نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

باردٍ وخالٍ من الأثر ، بشكلٍ دائمٍ ، وإذا قارنّا قيمة الطاقة التي نحصل عليها من الشمس مع قيمة مصادر الطاقة الاخرى فلابدّ أنْ تدفعَ البشرية اموالاً عِوَضاً عن النور والحرارة التي تستلمها من الشمس مقارنةً مع ثمن «الكهرباء» بمقدار (ملياراً و ٧٠٠ ألف دولار كل ساعة).

عندئذٍ يجب أن نفكِّرَ كم ستكون هذه الميزانية على مدى سنةٍ كاملةٍ؟

وبتعبيرٍ آخر ، لو أرادَ أهلُ الأرض تأمين الحرارة التي تمنحُها إيّاهم الشمس ، عن طريق شراء الفحم الحجري فيجب عليهم توفير ٦١ الف مليار طن منه سنوياً ، أو بعبارة اخرى توفير ٢٠ ألف طن لكل شخص ، أيّ تأمين ميزانيةٍ باهضة.

٣ ـ نحنُ نعلمُ أنّ ضوء الشمس يتركبُ من ٧ ألوان مُزجت مع بعضها وظهرت على هيئة هذا النور الأبيض والشعاع الحالي ، وهذا النورُ يُعتَبرُ عاملاً مساعداً للنباتات حيثُ يمتصُ غاز ثاني اوكسيد الكاربون من الجو ويطرحُ في المقابل غاز الاوكسجين الذي هو عِمادُ حياتنا ، فهو يساعد النباتات في نموها بسحب ثاني اوكسيد الكاربون.

ونحنُ نميزُ الأشياء حسب العادةِ عن طريق ألوانها ، وهذه الألوان تحصلُ في شعاع الشمس ، لأنَّ كلَّ موجودٍ يقوم وحسب تكوينه بامتصاص جانبٍ من ألوان الشمس فنطلقُ على اللون الذي لم يُسحبْ لونَ الشيء ، أي أنّ الورق الأخضر للنباتات يمتص جميع ألوان الشمس عدا اللون الأخضر ، إذن فنورُ الشمس هو الذي يُظهرُ جميع الألوان.

٤ ـ إنَّ الاشعةَ فوق البنفسجية والتي هي من اشعاعات الشمس تُفيدُ في القضاء على ٩٠ خ من الجراثيم ، وتقوم بدورِ منعِ التعفن بنجوٍ تامٍ ، ولولاها لتبدَّلت الأرضُ إلى مستشفىً كبيرٍ ، ولعلَّ أشعة الشمس اعتبرت لهذا السبب من المطهرّات في الإسلام «مع شروط خاصةٍ طبعاً».

٥ ـ لقد استطاعَ العلماءُ من خلال استخدامهم للعدسات المحدبة الفخمة من توليد حرارةٍ هائلةٍ بامكانها تشغيل المصانع المهمّة ، ولعل الكثير من المؤسسات الصناعية الحسّاسة سيتم تَشغيلها في المستقبل القريب بالاستفادة من نور الشمس ، وتحلُّ الطاقةُ

١٦١

الشمسية عندئذ محلَّ الكهرباء في البيوت.

٦ ـ إنَّ تكوُّنَ الغيوم نتيجةً لسقوط أشعة الشمس على سطح المحيطات وهبوب الرياح نتيجةً لاختلاف درجات الحرارة على الأرض بسبب أشعة الشمس ، ثم حركة الغيوم نحو اليابسة وهطول الأمطار التي تبعث الحياة ، هي احدى الفوائد المهمّة للغاية لنور وحرارة الشمس.

٧ ـ إنّ حركة الشمس المنظمة في أبراج السماء (الصور الفلكية) وشروقها وغروبها المنهجي الّذي يجري بنظامٍ وتعاقب دقيقٍ ومحسوبٍ على مدى أيام السنة ، إضافة إلى مساعدتها في تكوين الفصول المتعددة ، فهي تساعد في إيجاد تقويمٍ وحسابٍ منظمٍ للزمان الضروري جدّاً للحياة الاجتماعية للبشر (١).

* * *

٣ ـ القمر وبركاته

إنَّ القمر كوكبٌ صغيرٌ نسبياً فهو اصغر من الأرض ب (٤٩ مرَّة) وفقاً لحسابات العلماء ، لهذا فانَّ قوة جاذبيته تعادل ٦ ١ قوة جاذبية الأرض ، ومتوسط بُعده عن الأرض أكثر من ٣٨٤ الف كيلومتر ، لذلك فانَّ نور القمر يصل إلينا خلال أكثر من ثانيةٍ واحدةٍ بقليل.

وتَبلغ سرعةُ حركته في دورته حول الأرض كيلو متراً واحداً في الثانية ، ويدور حول الأرض مرّة واحدة على مدى شهرٍ قمرىٍّ واحد أي «أكثر من ٢٩ يوماً بقليلٍ» ، ويدور حول نفسه أيضاً مرّةً واحدةً خلال نفس هذه الفترة ، وبما أنّ هاتين الحركتين متناسقتان فإنَّ جانب القمر الذي يقابل الأرض يكون ثابتاً على الدوام ، ولا عجبَ إذا قُلنا إنَّ نورَ القمر حين اكتمالهِ ليلة البدر أقلُ من ضوء الشمس ب (٤٦٠) ألف مرّة ، إلّاأنّ هذا النور الضئيل

__________________

(١) فكما قلنا إنَّ السبب الرئيسي لحصول هذه الامور هو في الواقع دوران الأرض حول الشمس ، ولكن بما أنّ حركة الشمس هي التي تُرى كسببٍ لهذا حسب الظاهر ، فإنّ القرآن الكريم يعتبر كلا من الشمس والقمر (حسبان) أي (وسيلةً للنظام والحساب) ـ الأنعام ، ٩٦.

١٦٢

يضيء الليالي المقمرة ، ويظهر كمصباحٍ جميلٍ كثيف الشعاع ومُريح للفؤاد وبمنظرٍ شاعريٍّ محبَّب.

ولم تكن الإشارة إلى القمر في الآيات السابقةِ فقط ، فقد تمت الإشارة إلى القمر وبركاته وفوائده في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم ، ووردَ القَسَمُ به في آياتٍ اخرى أيضاً ، وجاء الحديث عن «القمر» في ما مجموعه ٢٧ آية من القرآن الكريم ، واشيرَ إلى تسخير القمر في سبع آياتٍ من هذه الآيات التي تُبيِّنُ أهميّة فوائده في حياة البشر (١).

إنَّ فوائد وبركات القمر كثيرةٌ للغاية ، حيث نشير هنا إلى عددٍ منها :

١ ـ إنّ دوران القمر حول الأرض يُشكِّلُ تقويماً طبيعياً لطيفاً ، وقد مرَّ شرحُهُ في الأبحاث السابقة.

٢ ـ إنّ الضياء المناسب الذي يمنحه القمر بالرغم من أنّه لا يزيل ظلمةَ الليل كُليّاً (ولا ينبغي أن يزيلها لأنَّ نفس الظُلمةِ لها فلسفة مهمة) ، ولكن يُمكن أن يساعد الإنسان إلى حدٍ ما في الكثير من الليالي على اكتشاف طريقه في المدن والصحارى والبحار ، لا سيما أنّ نور القمر مناسبٌ وملائم بحيث لا يزعجُ الإنسان والموجودات الاخرى أثناء النوم والراحةِ ليلاً ، بل يشعر الإنسان باطمئنان خاصٍ من خلال نور القمر.

٣ ـ إنّ مسألةَ المدِّ والجزر في البحار إحدى الآثار البارزة لوجود القمر ، فالذين ذهبوا إلى البحار كان بامكانهم ملاحظة هذا الأمر في الليل والنهار حيث يرتفع وينخفض منسوبُ المياه مرّتين كل يوم ، ويُعبَّرُ عن ذلك بالمد والجَزر ، ويستمر كلٌ منهما لمدة ٦ ساعات تقريباً.

فأثناء المدِّ يرتفعُ منسوبُ المياه ويغطي معظم سواحل البحر ، وخلال الجزر تنكشف سواحل البحار.

ولهذا المدّ والجزر فوائد مهمّة في حياة البشر منها : تراجع مياه الأنهار التي تصب المياه العذبة في البحار ممّا يؤدّي إلى ري الأراضي الواسعة عن طريق ذلك كما يشاهد في بساتين

__________________

(١) الاعراف ، ٥٤ ؛ الرعد ، ٢ ؛ ابراهيم ، ٣٣ ؛ النحل ، ١٢ ؛ لقمان ، ٢٩ ؛ فاطر ، ١٣ ؛ الزمر ، ٥.

١٦٣

النخيل الساحلية الواسعة في خوزستان.

ومن الفوائد الاخرى للمد والجزر هي حركة المكائن في المصانع ونشاط المولدات الكهربائية ، وكذلك الإبحار ، حيث إنّ السفن الكبيرة تستطيع خلال المد أن ترسو في معظم السواحل حيث يتمّ تحميل وتفريغ حمولتها ، وتنظيف الموانيء ، وصيد الأسماك ، وتحريك مياه البحر وموازنة حرارته ومركباته أيضاً وامور اخرى (١).

* * *

٤ ـ الشمس والقمر في كلام الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام

عندما تقع عين الإمام السجّاد عليه‌السلام على القمر فهو يخاطبه ، وهذه الكلمات درسٌ في التوحيد ومعرفة الله حيث يقول :

«أيها الخلق المطيع! الدائب السريع المتردّد في منازل التقدير المتصرف في فلك التدبير ، آمنت بمن نوَّر بك الظلم ، وأوضح بك البُهم ، وجعلك آية من آيات ملكه ، وعلامة من علامات سلطانه ... سبحانه ما أعجب ما دبّرَ في أمرك ، وألطف ما صنع في شأنك جعلك مفتاح شهر حادث لامرٍ حادث ...» (٢).

وفي توحيد المفضّل عن الإمام الصادق عليه‌السلام :

«فكّر يا مفضل في طلوع الشمس وغروبها لاقامة دولتي النهار والليل ، فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه فلم يكن الناس يسعون في معايشهم ، ويتصرّفون في امورهم ، والدنيا مظلمة عليهم ولم يكونوا يتهنأون بالعيش مع فقدهم لذة النور وروحه ، والإِرب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الإِطناب في ذكره ، والزيادة في شرحه ، بل تأمّل المنفعة في غروبها ، فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء والراحة ...

__________________

(١) اعجاز القرآن في نظر العلوم المعاصرة ، ودائرة المعارف للمصاحف وكتب اخرى.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥٨ ، ص ١٧٨ ، ح ٣٦.

١٦٤

ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما في ذلك من التدبير والمصلحة ...

فكّر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر لإقامة دور السنة ... وفي هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات والثمار ، وتنتهي إلى غاياتها ، ثم تعود فيستأنف النشوء والنمو ...

انظر إلى شروقها على العالم كيف دّبر أن يكون ، فانّها لو كانت تبزغُ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات.

أفلا يرى الناس كيف أنَّ هذه الامور الجليلة؟ التي لم تكن عندهم فيها حيلة صارت تجري على مجاريها ، لا تعتل ولا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه؟

استدلّ بالقمر ، ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور ، ولا يقوم عليه حساب السنة ... فكّر في انارته في ظلمة الليل والإرب في ذلك ، فانّه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها فلا يمكن فيه شيء من العمل ، لأنّه ربّما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في تقصّي الأعمال بالنهار ، أو لشدّة الحر وافراطه ... وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض ، ونقص مع ذلك من نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار ، ويمتنعوا من الهدوء والقرار ... (١).

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٥ ، ص ١٧٥ ، ح ٣٦ «مع الاختصار».

١٦٥
١٦٦

٩ ـ آياتُهُ في خلقِ الليل والنهار

تمهيد :

بالرغم من أنّ الليل والنهار من الظواهر التي تحصل نتيجة لضوء الشمس وحركة الأرض ، ويعتبران من بركاتهما ، لكن نظراً لاهتمام القرآن بهما في آيات التوحيد بشكلٍ خاص ، واستناده إلى هاتين الظاهرتين في الكثير من الآيات ، لذلك من الواجب الاهتمام بهما بشكل مستقل ، كي نرى فيهما آيات تلك الذات غير المعلومة ، ونتعرفُ أكثر على خالقِ وإله عالم الوجود ، ونزداد حباً له ، ونتشرف بالنظر إلى حضرته المقدَّسة.

بعد هذا التمهيد نقرأ خاشعين الآيات الاثنتي عشرة الآتية :

١ ـ (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ). (الانبياء / ٣٣)

٢ ـ (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِى الأَبْصَارِ). (النور / ٤٤)

٣ ـ (هُوَ الّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسكُنُوا فِيْهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَسْمَعُونَ). (يونس / ٦٧)

٤ ـ (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمْسُ والْقَمَرُ). (فصلت / ٣٧)

٥ ـ (وَجَعَلْنَا اللَّيلَ وَالْنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّنْ رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِيْنَ والْحِسابَ). (الاسراء / ١٢)

٦ ـ (وَجَعَلْنَا اللَّيلَ لِبَاساً* وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعَاشاً). (النبأ / ١٠ و ١١)

٧ ـ (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّر أَو أَرَادَ شُكُوراً). (الفرقان / ٦٢)

١٦٧

٨ ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ). (النحل / ١٢)

٩ ـ (إِنَّ فِى اخْتِلَافِ اللَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِى السَّمَواتِ وَالأَرضِ لَآيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَّقُونَ). (يونس / ٦)

١٠ ـ (قُلْ ارَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إلى يَومِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيْكُمْ بِضِياءٍ أفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ ارأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلى يَومِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأتِيْكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيْهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ* وَمِنْ رَّحمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ والنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (القصص / ٧١ ـ ٧٣)

١١ ـ (وَاللَّيلِ إِذا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى). (الليل / ١ ـ ٢)

١٢ ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُوْلِجُ اللَّيلَ فِى النَّهَارِ وَيُوْلِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وأَنَّ اللهَ سَمِيْعٌ بَصيْرٌ). (الحج / ٦١)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

النظام العجيب اللّيل والنّهار :

لقد تكرّرت كلمة «الليل» في القرآن الكريم أكثر من «٧٠» مرّة ، وكلمة «النّهار» أكثر من «٥٠» مرّة ، والآيات السابقة تُعتبر نماذج مختلفة لهذه الآيات ، حيث تمّت الإشارة فيها إلى البعد التوحيدي لخلق الليل والنهار على وجه الخصوص.

ففي الآية الاولى ذُكرَ اصلُ خلقِ اللّيل والنهار ، والشمس والقمر ، اللذين يرتبطان بهما بعلاقةٍ قريبةٍ كبرهانٍ لسالكي خط التوحيد ومعرفة الله ، حيث يقول : (هُوَ الَّذِى خَلَقَ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ).

وجاء هذا المعنى بنحوٍ آخر في الآية الرابعة ، إذ يقول : (ومِنْ آياتِهِ اللَّيلُ والنَّهَارُ وَالشَّمسُ وَالقَمَرُ).

١٦٨

في الوقت الذي يقول في الآية الثانية : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِى الأَبْصَارِ).

وقد يكون هذا التغيير في التعبير إشارة إلى حصول اللّيل والنّهار ، أو زيادة ونقصان مقداريهما ، أو اختلافهما من حيث البرودة والحرارة الذي يحدث خلالهما (١) ، ولكن لا مانع من شمول هذا التغيير كل هذه المعاني أبداً.

* * *

وأشار في الآية الثالثة إلى احدى فوائد «اللّيل» و «النهار» المهمّة ، حيث يقول : (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِتَسْكُنُوا فِيه وَالنَّهارَ مُبصِراً).

والواضح أنّ الاطمئنان في ظلمة الليل أحدُ أهمِ النعم الإلهيّة ، كما أنّ نور النّهار الضروري لمختلف النشاطات يُعتبر نعمةً مهمةً اخرى.

والملاحظ في هذه الآية أنَّ النَّهار اعتُبرَ «مُبصراً» ، والمُبصرُ في الأصل تعني البصير ، ونحنُ نعلمُ أنّ النّهار ليس بصيراً في نفسهِ ، ولكن بما أنّه يؤدّي إلى أن يُبصرَ الآخرون ، فلعلَّ هذا التعبير اطلِقَ عليه للتأكيد والمبالغة.

وفي الحقيقة لولا بريق النّور فلا فائدةَ لألف عينٍ مبصرةٍ ، لهذا فهو يضيف في ختام الآية : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَسْمَعُونَ) ، أي اولئك الذين يستمعون هذه الآيات ويتفكرون فيها.

* * *

في حين أنّه يعتبر كلاً من الليل والنّهار في الآية الخامسة آيةً من آيات الله تعالى ويقول : (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهارِ مُبصَرةً) ، ثم يشير إلى فائدتي ذلك حيث يقول :

__________________

(١) وردت هذه الاحتمالات الثلاثة في تفسير روح المعاني ، ج ١٨ ، ص ١٧٣ ، وتفسير الكبير ج ٢٤ ص ١٥ ، ولكن ذُكر التفسير الأول والثاني فقط في تفسير مجمع البيان ج ٧ ص ١٤٨.

١٦٩

(لِتَبتَغُوا فَضْلاً مِّنْ رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السَنِينَ والْحِسَابَ).

فهل أنّ فوائد النهار تقتصر على ابتغاء فضلِ الله ومعرفة حساب السنة والشهور من آثار الليل والنّهار معاً؟ أم أنّ كلا المنفعتين لهما علاقةٌ وثيقة بالليل والنهار معاً؟ لأنَّ الراحةَ في اللّيل لها أثرٌ واضحٌ في إمكانية العمل والابتغاء من فضل الله نهاراً ، والظاهر أنَّ المعنى الثاني أكثر تناسباً من حيث تناسقه مع الآية ، بالرغم من أنّ العديد من المفسرين ذكرَ المعنى الأول.

* * *

وفي الآية السادسة إشارة إلى هذا المعنى وبنحوٍ آخر حيث يقول : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً ـ والنَّهَارَ مَعَاشاً).

وقد يكون «المعاش» اسم زمانٍ أو مكانٍ أو مصدراً ميمياً ، وهو يلائم المعنى المصدري (١).

ووصف الليل ب «اللباس» يعتبر من التعابير اللطيفة جدّاً ، حيث إنَّ الليل كاللباس بالنسبة لنصف الكرة الأرضية ، وهو كذلك بالنسبة للإنسان ، فكما أنّ اللباس يحفظ جسم الإنسان من بعض الاضرار ويمنحه جمالاً ورونقاً ، فانَّ ظلمةَ الليل والنوم العميق أثناء اللّيل يمنح روحَ الإنسان وجسمه طراوةً ونشاطاً ويصونه من مختلف الأمراض.

* * *

والحديث في الآية السابعة عن استخلاف الليل والنّهار لبعضهما البعض ، فيقول : (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً).

__________________

(١) قال بعض المفسرين : إنّ التعبير ب «المعاش» أي «الحياة» بخصوص النهار هو لأجل أنّ النوم في الليل يشبه الموت كما يقول العرب في أمثالهم «النوم أخُ الموت» ، وعليه فانَّ النقطة المقابلة له اي النهار هو أساس الصحوة والحياة ، (الحياة بكل أبعادها).

١٧٠

و «خِلْفَة» : على وزن «فِتنه» ، وكما يقول الراغب في «المفردات» فانّها تُطلقُ على شيئين يخلف أحدُهما الآخرَ باستمرار ، لكن «خلفة» تعني «مختلف» وفقاً لرأي الفيروز آبادي في «قاموس اللغة» ، ففي الحالة الاولى ينصبُّ الاهتمام على تناوب الليل والنّهار ، فلو لم يكن هذا التناوب دقيقاً ومحسوباً ، فإمّا أنْ تحترق موجودات الأرض من شدة حرارة ضوء الشمس أو تنجمد منْ شدةِ البرودة ، وفي الحالة الثانية إشارة إلى اختلاف اللّيل والنّهار وحصول فصول السنة الأربعة التي لها آثار خاصة في حياة الإنسان.

واختار بعضُ المفسرين المعنى الأول ، بينما ذهبَ البعضُ الآخر إلى المعنى الثاني ، ولكن ليس هنالك من مانعٍ في الجمع بين هذين المعنيين.

وورد في الروايات أنّ الإنسان يستطيع أن يقضي في النّهار ما فاته من عبادات الليل وبالعكس ، واعتُبِر أنّ الآية تشير إلى هذا المعنى (١).

ولا يتعارض هذا التفسير مع التفاسير السابقة أيضاً ، وعلى أية حالٍ ، فانَّ الآية تشير إلى نظامٍ خاصٍ ومتناوبٍ لظاهرة لليل والنّهار حيث تدلل على العلم والقدرة اللامتناهية للخالق جلَّ وعلا ، بشكلٍ لو كانت دورة الأرض حول نفسها اسرعُ بقليلٍ أو أكثر بطءً ممّا عليه الآن لطال اللَّيلُ والنّهار وتعَّرضت حياة الناس بل كافة الموجودات على الأرض إلى الخطر.

* * *

والحديث في الآية الثامنة عن تسخير الليل والنّهار وخدمتهما للإنسان إذ يقول :(وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ).

وبما أنّ شرحَ معنى التسخير قد مرَّ سابقاً في موارد مشابهة فلا نرى حاجةً للإعادة.

* * *

__________________

(١) ورد هذا التفسير في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «طبقاً» لما نُقل في تفسير الفخر الرازي ، وفي حديث عن الصادق عليه‌السلام «طبقاً» لما نُقل في تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، الآية المورد البحث.

١٧١

وأشار في الآية التاسعة ، أولاً إلى مسألة اختلاف اللّيل والنهار ، ثم إلى كافة مخلوقات الأرض والسماء التي خلقها الله تعالى كبرهانٍ على عظمتهِ وعلمهِ وقدرتهِ فيقول : (انَّ فِى اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُوْنَ).

وهذا التعبير دليلٌ على مدى أهميّة خلقهما.

* * *

وفي القسم العاشر أشار في ثلاث آيات بتعابير جميلة إلى الفوائد المهمّة لليل والنهار فقال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيكُمُ اللَّيلَ سَرْمَداً إِلى يَومِ القِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللهِ يأتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ ارأَيْتُم إنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيكُم الَّنهَارَ سَرمَداً إِلى يَومِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللهِ يَأتِيكُم بِلَيلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُون* وَمِنْ رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيْهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُم تَشْكُرُوْن).

والجدير بالذكر انّه يقول في نهاية احدى الآيات : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ، وفي نهاية آية اخرى : (أَفَلا تُبْصِرُونَ).

ولعلَّ هذه التعابير إشارةٌ إلى أنّ هناك دلائل حسّية في هذا النظام الدقيق لليل والنّهار يجب أن تُنظَر بالعين ، وكذلك هناك دلائل نقليه يجب أن تُسمَعَ ، وهذا جديرٌ بالتأمُل أيضاً ، يقول في مورد خلود اللّيل : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ، وفي مورد خلود النّهار : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) ، لأنَّ الأُذنَ تستخدمُ غالباً في الليل والعينَ في النهار.

* * *

إنَّ أهميّة موضوع الليل والنّهار بلغت إلى الحد الذي يُقسمُ الله تعالى في القرآنُ بهما في آياتٍ عديدةٍ من بينها ما يقوله في القسم الحادي عشر من هذه الآيات : (واللَّيلِ إذا يَغْشى * والنَّهارِ إِذا تَجَلَّى).

وورد هذا المعنى في مكانٍ ثانٍ وبتعبيرٍ آخر فيقول : (واللَّيلِ إِذ أَدبَرَ والصُبْحِ إِذا أسْفَرَ). (المدثر / ٣٣)

١٧٢

ويقول في مكانٍ آخر : (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* والصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ). (التكوير / ١٧)

ويضيف في مكان آخر : (وَالضُحى وَاللّيْلِ إِذَا سَجَى). (الضحى / ١ ـ ٢)

وأَيْمانٌ اخرى من هذا القبيل حيث تحكي كلُّها عن الاهمية الفائقة التي يوليها القرآن الكريم للَّيل والنّهار كي يتمعنَ الإنسان بهما ويرى آياتِ الله في كلَّ موقعٍ منهما ، لأنَّ القَسَمَ دليلٌ على أهميّة وقيمة وحقيقة التأمل دائماً.

* * *

وفي الآية الثانية عشرة والاخيرة نواجه تعبيراً جديداً في هذا المجال إذ يقول : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ).

«يُوْلِجُ» : من مادة «ايلاج» وتعني الادخال ، وبما أنّها جاءت بصيغة «الفعل المضارع» وحيث اننا نعلمُ أنّ الفعل المضارع يفيد الاستمرار ، فقد تكون إشارة إلى طول وقصر اللَّيل والنهار التدريجي والمنَّظم على مدى فصول السنة المختلفة حيث ينقصُ احدهُما ويضاف إلى الآخر ، فهذا النظام التدريجي عاملٌ مؤثرٌ في نمو النباتات وتكامل الكائنات الحيّة ، فلو حدثَ فجأةً سيختلُ توازنُ هذه الموجودات فيكون مضراً ، لهذا فقد جعلَهُ الباري تعالى أمراً تدريجياً.

ومن الممكن أن تكون إشارة إلى مسألة شروق وغروب الشمس ، لأنَّ الشمس حينما تقتربُ من الشروق يشعُ نورُها نحو الطرف الأعلى من الجو ، ويضيء الجو قليلاً ، وكلما ارتفعت الشمس من وراء الافق يزداد هذا الضياء ، وعلى العكس أثناء الغروب ، فلا يحلُّ اللَّيلُ دفعةً واحدةً ، بل تختفي أشعةُ الشمس رويداً رويداً في الطبقات السفلى من الجو ، ويحلُّ الظلامُ محلَّها ، فهذا الانتقال التدريجي من النور إلى الظلام وبالعكس يؤدّي إلى أنْ يتأقلمَ الإنسان معه من الناحية الجسمية والروحية ، ولو حلَّ اللّيلُ أو الّنهار بشكلٍ مفاجيءٍ لتركَ آثاراً سيئةً.

والجدير بالذكر أنّ ظاهرَ الآية هو أنّ دخولَ اللّيل في الّنهار والنهار في الليل يحدث في

١٧٣

آنٍ واحدٍ ، والواقع هو كذلك ، لأنَّ اللَّيلَ يقلُّ تدريجياً أثناء فصل الصيف في المناطق الواقعة شمال خط الاستواء ويصبح جزءً من النهار أي إنّه مصداقٌ ل (يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ) ، وفي ذات الوقت يقلُّ النّهار في جنوب خط الاستواء ويصبح جزءً من اللَّيل حيث يكون مصداقاً ل (يُوْلِجُ النَّهارَ فِى اللَّيْلِ) (١).

وجاء في الحديث المشهور عن المفضل ، أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

«فكّر في دخول أحدهما ـ الليل والنهار ـ على الآخر بهذا التدريج والترسّل ، فانك ترى أحدهما ينقص شيئاً بعد شيء ، والآخر يزيد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان ، ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة ، لأضّر ذلك بالأبدان وأسقمها ، كما أنّ أحدكم لو خرج من حمّام حار إلى موضع البرودة لضّره ذلك واسقم بدنه ، فلم يجعل الله عزوجل هذا الترسل في الحر والبرد إلّاللسلامة من ضرر المفاجأة؟» (٢).

* * *

توضيحان

١ ـ أهميّة النور والظلام وفوائد اللَّيل والّنهار

لاحظنا في الآيات الآنفة كيف أنّ الله تبارك وتعالى يدعو الناس إلى دراسة هاتين الظاهرتين اللتين تبدوان عاديتين للعيان ، ويعُّدهما من آياته ، والحقيقة أننا كلَّما امعّنا النظر في هذا المجال نتوصل إلى امورٍ جديدة :

أ) فنحنُ نعلمُ أنّ اللَّيل والّنهار في جميع أنحاء العالم يختلفان تماماً ، فطول الليلِ عند خط الاستواء ١٢ ساعة ، وطول الّنهار ١٢ ساعة أيضاً في كافة الفصول ، إلّاأنَّ السَّنةَ كلَّها في المنطقة الجنوبية وعلى خط ٩٠ ليست أكثر من يومٍ واحدٍ وليلةٍ واحدة حيث تكون مدة كلٍّ منهما ستة أشهر تقريباً «ومثل هذه المناطق غير مأهولة طبعاً» ، وهنالك مراحل وسط

__________________

(١) لقد ذكر «الطريحي» في «مجمع البحرين» هذه النكتة في مادة (ولج).

(٢) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ١١٨.

١٧٤

بين هذين الوضعين في باقي بقاع العالم.

إلّا أنَّ مايثير العجب هو بالرغم من هذا الاختلاف فانَّ جميع بقاع الأرض تستفيد من أشعة الشمس بنفس النسبة على مدار السنة وهذا نظامٌ عادلٌ للغاية!.

ب) إنّ الّنهار اكثرُ طولاً أثناء الصيف والليل أكثرُ طولاً في الشتاء ، أي أنّ هذين الأمرين يسيران بشكلٍ متزامنٍ ، زيادة طول الّنهار ، والاشعاع العمودي «أو شبه العمودي» للشمس ، فيكمل أحدُهما أثر الآخر ، ويؤدّيان إلى زيادة حرارة الجو فتثمرُ الفواكه والمحاصيل الزراعية ، وفي الشتاء يؤدّي إلى زيادة البرودة وتساقط أوراق الأشجار والنباتات ، واللطيف أنّه في المناطق الاستوائية حيث يشع ضوء الشمس عمودياً لا يطول الّنهار أبداً ، وإلّا لداهمها خطر الحرارة الشديدة واحترقت النباتات.

ج) إنّ ضوء الشمس يسبب اليقظةَ والجد والسعي والحركة باستمرار ، على العكس من اللّيل الذي يبعث على السكون والاستقرار والنوم ، ويُلاحَظُ هذا الأمر على وجه الخصوص في عالم الحيوانات ، حيث تستيقظ الطيور مع سفور الصبح وتتجه نحو الصحراء ، وتعود وتستريح في أوكارها عند غياب الشمس ، وفي الارياف حيث إنّ لمعظم الناس حياةً طبيعية ، ويكون برنامج حياتهم كذلك أيضاً ، ولكن نظراً لتطور الآلة ، وصناعة النور الاصطناعي ، فانَّ الكثير من الأشخاص يسهرون جزءً من اللَّيل وينامون بعض النهار ، وهذا أحدُ الأسباب لبعض أنواع الأمراض ، وفي الحقيقة أنّ القرآن يُحذِّرُ مثل هؤلاء الأفراد بانَّ ترك النوم ليلاً يؤدّي إلى فقدان الاطمئنان الروحي وذلك من خلال عبارة : (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيْهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً). (يونس / ٦٧)

* * *

٢ ـ ظاهرة اللّيل والّنهار في القرآن الكريم

لقد ذُكِرَتْ ظاهرة اللّيل والّنهار أكثر من ثلاثين مرّة في القرآن الكريم كبرهانٍ على وجود الله ودليلٍ على عظمته وقدرته ، حيث يقول أحياناً : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولى

١٧٥

الأَبْصارِ). (النور / ٤٤)

ويقول كذلك : (لَآياتٍ لِّقَومٍ يَتَّقُونَ). (يونس / ٦)

ويقول : (لَآيَاتٍ لِّقَوُمٍ يُؤمِنُونَ). (النمل / ٨٦)

وفي الواقع ، أنّ العلاقة بين هذه الامور الثلاثة تتضح هنا حيث إنَّ التفكُر والتأمُّل الناضجين والعميقين كما ورد في حق «اولُوا الألباب» يؤدّيان إلى ظهور الإيمان ورسوخه ، والإيمانُ بدوره يؤدّي إلى ظهور التقوى في القلب والروح أيضاً.

ولهذا فانَّ التمعُنَ في آيات عظمةِ الله وعلمه وقدرته في عرض عالم الوجود ، يُرسِّخ العقيدة ويُربّي الإنسان من الناحية العملية أيضاً.

* * *

١٧٦

١٠ ـ آياته في خلق الجبال

تمهيد :

الكلُّ يعرفُ بشكل عام أنّ القُرى واغلبَ المدن المهمّة تقع في سفوح الجبال الشامخة وتقع فيما بينها ، وأنَّ الأنهار الكبيرة التي هي عمادُ ازدهار المدن تنبعُ من الجبال الشاهقة ، إنَّ دورَ الجبالِ في حياة الإنسان لا ينحصر بذلك فقط على الرغم من أهميّة هذا الدور.

فالجبالُ لها دورٌ مهمٌ جدّاً في حياة الإنسان بل جميع الموجودات التي تعيش على الأرض ، وفوائدها وبركاتُها عديدةٌ جدّاً ، ولا نُبالغ إذا قلنا باستحالة الحياة على الأرض بدون وجود الجبال.

ولهذا فانَّ القرآن الكريم أشار في آياتٍ كثيرة إلى مسألة خلقِ الجبال كاحدى آيات التوحيد وبراهينه على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا.

بعد هذه المقدمة نقرأ خاشعين الآيات الآتية :

١ ـ (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلىَ الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وإِلىَ السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ). (الغاشية / ١٧ ـ ١٩)

٢ ـ (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً* وَالْجِبَالَ أَوتَاداً). (النبأ / ٦ ـ ٧)

٣ ـ (وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيْهَا رَواسىَ وَأَنْهَاراً). (الرعد / ٣)

٤ ـ (وَالْقَى فِى الأَرْضِ رَواسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَأنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). (النحل / ١٥)

٥ ـ (وَجَعلْنَا فِى الأَرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ). (الانبياء / ٣١)

١٧٧

٦ ـ (وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوقِهَا وَبَارَكَ فِيهَآ وَقَدَّرَ فِيْهَا أَقْواتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسّآئِلِيْنَ). (فصلت / ١٠)

٧ ـ (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وأَسْقَينَاكُمْ مَّآءً فُرَاتاً). (المرسلات / ٢٧)

٨ ـ (أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلَالَها أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُوْنَ). (النمل / ٦١)

٩ ـ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً). (النحل / ٨١)

١٠ ـ (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيْضٌ وحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرابِيْبُ سُودٌ). (فاطر / ٢٧)

* * *

شرح المفردات :

«جبل» : على وزن (عَسَلْ) ، بالرغم من أنّ بعض أرباب اللغة فسَّرها بأنّها المفردة التي تقابل الأراضي المنبسطة ، وفسَّرها بعضهم بالأجزاء المرتفعة من الأرض حيث تكون عالية وشامخة ، فالظاهر أنّ جميع هذه التعابير تشير إلى معنىً واحد.

وطبعاً قد يُستعمل هذا اللفظ في المعاني الكنائية أيضاً ، فقد يُقال «جبل» للأشخاص الصامدين والعظماء ، و «جِبِلّي» للصفات الثابتة في طبيعة الإنسان والتي لا تتبدل ولا تتغير «كالجبل» ، وكذلك يقال «جِبِلّ» بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، للرهط والمجموعة في لغة العرب من باب التشبيه بالجبل في العظمة (١).

و «الرواسي» : جمع «راسية» أي الجبال الثابتة الراسخة ، وهي في الأصل من «الرَسو» (على وزن رَسْم وغلوُ) وهي مأخوذة من الثبات والرسوخ ، ويُطلقُ على الاواني الضخمة الراسخّة والثابتة في مكان العمل بـ «الراسية» أيضاً ، (كالقدور الراسية) التي وردت في قصة سليمان عليه‌السلام في القرآن الكريم ، ويُطلقُ لفظ «رسيّ» على الأعمدة الثابتة في وسط الخيمة أيضاً ، ويقال لمكان رسوّ السفن بـ «المرساة» حيث تثبت وتستقر السفينة في مكانها.

__________________

(١) المفردات للراغب ؛ ومجمع البحرين ؛ ولسان العرب.

١٧٨

وقد يُستخدم هذا اللفظ بمعنى ارساء السِّلم في المجتمع أيضاً لأنَّ السّلم أساسُ ثبات كلِّ بلدٍ.

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

البركات والأسرار العجيبة للجبال :

في القسم الأول من هذه الآيات يدعو الباري تعالى الناسَ إلى البحث والتأمل في آيات الله في السماء والأرض ، ثم يشير إلى كيفية خلق الابل وكذلك ارتفاع السموات حيث ارتفعت بدون عَمَدٍ مع مالها من عظمة ، وأشار إلى نصب الجبال فقال : (وَإِلى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ).

ولعلَّ هذا التعبير إشارة إلى ثبات واستقرار الجبال في أمكنتها ومنع حدوث الزلازل التي سيشار إليها في الآيات القادمة أو اشيرَ إليه آنفا ، أو الوقوف أمام الأعاصير والعواصف ، وتوفير الملاجيء الآمنة للبشر ، ومستودعات حفظ المياه على هيئة ينابيع وقنوات وأنهار.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة ظريفة إلى مسألة طبيعة تكوين الجبال ووجودها حيث كشفَ العلم المعاصر الستار عنها ، إذ يقول : إنّ الجبال تكونت نتيجة لعوامل معينة فقد يكون بسبب تعرُّج الأرض ، وأحياناً بسبب البراكين ، أو نتيجة الترسبات الناتجة عن الأمطار التي تغمر الأرض وتجرف بعضها معها ويبقى الجزء القوي والصلب ثابتاً في مكانه.

وفي أعماق البحار تتكون الكثير من الجبال نتيجة الترسبات الحيوانية كالمرجان حيث يطلق عليها الجبال أو الجُزُر المرجانية.

ومن الممكن جمع كل هذه المعاني في عبارة (كَيْفَ نُصِبَتْ).

* * *

ويقول في القسم الثاني من الآيات كبيانٍ للنعم الإلهيّة : (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً* وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً)؟

١٧٩

«الاوتاد» : جمع (وَتَدْ) (على وزن حَسَدْ) ، وتُطلقُ على المسامير الضخمة القوية جدّاً ، وقد فسَّرها البعض بالمسامير التي تغور في الأرض وتُربط إليها حبالُ الخيمة (١).

وهنا كيف تكون الجبال بمثابة أوتاد الأرض؟ هناك تفاسير متعددة : أولُها وهو ما ثبت اليوم بانَّ الجبال لها جذورٌ عظيمة في أعماق الأرض ، وهذه الجذور متشابكة معاً وتُمسكُ بقشرة الأرض كالدرع وتحفظها في مواجهة الضغوط الناشئة عن الحرارة الداخلية ، ولولاها لما كان لسطح الأرض من قرار.

وفضلاً عن ذلك فكما أنّ جاذبية القمر والشمس تترك تأثيراتها على المحيطات ، وتسبب المد والجزر ، فانَّ اليابسة لها تأثيرها أيضاً ، فيمنحُ درعُ الجبالِ قشرةَ الأرض قدرةَ المقاومة أمام هذا الضغط الهائل.

ومن ناحية ثالثة فانَّ الجبال تصونُ بقاعَ الأرض المختلفة من العواصف والسيول وتقف أمامها كالسور العالي ، بحيث لو كان وجه الأرض كلُّه على هيئة صحراء لتعسَّرت حياة الإنسان على سطحها أمام هذه السيول العارمة.

وأهم من كل ما مضى فإنّ الجبال تعتبر بمنزلة الأوتاد القوية لنظام حياة البشر لكونها مركزاً لذخائر المياه.

وجاء في تفسير الميزان أنّ الأوتاد جمع وتد وهو المسمار إلّاأنّه أغلظ منه (٢) كما في المجمع ولعل عدّ الجبال أوتاداً مبني على أنّ أكثر جبال الأرض ناتجة من البراكين التي تنطلق من أعماق الأرض فتخرج مواد ارضية مذابة تستقر على فم الشق متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان التي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب والتزلزل.

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٣٠ ، ص ٤.

(٢) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٢٥٩.

١٨٠