نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

البراهين على علمِ وقدرةِ الله تعالى فيقول : (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).

وهو في نهاية الآية يؤكد هذا البرهان (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَومٍ يَسْمَعُونَ).

وممّا لا شك فيه أنَّ الكائنات الحيّة كافة تحتاجُ إلى الراحةِ لتجديد قواها ، واكتساب الطاقة اللازمة لاستمرار نشاطاتها الحياتية ، الراحةُ التي تلاحقهم تلقائياً ، وتجبُرُ حتى الذين يحرصون على عدم التمتع بها.

فايُّ عاملٍ أفضلُ من النومِ يمكنُ أن نفكر به من أجل تحقيق هذا الهدف حيث يلاحق الإنسانَ بشكلٍ اجباريٍّ ويضطره لايقاف جميع نشاطاته الجسمية ، بل حتى بعض من نشاطاته الفكرية الأساسية ، وفي النتيجة يغطُّ في راحةٍ عميقةٍ ، وخلال هذه الفترة تقوم أجهزة الجسم باعادة البناء والاستعداد للسعي والحركة من جديد.

وممّا لا شك فيه أنّ الإنسان لولا النوم ، فانّه يذبُلُ ويتْلَفُ ، ويُصيبُهُ العَجَزُ والانكسار بسرعةٍ ، لذلك فقد قالوا : إنَّ النومَ المعتدل والاستقرار سرُّ السلامةِ وطولِ العمر وحيوية الشباب.

واللطيفُ أنَّ الآيةَ التي نبحثها وضعت «النوم» ، و (ابْتِغاء فَضْلِ اللهِ) في مقابل بعضهما ، وحسب قول بعض المفسرين أنَّ الأولَ هو علامة الموت والثاني علامة القيامة.

إنّ تعبير «ابتغاء فضل الله» يشير إلى نقطة ظريفة وهي أن سعي وجهد الإنسان في حياته من المسائل ذات الأهميّة ، وكذلك الفضل الإلهي ، والجمع بين الاثنين تجعل الإنسان يستفيد من مواهب هذا العالم.

وهنا توجد نقطةٌ جديرةٌ بالاهتمام أيضاً حيث ذكرت الآيةُ أعلاه النومَ بالنهار إضافة إلى النوم بالليل : (مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، في الوقت الذي يُعتبرُ النومُ مختصاً بالليل فقط حيث تؤكدَ آياتُ القرآن الكريم هذا المعنى ، إلّاأنّ بعضَ الظروف التي تطرأ في حياة الإنسان تجبُرُهُ على أنْ يَسهَرَ الليل وينامَ النهار ، ويُلاحَظُ هذا الأمر كثيراً في السفر ليلاً ، وفي المناطق الحارّةِ جدّاً حيث تتوقف النشاطات النهارية بسبب حرارة الجو ويكون العمل فقط أثناء الليل.

وفي عصرنا الراهن حيث تكون الكثير من المؤسسات الصناعية ، ومعامل صناعة الأدوية مضطرة للعمل ليلاً ونهاراً ، إذ من الصعوبة ايقاف العمل ، ممّا يدفع العمال إلى تقسيم

١٢١

أعمالهم إلى ثلاث وجبات يومياً ، فتتضح الحاجةُ إلى النوم في النهار أكثر من أيِّ وقتٍ آخر.

والآن .. فلو لم يكن برنامج تنظيم النوم بيد الإنسان ، ولم يتيسر النوم نهاراً بدلاً عن الليل ، فمن المسلَّم به أنّ مشكلاتٍ كبيرةً ستعترضُ حياته.

* * *

وفي الآية الثانية بعد ذكر : (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً) يشيرُ إلى مسألة النوم حيث يقول تعالى : (وَالنَّوْمَ سُباتاً).

ومن الممكن أن يكون تعبير «هو الذي» إشارة إلى الجانب التوحيدي لهذه الامور ، فكلٌ منها دليلٌ على الذات المقدّسة ، أو جانبِ الانعامِ كي يعرفَ الإنسانُ وليَّ نعمتِهِ ، ومن المسلَّم به أن الإشارة إلى وليَّ النعمة ستكون مقدمةً لمعرفته أيضاً.

واللطيف أنّه يقول بعد ذلك : (وَجَعَلَ النَّهارَ نَشُورَاً) (١).

أجَلْ ... ففي وضح النهار تنتشر الروحُ ويستيقظ الإنسانُ بشكلٍ كامل ، إذ لا يخلو من شَبَهٍ بنشورِ يوم القيامة والحياة ما بعد الموت.

وهذا الاحتمالُ ممكن أيضاً ، حيث يشير إلى انتشار الناس في ميدان الحياة وحركتهم نحو مقاصدهم المعاشيةِ المختلفة ، وبهذا فانَّ أجراس النوم والراحةِ تقرع مع حلول الظلام ، وتدق هذه الأجراس في النهوض مع بزوغ الشمس.

وفي الآية الثالثة تكرَّرَ هذا المعنى باختصارٍ طفيف إذ يقول : (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً) ، فكما يصونُ اللباسُ الإنسانَ من الاخطار ويكون له دوراً في سلامته فانَّ ظلامَ اللَّيل له مثل هذا الأثر.

* * *

وفي الآية الرابعة والأخيرة في هذا البحث ، وحينما يتحدث القرآن الكريم عن وقائع غزوة بدر يشير إلى أنَّ احدى نِعَمِ الله على المؤمنين في تلك الليلة التاريخية كانت (اذْ

__________________

(١) تأملوا جيداً أنَّ «النشور» معنى لمصدر ، و «السُبات» معنى لمصدرٍ أيضاً أو اسمٌ مصدريٌ ، واطلاقهما على الليل والنهار يفيد المبالغة والتأكيد.

١٢٢

يُغَشِّيْكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ).

لقد كانَ هذا النومُ الرغيدُ سبباً في تجديد قواهم والاستعداد للمعركة الحاسمة في ساحة المعركة ببدر صباحاً ، وبخاصة بعد قطع تلك المسافة الطويلة إلى حدٍ ما ، تلك المعركة التي انتهت بنصرٍ مبينٍ للمسلمين.

ولعلَّ تَعبير «النُّعاس» إشارة إلى عدم استحواذ النوم العميق عليهم بالرغم من تمتعهم بالراحةِ ، كي لا يستغلَ العدوُّ الوضعَ السائد ويباغِتَهُم ليلاً ، ولهذا كانت حقيقةُ ذلك النوم نعمةً وكيفيتُهُ نعمةً اخرى.

على أيّةِ حالٍ ، فانَّ الآيَة أعلاه تعتبر تأكيداً على أثر النوم على أعصاب وجسمِ وروح الإنسان أيضاً ، وتجديد الطاقات من أجل مثابرَة أكثر وجهادٍ أكثر فاعليةً في كافة المراحل.

* * *

توضيح

ظاهرة النوم الخفيّة :

مع أنَ «النوم» و «الرؤيا» تعتبر بالنسبة لنا أمراً عادياً ، إلّاأنّ العلماء لم يتوصلوا إلى عمق هاتين الظاهرتين المهمتين بالرغم ممّا بذلوه من مساعٍ وجهود.

فايُّ فِعْلٍ وانفعالاتٍ تطرأُ على جسم الإنسان ليتوقف فجأة القسم الأعظم من نشاطاته الجسمية والروحية؟! ويحصلُ هذا التغيير في جميع أجزاء جسمه وروحهِ كذلك ، فلا يفهمُ شيئاً ولا يبدي أىَّ حركةٍ ويستلقي جانباً كالميت ، ولو غرقت الدنيا بأكملها فهو نائمٌ لا يدري.

ومع كل هذه التوضيحات والآراء والفرضيات التي قيلت في هذا المجال ، فقد حافظ النوم على صورته المدهشة!

والأكثر عجباً من ذلك مسألةُ «الرؤيا» التي تُعَدُّ من الألغاز العظيمة كروح الإنسان.

وطبعاً أنّ الحديث المفصَّلَ بصدد حقيقة وأسرار هاتين الظاهرتين خارجٌ عن موضوع بحثنا ، لأنَّ الغايةَ من بحث الآيات المذكورة هي بيان المنافع الكثيرة ، والفوائد التي لا تُحصى للنوم من جانب ومن جانب آخر كونه نعمة من نعم الله.

١٢٣

فالنوم المعتدل دائماً يعتبر دليلاً على سلامةِ روح واعصاب الإنسان ، لذلك فإنّ أهمَ أسئلةِ الأطباء للمصابين بالأمراض النفسية تدور حول كيفية نومهم.

فلا تتوقف الاجهزة الأساسية في جسم الإنسان كالقلب والرئة أثناء النوم ، لكنها تعملُ بهدوءٍ أكثر ، ويصبحُ دوران الدَّم في الأعضاء أكثرَ تناسقاً ، ويتوقفُ نشاطُ الدَّماغ تقريباً ، وتستقر جميعُ العضلات أيضاً ، فتؤدّي كلُّ هذه الامور إلى حصول هذه الأعضاء على فرصةٍ لِتجديد بناء بنائها.

وخلالَ النومِ تُزالُ سمومُ الجسم ، وتُعالجُ كثير من الأمراض.

لقد أورد «روخلين» في كتابه «الرؤيا في نظر بافلوف» بحثاً تحت عنوان «العلاج بالنوم العميق» قائلاً :

«بناءً على فرضية «بافلوف» فانَّ النومَ عبارةٌ عن ظاهرةِ توقُفٍ من أجل الصيانة وتجديد القوى ، وعليه فيمكن استغلالهُ كعاملٍ للعلاج من الأمراض المختلفة ، وتؤيدُ التجاربُ اليومية دور النوم في ذلك أيضاً».

ثم يضيف : «إنَّ النومَ العميق الطويل مؤثر على تحسُن صحة المريض ، لأنَّ المرضى ينامون أكثر من المعهود بعد مرضٍ طويلٍ من أجلِ استعادةِ قواهم وسلامتهم».

ويقول : «لقد واجه العلاجُ عن طريق النوم رواجاً واسعاً في الاتحاد السوفيتي ، وقد استخدمت هذه الطريقةُ لأولِ مرّةٍ لمعالجة (جنون الشباب) «الشيزوفرينيا» الذي يعتبر من الأمراض النفسية الشائعة».

ويقول في جانبٍ آخر من حديثه : «تمّ الحصول على نتيجةٍ مُرضيَةٍ لعلاج المصابين بارتفاع ضغط الدم عن طريق النوم العميق ... فالنوم الطويل الذي هو حالة من الراحةِ الكاملة للمخ ، يُجدد قدرةَ الجهاز العصبي ويوازن تنظيم نشاط الأعضاء الداخلية ، ويترك أثراً إيجابياً مساعداً للوضع العام للإنسان» (١).

أَجَل ؛ فالذي خلق الإنسان سالماً من أجل السعي والنشاط ، وضع جميع وسائل ذلك تحت تصرفهِ ، وأحدُها نظام النوم واليقظة ، النظام الذي تبرز فيه بكل وضوح براهينُ حكمةِ الباري عزوجل.

__________________

(١) النوم في نظر بافلوف ، ص ١١٢ ـ ١١٦ (مع الاختصار).

١٢٤

٧ ـ آياته في بسط السماوات والأرض

تمهيد :

بعد أن ذكرنا آياتِ «الانفس» نتجه صوبَ آيات الآفاق :

لقد كانَ النظر إلى السماوات والأرض على الدوام دافعاً لتفكير الإنسان ، وكلَّما تطورَ علمُ الإنسان تعاظم العالم السماواتي ذو الأسرار العجيبة في نظرهِ ، فلو قيسَتْ عظمةُ السماوات في نظر علماء اليوم مع ما مضى لكانت «كالقطرةِ» إلى «البحر» ، وليس معلوماً أن يكون «الغد» كذلك في قياسه مع «اليوم».

فماذا يجري في هذه المنظومةِ والمجرّات الكبيرة ، والنجوم الثابتةِ والسّيارة؟ وما هي العوالم الموجودة فيها؟

وإلى أيِّ زمانٍ يعود تاريخ ظهورها؟

وهل هناك من يسكنُ فيها؟ وإذا كان كذلك فهل أنّ حياتهم تشبه حياتنا أم يختلفون عنّا؟

هذه الأسئلة وعشراتٌ اخرى تشغلُ فكرَ كلِّ إنسانٍ باحثٍ ومتفحصٍ في أمر السماوات.

يقول علماء العصر : إنّنا اليوم نرى نجوماً في السماء قد اختفت من الوجود قبل آلاف السنين وربّما قبل ملايين السنين ، وهذا يعود إلى الفاصلة الخارقة بينها وبيننا ، وأنّ نورها قد بدأ حركته منذ آلاف أو ملايين السنين وما زال في طريقه الينا ، فإذا كان الميدان الحقيقي للسماء هكذا ـ وهو كذلك ـ ، فإلى أيِّ حدٍ يختلف مع ما نراه اليوم؟ ليس هناك مَنْ يستطيع الإجابة عن هذا التساؤل!

١٢٥

هذه التساؤلات وأمثالها كثيرةٌ حيث يصعب الإجابة عنها من قبل العلماء.

لقد أصبحنا أمام مثل هذا العالم المملوء بالأسرار ، فعظمتُهُ من جانبٍ ، والنظام والتقنين اللذان يسودانه من جانبٍ آخر ، تكشف الستار عن القدرة والعلم اللامتناهي لمن له اليد في هذا الخلق.

بعد هذا التمهيد نقرأ خاشعين الآيات الشريفة الآتية :

١ ـ (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُوْلى الْأَلْبَابِ). (آل عمران / ١٩٠)

٢ ـ (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ... لَأَيَاتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ). (البقرة / ١٦٤)

٣ ـ (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ واخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعالِمِينَ). (الروم / ٢٢)

٤ ـ (إِنَّ فِى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلمُؤمِنينَ). (الجاثية / ٣)

٥ ـ (خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤمنِيْنَ). (العنكبوت / ٤٤)

٦ ـ (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلىَ الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيْعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوْهُ أَفَلَا تَذكَّرُوْنَ). (يونس / ٣)

٧ ـ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُوْلُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤفَكُونَ). (العنكبوت / ٦١)

٨ ـ «(لَخَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (غافر / ٥٧)

٩ ـ «(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ). (ابراهيم / ١٠)

١٠ ـ (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأيْيدٍ وَانَّا لَمُوسِعُونَ* وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدوُنَ). (الذاريات / ٤٧ ـ ٤٨)

١٢٦

١١ ـ (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظًا وهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ). (الانبياء / ٣٢)

١٢ ـ (اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوىَ عَلىَ الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ). (الرعد / ٢)

* * *

شرح المفردات :

لكَلمة «الَخلْق» معنيان كما يقول صاحب «مقاييس اللغة» ، أحدهما تقدير الأشياء ، والآخر النَّقي والمسطَّحْ.

ويقول الراغب في المفردات : «الخَلْقُ» أصله التقدير ، ويستعمل في ابداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء ، قال تعالى : (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) أي أبدعهما بدلالة قوله : (بَدِيْعُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ) ، ... وليس الخلق الذي هو الإبداع إلّالله تعالى ، ولذلك قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره : «(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَايَخْلُقْ افَلَا تَذَكَّرونَ) ، أمّا الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال ، وتستعمل هذه المفردة في الكذب أيضاً (وربّما اطلق على الكذب بسبب اختلاق وايجاد موضوع ما في فكر السامع» (١).

ويقول ابنُ منظور في «لسان العرب» : الخلق في كلام العرب ابتداع الشىء على مثال لم يُسبق إليه.

وعليه ... أنّ كلمة الخلق تَعني في الأصل التقدير والتنظيم وتنقية الأشياء ، إلّاأنّها استخدمت فيما بعد بمعنى الابداع والإيجاد وتغيير هيئة الأشياء بالنحو الذي يتبادر هذا المعنى الآن.

ومعنى «السماء» استناداً إلى ما قاله علماء اللغة ، الشيء الذي يرتفع عالياً ، لذلك فانَّ البعض يعتقد أنَّ لها صفة النسبية حيث يمكن أنْ تكون نسبةُ شيء إلى شيء آخر كالسماء إلى الأرض ، واشتُقَ «الاسم» من هذه المادة أيضاً لأنَّ التسمية عاملٌ في رفعةِ وسمو مقام المُسمى.

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص ١٥٨.

١٢٧

واستناداً إلى كلام مؤلف «التحقيق» فإنّ السماء قد تكون ملموسةً ومادية كما في : (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) أو معنوية كما في : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ). (البقرة / ١٤٤)

ويقول «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً : السمو : تعني الارتفاع والعُلو (١).

وبناءً على ذلك فانَّ كلمة السماء لا تعني هذه السَّماء فقط بل أيَّ نحوٍ من الارتفاع والعلو ، ولكنها جاءت في الآيات المُنتَخبة في هذا البحث بشكلٍ عامٍ بمعنى السماء.

وتُطلقُ «الأرْض» في الأصل على الجزء الأسفل لكل شيء قبالة «السماء» التي هي الجزء الأعلى لكل شيء ، قال هذا الكلام صاحب «مقاييس اللغة» ، ويقول الراغب في تعبيرٍ مشابهٍ : الأرض هي الجرمُ الذي يقابلُ السماء ، ويعبَّرُ عن أسفل كل شيءٍ بـ «الأرض».

وورد في كتاب «التحقيق» أنّ الأرض لها مسمّيات متعددة بعضها أوسعُ من بعضها الآخر ، فهي تُطلقُ على المسكنِ ، والمحلِّ ، والقريةِ ، والمدينةِ ، والبلد ، والكرة الأرضية ، وما تحت السماء ، وحتى ما موجود في عالم الجسم وتحت عالم الأرواح ، حيث يقال لكلٍّ منها «أرض» ، وفي هذه المفاهيمِ يلاحظ قيدان هما الانخفاض ، ومقابلة الارتفاع.

«أرَضَة» (على وزن حَدَقة) وتعني الحشرة التي تخرج من الأرض وتأكل الخشب.

واللطيف هو أنّ أحد معاني «الأرض» هو مرض الزكام ، والآخر هو «الرِّعْدَة».

ولعلَّ السبب في ذلك أنّ هذه الأمراض تُقعدُ الإنسان وتُخلدُهُ إلى الأرض (٢).

* * *

__________________

(١) في كتاب «العين» للخليل بن أحمد ذُكرت «سماء» بمعنى الارتفاع أيضاً ، ص ٣٩١.

(٢) مقاييس اللغة ؛ مفردات الراغب ؛ لسان العرب ؛ مجمع البحرين ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم ، ص ٧١٢ وص ١١٣.

١٢٨

جمع الآيات وتفسيرها

ارتفاعُ السماء آية حق!

الحديث في أول آيةٍ من البحث هو عن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار اللذين يحصلان نتيجة دوران الأرض حول نفسها مقابل الشمس إذ يقول تعالى : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيات لِأُولى الأَلْبَاب).

وكما أوضحنا في بحوث المعرفة في المجلد الأول من هذا التفسير فانَ «الالباب» جمع «لُبْ» أي العقل الصافي والعميق ، نَعمْ .. فَمَنْ لهم مثل هذه العقول والألباب يستطيعون أن يَرَوا آياتٍ وبراهين كثيرةً عن القدرة الإلهيّة في خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وليس آية واحدةً أو برهاناً واحداً فقط.

واللطيف ما جاء في الرواية المشهورة الواردة في الكثير من التفاسير في تفسير هذه الآية حيث ورد فيها : قال ابن عمر : قلت لعائشة اخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبكت وأطالت ثم قالت : كل أمره عجب ، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى الصق جلده بجلدي ، ثم قال لي : يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت يا رسول الله إنّي لأحب قربك وأحبّ مرادك قد أذنت لك ، فقام إلى قربة ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صبّ الماء ، ثم قام يصلي ، فقرأ من القرآن وجعل يبكي ، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض ، فأتاه بلال يؤذن لصلاة الغداة فرآه يبكي ، فقال : يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ، ثم قال : ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة : (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) ، ثم قال : (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها) (١).

صحيحٌ أنّ كلَّ من ينظر إلى السماوات والأجرام السماوية يهتدي إلى آياتٍ من آيات الله تعالى ، إلّاأنَّ ذوي العقول والألباب يستفيدون أكثر من سواهم ، فهؤلاء يَرَوْنَ آثارَ قدرةِ الله

__________________

(١) تفسير روح الجنان ؛ ج ٣ ، ص ٣٨٤ ؛ تفسير الكبير ٩ ص ١٣٤ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ١٤٠٤ ؛ تفسير القرطبي ، ج ٣ ، ص ١٥٥٢ وتفاسير اخرى.

١٢٩

تعالى في كلِّ مكان من السماء ، فهم يجدون في خلق كلِّ منظومةٍ ، وكلِّ مجرَّة ، وفي حركاتها المنظَّمةِ العجيبةِ أسراراً لم يجدها سوى اولي الألباب.

وما يلفت النظر انّهُ ذُكر في الآية الثانية (قَوْمٌ يَعْقِلُوْنَ) بدلاً من (اولى الأَلْبَابِ) ، وفي الآية الثالثة «عالِمين» ، والرابعة والخامسة «مؤمنين».

وفي الحقيقة ، كما ورد من تفصيل سابقٍ في بحث «مصادر ومجالات المعرفة» في المجلد الأول من هذا التفسير فانَّ كلاً من الميزات أعلاه (الالباب ، التعقل ، العلم ، والإيمان) تعتبر أرضيةً مناسبةً للمعرفة والاطلاع بشكل أكثر عن آيات الله.

وهذه مسألةٌ جديرةٌ بالاهتمام حيث يصف القرآنُ الكريم (اولى الألْباب) الذين تُفتَحُ أمامهم أبوابُ معرفةِ الله من خلال مشاهدة خلق السماوات والأرض إذ يقول تعالى : (الَّذِيْنَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامَاً وَقُعُوداً وَعَلىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً). (آل عمران / ١٩١)

أي أنّ ذكر اللهِ أولاً ، والتفكُّر ثانياً ، والتأمل في الهدف من الخلق ثالثاً ، يُدّلُهمْ كل ذلك على عظمة الخالق جلّ وعلا.

وعلى هذا الأساس فإنّ تلكؤ علماء الطبيعة في معرفة الله سبحانه وتعالى بالرغم من معرفتهم لدقائق الأمور في هذا الوجود يعود إلى أنّهم اعتمدوا في بحوثهم على دراسة المعلول والمخلوق ولم يهتموا بدراسة علة العلل وخلق الوجود والهدف من الخلق.

* * *

وكما في الآية الاولى فقد وردت مسألة خلق السماوات والأرض في الآية الثانية ، إلى جانب اختلاف الليل والنّهار ، أي مجيء وذهاب الليل والنهار (أو اختلافهما التدريجي على مدى فصول السنة) ، حيث يمثل ذلك إحدى الظواهر البارزة في السماوات والأرض ، إذ يسود النظام الدقيق هذه الظاهرة منذ أزمنة طويلة ، ويمكن تحديد لحظة شروق الشمس وغروبها قبل حصولهما ، والحدود الدقيقة لليل والنّهار في كل فصلٍ وكلَّ زمانٍ من السنة ،

١٣٠

ولأي بقعةٍ من بقاع الأرض ، ونعلمُ جيداً بانّه أينما يوجد نظامٌ دقيق فانّه يكمنُ وراؤه علمٌ وعقلٌ ولبٌ مدبرٌ.

* * *

وفي الآية الثالثة ذكر مسألة اختلاف الألسن والألوان ، التي هي من آيات الأنفس ، إلى جانب مسألة خلق السماوات والأرض التي هي من آيات الآفاق ، حيث يقول تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وأَخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَالْوانِكُمْ).

وقد يكون اختلاف الألسن والألوان بمعنى اختلاف اللغات التي يتكلم بها الناس ، وألوان وجوههم ، أو بمعنى لحن أصواتهم واسلوب حياتهم ، وتفكيرهم وأذواقهم ، وقابلياتهم ، أو جميعها ، فهذا التنوع العجيب الذي يكون وسيلة لتعرف الناس على بعضهم ، وإلى عدم خلو أيٍّ من المناصب الاجتماعية ، من خلال النظام الدقيق الذي يسودُه ، لا ينفصل عن النظام العجيب السائد في السماوات والأرض بل يرتبطان معاً ، وكلٌ دليلٌ على عظمة وقدرة وتدبر الذات المقدسةِ للهِ ، عزوجل.

* * *

وتشير الآيتان الرابعة والخامسة إلى خلق السماوات والأرض فقط، وتَعُدُّهُ من آيات اللهِ، لأنّ ممّا لاريب فيه أنّ هذا الخلق العظيم هو من آيات الله البينات، غير أنَّ الآية الخامسة استندت إلى مسألة التقنيين والهدف من هذا الخلق وبيانه من خلال تعبير «بالحق».

* * *

وفي الآية السادسة طُرحَ موضوعٌ جديدٌ ألا وهو خلق السماوات والأرض في ستة أيّامٍ ، إذ يقول تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَواتِ وَالارْضَ فِى سِتَّة أَيَّامٍ).

١٣١

وقد ورد ذكر خلق السماواتِ والأرض في ستة أيّام في سبع آياتٍ من القرآن الكريم (١).

وهذا يُبرهنُ على أنّ (القرآنَ الكريم) يولي اهتماماً خاصاً لمسألةِ الخلق التدريجي للعالم ، وهو بذاته دليلٌ آخر على عظمة الخالق جلَّ وعلا.

ومع أنَّ بعضَ الماديين غير الواعين وبسبب عدم معرفتهم لمعنى «اليوم» ، انتقدوا مثل هذه الآيات واستهزؤوا بها (٢) حيث إنّهم يعتقدون أنّ «اليوم» هنا بمعنى بياض النهار أو (الأربع وعشرين ساعة) ، إلّاأنّ الجميع يعلم أنّ اليومَ بهذا المعنى هو ناتج من حركةِ الأرض وضوء الشمس ، وعندما لم يكن وجودٌ للسماوات والأرض لم يكن هناك مفهوم لليل والنهار بهذه الهيئة.

فقد غَفَلَ هؤلاء عن هذه المسألة وهي أنّ كلمة «اليوم» وما يماثلها في بقية اللغات لها معانٍ مختلفة من حيث المفهوم والاستعمالات اليومية ، فمنها ما يعني «المرحلة» وقد تكون هذه المرحلة قصيرةً أو طويلةً جدّاً ، كما يقول الراغب في كتاب «المفردات» الذي هو من الكتب اللغوية المعروفة : اليومُ يُعَّبرُ به عن وقت طلوع الشمسِ إلى غروبها ، وقَدْ يُعبر به عن مدةٍ مِنَ الزَّمانِ أيَّ مدةٍ كانت.

ونقول في الاستعمالات اليومية ، إنَّ الناس كانوا في يوم ما يسافرون على ظهور الحيوانات ، واليوم بوسائط النقل السريعة ، وكلا هذين التعبيرين «يومٌ ، واليوم» إشارة إلى حقبة طويلة ، ونقرأ في الحديث المعروف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «واعلَمْ بأنَّ الدَّهرَ يومانِ : يومٌ لكَ ويومٌ عليك» (٣).

بل إنّ الدنيا كلها عُدَّت يوماً واحداً ، وكذلك كل الآخرة في بعض العبارات ، فيقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «وإنَّ اليوم عملٌ بلا حساب ، وغداً حسابٌ بلا عمل».

والبيتان المعروفان عن الشاعر كليم الكاشاني تعبير لطيفٌ في هذا المجال ، وهذه ترجمتهما العربية :

__________________

(١) الفرقان ، ٥٩ ؛ السجدة ، ٤ ؛ ق ، ٣٨ ؛ الحديد ، ٤ ؛ الاعراف ، ٥٤ ؛ هود ، ٧.

(٢) المادية التاريخية ، ص ٨٧.

(٣) نهج البلاغة ، الرسالة ٧٢.

١٣٢

إنَّ الحياة سيئة الصيت يومان ليس اكثرَ (كليم)

فيومٌ مرَّ بتعلُّقِ القلبِ بهذا وذاك ويوم آخر مضى

فدَعْني اخبركَ كيف مضت؟

بانقطاع القلب عن هذا وذاك

وعليه فانَّ المقصود من خلقِ السماوات والأرض في ستة أيّام هو ست مراحل ، وقد تمتد كلُّ مرحلةٍ من هذه المراحل ملايين أو آلاف الملايين من السنين ، ومن الواضح عدم توفُّرِ أيِّ دليلٍ يعارض هذا التحديد من الناحية العلمية (١).

ولكن من المحتمل أن تكون هذه المراحل الست حسب التسلسل الآتي :

١ ـ مرحلةٌ كانَ العالمُ كلَّه فيها مجاميعَ عظيمةً جدّاً من الغازات التي تدور حول نفسها.

٢ ـ مرحلةُ انفصال هذه الغازات عن بعضها والدوران حول محور المجموعة المركزية.

٣ ـ المرحلة التي فيها شكَّلت بعض هذه المجاميع بسبب دورانها حول نفسها منظوماتٍ كمنظومتنا الشمسية.

٤ ـ المرحلة التي تكونت فيها الأرض واستعدت للحياة ، وظهرت عليها المياه ، وتكونت البحار.

٥ ـ مرحلةُ ظهور الأشجار والنباتات وتهيئة الأقوات والأطعمة على الأرض.

٦ ـ مرحلة ظهور الحيوانات وبعدها الإنسان على الأرض.

والمسألة الجديرة بالاهتمام هي أنّ من بين الآيات السبع التي بَينَت خلق السماوات والأرض في ستة أيّام ، تمّت الإشارة في أربع آياتٍ منها فقط إلى خلق السماوات والأرض في ستة أيّام (٢).

وفي ثلاث آيات ورد خلق السماوات والأرض وما بينهما (٣).

وفي آية واحدة فقط اشير بشكلٍ عامٍ إلى تفصيل هذه المراحل الست ، فمرحلتان لخلق

__________________

(١) ذُكِر أيضاً في كتاب القاموس المقدَّس الذي هو شرحٌ لمفاهيم التوراة والانجيل ، شرحٌ فيما يخص خلق السماوات والأرض في ستة أيّام حيث يشبه ما ورد أعلاه في بعض الجوانب بالرغم من اختلاطه ببعض الخرافات كاستراحةِ الله في اليوم السابع (القاموس المقدس ، ص ٨٤ كلمة الخلق).

(٢) الحديد ، ٤ ؛ الاعراف ، ٥٤ ؛ يونس ، ٣ ؛ وهود ، ٧.

(٣) الفرقان ، ٥٩ ؛ السجدة ، ٤ ؛ ق ، ٣٨.

١٣٣

الأرض ، وأربعة مراحل لإيجاد النباتات والحيوانات : الَّذِى خَلَقَ الأَرْضَ فِى يَوْمَيْنِ ... وَقَدَّرَ فِيْهَا اقْواتَها فِى أَرْبَعَةِ ايَّامٍ). (فصلت / ٩ ـ ١٠)

بناءً على ذلك ، فانَّ المراحل الست أعلاه تتعلق بخلق السماوات والأرض وموجوداتهما المتنوعة (١).

* * *

وتقول الآية السابعة من البحث إنّ هذا المعنى مسلمٌ به حتى لدى الوثنيين وهو : إنَّ الله تعالى هو خالقُ السماوات والأرض ، ومسخرُ الشمس والقمر ، وأنّ هؤلاء يفهمون أنَّ هذا العالم الجبار والنظام العجيب لا يمكن أن يكون مِنْ خلقِ الأصنام ، بل إنّ ضميرهم يحكُمُ بانَّهُ مِنْ خلقِ الله العالمِ القادر : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُوْلُنَّ اللهُ).

وعليه فليس العلماء والمفكرون وحدهم الذين يصلون إلى معرفة الذات الإلهيّة المقدّسة من خلال التفكر بأسرار الخلق ، وإنّما الوثنيّون الجهلاء كذلك يعرفون بشكلٍ عام الذات المقدّسة من خلال مشاهدة هذا النظام بالرغم من أنّهم يتيهون في وادٍ من الشرك بسبب الخرافات والجهل المحيط بهم.

* * *

ومع أنّ الآية الثامنة تقصدُ مسألة المعاد والقيامة بدلالةِ الآيات التي تليها وتقول إنّ القادرَ على خلق السماوات والأرض بهذه العظمة ، قادرٌ على أن يحييَ الموتى ، لأنَّ خلق السماوات والأرض أصعب وأعقد من خلق الإنسان ، لكنها مع ذلك دليلٌ واضحٌ على مسألة معرفةِ الله أيضاً ، لأنَّ وجودَ الإنسان بل وحتى عضو واحد من أعضاء جسمه كالعين والاذن ،

__________________

(١) ومن للتوضيحٍ أكثَر في هذا المجال يراجع التفسير الأَمثل ذيل الآيات ٥٤ الاعراف ؛ و ١٠ فصلت).

١٣٤

بل حتى بناء خليةٍ واحدةٍ من خلايا هذه الأعضاء بكل ما فيها من التعقيد والابهام والأسرار والأنظمة يمكن أن يكون من آيات الله تعالى ، بناءً على ذلك فانَّ (خلق السماء والأرض الذي هو أكبرُ وأعظم من خلق الإنسان أوضحُ برهانٍ على عظمة الله تعالى) (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ).

ومن المؤكد أنّ خلق الإنسان إذا ما قيسَ مع كل جزء من أجزاء هذا العالم فانه يُرجح عليه ، إلّاأنَّه إذا قيس بكل السماوات الواسعة والأرض ، فمن المسلَّم به أنّ السماوات والأرض يرجح خلقُها على خلق الإنسان.

والظريف أنّ القرآن الكريم حينما جاء بهذا التصريح لم يكن للناس حينذاك ـ ولا سيما المتخلّفين في الحجاز ـ معرفة بعظمة السماوات ، ولعلهم كانوا يظنّون أنّ السماء سقفٌ أزرق اللون قريبٌ منهم ، وقد تمّ تثبيته بواسطة مسامير فضية وهي النجوم!

أجَلْ ... إنّنا اليوم ندرك جيداً المفهوم العميق لهذه الآية ، لأنَّ العلماء تفحّصوا هذه السماء الواسعة من خلال المراصد الفلكية العملاقة ، وقد زودونا بأسرار وعجائب مذهلة عن عظمتها والنظام السائد فيها ، ومن أين ندري أنّ ما يشاهدونه اليوم لا يبلغ معشار عظمة هذا العالم ، ولعل هذه الحقيقة تتضح غداً للملأ ، لهذا يقول تعالى في آخر الآية : (وَلكِنَّ اكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُوْنَ) (١).

وفي الآية التاسعة تمَّ جمع دورةٍ كاملةٍ من دروس التوحيد ومعرفة الله في استفهامٍ إنكاريٍّ حيث يقول : «(أَفِى اللهِ شَكٌ فَاطِر السَّمَواتِ وَالأَرْضِ).

والجدير بالاهتمام هنا أنّ كلمة (فاطر) تعني المشَقِق ، وجاء استخدام هذا التعبير إمّا بسبب تمزيق حجاب العدم والظلمة أثناء خلق السماوات والأرض وإشراق نور الوجود في

__________________

(١) ما معنى «لا يعلمون» هنا؟ هناك احتمالات مختلفة : أولها هو : أنّ الناس يجهلون عظمتها قياساً مع الإنسان ، والآخر أنّهم يجهلون القدرة الإلهيّة اللامتناهية ، والثالث ، أنّهم يجهلون قدرته على مسألة المعاد ، أو يعلمون ، وحيث إنّهم لا يفصحون عن علمهم هذا ، فهم في حكم الجهلاء (ولكن لا يُستبعد أن تجتمع كل المعاني الثلاثة الاولى في الآية وكما قالوا بأنّ حذف المتعلق دليل على العموم).

١٣٥

خلق السماوات والأرض ، أو إشارةٌ إلى ما يُعرفُ اليوم لدى علماء الفلك حيث إنّ جميع هذه الأجرام والمنظومات كانت في اليوم الأول على هيئة مجموعةٍ كبيرة مرتبطة ببعضها ، وانفصلت عن المركز نتيجة لحركتها حول نفسها وبتأثير القوة الدافعة لها عن المركز ، والقت بقطعٍ منها إلى الخارج وظهرت المنظومات والمجرّات الثابتة والسّيارة (١).

على أيّة حال ، سواء كان المشركون هم المخاطَبون في هذه الآية أو منكرو وجود الله تعالى ، أو كلاهما ، فانّه يستفاد من هذه الآية الكريمة هذه الحقيقة ، وهي أنّ الَّتمعنَ في خلق السماوات والأرض يكفي لأنّ يقتلع كُلُّ نوعٍ من أنواع الشك والريب في وجود الله ووحدانيته وقدرته من قلب الإنسان.

* * *

ويشير في الآية العاشرة إلى خاصّية اخرى من خصائص السماء والأرض إذ يقول تعالى : (وَالسَّمَاءَ بَنَيْناهَا بِأَيْيْدٍ).

فمن المسلَّم بهِ أنّ خلقَ مثل هذه العوالم الجبّارة يستلزم قدرةً مناسبةً له ، وهي قدرة الباري عزّ وجّل وحدها.

ويضيف فيما بعد (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ).

وبالرغم من أنَّ بعض المفسّرين اعتبروا ذلك بمعنى توسعةِ الرزق عن طريق هطول المطر وغيره (٢) لكن يبدو أنّ للآية معان بالغة الأهمية والدقّة ، حيث اتّضح ذلك لعلماء عصرنا الحاضر ، وقد اميط اللثام عن معجزة من المعجزات العلمية للقرآن ، وهي أنّ العالم في حال اتساع وبصورة مستمرة ، وأنّ النجوم والمجرات والأجرام تبتعد عن بعضها بشكل سريع.

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : «فَطْر» على وزن «سَتْر» أي الشَّقُ طولياً ، ثم جاءت بمعنى الايجاد والإبداع ، و «فِطْر» (على وزن مِتْر) تعني الافطار وترك الصيام ، وكأنَّ الصيام ينفطر ، (والفطرة تعني الخلقة وهي مأخوذة من هذه المادة أيضاً).

(٢) وقد فسَّر بعض المفسرين لفظة (موسعون) بمعنى (قادرون) أيضاً ، لأنّه مفردة (الوسع) تأتي أحياناً بمعنى «القدرة» ، أمّا مفهوم «التوسيع» فهو أوضح.

١٣٦

يقول أحد العلماء المعروفين ويُدعى «جورج غاموق» في كتابه «بداية ونهاية العالم» : «يمُّر فضاءُ الكون الذي يتألف من مليارات المجرّات بحالةٍ من الامتداد السريع ، والحقيقة هي أنّ عالَمَنا ليس ثابتاً بل إنَّ اتساعَهُ مسلَّمٌ به ، والوقوف على كون عالمنا يمرُّ بحالةٍ من الاتساعِ يهيء لنا المفتاح الحقيقي لكنوز أسرار النظرية الكونية ، فلو أنّ العالَمَ يمُّر اليومَ بحالةٍ من الاتساع والامتداد فهذا يعني أنّه كان يمرُ بحالةٍ من الانكماش الشديد في عابر الازمان» (١).

وممّا يبعث على الدهشةِ أنَّ هذا التوسعَ يسيرُ سريعاً بالقَدرِ الذي يقول عنه «فورد هوفل» في كتاب «حدود النجوم» : «لقد تم قياس اقصى سرعةٍ لتباعد الكرات حتى الآن بما يقارب ٦٦ ألف كيلو متر في الثانية ، وتُدَللُ الصور الملتقطة عن السماء على هذا الاكتشاف المهم بوضوح ، حيث إنَّ الفاصلة بين المجرّات النائية تتضاعف بسرعةٍ أكثر من المجرّات القريبة!» (٢).

فأيُّ قوةٍ عظيمة تكمنُ وراء هذه الأجرام والمنظومات الجبّارة حيث تُبعدها عن مركز العالم بهذه السرعة النادرة من دون أن تتلاشى على اثر هذه الحركة؟!

ثم يشير إلى الأرض فيقول : (وَالارْضَ فَرَشنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ).

فالتعبير بـ «الفرش» من ناحيةٍ ، و «الماهد» من مادة (مهد) من ناحيةٍ اخرى ، إشارةٌ إلى التغييرات الكثيرة التي حصلت منذ بداية تكوين الأرض ، وتهيئتها لحياة الإنسان ، وجعلها كالمهد أو فراش الراحة.

كل هذه دلائل على ذلك العلم والقدرة الأزلية.

* * *

ونقرأ في الآية الحادية عشرة تعبيراً جديداً حول خلق السماء إذ يقول : (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظًا).

__________________

(١) بداية ونهاية العالم ، ص ٧٧ (مع الاختصار).

(٢) حدود النجوم ، ص ٣٣٨.

١٣٧

فهل هناك سماءٌ في العالم على هيئة سقف يُحفظُ من نفوذ الكائنات الخارجية؟ نعم .. فالسماء هنا يمكن أن تكون إشارة إلى الفضاء الذي يحيط بالأرض ويبلغُ سمكُهُ مئات الكيلو مترات ، فهذه الطبقة التي تتألف من الهواء المضغوط اللطيف وبقية الغازات المحيطة بجوانب الكرة الأرضية على هيئة سقفٍ دائري ، قويةٌ بالقدر الذي يصفها بعض العلماء بأنَّ لها مقاومةً بقدر سقفٍ فولاذيٍّ بسُمكِ عشرة أمتار ، وهي لا تمنع نفوذ الاشعاعات المدمرة فحسب ، بل تمنع سقوط الصخور الفضائية التي تنجذب نحو الأرض باستمرار ، لاصطدامها بهذه الطبقة الجوية بسرعتها الخارقة ، فتكون مانعاً لحركة تلك الصخور ، كما ويؤدّي هذا الاصطدام إلى احتراق تلك الصخور وانصهارها.

فلو لم تكن هذه الطبقة الجوّية العظيمة لأصبح أهلُ الأرض عُرضةً للملايين من قذائف الصخور الفضائية الصغيرة والكبيرة ليلَ نهار ، فماذا سيحصل؟ وهل يكون هناك وجودٌ للاستقرار في «مهد الأرض»؟ وهل سيكون اسمُ المهد والمرقدِ لائقاً بها؟.

لا ضير أن تقرأ هذا الكلام الوارد على لسان عالمٍ معروفٍ يُدعى «فرانك آلن» حيث يقول في كتابه «النجوم للجميع» : «إنَّ الجوَّ الذي تألَّفَ من الغازات التي تحفظ الحياة على سطح الأرض له من المقدار والسمك «بحدود ٨٠٠ كم» بحيث يستطيع أن يكون كالدرع للأرض يصونها من شر اصطدام ٢٠ مليون صخرةٍ فضائيةٍ مدمرةٍ تبلغ سرعتها ٥٠ كيلو متراً في الثانية يومياً!» (١).

صحيحٌ أنّ وزنَ بعض هذه الشهب التي تتقاطر نحو الأرض يعادل ١٠٠٠ ١ من الغرام إلّا أنَّ القوة الناتجة عن سرعتها تعادل قوة انطلاق ذرات القنبلة النووية! .. وقد يبلغ حجمُ ووزن بعض هذه الشُهُب مقداراً كبيراً بحيث تجتاز هذه الطبقة وتصيب الأرض ، ومن الشهب التي اجتازت الغلاف الغازي ووصلت إلى الأرض شهاب «سيبريا» العظيم المعروف الذي أصاب الأرض عام ١٩٠٨ م وكانَ قطرُهُ بقَدْرٍ كبيرحيث احتلَ (٤٠ كم) تقريباً من الأرض ، وأدّى إلى حدوث اضرارٍ جسيمة «وكأنَّ الله تعالى يُنذُرنا بهذا

__________________

(١) النجوم للجميع ، ص ٧٤.

١٣٨

الاسلوب .. لنتصور حالنا فيما لو تعرضنا لقصف الصخور السماوية يومياً».

فلو كان الغلاف الجوي حولَ الأرض بشكل أرقُّ مّما هو عليه «لأصابت الأرضَ يومياً عدةُ ملايين من الأجرام السماوية والشُهب الثابتة ، كما يقول «غرسي مورسِن» مؤلف كتاب «سرُّ الخَلْق» : «ولم تَعُدِ الأرض صالحةً للحياة» (١).

ولا ينبغي طبعاً نسيانُ الآثار المدمِّرة الناتجة عن اصطدام الأشعة فوق البنفسجية بالأرض في حالة عدم وجود هذا الغلاف فهي أكثر بكثير من أخطار آثار هذه الصخور ، ولعلَّ هذا الأمر كان السبب في أن يقول الباري تعالى في نهاية الآية : (وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضوُنَ).

* * *

ويشير في الآية الثانية عشرة والأخيرة إلى خاصِيةٍ اخرى من خصائص السماوات ، وهي من المعجزات العلمية للقرآن الكريم إذ يقول : (اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا).

ويبرهنُ هذا التعبير على أنَّ للسمَوات عموداً إلّاأنّهُ غيرُ قابل للرؤيةِ ، فهو عمود غيرُ مرئيٍّ ، فايُّ شيءٍ يمكنُ أنْ يكونَ هذا العمود سوى توازن قانون «الجذب» و «الدفع» ، أي «القوة الدافعة المركزية»؟ أجَلْ إنّ تعادل الجذب والدفع هذا هو عمود قويٌ بحيث يرفع جميعَ كُرات المنظومة الشمسية وبقية المنظومات في مداراتها بإحكام ، مع أنّه غيرُ مرئيٍّ ، كما ويمنع تساقطها على بعضها ، أو الابتعاد عن بعضها فيختَلُّ نظامُها.

وينبغي الانتباه إلى أنّ «عَمَدْ» (على وزن صَمَدْ) اسمُ جمع من مادة «عمود» ، ولو أراد القرآن أن يقول : «إنَّ السماءَ مرفوعة بلا عمد» ، لكان يكفي أن يقول : (رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَيرِ عَمَدٍ) ، إلّاأنّ اضافة عبارة (تَرَوْنَها) يُدلُ على أنّ المقصود هو نفي الاعمدة المرئية ، ويستلزمُ ذلك إثبات العمود اللامرئي.

__________________

(١) سرُ خلق الإنسان ، ص ٣٤.

١٣٩

لذلك نقرأ في الحديث المشهور عن الإمام الرضا عليه‌السلام حيث كان يتحدث إلى بعض الجهلاء الذين كانوا يقولون : إنَّ السماء بلا عمود ، فقال الإمام عليه‌السلام : «سبحان الله أليسَ اللهُ يقول بغير عَمَدٍ تَرَونَها» ، ويجيب ذلك الشخص بنعم ، فيقول الإمام عليه‌السلام مباشرة : «ثَمَّ عَمدٌ ولكن لا تَرَوْنَها» (١).

وقد رُوي هذا المعنى بتعبير «عمود من نور» في حديثٍ شيِّقٍ لأمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يقول : «هذه النجوم التي في السماء مدائنُ مثل المدائن التي في الأرض مربوطةٌ كلُّ مدينةٍ إلى عمودٍ من نور» (٢).

والذى يثير الانتباه هنا هو بالرغم من أنّ قانون الجذب والدفع لم يكن مذكوراً في تفاسير القدماء والسالفين ، فانَّ منهم من فسَّر الآية كما ذكرنا آنفاً ، حيث قال بوجود عمودٍ غير منظورٍ للسماء ، بالرغم من أنَّ البعض عبَّر عن هذا العمود غير المنظور بقدرةِ الله(٣).

على أيّة حال ، فهذه احدى آيات الله العظيمة ، حيث رفع السموات بهذه الأعمدة القوية غير المنظورة ، والأنظمة المهيمنة على قانون الجذب والدفع ، بحيث لو حَصَلَ أقلُّ تغييرٍ في هذه المعادلة ، فسوف يختلُ توازنها أو تتصادم فيما بينها بشدة وتختفي أو تبتعد نهائياً وينفصم الارتباط بينها.

* * *

النتيجة :

مع أنّ الآيات المتعلقة بخلق السموات والأرض في القرآن الكريم ليست محصورةً بما اوردناه آنفاً ، وإذا تقررَ أنّ تُبحثَ كموضوعٍ مستقلٍ تحت عنوان : «السماء والأرض في

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٢٧٨.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥٥ ، ص ٩١ ؛ تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٧٩.

(٣) تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٤٧ ؛ تفسير روح المعاني ، ج ١٣ ، ص ٧٨ ؛ تفسير الكبير ، ج ١٨ ص ٢٣٢ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٥ ص ٣٥٠٨.

١٤٠