نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

و «مواخر» : جمع «ماخرة» وتعني السفينة وهي من مادة «مَخْرْ» (على وزن فَخْر) كما تطلق على جريان الماء في الأرض وانفطارها ، وكذلك تطاير الماء من على جانبي السفينة ، كما تستعمل هذه المفردة لأصوات هبوب الرياح ، والظاهر أنّها من لوازم المعنى الأول (١).

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

عجائب البحار!

تقول الآية الاولى معرّفة بالذات الإلهيّة المقدّسة : (وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ البَحْرَ).

ويدلِّلُ هذا التعبير على أنّ البحر بكل وجوده في خدمة الإنسان ، والحق كذلك ، فاولُ براعم الحياة تتفتحُ في البحار ، وقد كان البحر فيما مضى وحاضراً مصدراً مهماً لانواع حاجات الإنسان وديمومة حياته.

ونلاحظ من سياق هذه الآية أنّها أكدت على ثلاثة مواضع :

أولها : يستطيع الإنسان أنْ يستخرج من البحر لحماً طرياً إذ يقول : (لِتَأكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَريّاً).

لحمٌ كثيرٌ لم يتحمل الإنسان عناءَ تربية مصدره أبداً ، ويكون طريّاً بشكلٍ كامل وفي متناول يده في أغلب نقاط الأرض.

إنَّ التأكيد على طراوة وطزاجة هذا اللحم ، إضافة إلى إشارته إلى لذة لحم الأسماك ، فهو تذكيرٌ بهذه النكتة ، وهي أنّ الناس في تلك العصور والازمان كانوا يستفيدون من اللحوم المجفّفة بسبب المشكلات التي تواجههم في الحصول على اللحوم الطريّة ، وهذه النعمة ذات أهميّة خاصة ، وفي عصرنا وزماننا حيث تتوفر اللحوم القديمة والمجَمَّدة لأسباب مختلفة تتضح أهميّة هذا التعبير.

ويقول بعض المفسرين : هذا التعبير إشارة إلى عظمة الله عزوجل وقدرته في خلق اللحوم الطرية اللذيذة في المياه المالحة (٢).

__________________

(١) مفردات الراغب ، والمصباح المنير ،. التحقيق في كلمات القرآن ، ولسان العرب.

(٢) تفسير روح المعاني ، ج ١٤ ، ص ١٠٢.

٢٢١

ويُمكنُ أن يكون التعبير بـ «اللحم» إشارة إلى أنّ القسم الأعظم من جسم السمك يتكون من اللَحم وفيه قليلٌ من العظام ، على العكس من بقية الحيوانات.

وتتضح أهميّة هذه النعمة الإلهيّة أكثر من خلال الالتفات إلى أنّ استغلال لحوم الأسماك لتغذية البشر أصبحت تحظى باهتمامٍ بالغٍ بسبب ندرة المواد الغذائية.

وثانيها : يذكر فائدة البحر في استخراج وسائل الزينة لا سيما الجواهر (وتَسْتَخرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا).

فكأنّه يقول : يخرجُ من البحر المواد الغذائية الضرورية جدّاً وحتى الحاجات غير الضرورية والكمالية ، «وكلّها مُسخَّرة لكم».

وثالثهما : يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : (وَتَرىَ الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيْهِ).

«إنَّ الله قد منحكُم هذه النِعَم كي تبتغوا من فضله ، لعلكم تؤدون شكرَ نعمائه» (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ومن أجل أن تتمكن السُفنُ من الإبحار في المحيطات والبحار واستخدامها كأفضل وسيلة لحمل ونقل السلع التجارية وتنقل البشر لابدّ من تظافر عدَّة عوامل :

نوعية القوانين التي تسودُ المواد الثقيلة والخفيفة التي تصونها على سطح الماء ، وتموّج الماء ، وهبوب الرياح المنظّم على سطح المحيطات ، والعمق اللازم للبحار ، فتتظافر كلها كي تتحرك السفن العملاقة على سطح المحيطات ، أمّا السفنُ التي تعملُ بقوة البخار فهي أعظم ما صنَعهُ الإنسان ، وقد يكون حجم أحدها بقدر مدينةٍ وتستطيع انجاز ما يعادل عمل عشرات الآلاف من السيارات لوحدها (إنَّ السفن التي تستوعب خمسمائة الف طن تحمل ما يعادل حمولة ١٥٠ ألف سيارةٍ ذات حمولة ١٠ أطنان!).

إنَّ هذه المسألة بالاضافة إلى مسألة استخراج أنواع المواد الغذائية وغير الغذائية ومواد الزينة ، تعتبرُ دليلاً على علم وقدرةِ خالق الكون الذي وضع كل هذه النِعَم في متناول يد الإنسان مجاناً.

* * *

٢٢٢

وفي الآية الثانية تكررت ذاتُ النِّعم الثلاث التي اشيرَ إليها في الآية السابقة (اللَّحم الطري ، والحُلي ، وحركة السفن في عرض البحار) أيضاً ، واستند إليها ، مع هذا الاختلاف حيث يشير في مطلع الآية إلى بحار الماء العذب والماء المالح فيقول : (وَمَا يَسْتَوى الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرابُهُ وهَذَا مِلْحٌ اجَاجٌ).

ومع أنّ أكثر مياه البحار على سطح الأرض مالحة إلّاأنَّ بحار وبحيرات المياه العذبة ليست قليلة أيضاً ، حيث تُشاهَد نماذجُ عديدة منها في الولايات المتحدة ، وكثيراً ما يستفاد منها ، اضافة إلى الأنهار الكبيرة التي تصب في البحار المالحة وتتوغل فيها ، فتدفع المياه المالحة إلى الخلف ولا تختلط معها لفترةٍ طويلةٍ فتُشكِّلُ بحراً من الماء العذب حيث يسقي كثيراً من السواحل أثناء المد والجزر ، ممّا يؤدّي إلى ازدهار البساتين والمزارع الواسعة.

ويعتبر الفخر الرازي في تفسيره هذين البحرين إشارة إلى المؤمنين والكافرين ، إلّاأنّ التمعنَ في لحن الآيات يدللُ على أنّه لا يقصد هذا المعنى ، بل إنَّ الهدف هو بيانُ آيات وآلاء الله في عَرْضِ الخلق.

* * *

وجاء الحديث في الآية الثالثة عن تسخير البحار للإنسان : (اللهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ).

ولكن استند إلى مسألة الإبحار فقط من بين مختلف بركات البحر ، والتي تمت الإشارة إليها في الآيات السابقة.

* * *

وفي الآية الرابعة اعتبر السُفنَ العملاقة التي تشبه الجبال المتحركة والتي تظهر على سطح البحر من آيات وآلاء الله ، فيقول : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِى الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ).

حقاً .. مَنْ خلقَ المحيطات بهذه السَعَةِ والعمقِ والخصائص؟ ومنْ الذي مَنَحَ الخشبَ

٢٢٣

والحديد هذه الميزةَ بحيث يطفو على وجه الماء؟ ومَنِ الذي أَمَرَ الرياحَ أنْ تَهُبَّ بشكلٍ منظَّمٍ على سطح البحار وتمنح الإنسان فرصة الانتقال من نقطةٍ إلى اخرى ، ويستخرج ملايين الثروات عن طريق البحر؟

أليسَ هذا نظام مُتقن ومُحكَم ، وكذلك النظام السائد على قوة البخار والبرق دليل جلي على علم وحكمة الخالق جلَّ وعلا؟

هنا يشبِّهُ القرآن الكريم السُفنَ الضخمة بـ «الأَعلام» و «الأَعلام» جمع «عَلَمْ» (على وزن قَلَمْ) وتعني في الأصل (كما يقول الراغب في المفردات) الاثر الذي يحصلُ منه علمٌ بوجود شيءٍ ، كالعلامات التي توضع على الطرق ، وعلم العسكر ، ولهذا اطلق على الجبل اسم «عَلَم» حيث يعتبر دليلاً واضحاً يبرزُ من بعيد ، ولهذا السبب شُبِّهت السُفنُ العملاقة بالجبال حيث تتضح من بعيد كالجبال.

واللطيف أنّ القرآن يقول عقب هذه الآية : (إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيِظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ).

ولو شاء جعلَ الرياح مضطربةً وغير منظمةٍ بحيث لا تستطيع أيّة سفينةِ بلوغ هدفها ، بل يغرقها في البحر ، لذلك يكرر التأكيد في نهاية الآية : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُوْرٍ).

اولئك الذين استوعبوا آيات الآفاق من خلال الصبر والتحمل ، ويؤدّون شكر هذه النعمة بعد إدراك الحقيقة ، ويركعون على اعتاب ساحة القدس الإلهيّة العظيمة.

* * *

وأشار في الآية الخامسة إلى هذا الموضوع أي حركة السفن في البحار كأحد النعم الإلهيّة العظيمة أيضاً ، مع هذا الفارق حيث يقول : (ليُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ).

* * *

٢٢٤

وفي الآية السادسة أيضاً حيث يأتي البحث عن سبع آياتٍ من آيات الله ، فهو يذكر الفلك كآية ثالثة حيث تجري في البحر بما ينفع الناس : (وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) ، ويؤكد في ختام هذه الآية أنّ في هذه الامور آياتٍ من الذات الإلهيّة المقدّسة وآياتٍ عن وحدانية الله لقومٍ يعقلون : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

* * *

وفي الآية السابعة يستند إلى ربوبيته تعالى فيقول : (رَبُّكُمُ الَّذِى يُزجى لَكُمُ الْفُلْكَ فى الْبَحْرِ) فلا تتبعوا الأوثان لأنّها ليست بربكم.

وهنا نواجه تعبيراً جديداً «يُزجي» وهو من مادة «إزجاء» التي تعني «تسيير الشيء بمداراةٍ وَرِقّة» بالنحو الذي ورد في (مصباح اللغة) ، ويُستفاد من «مقاييس اللغة» بأنّها تعني «التسيير الدائم والمستمر» ، وهاتان المسألتان في حركة السُفنِ على سطح المحيطات جديرتان بالاهتمام ، لا سيما في السفن الشراعية ، فالمعروف أنَّ الرياح تسوق السُفُنَ برفقٍ واستمرارٍ.

فلو كان للرياح هبوبٌ شديدٌ ، أوتكون متقطعةً فانّها تجعلُ السفن تواجه حركاتٍ واضطرابات قوية ، وقد تتوقف وتضيع في وسط البحر أيضاً ، إنَّ هذا التعبير يبينُ أسراراً جديدة عن هذه الآية الإلهيّة.

ولهذا يستفاد من مجموع الآيات السالفة أنّ لخلق البحار فوائد مختلفة حيث تعتبر كل منها آيةً من آياته تعالى ، لا سيما حركة السفن الدقيقة على سطح المحيطات.

وتُعرفُ النّعمةُ دائماً بعد فقدانها ، فلولا البحار لم يتكدَّس القسم الأعظم من السلع التجارية التي تُنقلُ عبر المياه فحسب ، بل تختفي كميات كبيرة من المواد الغذائية والحُلي أيضاً ، وأهم من ذلك ، تنعدم الغيوم ولا تهطل الأمطار ، ويجر الهواء الجاف والحار جميعَ الكائنات الحيّة إلى الفَناء.

* * *

٢٢٥

توضيحات

١ ـ البحرُ مركز لأنواع النِعَم

لم يكن هنالك أحدٌ عندما تكونت البحار ، كي يرى طريقة تكوينها ، إلّاأنَّ العلماء يعتقدون أنَّ كُرَتَنا الأرضية بعد انفصالها عن الشمس كانت حارةً وساخنة ، وبَرَدَت رويداً رويداً ، كالتفاحةِ الناضجة تعرَّج قشرُها وتجَّعدَ وحصل الانخفاض والارتفاع ، برزت الجبال والوديان والبحار.

ومن الممكن أن يرد هذا التساؤل وهو : من أَين جاءت مياه البحار؟ هنالك رأيان : يعتقد بعضٌ أنّها تكونت نتيجة لتفاعل الاوكسجين والهيدروجين الموجودين في أعماق الأرض وانبثقت كالينابيع التي تتدفق حالياً ، وملأت منخفضات الأرض تدريجاً.

إلّا أنَّ اشهرَ الآراء هو أنّ السماء غطَّت جوانب الكرة الأرضية بالغيوم المتراكمة ، وحينما انخفضت حرارتها سالت على هيئة أمطارٍ غزيرة ، وهطل المطر لآلاف السنين ، وغمرت السيولُ كافة أنحاء الكرة الأرضية بنحوٍ لا يمكن تصوره ، وحصلت البحار ، وحتى أمدٍ طويل كانت أمواجُه تغسل أعماقه وكذلك الصخور والسواحل ، ثم هدأت تدريجاً ، واستقر على هيئته الحالية.

على أيّة حال فإنّ البحر له تاريخٌ قديمٌ جدّاً وملىءٌ بالأسرار ، ولكن الأهمُ من ذلك هي البركات والمنافع التي ينالها الإنسان اليوم من البحار حيث بإمكاننا أن ندرج قسماً منها ، ولا يتسع هذا البحث المختصر لبيانها كلها :

١ ـ إنَّ البَحر له اهميةٌ بالغةٌ في الإبحار وحمل ونقل الناس والسلع التجارية ، وكما اشرنا فانّ البحار تعتبر اهم وسائل البشر للحمل والنقل. لا سيما الخطوط البحرية التي تمتد بشكلٍ طبيعيٍّ إلى بقاع الأرض كافة ، ويكفينا الالتفات إلى هذه الحقيقة وهي صناعة البواخر العملاقة التي تستطيع أن تستوعب (خمسمائة الف طن) من النفط وتنقله إلى أيِّ نقطةٍ في العالم.

وهذا يلزم توفر (خمس وعشرين الف سيارة ذات حمولة ٢٠ طناً) لحمل هذه البضاعة.

٢٢٦

٢ ـ المواد الغذائية ـ ومن أهم الفوائد الاخرى للبحار هي المواد الغذائية التي يحصل عليها الإنسان منها.

فمن أجل معرفة أهميّة هذا الأمر يكفينا العلم بانَّه يتم صيدُ ست وعشرين مليون طن من الأسماك سنوياً ، علماً أنّ هذا الاحصاء يتعلق بثلاثين عاماً مضت ، ومن المسلَّم به أنَّ هذا الرقم قد تضاعف كثيراً في الوقت الحاضر.

وليس الإنسان وحده بل إنَّ الكثير من الطيور تحصل على طعامها من البحار أيضاً ، وهذا بحدِّ ذاته اقتصادٌ في استهلاك المواد الغذائية الجافة.

فيقول بعض العلماء من خلال الاحصاءات التي قاموا بها : إنَّ الطيور البحرية التي تعيش على الجبال الساحلية والجزر الصخرية تستهلك لوحدها مليونين وخمسمائة الف طن من الأسماك سنوياً!.

ونعلمُ أيضاً أنَّ جانباً مهماً من علف الدواجن يتم تأمينه من عظام أسماك البحر ، (نفس هذه الأسماك المصطادة) ، أي أنّها تتدخل بصورةٍ غير مباشرة في تغذية الإنسان.

٣ ـ الاعشاب والادوية ـ يحصل من كل هكتارٍ من البحر خمسمائةُ طنٍ من العلف الاخضر ، في حين أنّ أفضل مزارعنا لا تنتجُ أكثر من أربعة أطنان وفي بعض البلدان يُستَغلُ هذا العلف لتغذية المواشي ، ويُستَعملُ رماده سماداً للمزارع أيضاً.

ويستخرجون من الاعلاف البحرية مختلف المواد ، كالكحول الجامد والسلولوز والنشاء والمواد الجلاتينية ، حيث تُستثمر في الصناعات الكيميائية واعداد الطعام (وبعض الادوية).

٤ ـ المعدن والنفط ـ إنّ البحارَ غنيّةٌ بالمعادن ، ويكمنُ جانبٌ من هذه المعادن في أعماقها ، ويعومُ الجزء الاعظم منها على سطحها ، ومنها الفلزات التي يمكن استخلاصها من ماء البحر «كالمغنيسيوم» الذي يُستعملُ في الصناعات ، وكذلك «البوتاسيوم» و «البروم» و «سلفات الصوديوم» وغيرها.

يقول العلماء إنَّ أكثر من أربعين عنصراً (عدا ما ذُكر) موجودٌ في ماء البحر ، لها قيمةٌ

٢٢٧

صناعية جديرة بالاهتمام ، كما ويعثر على الذهب في ماء البحر أيضاً ، غير أنَّ استخراج الكثير من الغازات ما زال يحتاج إلى ميزانيةٍ هائلةٍ لا يمكن مقارنتها بالاستهلاك ، وقد يأتي اليوم الذي يتمكن فيه الإنسان من أن ينالها من خلال طرقٍ أكثرَ يُسراً.

وتقوم بعض الشركات العملاقة بتصنيع أكثر من خمسمائة مادةٍ مختلفةٍ من معادن البحر ، حيث هنالك مليارات الأطنان من المعادن.

ويعتبر النفط ـ وهو من أثمن المستخلصات ـ من هدايا البحر ، لأنَّ المليارات من الموجودات البحرية توجد في أعماق البحار العظيمة ، وبما أنّ القارات ارتفعت فيما بعد فقد دُفنت هذه الموجودات تحت الرمال التي تحوَّلت إلى صخورٍ بعد ذلك ، وبقي النفط الناتج عنها في أعماق الأرض.

والملحُ هو أحد اهم المواد المعدنية التي تُستخرج من البحر ، له دورٌ مهمٌ في حياة الإنسان ، وقد ذكروا في السابق أنّ الملح بلغ من الأهميّة بحيث إنَّ جنود الروم كانوا يتقاضون رواتبهم على هيئة ملح ، وحتى في روسيا فقد اندلعت «ثورة الملح»! بسبب ارتفاع سعره.

إنَّ أهم مصادر استخراج الملح هو البحر ، وحتى أنّ بعض المناطق الملحية الموجودة على اليابسة والتي يبلغ قطرها ٨٠٠ م هي من آثار البحار عندما كانت تغمر جميع بقاع الأرض.

لقد قدَّروا الاستهلاك العالمي للملح ب ٢٢ مليون طن سنوياً ، بحيث لو أراد الإنسان استهلاك مخزون الملح الموجود على اليابسة لَنفدَ عاجلاً أو آجلاً في حين أنّ البحر مصدرٌ لا ينفدُ للملح ، فيمكن أن تؤمِّنَ أملاحُ البحر ما يحتاجه البشر لمدة مليون وسبعمائة الف سنة.

٥ ـ افضلُ منتجٍ للطاقة ـ لقد انتبه الإنسان منذ القِدَم إلى هذا الأمر ، وهو إمكانية انتاج الطاقة من خلال السيطرة على المياه المتراكمة بسبب المد ، وتنسحب أثناء حدوث الجزر ، فتستغل لتحريك المطاحن وغيرها.

٢٢٨

وتفيد بحوث العلماء المعاصرين أنَّهُ يُمكنُ انتاج الكهرباء بكمية كبيرة من هذه البحار ، وأنْ يستعانَ بها بصفتها أهم مصدرٍ لانتاج الطاقة ، فالجَزر والمد اللذان يحدثان مرّتين ليلاً ونهاراً بتأثير جاذبية القمر يقومان برفع وخفض ماء البحار بمقدارٍ كبير ، وهذا الأمر إضافة إلى مسألة الطاقة التي اشير إليها فهو يؤثر في سقي المناطق الساحلية ، لأنَّ مصبات الانهار التي تصب في البحار تمثلُ بحراً من الماء العذب ، فيندفع ماء الساحل العذب إلى الخلف ويُغطي كثيراً من الأراضي ، لذلك سَخر البشرُ مند القِدَمِ أراضِيَ واسعةً للزراعة من خلال شق الأنهار في مثل هذه المناطق.

ولعلَّ هنالك الملايين من أشجار النخيل في سواحل الخليج الفارسي حيث تُسقى بنفس هذه الطريقة فقط ، لأنَّ الماء يتراجع إلى مسافات بعيدة عن الساحل ، فهذا الماء العذب الفرات الذي يجاور الماء المالح الاجاج ولا يختلط معه يعتبر ثروةً عظيمةً لسكان السواحل.

٦ ـ وسائل الزينة المختلفة ـ من المنافع الاخرى للبحار التي ذُكُرت بشكل خاص في الآيات المذكورة هي وسائل الزينة التي تُستخرج من البحر ، كاللؤلؤ الذي ينمو في نوعٍ خاصٍ من الصدف ، والمرجان الذي هو نوع من الاحياء البحرية ، ولكن على هيئة اغصان أشجار لها منظر جميل ومرغوب ، اضافة إلى صفةِ الزينة فهو يُستعملُ في الطب أيضاً.

٧ ـ تلطيف الجو عن طريق البحار ـ ليست الرياح التي تهبُّ من البحار نحو اليابسةِ هي التي تُرطبُ وتُلَطفُ الجَّو فقط ، بل هنالك أنهارٌ عظيمةٌ متحركة في قلب محيطات العالم تتحرك من المناطق الحارة إلى المناطق الباردة وبالعكس ، وبصورة عامة لها أثرٌ بالغٌ في تلطيف الهواء على الكرة الأرضية.

وواحدٌ من أعظمها هو «غولف استريم» ، هذا النهر العظيم الذي يتحرك من سواحل أمريكا الوسطى ويطوي المحيط الأطلسي ، ثم يصل إلى سواحل شمال اوربا ، وهذه المياه تكون حارةً حينما تتحرك من المناطق القريبة من خط الاستواء ، حتى أنّ لونها يختلف أحياناً عن لون المياه المجاورة لها ، واللطيف أنّ عُرضَ هذا النهر البحري العظيم أي «غولف

٢٢٩

استريم» نحو مائة وخمسين كيلو متراً ، وعمقه عدة مئات من الأمتار (١) ، وتبلغ سرعته في بعض المناطق حداً بحيث يقطع مائة وستين كيلو متراً في اليوم ، وتختلف درجة حرارته عن حرارة المياه المجاورة ب ١٠ ـ ١٥ درجة.

إنَ «غولف استريم» يتسبب في حصول رياحٍ حارةٍ ، ويعطي نسبةً كبيرة من حرارته إلى البلدان الواقعة شمال اوربا ، فيعمل على تحسين جوِّها ، ولولا هذا الجريان لتعسرت الحياة كثيراً في هذه البلدان واستحالت في بعضها.

والعجيب أنّ هذه الأنهار البحرية العظيمة والتي يكمن السبب الرئيس وراء ظهورها في التفاوت في درجة حرارة المناطق الاستوائية والمناطق القطبية قليل ما تمتزج بالمياه المحيطة بها ، وتطوي آلاف الكيلو مترات بهذا الشكل ، فهي مصداقٌ لطيفٌ لـ (مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّايَبْغِيَانِ). (٢) (الرحمن / ١٩ و ٢٠)

٨ ـ استثمار ماء البحر طبياً ـ لا حاجة لتوضيح أنّ ماء البحر له آثارٌ مفيدة لجسم واعصاب الإنسان ، ولهذا ينتشر اليوم وفي معظم مناطق العالم استثمار ماء البحر لعلاج بعض الأمراض الجلدية والعصبية ، أو لحفظ الصحة والسلامةِ ، ولو تمَّ القضاء على التلوث الأخلاقي في هذا المجال لأصبح استثمار ماء البحر مصدراً لسلامة ونشاط الناس.

٩ ـ المصدر الرئيس للمياه الجوفية ـ إنّ أهمَّ وأعظمَ وأكثر فوائد البحر هي الابخرة التي تتصاعد منه ، ثم تؤلفُ الغيوم ، وتساقُ هذه الغيوم نحو المناطق اليابسة والجافة ، فتُحييها ، حيث ذُكرَ ذلك في فصل الريح والأمطار بشكلٍ مُفصَّلٍ.

١٠ ـ توفير الماء العذب ـ يتمُّ في الكثير من المناطق التي يصعب الحصول على الماء العذب ، تأمين هذه المادة الحياتية من خلال تقطير ماء البحر فتصبح المناطق المهجورةُ مسكونة بسبب ذلك.

هذا جانبٌ من منافع وبركات البحار التي وقف عليها الإنسان حتى هذا اليوم ، وليس

__________________

(١) وقد ذُكر في بعض الكتب أنّ عمقَهُ يصل في بعض المناطق إلى (٨٠٠ م) (البحر والعجائب ، ص ٤٦).

(٢) لمزيد من التوضيح في هذا المجال يراجع التفسير الامثل ، ذيل الآية ١٩ و ٢٠ من سورة الرحمن.

٢٣٠

معلوماً ما حجم المنافع التي سينالُها الإنسان في المستقبل ، وهنا نقف على عظمة هذا التعبير القرآني : (وَسَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ) (١).

* * *

٢ ـ البحر عالم العجائب

لو فكرنا جيداً فانَّ جميع الموجودات في العالم تبعث على الدهشةِ ، ولكن لا يشبهُ أيٌ منها الاحياءَ التي في أعماق البحار ، وقد ذكر بعض العلماء أنّ عدد أنواع الاحياء البحرية التي تمت معرفتها مائة وأربعون الف نوعٍ ، علماً أنّ عدد هذه الأنواع كثيرٌ للغاية على سطح المحيطات ، ولكن كلَّما نفذنا في الأعماق فانّها تقلُّ ، أو على الأقل تقلُّ معلوماتنا عنها.

والمسألة المهّمة التي تخص البحار هي أنّ التصوُرَ كان ينصبُ على عدم وجود أيِّ كائن حيٍّ في أعماق البحار ، لأنَّ أشعة الشمس تنفذ إلى عمق (٦٠٠) متر في الماء فقط ، وتختفي نهاية الأشعة في مثل هذا العمق ، فيغُطُ كلُّ شيءٍ في «ظلام دامس».

بالاضافة إلى أنّ ماءَ البحر يكون بارداً جدّاً في هذه المنطقة ، والأهمُ من ذلك الضغطُ الذي يولده الماء على موجودات تلك المنطقة ، لأنَّ ضغط الماء في عمق كيلو مترٍ واحد يكون في نحو من مائة كيلو غرام لكل سنتمتر مربعٍ واحدٍ ، ومن المسلمِ به لو كان الإنسان هناك مجرّداً من ملابس الوقايةٍ لتحطمت وسُحقت عظامُهُ (٢) ، ولهذا لا يمكن النزول في البحار بعمق عشرة أمتار فأكثر بدون ملابس واقيةٍ ، ولابدَّ من استخدام الواقيات الفولاذية السميكة أثناءَ الغوص في الاعماق ، وإلّا لدَمَّر ضغطُ البحر كلَّ شيء ، ولا يمكن الذهاب بكل وسيلة إلى الأعماق في بعض المراحل بسبب عدم وجود شيءٍ يقاوم الضغط.

__________________

(١) تُراجع كتب : البحر دار العجائب ؛ وأسرار البحر ؛ وعجائب البحر ؛ ونشرة الميناء والبحر ؛ رسالة الثقافة ، ج ١٢ ؛ وأفضل الطرق لمعرفة الله.

(٢) إنَّ الغواصين يغوصون إلى عمق ٣٠ متراً فقط بدون ملابس الغوص وإلى عمق ١٥٠ متراً بملابس الغوص ، في حين أنّ ضغط الماء يبلغ ٧ أطنان لكل انج مربعٍ في أعمق نقاط البحر (البحر دار العجائب ، ص ٨٩).

٢٣١

على أيّة حال فقد اثبتت بحوث العلماء فيما بعد أنّ هنالك في أعماق البحر موجوداتٍ حيَّةً كثيرة وعجيبة ، حيث تقوم بإبطال مفعول الضغط العجيب للماء من خلال الضغط الداخلي الموجود فيها.

ولا تنمو الحشائش هناك كي تستفيد منها الاحياء الموجودة في قاع البحر ، لكن يد القدرة الإلهيّة تقوم بتهيئة الغذاء اللازم لها والذي هو عبارة عن المواد النباتية المختلفة على سطح المحيط وتحت ضوء الشمس ، وبعد إعداده ينزل إلى سُكان أعماق البحر على هيئة مائدةٍ سماوية ، وتترسب هناك ، بالاضافة إلى الاحياء الموجودة على سطح الماء التي تموت حيث تُعَدّ جثثها طعاماً لذيذاً للموجودات الحيّة في قاع البحر.

ولكن لنرَ كيف تُحلُّ مشكلة الظلام الدامس؟ فقد وفَّرت القدرة التي خلقت هذه الموجودات للعيش في هذه المنطقة والنور اللازم لها ، لأنَّ اغلبَ هذه الاحياء تقوم باشعاع النور منها ، نورٌ كنور ليلة مقمرة من ليالي الصيف فتضيء ذلك المحيط.

وينطلقُ نورٌ احمر من رأس نوعٍ من الأسماك ، ومن ذيل اخرى نورٌ ازرقٌ ، وينشر بعضُ الأسماك نوراً باللون الاحمر والابيض والازرق.

يقول أحد العلماء : إنَّ أكثر المناطق عجباً في البحر ليست قرب سطح الماء ولا قاع المحيط ، بل هي المنطقة التي تتوسطهما ، فليس لها سماءٌ فوقها ولا أرضٌ تحتها ، وانما يحيط الماء بكل شيء ، ولا مأوى للموجوداتِ التي تحيى هناك ، فهي في حركةٍ مستمرة ، وهنالك الأسماك التي تُحيّرُ العقول ، فاسنانُ بعضها طويلٌ بالقدر الذي لا تتمكن من أن تغلقَ فمها أبداً ونوعٌ من الأسماك يتسع بطنهُ بحيث يتمكن من ابتلاعِ سمكةٍ تعادلُ حجمه ثلاث مرات ، وقد اطلق على هذه الأسماك أسماءً عجيبةً وغريبةً مثل «البالع الأسود» و «الأفعى البحرية» و «ثعبان السمك»!

لنترك قعر المحيط ونأت إلى سطح الماء فهناك عجائب أيضاً ، وهنالك أسماك كلٌ منها اعجبُ من الآخر ، منها الأسماك ذوات الشحنة الكهربائية حيث تستطيع انتاج كميات كبيرة من الكهرباء بايعاز من الدماغ ، إذ تصيب العدو أو الفريسة بالشلل ، تلك الشحنات الخطيرة حتى على الإنسان أيضاً.

٢٣٢

و «الأسماك الطائرة» التي تخرج من الماء وتطير إلى مسافة ستين متراً ، وتقفز أحياناً أعلى من الأشجار.

و «السمك ذو الدواة» الذي يفرز مادةً سوداء اللون في ماء البحر للاختفاء عن العدو والافلات منه ، كما يُصنع اليوم في الحروب التقليدية ، حيث يُملأ ميدان المعركة بالدخان كي يتوارى الأشخاص عن العدو.

و «السمك المائدة» أحد الأنواع العجيبة للسمك ، حيث تكون عريضةً وكبيرة جدّاً ، إذ تبسط نفسها على سطح المحيط فتشكل مائدة ، وبمجرّد وقوع الفريسة على هذه المائدة تجمع أطرافها المبسوطة عليها وتنشغل بأكلها.

يعيش في البحر أصغر الاحياء ، وأكبرها أيضاً ، إذ يبلغ طول الحيتان الموجودة في البحر ثلاثين متراً ، وقطرها أكثر من أربعة عشر متراً ، ويبلغ طول فكِّها أكثر من سبعة أمتار ، ووزنُ لسانها ثلاثة أطنان ، ووزن قلبها نصف طن ، ووزن كبدها طناً واحداً ، ويبلغ طول وليدها سبعة أمتار أحياناً (١).

وكان طول احدى الحيتان التي تمّ اصطيادها في جزائر «نيو جورجيا» ثلاثاً وثلاثين متراً ، ووزنها مائة وخمسة وعشرين الف كيلو غرام (٢).

وكذلك هناك نباتاتٌ مجهريةٌ ، ونباتات يبلغ طولها خمسين متراً تعيش في البحار أيضاً.

* * *

٣ ـ البحر في كلام المعصومين عليهم‌السلام

وهنا نترَّنمُ بهذه الجملة المشهورة في دعاء الجوشن من خلال عالَمٍ من الخشوع والإخلاص ولْنَقُل : «يا مَنْ في البحار عجائِبُهُ» (٣).

__________________

(١) عجائب البحر ، ورسالة الثقافة.

(٢) البحر دار العجائب ، ص ١٢١.

(٣) دعاء الجوشن الكبير ، الفقرة ٥٨.

٢٣٣

في ذلك اليوم حيث رُويت هذه العبارة في دعاء الجوشن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تزل أسرار البحار غير مكشوفة لأحد ، واليوم تتجلّىَّ لنا عظمة هذه العبارة أكثر من أيِّ وقت.

وورد في دعاءٍ ومناجاةٍ اخرى لأمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يقول :

«أَنتَ الذى في السماء عَظَمَتُكَ ، وفى الأرضِ قُدْرَتُكَ ، وفى البحار عَجائبُكَ» (١).

ونواصل هذا البحث بحديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث يقول :

«سخَّرَ لكُمُ الماءَ يَغدو عَلَيكُمْ وَيَروُحُ صَلاحاً لمعايشكُمْ والبَحْرَ سَبَباً لكَثْرَةِ أمْوالِكُم» (٢).

ونختم هذا البحث بمقطعٍ من الحديث المشهور ب «توحيد المفضّل» عن الصادق عليه‌السلام ، إذ يقول عليه‌السلام :

«فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين ، فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ودواب الماء ، والاصداف والاصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلّاالشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث ؛ مثل القرمز فانّه إنّما عرف الناس صبغه بأنّ كلبة تجول على شاطيء البحر فوجدت شيئاً من الصدف الذي يسمى «الحلزون» فاكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتخذوه صبغاً ...» (٣).

نعم .. ففي البحر وموجوداته ونباتاته وغيرها منافع وبركاتٌ تتكشفُ عنها المزيد من الأسرار في كل يومٍ يَمُرُّ من حياة البشر ، وتظهر لهُ فوائد جديدة بحيث تجبر الإنسان على الخضوع إلى خالق هذه النِعَم.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٩٧ ، ص ٢٠٢.

(٢) المصدر السابق ، ج ٦٠ ، ص ٣٩ ، ح ٣ (باب الماء وانواعه والبحار).

(٣) المصدر السابق ، ج ٣ ، ص ١٠٩ (حديث المفضل).

٢٣٤

١٤ ـ آياتُهُ في خلقِ الظِّلال

تمهيد :

هل أنّ الظِّلَّ شىءٌ يمكنُ من خلاله أن تستدل على خالق العالَم؟ نعم .. فقد تمّت الإشارة في آيات القرآن الكريم إلى هذه المسألة التي تبدو عاديةً أثناء وصف نِعَمِ الخالق جلَّ وعلا والتعريف بالذات الإلهيّة المقدّسة ، فهو تعالى يريدُ بيانَ هذه الحقيقة ، وهي أينما يقع بصرُكَ في هذا العالم المليء بالعجائب والأسرار فانَّ عظمَتهُ تتجلى فيه ، وبراهينُ حكمته وقدرته مكتوبةٌ في جبين كل الموجودات صغيرها وكبيرها.

بعد هذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية :

١ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيْلاً* ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِليْنَا قَبْضَاً يَسيْراً). (الفرقان / ٤٥ ـ ٤٦)

٢ ـ (اللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجِبَالِ أَكْنَاناً وجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيْلَ تَقيْكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ). (النحل / ٨١)

٣ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلىَ مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَىٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِيْنِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِّلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ). (النحل / ٤٨)

٤ ـ (وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّموَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُمْ بِالْغدُوِّ وَالآصَالِ). (الرعد / ١٥)

* * *

٢٣٥

شرح المفردات :

«ظِلال» : جمع «ظِلّ» إلّاأنّ العالِم والمفسرَ المعروف «الراغب» يقول في كتاب «المفردات» : أيُّ مكانٍ لا تشرق فيه الشمس يُعتبر ظِلاً سواء أشرقت عليه سابقاً أم لا ، ولكن «الفيء» على وزن «شيء» ، يقالُ للمكان الذي أشرقت عليه الشمس سابقاً ثم غطّاه الظل.

في حين أنّ بعض أرباب اللغة اتخذَ الاثنين بمعنىً واحد ، وقال البعض إنَ «الظل» هي الظلال التي تنزل أثناء الصباح ، و «الفيء» يُطلقُ على الظلال التي تنزلُ عصراً ، إلّاأنّ المعنى الأول يتناسب كثيراً مع حالات استعمال هذين اللفظين.

ويطلق لفظ «الظل» كنايةً في مورد العزّةِ والمَنعةِ والرفاه والراحة لأنَّ من المعروف أنَّ هذه الأحوال تحصل في الظل (١).

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

هل إنَّ الظِّلَّ نعمةٌ عظيمة؟

إنَّ الحديث في هذه الآيات عن الظلال ، والمسألة تبدو وكأنّها عاديَة لكنَّ التفحُصَ فيها يمكنُ أن يُقربَنا ويُعرفَنا أكثر بخالقِ هذا العالم.

ففي الآية الاولى يخاطبُ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : (أَلَمْ تَرَ الىَ ربِّكَ كَيْفَ مَدَّ الْظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً).

ويضيف في نهاية الآية قائلاً : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيْلاً) ، ويضيف في الآية التي تليها : (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلْينا قَبْضَاً يَسيراً).

وهنا ما المقصود بهذا الظِّل الذي يمُّدهُ الباري تعالى ثم يجمعه تدريجياً؟ قال بعض المفسرين : المقصود هو ظلُّ الليل حيث ينبسطُ على جميع سطح الأرض وينقبض بنحوٍ متناوب ، ويعتبر وجود الشمس دليلاً وإشارة عليه ، إذ (تُعرفُ الاشيَاءُ بِاضدَادِهَا).

ويعتبره البعض إشارةً إلى الظلِّ الذي يمتدُّ بين الطلوعين (بين طلوع الصبح وطلوع

__________________

(١) لسان العرب ؛ ومفردات الراغب.

٢٣٦

الشمس) ، فيغطي وجه الأرض وهو افضل الظلال والساعات.

واعتبره البعض بمعنى الظلال التي تحصل أثناء النهار بسبب اصطدام ضوء الشمس بالجبال والأشجار وبقية الاجسام ، ثم ينتقل تدريجياً.

من هنا حيث لا تتعارض هذه التفاسير الثلاثة ، وبما أنّ تعبير الآية مُطلق وجامع ، فيمكن أن يكون إشارة إليها كلها إذ إنَّ كلاً منها نعمةٌ ثمينة.

إننا نعلمُ أنّ اللَّيلَ في الواقع هو ظل نصف الكرة الأرضية الذي يقع أَزاء الشمس ، الظلُّ المخروطي الشكل الذي يمتد في الفضاء في الجهة المقابلة ويتحرك باستمرار ، ولولا ظلُّ اللَّيل لاحترقت كافة الكائنات الحية بفعل ضوء الشمس والحرارة الناتجة عنه ، وهلكَ النسل البشري بسرعة.

وكذلك لولا وجود سائر أنواع الظلال ، ولو كان الإنسان مجبوراً على قضاء النَّهار تحت الشمس لوقَعَ في حَرَجٍ بالغٍ ، ولأصبحت الحياةُ شاقةً بالنسبة له لاسيما في فصل الصيف ، إنَّ اللهَ تعالى فتحَ الظل للإنسان كي ينالَ الراحة والاستقرار هو ومن يتعلق به.

وبتعبيرٍ آخر فانَّ بعض الأشياء خُلقت «معتمة» ، والبعض خُلق «شفافاً» بحيث يعبرُ النور من خلاله ، فلو كانت كل الأشياء شفافةً فلا وجود للظلِّ اطلاقاً وستتبدلُ حياة الإنسان مقابل ضوء الشمس المستمر إلى جهنم محرقة ، وإذا تفكَّرَ الإنسان قليلاً في هذا المجال فسيتعرف على عظمة وأهميّة هذه النعمة ويتمكن من خلال ذلك الوصول إلى الخالق الحكيم.

ولعلَّ التصريح بـ «النظام التدريجي للظِّل» في الآيةِ أعلاه إشارة إلى هذه الحقيقة وهي لوأنَّ الظِّلال تحصل أو تزول فجأة لأدّت إلى اضرار جسيمة ، إذ لا يخفى على أحد الاضرار الناتجة عن الانتقال المفاجيء من النور إلى الظلام وبالعكس ، أو من الحر إلى البرد وبالعكس.

ولكنَ «الظِّل» بما له من بركاتٍ ولطفٍ ، مضرٌ أيضاً فيما إذا دام وخَلُدَ لأنَّه يحرم الإنسان من نعمة النور ، لهذا يقول في الآية أعلاه : (وَلَو شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً) ، (ولكنه للطفه وكرمه لم يفعل ذلك كي يَنَعُمَ العباد بنعمة النور والظِّل على السواء).

٢٣٧

ويقول في الآية الثانية التي تمَّ بيانها ضمن آيات التوحيد في سورة النحل ، بعد تعداد بعض آيات الآفاق ونِعَمِ الخالق جلَّ وعلا : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَق ظِلَالاً).

قال بعض المفسّرى : إنَّ المقصود هنا الأشياء التي تتسبب في ايجاد الظّلال ، كالجبال والأشجار ، والغيوم ، والسقوف والجدران (١).

وممّا لا شكَّ فيه لو كانت جميع الاشياء ـ كما المحنا سابقاً ـ شفافةً ومضيئة كالبلور ، ولا وجود للظلِّ في العالم لكانت الحياة غير ممكنة بالنسبة للإنسان.

ويشير سياق الآية إلى سائر النِّعم التي هي في الواقع مكملةً لوجود الظلِّ ، كالملاجىء المستحدثة في الجبال على هيئةِ مغاراتٍ وكهوف ، والتي تقي الإنسان من حرارةِ الشمس المحرقة ، كالدرع حينَ يَصُدُّ طعنات العدو في ساحة الحرب : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الجِبَالِ أَكنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابيْلَ تَقِيْكُمْ بَأسَكُمْ) (٢).

وهنا لماذا أشار في الآية الآنفة إلى اللباس كوقاءٍ للحفظ من الحَرِّ فقط ، من دون الإشارة إلى البرد؟ يقول بعض المفسِّرين : لأنَّ المناطق التي نزلت فيها هذه الآيات ، المتداول فيها مسألة الحر بكثرة ، أو لكثرة وزياده اخطار الحرارة والاحتراق عند مواجهة الشمس ، في حين تتزايد طرق وقاية الإنسان لمواجهة البرد.

ولكن لا يجب نسيان أنّ في آداب العرب حينما يريدون التلميح إلى ضدّين فهم يحذفون أحدَهُما في أغلب الموارد ويذكرون واحداً فقط ، وهذا الأثر له قرائن كثيرة.

والجدير بالاهتمام أنّه يقول في نهاية هذه الآية بعد ذكر هذه النِّعم الثلاث (الظلال ، والمساكن ، والملابس) : (كَذلِكَ يُتِمٌّ نِعْمَتَهُ عَلَيِكُم لَعَلَكُمْ تُسْلِمُونَ).

نعم .. فالتأمل بهذه النِّعَمِ وأسرارها المختلفة يعرِّفُ الإنسان بعلمِ وقدرة الله تعالى من ناحيةٍ ، ومن ناحيةٍ اخرى يدفعُ إلى التسليم إلى أوامر الخالق جلَّ وعلا ذي اللطف والرحمة ، من خلال تحريك الشعور بالشُّكر له.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ١٤ ، ص ١٨٦ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٧٧٥.

(٢) «سرابيل» جمع «سربال» (على وزن مثقال) وقد فسَّرها البعض بكل أنواع الملابس ، واعتبرها البعض بمعنى الرداء (حيث يرتدون الدرع كالرداء) إلّاأنّ المعنى الأول اكثرُ تناسباً هنا.

٢٣٨

وفي الآية الثالثة يوجه اللوم والتوبيخ للمشركين في آيات التوحيد فيقول :

(أَوَلَمْ يَرَوْا الىَ مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَىءٍ يَتَفَيَّؤا ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِيْنِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) (١).

أيٌ تعبيرٍ لطيفٍ هذا؟ فقد خضعت الظلالُ بأسرها وسجدت أمام ذاته المقدّسة ، لأنّها مُسَلِّمةٌ لأمرِهِ وهذا التسليم والخضوع أمام قوانين الخالق هو سجودها لحضرته تعالى.

فكيف يتضاءل الإنسان أمام الظلال ، ويسجدُ للأصنام ، ولا يسجدُ للخالق جلَّ وعلا؟!

إنَّ سجودَ الظِّلالِ جزءٌ من سجود كافة الكائنات في السماء والأرض ، ولهذا فقد أشار في سياق هذه الآية إلى هذا السجودِ العام ، فقال : (وللهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمواتِ ومَا فِى الأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ).

وهنا سُتطرحُ بحوثٌ مفصلّة خلال بحث السجود العام لموجودات العالم أمام الباري عزوجل ، على أيّةِ حالٍ ففي هذه الآيةِ إشارة لطيفة إلى أهميّة الظلال وآثارها حيث تصلح كمصدرٍ لإلهام التوحيد.

* * *

وفي الآية الرابعة يضع الظّلال في جُملة موجودات السماء والأرض التي تخضع وتسجدُ لله تعالى ، فيقول : (وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ والآصَالِ).

وربّما يكون التعبير بـ «طَوْعاً وَكَرْهاً» إشارة إلى تسليم الموجودات العاقلة وذات الاحساس رغبةً وطوعاً ، وإلى تسليم الموجودات غير العاقلة كالظلال للأوامر الإلهيّة فتسجد قوانين الخلق الاجبارية.

__________________

(١) «يَتَفَيَؤا» من مادة «فيء» وتعني العودة والرجوع ، ويحصرها بعض أرباب اللغة بمعنى ظلال الأشياء حين عودة الشمس عصراً ، واطلاقها على غنائم الحرب يعود إمّا بسبب رجوع المسلمين بها ، أو زوالها أو فنائها النهائي كالظلال ، و «داخر» تعني المتواضع.

٢٣٩

أو إلى أنّ المؤمنين يسجدون رغبةً وطوعاً ، وغيرُ المؤمنين الذين ليس لديهم الاستعداد للسجود طوعاً فإنّ جميعَ ذرات وجودهم مسلِّمة لله تعالى بحكم قوانين الخلق الاجبارية ، وقد جبلوا على السجود التكويني أمام ذاته المقّدسة.

أو أنّ المؤمنين يُمَرِّغون جباهَهُمْ بالتراب أزاءه في كل الأحوال (في الراحة وعند حلول المشكلات ، مطمئنين كانوا أم مضطربين) ، إلّاأنّ الكافرين لا يتوجهون نحوه إلّاحينما تباغتهم المشاكل.

وممّا لا شك فيه أنّه ليس هنالك تعارضٌ بين هذه التفاسير الثلاثة ، ويمكنُ جمعُها في مفهومٍ واحدٍ.

والتعبير ب «مَنْ» في الآية أعلاه مع أنّه يختص باصحاب العقول حسب الظاهر ، إلّاأنَّ من المحتمل أن يكون له مفهومٌ عامٌّ فيشمل كافة الموجودات العاقلة وغير العاقلة ، فيصبح التعبير بـ «مَنْ» من باب التغليب.

وأمّا تعبير «الغدو» و «الآصال» (الصباح والمساء) فلعلّه كان بسبب إمكانية زوال الظلال وسط النهار ، أو كونها ضئيلة جدّاً ومحدودة ، في حين أنّها ليست كذلك في الصباح والمساء ، وفضلاً عن ذلك ، فإنّ هذا التعبير جاء في الكثير من الحالات لبيان الديمومة والتعميم ، فمثلاً تقول : إنّ الشخص الفلاني يدرس صباحاً ومساءً ، أو إنّه يؤذي شخصاً آخر ، أي إنّه كذلك على الدوام.

يُستفاد من مجموع هذه الآيات أنَّ القرآن الكريم يولي اهتماماً خاصاً حتى للظلال ، ويعتبرها من آيات عظمة الله ، والتعبير بـ «السجود» الذي هو غايةُ الخضوع إشارةٌ إلى هذا المعنى.

* * *

توضيح

لو لم تكن هناك الظلال ...؟!

من أجل ادراك أهميةِ أيّ موجودٍ لابدّ من احتمالِ زواله تماماً في لحظةٍ أو يومٍ أو شهرٍ

٢٤٠