدفة والحدث ، بل يقول : «إن ذكائي ونبوغي هو الذي خلقه» (١).

تارة يتصور بعض السذج أنّ بالإمكان تبرير ظهور الحياة عن طريق الحوادث والصدف الكثيرة ، والحال أننا لو أردنا ووفق حساب الاحتمالات حساب عملية ظهور ذرة واحدة من البروتينات ، ـ وهي إحدى المواد المكونة للكائنات الحية ـ عن هذا الطريق ، لما كفى عمر الكرة الأرضية لظهورها!

ول «جورج والد» أستاذ علم الأحياء في جامعة «هارفارد» كلام عن شروط ظهور الحياة واستحالة إمكان خلق الحياة بالصدفة والذاتية ، هذه خلاصتُهُ :

«من أجل تشكيل البروتين يجب التحام مئات أو آلاف الجزئيات «أحماض أمينية» بنِسب مختلفة وبأشكال متنوعة على شكل سلسلة ، وإن عدد أنواع البروتينات لا محدود حقاً ، لأنّه لا يمكن العثور على نوعين من الحيوانات يكون لهما نوع واحد من البروتينات ، إذن فجزيئات المواد العضوية تشكل مجموعة عظيمة لا حدود لتنوعها وتعقيدها يبعث على الحيرة ، ومن أجل صنع موجود حي واحد لا نحتاج إلى مقدار كافٍ ونسب معينة من أنواع البروتينات اللامتناهية فحسب ، بل يجب ترتيبها ترتيباً صحيحاً أيضاً ، أي أنّ بناءها

__________________

(١) سر الخلق ، ص ١٣٩ إلى ١٤١.

٨٥

له من الأهميّة ما لتركيبها الكيميائي من الأهميّة».

ثم يضيف : «إنّ بناء البروتينات معقد حقاً ، وإن اعقد الأجهزة التي صنعها الإنسان (كالعقل الألكتروني) هي بحكم الألعوبة مقابل أبسط الكائنات الحية! يكفي الإنسان أن يفكر في هذه العظمة لتتضح له استحالة الخلقة الذاتية أو بالصدفة» (١).

نختم هذا الكلام بحديث قيّم عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، وحديث رفيع المعاني عن أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام ، للإمام الصادق عليه‌السلام كلام مفصل قاله للمفضّل في حديث التوحيد المعروف بـ «المفضّل» حول خلقة الإنسان وأعضائه المختلفة ، يقول المفضّل :

سيدي : إنّ قوماً يقولون أنّه من صنع الطبيعة! فيجيب الإمام عليه‌السلام :

«سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال؟ أم ليست كذلك؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة ، فما يمنعهم من إثبات الخالق؟ فإنّ هذه صنعته ، وإن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمدٍ وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة ، عُلِمَ أن هذا الفعل للخالق الحكيم ، وأنّ الذي سمّوه طبيعة هو سُنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه» (٢).

ويقول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها ، وما كان من مُراحِها وسائمها وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلدة أممها ، وأكياسها ، على إحداث بعوضة ، ما قدرت على إحداثها ولا عرفت كيف السبيل إلى ايجادها ولتحيرت عقولها في علم ذلك» (٣).

* * *

__________________

(١) معرفة الحياة «شناخت حيات» ، ص ١١ (بالفارسية).

(٢) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ١٦٧.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦.

٨٦

٤ ـ آياته في خلق الروح

تمهيد :

الروح أيضاً من أعجب ظواهر عالم الوجود وأكثرها غموضاً ، ومع أنّها أقرب الأشياء إلينا إلّاأننا بعيدون جدّاً عن معرفتها وتشخيصها.

لم تتوقف جهود ومساعي العلماء والفلاسفة من أجل معرفة الروح في أي زمن من الأزمان ، واستطاعوا بفضل هذه الجهود أن يكشفوا اللثام عن بعض الأسرار ، ولكن الوجه والأسرار الخافية للروح لم تتغير لحد الآن ، وما زالت هناك الكثير من الأسئلة حول هذا الموضوع بدون جواب.

ومن هنا كان خلق روح الإنسان من الآيات المهمّة الدالة على علم وحكمة وتدبير الخالق.

وعلى هذا الصعيد نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة أدناه :

١ ـ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَها وَتَقْواهَا). (الشمس / ٧ و ٨)

٢ ـ (ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إلَّاقَلِيْلاً). (الاسراء / ٨٥)

٣ ـ (وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكةِ إِنّى خالِقٌ بَشَراً مِّنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِى فَقَعُوا لَهُ ساجِدِيْنَ). (الحجر / ٢٨ و ٢٩)

٤ ـ (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ). (المؤمنون / ١٤)

٨٧

٥ ـ (اللهُ يَتَوفَّى الأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍّ مُّسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ). (الزمر / ٤٢)

* * *

شرح المفردات :

إنّ مفردة «الروح» تعني في الأصل التنفس والنفخ ، ويعتقد بعض أرباب اللغة أنّ «الروح» اشتقت في الأصل من «الريح» بمعنى الهواء والنسيم والرياح ، وبما أنّ روح الإنسان أي ذلك الجوهر المستقل المجرّد ومصدر الحياة والتفكير هي جوهر لطيف تشبه من حيث تحركها ومنحها للحياة التنفس والنسيم ، فقد استعملت هذه المفردة للتعبير عنها ، بالاضافة إلى أنّ علاقة الروح بالجسم لها ارتباط وثيق بالتنفس ، لهذا استعملت هذه الكلمة في خصوص روح الإنسان.

يعتقد البعض أنّ المعنى الأصلي لهذه المادة هو «ظهور وحركة شيء لطيف» سواء كان في عالم الجسم أو في عالم الروح والمعنى ، ومن أجل هذا أطلقت هذه الكلمة أيضاً على ظهور مقام النبوة وقضية الوحي وتجلي نور الحق.

«الرَوح» : (على وزن قَوم) التي تعني السرور والفرح والراحة والنجاة من الغم والحزن ، وهي الاخرى مأخوذة من هذا المعنى ، كذلك يطلق على الالطاف والرحمة الإلهيّة «روح الله».

مفردة «الريحان» تستخدم في كلام العرب ل «الورد» من أجل رائحتها الطيبة المنعشة ونسيمها المعطر.

ومفردة «الرواح» بمعنى «طرف الغروب» حيث تعود الحيوانات إلى حضائرها لتستريح.

وعلى كل حال ، فإنّ مواضع استعمال هذه المفردة في القرآن الكريم متنوعة جدّاً ، فتأتي حيناً بمعنى ملاك الوحي ، وحيناً بمعنى الملاك الكبير من ملائكة الله الخُلّص (أو

٨٨

المخلوق الأفضل بين الملائكة) ، وتأتي أحياناً لتدل على القوة الإلهيّة المعنوية التي يسند الله المؤمنين بها ، وجاءت تارة بمعنى الروح الإنسانية ، وهذا ما أشرنا إليه في الآيات أعلاه (١).

«النَفْس» : يقول الراغب في المفردات : النفس بمعنى الروح ، وتأتي أحياناً بمعنى ذات الشيء ، و «النَفَس» (على وزن قَنَص) بمعنى الهواء الذي يدخل ويخرج من وإلى جسم الإنسان عن طريق الفم.

وقد أُطلقت مفردة «النفْس» هذه على الدم أيضاً ، لأنّ الدم إذا خرج من جسم الإنسان بمقادير كبيرة فارقته روحه ، وربّما أُطلقت هذه الكلمة على كل وجود الإنسان.

على أيّة حال ، فإنّ أحد المعاني المعروفة للنفس هو «الروح» التي ذكرت عدّة مرّات في القرآن الكريم.

١ ـ «النفس الامارة» التي تأمر الإنسان بالسوء : (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوء). (يوسف / ٥٣)

٢ ـ «النفس اللوامة» التي ترتكب الذنوب بعض الأحيان ثم تندم وتلوم نفسها : (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ). (القيامة / ٢)

٣ ـ (النفس المطمئنة) وهي النفس الواصلة إلى مرحلة الأطمئنان والراحة والطاعة التامة لأوامر الله والمشمولة بعناياته : (يَا ايَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* إِرْجِعِى إِلَى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً). (الفجر / ٢٧)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

الروح اعجوبة عالم الخلقة :

ورد في الآية الأولى من الآيات التي اخترناها لبحثنا هذا قَسَمٌ يختصّ بالروح الآدمية وخالقها.

__________________

(١) مفردات الراغب ؛ لسان العرب ؛ مجمع البحرين ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٨٩

ذلك الله الذي خلق الخلق ونظم القوى الروحية للإنسان إبتداءً من الحواس الظاهرية وهي مقدمة الإدراكات الروحية وانتهاءً بقوة التفكير ، الحافظة ، التخيل ، الإدراك ، الابتكار ، الإرادة والتصميم : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا).

وعلّمهُ طرق الهداية بعد تنظيم هذه القوى : (فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا).

مع أنّ القوى الروحية للإنسان متنوعة وكثيرة جدّاً ، ولكن القرآن هنا وضع إصبعه من بين كل تلك القوى على مسألة «إلهام الفجور والتقوى» (إدراك الحسن والقبح) ، لأنّ هذه المسألة لها تأثير كبير جدّاً في مصير الإنسان وسعادته وشقائه.

قلنا مراراً : إنّ القَسَمَ يدلّ على الأهميّة والعظمة ، أهميّة المُقْسَمِ به والمُقَسَمِ له ، خاصة القَسَمُ القرآني لحمل الناس على المزيد من التفكّر في آيات «العظمة» الإلهيّة.

فضلاً عن أنّ «النفس» في هذه الآية ذكرت بصيغة النكرة ، وهي في مثل هذه الموارد من أجل التأكيد على أهمية الموضوع أو كثرته (١).

* * *

تشير الآية الثانية إلى السؤال الذى طرح من قبل جماعة من المشركين أو أهل الكتاب ، حيث وفدوا على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسألوه عدة أسئلة كان أحدها عن الروح كما قال القرآن : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوْحِ).

ثم يأمر القرآن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلِ الرُّوْحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى).

إنّ في هذا الجواب غير المستبين إشارة عميقة إلى مدى غموض ومجهولية هذه الظاهرة الكبيرة في عالم الوجود ، ومن أجل أن لا يَقول أحد لماذا لم تظهر واحدة من أسرار الروح؟ يضيف الله في آخر الآية : («وَما أُوتِيْتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيْلاً).

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ١٠ ـ ص ٤٤٢ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ٣٠ ـ ص ١٤٢ ، وقد احتمل بعض المفسرين أن تكون «النفس» في الآية أعلاه إشارة إلى الروح والجسم كليهما ، مع أنّ عبارة : (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) تناسب الروح أكثر ، وكذلك الآية : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ...).

٩٠

وليس من العجيب أن لا تطلعوا على أسرار الروح بهذا «العلم القليل» و «المعرفة اليسيرة» (خصوصاً في ذلك الزمان وتلك البيئة).

روي عن أبن عباس في بعض الروايات أنّ قريش أرسلت بعض رؤوسها إلى علماء اليهود في المدينة وقالت لهم : إسألوهم عن محمد لأنّهم من أهل الكتاب ولهم من العلم ماليس لنا ، فجاؤوا المدينة وسألوا علماء اليهود ، فقال اليهود في جوابهم : إسألوه عن ثلاثة أمور : قصة أصحاب الكهف ، وَذي القرنين ، وقضية الروح ، فإنّ أجاب عن جميعها أو سكت عن جميعها فليس بنبي ، أمّا إن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي.

فعادت رؤوس قريش إلى مكة وعرضت الأسئلة على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقدّم لهم الرسول شرحاً وافياً حول ذي القرنين وأصحاب الكهف ، ولكنه فيما يخص السؤال عن الروح إكتفى بذلك الجواب المغلق بأمر من الله (١) ، ومع أنّ هناك تفاسير مختلفة لمعنى الروح في الآية أعلاه في روايات المعصومين عليهم‌السلام وكلمات المفسرين ، ولكن أغلب هذه التفاسير لا تتنافى مع بعضها ويمكن الجمع بينها ، والروح الإنسانية من جملة المفاهيم الداخلية في مدلول الآية المعنية (٢).

* * *

في الآية الثالثة كلام عن حوار الله مع الملائكة حول خلق البشر ، حيث يقول عزوجل مخاطباً الملائكة : (إِنَّى خالِقٌ بَشَراً مِّنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُّوْحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِيْنَ).

ثمّة نقطتان تثيران الاهتمام في هذه الآية ، الأولى إضافة روح الإنسان إلى الله إذ يقول :

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ١٥ ، ص ٢٤١ «قالت قريش لليهود أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل فقالوا : سلوه عن الروح فسألوه فنزلت : (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلّاقليلاً).

(٢) وردت في تفسير الميزان أقوال متعددة في هذا المجال ، منها أنّ المراد بالروح هي الروح الواردة في الآية الشريفة : (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً) ومنها أنّ المراد بها جبرائيل وقال بعض المفسرين : إنّها تعني القرآن ، وآخر التفاسير هو أنّ المراد بها الروح الإنسانية ، ثم يضيف : إنّ المتبادر من إطلاق الروح هو هذا.

٩١

«من روحي» ، وهذا دليل على منتهى عظمة وأهميّة الروح الإنسانية ، وهذا من قبيل الإضافة التشريفية حسب المصطلح ، كـ «بيت الله» و «شهر الله» التي تشير إلى أهميّة الكعبة وعظمة شهر رمضان المبارك ، وإلّا فإنّ كل مكان هو بيته وكل الأشهر أشهره.

والثانية أمر جميع الملائكة بالسجدة لآدم بعد نفخ الروح فيه ، وهذا برهان آخر على عظمة مقام الإنسان ، ذلك أنّ السجدة تفيد منتهى الخضوع ، فكيف لو كانت من قبل كل الملائكة؟ وهذه خير علامة على المقام الرفيع لآدم.

* * *

في الآية الرابعة وبعد الإشارة إلى خلق النطفة وتطورات الجنين والألبسة المختلفة التي يكسو بها الله هذه القطعة الصغيرة في مختلف المراحل ، يُغيّر عزوجل لهجة الكلام ويقول : (ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَر).

إنّ التعبير ب «الانشاء» (الايجاد) في هذه المرحلة وخلافاً للمراحل السابقة التي عبّر عنها بالخلقة ، إضافةً إلى استخدام «ثم» التي تستعمل عادةً من أجل الفصل يدل جميعُهُ على أنّ الخلق في هذه المرحلة يختلف تماماً عن المراحل السالفة ، وهذه علامة على أنّ المراد هو خلق الروح التي ترتبط بالجسم بعد تكامله.

والمثير أنّه يعبّر بـ «خلقاً آخر» وهو تعبير غامض ومُغلق ، خلافاً للتعبيرات السابقة التي يتحدث فيها عن «النطفة» و «العلقة» و «المضغة» و «العظام» و «اللحم» وهي مفاهيم معروفة جميعاً ، وهذا دليل آخر على اختلاف المرحلة الأخيرة عن المراحل الماضية.

ومن العجب أنّ بعض المفسرين ذكروا تفاسير لعبارة : «الخلق الآخر» لا تنسجم أبداً مع روح الآية ، من جملتها : أنّ المراد بانشاء الخلق الآخر هو ظهور الأسنان والشعر على الجسم (١)! في حين أنّ هذا لا يتناسب أبداً مع تعابير الآية ولا شك أنّ ظهور الأسنان والشعر

__________________

(١) روي هذا الاحتمال عن بعض المفسرين في تفسير روح المعاني ، ج ١٨ ، ص ١٤ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٧ ، ص ٤٥٠٢.

٩٢

ليس له من الأهميّة ما يوازي سائر تطورات الجنين المختلفة.

في نهاية الآية وردت جملة عجيبة أخرى تشكل دلالة أخرى على الأهميّة القصوى لخلق الإنسان في المرحلة الأخيرة أو في مجموع هذه المراحل ، يقول تعالى : (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فسبحان العليم الحكيم الذي أودع القابلية والجدارة في مثل هكذا موجود حقير.

«تبارك» : من مادة (بَرْك) بمعنى صدر الناقة ، وبما أنّ للناقة حين تضع صدرها على الأرض نوع من الثبات ، فقد جاءت هذه المفردة بمعنى «الثبات والدوام» ولأن كل نعمة كانت دائمة إزدادت أهميتها ، فقد سمّيت هكذا نعم بالمباركة.

إنّ استخدام هذه المفردة في خصوص الله إشارة إلى عظمة وقدسية وخلود ذاته المطهرة.

* * *

في الآية الخامسة والأخيرة من الآيات المعنية في بحثنا هذا يشير عزوجل إلى مسألة بقاء الروح ، بتعبيره : (اللهُ يَتَوَفّى الأَنْفُسَ حِيْنَ مَوْتِهَا).

وبلحاظ أن كلمة (يتوفّى) تعني القبض والاستلام الكامل ، و «الأنفس» هي الأرواح ، يتضح أنّ الروح ينفصل كلياً عن الجسم عند الموت وبأمر الله ، ولكن عند النوم يحصل هذا الانفصال بشكل ناقص : (وَالَّتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا).

ثم أشار إلى عدم عودة بعض الأرواح في حالة النوم وعودة البعض الآخر حتى أجل مسمى ، وأضاف : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١).

__________________

(١) يقول الفخر الرازي في تفسيرهِ وتعقيباً على هذه الآية : إنّ الله الحكيم جعل ارتباط الروح الآدمية بالجسم على ثلاثة أقسام : تارة يسطع شعاع الروح على جميع الأجزاء الظاهرية والباطنية للجسم ، وهذه حالة اليقظة ، وتارة يسحب هذا الشعاع من الأجزاء الظاهرية ويبقى في الباطنية وهذه حالة النوم ، وتارة يرتفع شعاعها عن الأجزاء الظاهرية والباطنية وتلك حالة الموت.

٩٣

يستفاد من هذه الآية وبكل سهولة أنّ الإنسان تركيب من الروح والجسم ، وأنّ الروح جوهر غير مادي ، وأنّ النوم درجة ضعيفة من الموت ودليل على ضعف الارتباط بين الروح والجسد.

ويستفاد أيضاً أنّ الموت لا يعني الفناء والهلاك ، بل هو نوع من البقاء واستمرار الحياة.

والنتيجة هي أنّ الروح الإنسانية بكل قواها وقدراتها التي تجعلها من أعقد وأعجب ظواهر عالم الوجود هي إحدى آيات الله الكبرى ، كيف يمكن أن يكون خالق كل هذا العلم والقدرة والفكر والذكاء والذوق والإبتكار والإرادة والتصميم هي الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور ولكل أنواع العلم والفكر والذكاء والإبتكار؟!.

بل على العكس ، فهذه القطرات والروافد الصغيرة علامة على وجود محيط كبير تنبع جميعها منه ، وهذه الاشعاعات الباهتة قبس من تلك الشمس الكبيرة.

* * *

توضيحات

١ ـ القوى الظاهرية والباطنية للروح

عَدَّ القدماء خمسة قوىً ظاهرية وخمسة قوىً باطنية للروح الآدمية ، أَمّا القوى الظاهرية فهي : حاسة النظر ، السمع ، الشم ، الذوق ، اللمس ، وهي نوافذ روح الإنسان نحو عالم المحسوسات والروابط بين ذلك الجوهر المجرد وعالم المادة.

إنَّ كل واحدة من هذه القوى عالم واسع مليٌ بالأسرار ، وكل واحدة من أدوات هذه القوى ، أي العين والأُذن واللسان والغدد الشَّمِّيَة والأعصاب الموزَّعة في كافة أنحاء الجلد ، آية من آيات الله تتضمن في داخلها عالماً من العلم والحكمة.

وقد عد الفلاسفة القدماء القوى الباطنية خمسة أيضاً :

١ ـ الحس المشترك.

٢ ـ الخيال ، والذي يعتبر ذاكرة الحس المشترك.

٩٤

٣ ـ القوة الواهمة التي تدرك مفاهيم من قبيل المحبة والعداء.

٤ ـ القوة الذاكرة التي تحفظ في داخلها الإدراكات الواهمة.

٥ ـ قوة التخيل التي تُصرّف المفاهيم والصور الجزئية الموجودة في خزانة الخيال والذاكرة فترسم صوراً مختارة لا وجود لها في الخارج.

وكل واحدة من هذه القوى الخمس هي عالم مليءٌ بالأسرار بحدّ ذاتها.

لكن علماء وفلاسفة اليوم لا يحددون القوى الظاهرية بتلك القوى الخمس المعروفة ، ولا القوى الباطنية بتلك القوى الخمس المذكورة ، إنهم يضعون للنفس الإنسانية قوى كثيرة ، ويعتبرون الروح الآدمية مخزناً عجيباً فيه أنواع القوى ومختلف الاذواق والقابليات والادراكات التي يختلف فيها أفراد البشر.

لقد وضع علم النفس والتحليل النفسي يده اليوم على مناطق غامضة ومبهمة من روح الإنسان واكتشف فيما اكتشف فيها عالماً جديداً وسرّياً باسم «الضمير الخفي» أو «ضمير اللاشعور» ووضع أمام أعين البشر المزيد من العجائب عن هذا الموجود المجهول.

* * *

٢ ـ الروح .. الظاهرة الخفية في عالم الوجود

مع أنّ القرآن الكريم يشرح الكثير من الجزئيات المتعلقة بالسماء والأرض والنباتات والحيوانات عند ذكره للآيات الإلهيّة سواء كانت آيات آفاق أو آيات أنفس ، لكنه حين يصل إلى قضية الروح لا يزيد على قوله : (قُل الرُّوحُ مِنْ أَمرِ رَبِّى وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيْلاً).

أو إنّه يقول : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا) أو يعبّر عنها بإِنشاء الخلق الآخر : (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر) ، أو إنّه ينسب الروح إلى نفسه فيقول : (وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِنْ رُوحِى).

إِنَّ كل هذه التعابير تحكي عن أن خلق الروح يختلف عن خلق بقية الموجودات ، وليس هذا إلّابسبب تعقيد قضية الروح وأسرارها العظيمة.

* * *

٩٥

٣ ـ نشاطات الروح المختلفة

للإنسان نشاطات روحية وفكرية عديدة ، سواء في الشعور أو في اللاشعور ، بحيث يمكن لكل واحد من هذه النشاطات أن يكون موضوع بحث مستقل في كتب متعددة (وغالباً ما كان) ، وقسم من هذه النشاطات على النحو التالي :

أ) «التفكير» من أجل الوصول إلى المجهولات ، أو بتعبير الفلاسفة حركة الفكر نحو المباديء ، ثم حركته الأخرى من المباديء نحو الأهداف والمراد.

ب) «الابتكار» من أجل حلّ مشاكل الحياة غير المتوقعة ، ومواجهة الحوادث المختلفة ، ورفع الاحتياجات المتنوعة والابداعات والاكتشافات والاختراعات.

ج) «الذاكرة» لحفظ أنواع المعلومات التي يحصل عليها الإنسان عن طريق الحس أو التفكير وتبويبها وخزنها ثم استذكارها عند الحاجة.

د) «التجربة وتحليل القضايا» من أجل معرفة علل وجذور الحوادث عن طريق فصل المفاهيم الذهنية عن بعضها ، ثم تركيبها ، ثم الوصول إلى علل ونتائج الحوادث.

ه) «التخيل» أي إيجاد صورة ذهنية قد لا تكون في بعض الأحيان موجودة في الخارج كمقدمة لفهم القضايا الجديدة.

و) «الإرادة والتصميم» لأجل القيام بالأعمال أو التوقف عنها أو تغييرها.

ز) «الإدراكات الفطرية والعقلية» وهي الأساس في الاستدلالات النظرية وغير البديهية.

ح) العشق ، الحب ، العداوة وعشرات الظواهر الروحية الأخرى ذات التأثيرات الإيجابية أو السلبية في أفعال الإنسان.

وبالطبع فهذه القضايا ليست منفصلة عن بعضها ، بل هي متمركزة جميعها في داخل روح الإنسان ، إنّها أمواج من هذا المحيط اللامتناهي ، وأنوار من هذه الشمس الساطعة ، وهذا مايدل على أنّ الروح الآدمية أرفع آيات الله وأهم علاماته.

وفي قول القرآن الكريم إشارة إلى هذه الحقيقة : (وَفِى الأَرضِ آياتٌ لِّلمُوقِنِينَ*

٩٦

وَفِى أَنفُسِكُم أفَلا تُبصِرُونَ). (الذاريات / ٢١)

ولا نذهب بعيداً فإنَّ الذاكرة الإنسانية التي تمثل أرشيفاً للمعلومات المختلفة على درجة من الغرابة والعجب بحيث لو أننا أردنا توظيف مئات الأشخاص لحفظ وظرافة وترتيب معلومات أحد الأشخاص لاستحال عليهم القيام بنشاط الذاكرة بهذه السرعة والدقة.

ولو سلبت منّا الذاكرة لساعة واحدة لما أمكنتنا الحياة ، فلا نضلُّ الطريق إلى منازلنا فحسب ، بل سيصيبنا النسيان حتى في أن نضع اللقمة في فمنا عند تناول الطعام ، سيكون كل شيء بالنسبة لنا مجهولاً ووحشياً وغريباً ومُحيراً.

فقد أحد الشباب جزءً من ذاكرته نتيجة حادث سير أصابه بضربة دماغية ، وعندما حملوه إلى بيته أنكر بيته! وقال : إنّ هذه هي المرة الأولى التي أضع فيها قدمي هنا! بل حتى أمه كان يتصورها امرأة غريبة ، وبدت اللوحة الفنية التي رسمها بيديه مجهولة تماماً في عينيه ، وكان يقول : إنّها اول مرّة أراها.

إنّنا نحمل في أرشيف ذاكراتنا صوراً لآلاف الموجودات وآلاف آلاف البشر وآلاف آلاف المواد المختلفة وآلاف آلاف الخواطر واللقطات وآلاف آلاف المعلومات المختلفة الاخرى ، والعجيب أنّ استحضار احدى الخواطر لا يحتاج أكثر من واحد بالألف من الثانية من أجل أن يستطيع الإنسان الانتباه إلى خاطرة معينة من بين معلوماته المبوبة التي مضت عليها لحظة أو سنة أو خمسون سنة ، خاصة وأنّ العلماء يشيرون إلى إحدى الأعمال المحيرة للذاكرة والتي يسمونها «معجزة الذاكرة» وهي بالترتيب الآتي :

كثيراً ما ينسى الإنسان إسم شخص أو موضوع ثم يجهد ويحاول أن يتذكره ويقلّب رفوف أرشيف ذاكرته واحداً بعد الآخر ولكن دون جدوى.

حسناً ، إن كان الإنسان يعلم ذلك الاسم أو الموضوع ، فلماذا يبحث عنه؟ وإن لم يكن يعلمه فكيف يبحث عن شيء لا يعلمه؟ أفيمكن أن يبحث الإنسان عن ضالة لا يعرف ما هي أو من هي؟!

٩٧

ومع هذا فيصدق على ذاكرة الإنسان أن تبحث عند النسيان عن ضالة لا تعلم ما هي؟ وفجأة تصل إلى الرف الذي يحمل ضالتها فتعثر عليها (١).

وهنا توجد نقطة دقيقة يكمن فيها الحل المذهل للقضية ، وهي : في مثل هذه المواضع لا يبحث الإنسان عن ذات ذلك الاسم أو الموضوع الذي لا يعرف ما هو بل من أجل العثور عليه تراه يبحث عن مجموعة الحوادث التي يعلم بشكل إجمالي أنّه اختزنها في ذهنه بمعية الاسم المطلوب (لأنّ الحوادث المختلفة تُخْتَزَنُ على شكل مجموعات مجموعات) ، فمثلاً هو يعلم أنّه تعرف لأول مرّة على الشخص المعني الذي نسي أسمه في اليوم الفلاني والمحل الفلاني ، لذلك يطلب من أرشيف الذاكرة وبشكل فوري إضبارة ذلك اليوم وذلك المحل ويتصفحها بسرعة البرق ليعثر في طياتها على اسم ذلك الشخص.

ونختم هذا الكلام بحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام وَرَدَ في توحيد المفضل ، يقول : «تأمل يا مفضّل هذه القوى التي في النفس وموقعها من الإنسان ، أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك ، أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظَ وحده كيف كانت تكون حاله؟ وكم من خلل كان يدخل عليه في اموره ومعاشه وتجارته إذا لم يحفظ ماله وما عليه وما أخذه وما أعطى ، وما رأى وما سمع ، وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به ، وما نفعه ممّا ضره ، ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يُحصى ، ولا يحفظ علماً ولو درسه عمره ، ولا يعتقد ديناً ، ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئاً على ما مضى ، بل كان حقيقاً أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً».

ثم يضيف الإمام : «وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان ، فإنّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة ولا انقضت له حسرة ، ولا مات له حقد ، ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ..» (٢).

* * *

__________________

(١) الاقتباس من كتاب «حافظة» من سلسلة «چه مى دانم» (بالفارسية).

(٢) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٨٠ و ٨١ (بشيء من التلخيص).

٩٨

٤ ـ مقارنة عقل الإنسان بالعقول الألكترونية

في بعض الأحيان يقارن البعض من عديمي الاطلاع بناء روح وفكر الإنسان وعقله ببناء العقول الالكترونية ، والحال أنّ الفرق بينهما اكبر من الفرق بين الطائرة اللعبة التي يلعب بها الأطفال وطائرة عملاقة حقيقية! والسبب هو :

إنّ نشاط العقول الالكترونية محدود بحدود حافظتها فقط ، وحافظتها هي تلك التي يغذيها الإنسان بالمعلومات ، ولذلك ليس لها وراء حدود هذه الحافظة المحدودة أي نشاط على الاطلاق.

وفضلاً عن أنّ العقول الألكترونية تفتقر لأي نوع من أنواع الإبتكار والتفكير أزاء إحدى الحوادث الجديدة مهما كانت بسيطة ، كردّ الفعل مقابل هبوب الرياح الشديدة مثلاً ناهيك عن الإبتكار والإبداع في القضايا المهمّة والمعقدة.

ثم حتى لو افترضنا صحة المقارنة بينهما فَأي عقل يصدق أن صناعة العقل الالكتروني الذي يُعد أُعجوبة الصناعات البشرية ، قد تمت على يد إنسان أمي أو أعمى أو أصم أو مجنون؟

أفيمكن للطبيعة الفاقدة للروح والعقل والتفكير والابتكار أن توجد الروح والعقل والابتكار؟ ومن هنا نقول : إنّ في داخل روح الإنسان الآلاف من آيات الخالق وعلاماته.

* * *

٥ ـ أصالة واستقلال الروح

مع أنّه لا يوجد بالنسبة لنا فرق في البحوث المتعلقة بآيات الله بين أن تكون روح وفكر الإنسان جوهراً مستقلاً ومجرداً عن المادة ، أو مرتبطاً بها ومن آثارها (وهذا هو الجدل المعروف بين الفلاسفة الإلهيين والماديين) ، ولكن لا شك أنّه متى ما ثبتت أصالة واستقلال الروح اكتسبت هذه الآية الإلهيّة مزيداً من التأثير والجاذبية.

يصر الماديون على أنّ الروح والفكر من الخواص «الفيزو كيميائية» للخلايا الدماغية

٩٩

والتي تزول تماماً بفناء الجسم ، والحال أنّ للروح والفكر الآدمي ظواهر لا يمكن تفسيرها بالتفاسير المادية أبداً.

فمثلاً يجد كل شخص حقيقة في داخله تسمى «الأنا» ، وهي واحدة ليست أكثر منذ بداية العمر حتى نهايته ، «أنا» منذ الطفولة وحتى الآن شخص واحد لم أزدد ولم أتغير ، وسأبقى أنا ذلك الشخص إلى آخر العمر ، بالطبع درست وتعلمت القراءة والكتابة ولهذا فقد حصلت وعلى نسبة من التكامل ، لكنني لم أتحول إلى إنسانٍ آخر ، بل ما أزال ذلك الشخص السابق.

في حين إذا أخذنا الأجزاء المادية للجسم نرى أن جميع تلك الذرات في حال تغيّر وتبدل ، وأنّ جميع خلايا الجسم تتغيّر كل سبعة أعوام مرّة واحدة تقريباً ، أي أنّ الشخص البالغ من العمر سبعين سنة أصابه تبدل في أجزاء جسمه المادية عشرة مرات ، رغم أنّ «الأنا» (شخصيته الإنسانية) ثابتة لم تتغير ، وهذا يدل على أن حقيقة «الأنا» حقيقة ما وراء المادة ولا تتغير بتغيرات المادة.

فضلاً عن أنَّ في أذهاننا حقائق مخزونة تكون أكبر من مخنا وخلايانا المخية آلاف الآلاف من المرات ، تصور السماوات والمجرّات ، الشمس والقمر وغيرها ، فَمن المستحيل أن تكمن هذه الصور الكبيرة في الجزء المادي من وجودنا ، ولا سبيل إلّاأن تنعكس في الجزء غير المادي أي الروح ، لأنّ الجزء المادي أي المخ ليس إلّاموجود صغير.

وعلاوة على هذا فإنّ الظواهر المادية تقبل التجزئة والقسمة جميعاً في حين توجد بين مفاهيمنا الذهنية مفاهيم لا تقبل التجزئة إطلاقاً.

إنّ خصوصية «تصوير الواقع» والاطلاع على العلم الخارجي بالنسبة لنا ، والموجودة في علومنا ومعارفنا ، هي حقيقة لا يمكن تبريرها عن طريق الخواص «الفيزو كيميائية» للمخ.

وهذه البراهين الأربعة وبراهين واضحة أخرى تدل بجلاء على أنّ الروح جوهر مستقل ومجرّد من المادة (١).

__________________

(١) من أجل مزيد من الشروح راجع ، ذيل الآية ٨٥ من سورة الإسراء من «التفسير الأمثل».

١٠٠