نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

يدفعه إلى داخل الأغصان بعد التغييرات التي يُحدثها فيه ، ومنها إلى الثمار ، وتجري عليها تفاعلات كيميائية جديدة في كلِّ مرحلةٍ ، كي يصنع من التراب فاكهةً طيبةً كالعسل ، أو يصنَع دواءً شافياً وصحياً.

ومن أهم واجبات الجذر امتصاص ـ النتروجين المذاب ـ الضروري لبناء النبات الذي لا تتمكن بقية أجزاء النبات من جذبه.

وبناء الأوراق أكثر عجباً منه ، فلو وضعنا ورقةً أمام أشعة الشمس ستلفت نظرنا الفروعُ الدقيقة جدّاً الممتدة فيها والتي يكون واجبها ايصال الماء والغذاء إلى كافة خلايا الورقة. وفي الواقع أنَّ كلَّ ورقةٍ تعتبر بحد ذاتها مدينةً كاملةً ، وهذه الفروع هي الأنابيب المنّظمة لهذه المدينة ابتداءً من الانبوب الرئيسي ، وحتى أصغر التفرعات.

والورقة مع رقتها لها سبع طبقات ، وكلُّ طبقةٍ لها بناءٌ وبرنامجٌ خاص يَبعث على الدهشة ، والغلاف الذي يغطي الورقة كجلد الإنسان ذو مساماتٍ دقيقة جدّاً ، وكل من هذه المسامات لها خلايا للصيانة تقوم بتنظيم انفتاح وانغلاق المسامات.

وتتنفس الورقة من خلال هذه المسامات ، فتستنشق الهواء وتفصل عنه غاز ثاني اوكسيد الكاربون ، لتصنع به «الكلوروفيل» النباتي ، وفي المقابل تطرح الاوكسجين وكميةً من الرطوبة لتلطيف وتطهير الجو كموهبتين عظيمتين لدنيا الإنسانية.

والأرقام التي يقدمها العلماء هنا تبعث على الحيرةِ إذ يقولون : من أجل أن يتمكنَ النبات من صناعة رطل واحد من السُكَّر يجب أن تستنشقَ الأوراقُ ما يعادل ثلاثمائة الف لتر من الهواء وتحلّله.

وبناء الأزهار ومن ثمَّ الثمار أعجبُ من ذلك أيضاً ، فهناك الأقسام الذكرية والانثوية ، وتفاعل الذّرات الذكرية الدقيقة جدّاً مع الأجزاء الانثوية ، ثم تكوين البويضة في رحم النبات بعد هذا الزواج الصامت ، وكيفية نموه ، أنّه عالمٌ عجيبٌ يسلب معه روحَ وعقلَ الإنسان ، ويجعله غارقاً في محيطٍ من العجائب.

إنَّ تفصيل بناء هيكل النباتات والأزهار والثمار لا يفي بالغرض المطلوب في هذا

٢٦١

البحث المختصر ، فقد تمَّ تأليف العديد من الكتب من قبل العلماء حول هذا الموضوع ، وظهرَ علمٌ واسعٌ بإسم «علم النبات» ، فمن الأولى أن نكتفي هنا بكلامٍ لأحد خبراء الزراعة ونغلقَ هذا الملّف الضخم على عجل ، يقول عالم النبات «تشرالدت» : «إنَّ الاله يظهرُ من خلالِ القوانين الثابتة والرمزية التي يدير بها عالم النبات إنّه يظهر ويتجلّى من خلال هذه الطرق :

١ ـ النظام والترتيب : ويشمل التكاثر والانقسامات الخلوية وبناء الأجزاء المختلفة من النبات حيث يتم بشكل منظم ومرتب.

٢ ـ التعقيد : فلا تقاسُ أيُّ ماكنةٍ من صنعِ الإنسان مع الترتيب المعقد والمذهل لنباتٍ عاديٍّ.

٣ ـ الجمال : إنَّ جمالَ الساق ، والورق والزهر أمرٌ الهيٌّ ، إذ لا يقدرُ أيُّ نحاتٍ ماهرٍ ورسامٍ مجرِّبٍ من تقديم تمثالٍ أو لوحةٍ بهذا الجمال.

٤ ـ الوراثة : فكلُّ نباتٍ يولِّدُ مثلِه وهذا هو انتاج المثل ، وهو يجري وفقاً لارادةٍ وتخطيطٍ ، فبأي مكان زرعوا وكيفما زرعوا فانَّ «الحنطة تنبتُ من الحنطة والشعير من الشعير».

ثم يضيف : باعتقادي ، أنّ هذه المظاهر دليلٌ على وجود الخالقِ ذي الحكمة البالغةِ والقدرة اللامتناهية» (١).

يقول «تايلر» استاذُ علم البيئة السابق في جامعة مانشستر : «تأملوا النباتات والحشائش التي نَبتتْ على جانبي الطريق ، فهل تستطيع الآلات الحديثة التي صنعها البشر حتى الآن أن تضاهي صنع هذا النبات الطبيعي؟!

فهذه الحشائش الطبيعية بكل معنى الكلمة مدهشة ومذهلة حيث تنمو باستمرار وتقوم يومياً بآلاف الأفعال والتفاعلات الفيزيائية والكيميائية ، وكلُ ذلك يجري بإشراف المادة البروتوبلازمية التي تكوّنت فيها كل حياة الطبيعة ، فهذه الآلة الحيّةُ العجيبة من صُنعِ أيِّ قدرة؟!».

* * *

__________________

(١) عالم الأزهار (اقتباسِ وتلخيص).

٢٦٢

٢ ـ فوائد وبركات النباتات

إنَّ النباتات تُمثِّلُ الركن الأساس للحياة على الكرة الأرضية ، وكافةُ الكائنات الحيَّةِ الاخرى بحاجة إلى النباتات ، ففوائد النباتات كثيرة ووفيرة للغاية حيث يمكن الإشارةإلى اثنتي عشرة فائدة متسلسلة :

١ ـ أفضل مادة غذائية : يتمّ تحضير افضل اطعمتنا نحن البشر من النباتات والحبوب والفاكهة ، فطاقتنا وقدرتنا وسلامتنا تُؤَمَّنُ عن طريق الغذاء النباتي ، والكثير من الطيور والدَّواب واللبائن والأسماك في البحر تستفيد من النباتات ، لهذا فكلُّ بلدٍ يتمكن من تأمين منتجاته الغذائية عن طريق النباتات فانه يبلغ الاكتفاء الذاتي في الواقع.

٢ ـ التهوية : نحن نعلمُ أنَّ الإنسان واغلب الموجودات الحيّة تستخدم اوكسجين الهواء بنحوٍ دائمٍ وتقوم بإحراقه ، ولولا وجود مصدرٍ يعوِّضُ ذلك فسيُستهلك هذا الاوكسجين الموجود في الجو والأرض خلال مدة قصيرة ، ويَهلك هذا الصنف من الموجودات أثر الاختناق ، إلّاأنّ الإله الحكيم اناطَ مسؤولية تعويض هذه الخسارة بالنباتات ، فهي تتنفس على العكس من الإنسان ، إذ تأخذ غاز ثاني اوكسيد الكاربون وتُحلله وتطرح غاز الاوكسجين ، لهذا فانَّ هواء البساتين والمزارع منعش ومُنَشِّطٌ ، كما يوصون لنفس هذا السبب بأنْ تقامَ في كلِّ مدينةٍ متنزهاتٍ مُشَجَّرةٍ ، وتخصَصُ لكلِّ شخصٍ مساحةٌ من هذه المتنزهات ، ويطلقون على هذه المتنزهات «رئةُ المدينة».

٣ ـ الملابس : إنّ الجانب الأعظم من ملابسنا يتمّ تصنيعه من ألياف بعض النباتات ، وفي الواقع فإنّ المصدر الذي لا ينفد لملابس الإنسان في الدرجة الاولى هو النبات.

٤ ـ البيت وأثاثه : لو ألقينا نظرة على ما حولنا في البيت لوجدنا أنّ أغلب الأبواب والشبابيك واللوازم الاخرى هي من أخشاب الأشجار ، بنحوٍ لو أردنا الغاءَها من حياتنا فستصبح الحياة صعبةً بالنسبة لنا ، وفي الكثير من المناطق يصنعون بيوتهم من الخشب بشكلٍ كامل ، ولهذه البيوت مزايا كثيرة ، وأحد اللوازم المهمّة للحياة المعاصرة هو النايلون ، ونحن نعلمُ إن مادته الاصلية تُستخرج من عصير شجر المطاط.

٢٦٣

٥ ـ الأعشاب الطبية : كانت أغلبُ الأدوية في السابق تُستخلصُ من النباتات ، واليوم فانَّ القسم الكبير منها يستخرج من النباتات أيضاً ، ونظراً للآثار السلبية للأدوية الكيميائية فقد بدأت الآن حملةٌ للعودة إلى الأدوية النباتية ، وهنالك صيدليّات جميع أدويتها من النباتات.

٦ ـ السيطرة على الكثبان الرملية : إنَّ أحد الأخطار الجدّية التي تهدد المدن لا سيما القريبة من الصحارى الرملية هي الكثبان الرملية حيث تدفن تحتها أحياناً قريةً كاملة ، وأفضل سبيلٍ لتثبيت هذه الرمال هو استخدام النباتات المختلفة التي توقف حركتها وتقدُّمَها.

٧ ـ تحضير الورق : نحن نعلم أنَّ اختراع الورق كان له نصيب مهم للغاية في تطور الحضارة والعلم البشري ، والنباتات هي المصدر الأساس لصناعة الورق.

٨ ـ معادلة الحرارة والبرودة : إنَّ النباتات وبسبب الرطوبة المناسبة والمعتدلة التي تلقيها في الفضاء تقوم بالحدِّ من شدّة البرد ، وكذلك الحدِّ من شدّة الحرارة ، ولهذا فانَّ الجو في المناطق كثيفة الأشجار يكون معتدلاً دائماً.

٩ ـ وسائط النقل : إنَّ الكثير من البواخر والقوارب كانت تصنع سابقاً وتصنع حالياً من الخشب ، وهي تعتبر من أفضل وسائط النقل التي يستخدمها الإنسان سابقاً وفي الوقت الحاضر.

١٠ ـ الجمال والطراوة : لا يخفى هذا الأثر اللطيف للأشجار والنباتات والزهور على أحد حيث تبهرُ روحَ الإنسان بجمالها المدهش ، وتُريحُ القلبَ وتزرع الطمأنينة في نفس الإنسان لمواجهة الضغوط الشديدة للحياة ، لهذا يقومون بتزيين المستشفيات بأنواع النباتات والأشجار من أجل تحسين أحوال وأوضاع المرضى ، ويلجأ الإنسان باستمرار إلى أحضان الطبيعةِ في وسط الأشجار والبساتين ومزارع الحنطة من أجل ازالة المتاعب وتجديد النشاط.

١١ ـ المصدر المهم للطاقة : إنَّ الخشبَ والورق وجذور النباتات كانت ولا زالت أحدى

٢٦٤

المصادر المهمّة للطاقة وتأمين الحرارة ، وحتى الفحم الحجري الذي هو أحد مصادر الطاقة المهمّة فهو من منتوجات الأشجار والنباتات أيضاً ، والحرارة التي تحصل من الخشب وأوراق الأشجار ملائمة ، وتلويثها للبيئة ضئيلٌ جدّاً ، وحتى الرماد المتبقي منها يصلحُ كسمادٍ للأشجار يستفادُ منه مجدداً.

١٢ ـ أصناف العطور والمواد الكيميائية : نحنُ نعلمُ أنَّ أفضلَ العطور الملطفة لروح الإنسان كانت ولا زالت تُستخلص من رحيق الأزهار ، والأشجار والنباتات ذات الورق والخشب المعطَّر ذا الرائحة الطيبة ، ليست بالقليلة.

ناهيك عن كثيرٍ من الواد الكيميائية المستخلصة من النباتات التي تستخدم في مختلف الصناعات.

عظيمٌ ذلك الأله الذي أودع كلَّ هذه الآثار والفوائد والبركات في هذا المخلوق ، وجعلَهُ آيةً عظيمة من آيات علمه وقدرته.

إنَّ التعابير الشاملة التي تَلَوْناها في الآيات المذكورة ، يمكن أن تجمع كلَّ هذه الفوائد في عبارة «معايش» جمع «معيشة» وتعني وسيلة الحياة.

* * *

٣ ـ الأنواع غير المحدودة للنباتات

كما أشرنا سابقاً فانَّ أنواع النباتات كثيرةٌ بالقدر الذي لا يمكن حصرُها ، وقد تمّ حتى الآن احصاء ثلاثة آلاف نوع من النخيل ، والف وسبعمائة نوع من التين الهندي ، والف ومائتي نوع من ورد الثعلب.

يذكر مؤلف كتاب «عالم الأزهار» (فرديناندلين) أنَّ عددَ النباتات ذات الحبّ المغطّى يبلغ مائة وخمسين الف نوع وقد تم بيان صفات أكثر من ثمانية عشر الف نوع من النباتات في بعض كتب علم النباتات (١).

__________________

(١) تاريخ العلوم ، ص ٣٥٢.

٢٦٥

وقد تم بحثُ الف نوع من الكمأة من التي تمّ احصاؤها ، وأكثر من أربعين الف نوعٍ من الطحالب ، وسبعة آلاف نوع من التفاح ، وخمسة وثلاثين الف صنف من الحنطة (١).

ومن بين النباتات ، هنالك نباتات لا تُرى بالعين المجرّدة ، وهنالك نباتات يصل طولها إلى خمسين متراً ، وبعضها ينمو في وسط الصخور ، وبعضها يعوم وسط الماء ، وجذور بعضها يتفرع تحت الماء وأزهاره فوق سطح الماء ، ولكلٍّ منها منظَرهُ البديع واللطيف في عالمه حيث يصدح بلحنِ التوحيد.

* * *

٤ ـ عجائبُ عالم النباتات

لو تركنا كلَّ ما قيل بخصوص النباتات بشكل عام ، سنلاحظ أنّ هناك عجائب جَّمةً في عالم النباتات ، حيثُ صار بعضها طي النسيان لاعتيادنا عليها.

فأوراق وسيقان النباتات الضخمة ترفع يومياً مليارات الأطنان من الماء من الأرض خلافاً لقانون الجاذبية ، ثم تنثُره بخاراً في الفضاء المحيط بها ، أيُّ قانون يسمحُ للنباتات أن تستعرض قوتَّها هكذا خلافاً لقانون الجاذبية التي تجذب كلَّ شيءٍ نحو الأسفل ـ لا سيما الماء؟ ـ هنالك الكثير من النباتات كورد عباد الشمس تدور مع حركة الشمس فتتحرك أزهارها الكبيرة نحو الشرق في أول الصباح ونحو الغرب أثناء الغروب.

والنباتات آكلة اللحوم من أكثر ظواهر عالم النباتات إثارةً.

وقد اجرى البروفسور «ليون برتن» مدير «متحف التاريخ الوطني الطبيعي الفرنسي» تحقيقاتٍ بخصوص هذه النباتات آكلةِ اللحوم حيث يوجد منها عشرة أنواعٍ فقط في فرنسا ، وأشهرها النباتات الآتية :

أ) «آلدروفوند» : ويكثر في ولاية «جيرفوند» الواقعة غرب فرنسا على سواحل المحيط الأطلسي ، فهذا النبات ذو ورقةٍ تتكون من قطعتين خاصتين متقابلتين كصفحتي كتابٍ

__________________

(١) معرفة الله ، ص ٢٩١ و ٢٩٢.

٢٦٦

مفتوحٍ ، تتصلان من الأسفل بواسطة مفصلٍ خاصٍ ، وتغطي سطح الأوراق طبقةٌ حساسةٌ.

وعندما تقترب ذبابةٌ منه وتمسُ أرجلُها أو جسمُها هذه الطبقة ، تنطبق الصفحتان المذكورتان بسرعة ، فيقع الحيوان في وسط ذلك السجن ، وفي النهاية يُهضمُ تدريجياً ويصبح جزءً من جسم النبات أثر افراز مادة لاصقة خاصة حيث تفرز من الورق.

ب) «دروزرا» : وهذا النبات لهُ أوراقٌ حمراء اللون تشاهد عليها نتوءات رفيعة تشبه الشَعَر ، وحينما تضلّ الذبابةُ طريقها ، تقف على أوراق هذا النبات ظنّاً منها بأنّها قد عثرت على المكان الآمن الخالي ، وفجأةً تنطبق المخالب من ناحية رأسها ، فتجرها مخفورةً إلى داخل الورقة فتهضمُ ويمتصها النبات وسط الافرازات اللزجة للورقة.

ج) «نيانتس» : وهو أكثر النباتات الآكلةِ للحوم عجباً ، حيث يُوجد في نهاية الفرع الدقيق ما يشبه الوعاء الصغير ، تكون فوهتُه نحو الأعلى ، وله بابٌ خاصٌ مفتوحٌ خلال الأوضاع العادية.

ويُعتبر هذا الوعاء فخاً خطيراً للحشرات الغافلة والهائمة في الجو ، فهو يحتوي باستمرار على العسل اللَّزج الحلو حيث يدعو الحشرات «عابدة البطن» نحوه ، وكذلك فانَّ جمال وشفافية لون الوعاء ذو جذبٍ خاصٍ للحشرات «ذات الذوق الجيد».

فإذا وقعت حشرةٌ ما أسيرةً لهواها ودخلت الوعاء فانَّ فوهته ستنغلق على الفور وستبتلى بسجنٍ لا خلاص منه أبداً.

على أيةِ حالٍ ، هذا الوعاء يعتبر كالمعدةِ بالنسبة لهذا النبات ، والافراز الداخلي كافرازاتها ، ويجعل الحشرةَ قابلةً للامتصاص.

يقول العلماء : إنَّ قيام هذه النباتات باصطياد الحشرات يعود لعدم قدرة جذورها لامتصاص «النتروجين» ، لهذا فهي تعوّضُ هذا النقص عن هذا الطريق.

ويأملُ العلماء بأنْ يأتي اليوم الذي يستطيعون فيه تربية كميةٍ كبيرة من هذه النباتات في حدائق البيوت أو إلى جانب الأحواض ، ويقضون بهذه الطريقة الصحية والطبيعية على الذباب والحشرات الضارة الموجودة في بيئة الإنسان.

٢٦٧

وورد في مذكرات السِّيّاح والرَّحّالة قصصٌ عجيبةٌ حول النباتات التي تأكل البشر ، فيقول بعض العلماء من الممكن أن تكون هذه النباتات من النباتات آكلة الحشرات إلّاأنّها أكبر حجماً لنموها في أرضٍ غنيةٍ ، وتستطيع أن تقتنصَ احياءً أكبر في بطن فروعها واوراقها وتمتصها تدريجياً (ولكن لا يمكن تأكيد وقبول ذلك بسهولة) (١).

ومن أعجب وألطف جوانب وجود النباتات هو انتاج الثمار.

وواحد من مئات الامور الظريفة فيها وجود سائلٍ حلو ولذيذٍ في الكثير منها مخزون في أوعيةٍ صغيرة خاصةٍ مربوطةٍ بإحكامٍ ، حيث يبدو أفضل طرق الربط في عصرنا الحاضر ، بدائيةً جدّاً أزاءها.

افتحوا برتقالةً واحدة ، ستجدون كأنَّ شقاً منها يتكون من مئات القطع الزجاجية الصغيرة الظريفة التي تفيضُ بسائلٍ لذيذٍ ومعطَّر ، الزجاجات التي تجمّعت معاً دون أيِّ فاصلةٍ (ولو كان هنالك فاصلةٌ وهواء فيما بينها لفسدت بسرعة).

لكن هذه الزجاجات لا تتكسر أبداً ، وتتحمل صعوبات الحمل والنقل ، واللطيف هو إمكانية أكلها مع محتوياتها.

وكلُّ مجموعةٍ من هذه الزجاجات الصغيرة والظريفة مغلفةٌ بقشرةٍ سميكة وهي بمثابة الغلاف ، وتظهر على هيئة شقٍّ (وهذا الوعاء قابلٌ للاكلِ مع محتوياته أيضاً ، بل هو مفيدٌ للجهاز الهضمي).

وهذه الأغلفة الصغيرة تجمعّت بدونِ اقلِّ فاصلةٍ مع تفريغٍ كاملٍ من الهواء ، والتَوتْ وسط عدّة لفافاتٍ من أجل السلامة والأمان ، وفي النهاية أصبحت معدة على هيئةِ حملٍ صالحٍ جاهز للشحن لمسافات نائية.

ويُلاحظ هذا الأمر على نحوٍ أكثر طرافةً داخل ثمار الرمان والعنب والتين أيضاً.

تأملوا جيداً لو أنَّ عصارة أيٍّ من هذه الثمار وُضعت في الهواء الطلق ستتغير بعد مرور ساعة واحدة ، وقد تتعفن خلال عدّة ساعات ، إلّاأنّ تغليفها دقيقٌ ومحبوكٌ بنحوٍ لا يسمح

__________________

(١) نظرةٌ على الطبيعةِ وأسرارها ، تأليف البروفسور ليون بر تن ، ص ١٣١ ـ ١٣٤ (مع الاختصار والاقتباس).

٢٦٨

بنفوذ الهواء إلى داخلها أبداً ، ولهذا فهي تبقى سالمةً لعدة شهور دون أقلّ تغييرٍ في طعمها.

وهذا يتعلق بمسألة التغليف العادية فقط ، وأمّا المركبات الكيميائية لكلِّ فاكهةٍ وخواصها الغذائية والطبية وأنواع الفيتامينات وموادها الغذائية فهي بحد ذاتها ذات قصةٍ مفصلةٍ حيث يختص ببحثها المتخصصون بعلم الغذاء ، وقد تم تأليف كتبٍ كثيرة في هذا المجال ، ولو أردنا أنْ نطرقَ كلَّ هذه المسائل فسنخرج عن إطار كتابنا التفسيري ، فضلاً عن أنّ «وزن كتاب كهذا سيبلغ الأطنان».

* * *

٥ ـ أسرار خلق النباتات في توحيد المفضل

ونقرأ في حديث توحيد المفضل عن الإمام الصادق عليه‌السلام حيث قال :

«فكّر يا مفضل في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب ، فالثمار للغذاء ، والأتبان للعلف ، والحطب للوقود ، والخشب لكل شيء من أنواع النجارة وغيرها ، واللحاء والورق والاصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع ، أرأيت لو كنّا نجد الثمار التي نتغذى بها مجموعة على وجه الأرض ولم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا ، وإن كان الغذاء موجوداً فإنّ المنافع بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عددناه كثيرة ، عظيم قدرها جليل موقعها هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره ونضارته التي لا يعد لها شيء من مناظر العالم وملاهيه.

فكّر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر وأقل وكان يجوز أن يكون الحبة تأتي بمثلها فلم صارت تريع هذا الريع إلّا ليكون في الغلّة متسع لما يرد في الأرض من البذر وما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل ... تأمّل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه ذلك فانّها تخرج في أوعية مثل الخرائط لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشدّ وتستحكم كما قد تكون المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه ، فأمّا البُرّ وما أشبهه فانّه يخرج مدرّجاً في

٢٦٩

قشور صلاب على رؤوسها مثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفّر على الزراع ... تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات فانّها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت اصولها مركوزة في الأرض لتنزع منه الغذاء فتؤديه إلى الاغصان وما عليها من الورق والثمر فصارت الأرض كالأم المربية لها وصارت اصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان امهاتها.

تأمل يا مفضل خلق الورق فانك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع ، فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها ، ومنها دقاق تتخلل الغلاظ منسوجة نسجاً دقيقاً معجماً لو كان ممّا يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عالم كامل ولاحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض كلها بلا حركة ولا كلام إلّابالإرادة النافذة في كل شيء والأمر المطاع».

ثم أشار الإمام عليه‌السلام في سياق هذا الحديث إلى عجائب الثمار والنّوى ، وموت وحياة النباتات في كل عام ، وتلقيح وحمل الأجزاء الانثوية عن طريق الالتحام مع الأجزاء الذكورية ، وكذلك أدوية العلاج التي تستخلص من أصناف النباتات ، والحبوب والنباتات التي يُعتبر كلٌ منها غذاء لأحدِ الحيوانات ، وقدَّمَ شرحاً لطيفاً حول كلٍّ منها ، حيث إنّ ذكرها جميعاً لن يكون ممكناً ، وبمقدور الراغبين مراجعة الحديث أعلاه (١).

نضطرُ هنا إلى طي هذا البحث الطويل ونختمه ببعض الابيات من الشعر التوحيدي الأصيل ، فلو اطلقَ عنانُ العلمِ فيجبُ تأليفُ كتب عديدة ، في هذا المجال يقول الشاعر نقلاً عن الفارسية :

إنَّ جميع خلقِ اللهِ انذارٌ للقلب

ليس له قلبٌ من لا يُقرُّ بالله

فالجبال والبحار والأشجار كلُّها تسبِّحُ

ولا يفهمُ كلُّ مستمعٍ هذه الأسرار!

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٣ ، ص ١٢٩ ـ ١٣٦ «مع الاختصار».

٢٧٠

والعقُل متحيرٌ من عنقود العنب الذهبي

والذهنُ يَعجزُ عن حقيقة ياقوتة الرُّمان

وتتدلى عناقيد الرَّطب من النخل

والنخل من صنع قضاء وقدر ماهرٍ

ولكي لا يصبح ظلاماً ظلُّ الأشجار الكثيف

فقد وضع تحت كل ورقةٍ مصباحاً من نور الرّمان

وهبط الندى على الزهرة عند حلول السحر

يشبه عرق المحبوب المعطَّر!

فافتح بصرك وانظر خلقَ النارنج

يا مَن لا تصدِّق أنَّ «في الشجر الاخضر نار»

مقدرٌ منزَّهٌ الاله الذي سخرَّ

الشمس والقمرَ بتقديرٍ وكذلك الليل والنهار (١)

* * *

__________________

(١) هذه الابيات مترجمة من «كليات سعدي» ، فصل القصائد ، ص ٤٤٣.

٢٧١
٢٧٢

١٦ ـ آياتُه في خلق الأرزاق العامة

تمهيد :

إنَّ لكلِّ كائنٍ حيٍّ احتياجاتٍ من أجل استمرار حياته ، أو بتعبيرٍ آخر إنَّ النشاطات الحياتية تتطلب مواداً تولدُ الطاقةَ يجب أن تصل إلى الكائن الحيِّ دائماً ، ويُطلق عليها بالاصطلاح «التلافي» ، وتعويض ما يتحلل.

ويجب أن تكون هذه المواد ملائمة تماماً لذلك المخلوق من جميع الجوانب كي يتمكن من الاستفادة منها بُيسر.

إنَّ نظامَ الرزق في عالم الخَلق ، وكيفية إعدادهِ ، ثم كيفية وضعهِ في متناول كلِّ موجود ، وكذلك الاستفادة منها ، نظامٌ جميل ودقيقٌ للغاية ، ومليءٌ بالأسرار أحياناً ، حيث يختفي فيه جمع من الآيات المهمّة لتوحيد الله وعلمه وقدرته ، لهذا استند عليه القرآن الكريم مراراً في مختلف الآيات.

بعد هذا التمهيد نعود إلى القرآن الكريم ونتأمل خاشعين في الآيات الآتية :

١ ـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللهِ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآإِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ). (فاطر / ٣)

٢ ـ (اللهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحِييْكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِّنْ شَىءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ). (الروم / ٤٠)

٣ ـ (أَمَّنْ يَبدَؤُا الخَلّقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). (النمل / ٦٤)

٢٧٣

٤ ـ (أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ). (الملك / ٢١)

٥ ـ (أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويَقْدِرُ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ). (الروم / ٣٧)

٦ ـ (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِيْنُ). (الذاريات / ٥٨)

٧ ـ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلَّا عَلىَ اللهِ رِزقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ). (هود / ٦)

٨ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزقُكُمْ مِّنَ السَّمواتِ والأرْضِ قُلِ اللهُ وإنَّا أَو إِيَّاكُمْ لَعَلىَ هُدىً أو فِى ضَلالٍ مُّبْينٍ). (سبأ / ٢٤)

٩ ـ (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّماءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيْدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ* رِّزْقاً لِلْعِبَادِ). (ق الآيات / ٩ ـ ١١)

١٠ ـ (فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلىَ طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا المَآءَ صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً* وَعِنَباً وقَضْباً* وَزَيتُوْناً وَنَخْلاً* وَحَدَائِقَ غُلْباً* وفَاكِهَةً وَأَبّاً* مَّتَاعَاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ). (١) (عبس الآيات / ٢٤ ـ ٣٢)

* * *

شرح المفردات :

«الرِزْق» : كما يقول الراغب في كتاب «المفردات» يعني البذل والعطاء المستمر ، دنيوياً كان أو أخروياً ، كما يُقال للحظ والنصيب رزقاً ، وكذلك للمواد الغذائية التي تصل إلى جوف الإنسان.

يقول «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً : «الرزق» نوعان : ظاهر للأبدان كالأقوات ، وباطن للقلوب والنفوس ، كانواع المعارف والعلوم.

__________________

(١) هناك آيات كثيرة اخرى وردت في هذا المجال لها شَبَهٌ بالآيات أعلاه منها ٣١ ، يونس ؛ ١٧٢ ، البقرة ؛ ٢٨ ، الشورى ؛ ٢٦ ، الرعد ؛ ١٢ ، الشورى ؛ ٢٧ ، الشورى ؛ ٢٢ ، البقرة ؛ ٣٢ ، ابراهيم ؛ ٧٣ ، النحل ؛ ١٧ ، العنكبوت ؛ ١٣ ، غافر.

٢٧٤

وورد في كتاب «التحقيق» أيضاً أنَّ الرزقَ يَعني «العطاء الخاص الذي يناسبُ متطلبات وضع المقابل ويطابق حاجته لاستمرار حياته».

وفي القرآن الكريم استُعملَ في كلا المعنيين فنقرأ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُوْلاً فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ). (الملك / ١٥)

وورد قوله تعالى في خصوص الشهداء : (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). (آل عمران / ١٦٩)

إلّا أنّه يُستخدم غالباً بخصوص الأرزاق المادّية ، بالرغم من أنَّ استعماله بخصوص الأرزاق المعنوية ليس قليلاً أيضاً ، وحيث إنّ الله تعالى واهب جميع النعم المادّية والمعنوية فانَّ لفظ «الرزّاق» من صفاته الخاصة (١).

و «الطعام» : له معنىً مصدري واسم مصدري معاً ، أي أنّه يُطلقُ على «أكل الغذاء» ، وكذلك على نفس «الغذاء» ، وقد يُستعمل هذا اللفظ بخصوص الحنطة ، كما ورد في الرواية إنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرَ باعطاءِ صاع من «الطعام» أو صاع من «الشعير» (وهنا استُخدمَ الطعام بمعنى الحنطةِ في مقابل الشعير).

وذَكر صاحب «لسان العرب» أنَّ الطعامَ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يؤكل ، إلّاأنَّه هو والرّاغبُ في المفردات صَّرحا بانَّ هذا اللفظ قد يُستخدمُ للمشروبات أيضاً كما في : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَنْ لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى). (البقرة / ٢٤٩)

يقول الخليل بن احمد في كتاب «العين» أيضاً : يقالُ الطعامُ في كلام العرب للبّر خاصة ، (إلّا أنّه يعود على ما يَبدو إلى أنَّ الطعام الأساس غالباً ما يكون من الخبز الذي يُصنعُ بدورهِ من الحنطة ، وإلّا فانَّ الكثير من أرباب اللغة ذكروا أنَّ للطعام مفهوماً عاماً) (٢) ، وقال بعض اللغويين إنَّ الطعام يعني التمرَ أيضاً ، ويبدو أنَّ هذا الكلام يعود إلى أنَّ التمر كان هو الطعام الأساس في ذلك الزمان وتلك البيئة.

__________________

(١) لسان العرب ؛ المفردات ؛ مجمع البحرين ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(٢) لسان العرب ؛ المفردات ؛ كتاب العين ؛ والنهاية لابن اثير.

٢٧٥

جمع الآيات وتفسيرها

الكل يتنعم بهذه المائدة عدواً كان أم صديقاً :

لقد قلنا مراراً أنَّ مشركي العرب لم يعتبروا الأصنامَ كخالقٍ لهم أبداً ، إلّاأنّهم كانوا يعتقدون أنَّ الاوثان لها يدٌ في تدبير هذا العالم وحل مشكلات الناس فيبذلون العطاء لها ، لهذا يعتبرونها شفيعةً لدى الله ، أو بسبب إناطة مسؤولية تدبير العالم في هذه الجوانب لها. لذلك فقد تمّ التأكيد في الآيات القرآنية المذكورة على هذه المسألة بتعابير مختلفة من أجل رد هذه العقائد الخرافية ، والتأكيد بأنَّ الخالقَ والرازقَ واحدٌ ، وجميع أنواع الأرزاق تأتي من ناحيته.

من البديهي إذا ما دُعيَ الإنسان إلى مائدةٍ وكان فيها من الأطعمةِ ما لذَّ وطابَ ، أن يتقدمَ بالشكر قبل كل شيء إلى صاحب هذه النِعَم ، لذلك فهو يذهب وراء صاحب تلك المائدة لمعرفته ، فهلْ هناك مائدةٌ أوسعُ من مائدة الخالق؟ وهلّا يجب معرفة صاحب هذه المائدة التي يتنَعمُ بها العدو والصديق؟ وتقديم الشكر له لعطاياه التي غَمَرْتنا ظاهراً وباطناً من أعلى رؤوسنا وحتى أخمص أقدامنا؟

بناءً على ذلك فانَّ أهمَّ الدوافع «لمعرفة الله» وكذلك أحد الطرق لمعرفته هي هذه الأرزاق.

لذلك خاطبَ القرآن في أول آية من البحث كافةَ النّاس قائلاً : (يَا أيُّها النَّاسُ اذكُروا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ).

فهو يُرسلُ لكم من السماء نور الشمس الذي يهبُ الحياة ، وقطرات المطر التي تُحيي الأرض ، والنسيم الذي يُنمي الأرواح ، ومن الأرض يُنبتُ لكم أنواع النباتات والفواكه والمواد الغذائية ، وفي باطنها أنواع المعادن والثروات.

مع هذا يجب أنْ تعرفوا أنْ لا معبودَ سواه ، وهو وحده الجدير بالعبادة ، فكيف تنحرفون عن الصراط المستقيم وتجعلون هذا الخالق العظيم واهب الرزق وراء ظهوركم ، وتسجدون

٢٧٦

للأصنام : (لَآإِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ) (١).

ويستند في الآية الثانية على أربعةِ أمورٍ لإثبات توحيد الربوبية : «وحدانية الخالق» ، وكذلك التوحيد في العبادة ، وهي : خلق الإنسان ، ورزقُهُ ، ومَوتُهُ ، وإعادة احيائه ، وقد تمَّ تعريفها من قبل الله تعالى ، لأنَّها جميعاً ذات نظامٍ دقيقٍ حيث تُبرهنُ أنّها تصدرُ عن مبدأ العلم والقدرة ، فيقول : (اللهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيْتَكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ).

(هَلْ مِنْ شُركَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِّنْ شَىءٍ) بناءً على ذلك يجب أنْ تُسلِّموا لنزاهتهِ وعلوِّهِ عمّا يُشركون به : (سُبحَانَهُ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشرِكُونَ).

فحيثما نعلم أنَّ خلقَنا وموتنا وحياتنا بيده ، فلا معنى بأنْ نلهثَ وراء غيره ، ونخضع ونُسَلِّمَ لسواه.

والجدير بالذكر أنَّ الخلقَ يشملُ الرزقَ والموت والحياة ، لأنَّ كافة أنواع الرزق تعود إلى خلقِ الله تعالى ، وكذلك فإنّ الحياة جزءٌ من الخلق وتعقبها الأرزاقُ والموت ، وعليهِ فانَّ الاستناد إلى هذهِ الجوانب الثلاثة ليس لكونها شيئاً منفصلاً عن الخلق ، بل لأنّها في الحقيقة توضحُ مصاديقَ مهمّةً عن ذلك الموضوع العام.

وهذه النكتة جديرةٌ بالتأمْلِ أيضاً ، إذ بالرغم من أنَّ الإحياء بعد الموت لم يَكن مقبولاً لدى مشركي العرب ، إلّاأنَّ هذه الآية تُعتبر إشارة لطيفةً لهذا الاستدلال ، وهو أنَّ الخلقَ الأول ونعمة الحياة في بداية الأمر دليلٌ واضحٌ على إمكانية تكراره يوم القيامةِ والبعث ، بل لو تأمّلنا جيداً فانَّ مسألة الموت والحياة مستمرةٌ في هذا العالم ، فوجود الإنسان يعتبر ساحةً للموت والحياة في كلٍّ عامٍ وشهر بل في كلِّ يوم وساعة ، تموت الملايين من الخلايا ، وتحلُ مكانها ملايينُ اخرى ، فتتجسدُ مسألةُ المعاد باستمرار في هذه الدنيا ، إذن ما العَجَبُ في أنْ يَرجعَ الامواتُ إلى الحياة من جديد في الآخرة؟

__________________

(١) «تؤفكون» من مادة «إفْكْ» ، وتعني تغيير الشيء عن وضعهِ الحقيقي ، ولهذا يقال للكذب والاتهام والانحراف عن الحق نحو الباطل «إفْكْ» ، وكذلك يُطلقُ على الرياح التي تنحرف عن مسيرها المنظم (مؤفكة) (مفردات الراغب).

٢٧٧

وفي الآية الثالثة حيث جاءت في ترتيب آيات «التوحيد» إذ تُحصي آياتِهِ المختلفة في السماء والأرض ، تمّ الاستناد أيضاً إلى ثلاث مسائل هي : بداية الخلق ، ورجوعه ، والرزق والاقوات التي تصل الإنسان من السماء والأرض فيقول : أيُّهما أفضل ... مَنْ تعبدون مِنْ دون الله أم مَنْ بدأ الخلقَ ثم يُعيدُه؟ (أَمَّنْ يبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ) (١) «وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ (السَّمَاءِ وَالأَرْضِ).

ويضيف في النهاية «أالَهٌ مَعَ الله».

(قُلْ : لَقَد جِئتُكم بدليلٍ عَلى ربوبيّتهِ فَهَاتُوا دَليلَكُم إِنْ كُنتُم صَادِقينَ).

(قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ).

وبتعبير آخر : «إنَّ هذه البركات تصدرُ عن الذات الإلهيّة المقدّسة ، أمّا هذه الأصنام فهي لا تملكُ شيئاً كي تستحق العبادة».

والتعبير بـ «خَيْر» أي «أفضل» الذي حُذِفَ من هذه الآية والذي يتجلّى بقرينةِ الآيات السابقة ليس المقصود منه أنّ للأصنام خيراً وبركات قليلة قياساً إلى خيرِ الله وبركاتهِ بل إنَّ هذا التعبير يُستعملُ أيضاً في الحالات التي لا يكون هنالك خيرٌ في الفعل أبداً ، فمثلاً يقال لك امتنع عن تناول طعام معين كي تحافظ على صحتك أو لَيسَ الصحةُ أفضل من المرض؟ مِنَ المسلَّم به أنْ لا فضل في المرض بحيث تكون الصحةُ أفضلَ منه ، ونقرأ في القرآن الكريم أيضاً : (وَلَعَبْدٌ مُّؤمِنٌ خَيْرٌ مِّنْ مُّشْرِكٍ). (البقرة / ٢٢١)

ويقول في مكانٍ آخر : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ). (الفرقان / ١٥)

وخلاصة الأمر أنَّ لفظ «خير» بالرغم من أنّه من «افعل التفضيل» ويجب أنْ يستعملَ في مورد شيئين أحدهما حَسَنٌ والآخرُ أحسن منه إلّاأنّ الهدف في أغلب الحالات هو اغراقُ المخاطبِ في التفكر وجعلَهُ يشعرُ بأنَّ ما يختاره ليسَ منشأً لأي خيرٍ ومنفعة.

__________________

(١) هنالك جملةٌ محذوفةٌ حيث تتضح بقرينة الآيات الآنقة (الآية ٥٩ من نفس السورة) وتَقَدَّر كما يلي «أمَّنْ يبدءُالخلق ثم يُعيدهُ ... خيرٌ أمْ ما يشركون».

٢٧٨

إنَّ الاستناد إلى قضية المعاد بالرغم من عدم إيمان المشركين بها إنّما هو لأجل كون الخلق أول دليل على المعاد.

* * *

وطُرحَ هذا المعنى في الآية الرابعة بنحوٍ آخر ، إذ يقول : (أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) (١).

تلميحاً إلى أنّه لو امتنعت السماء عن المطر بأمرِ الله ، ولم ينمُ نباتٌ ما ، وعمَّ الجدب والقحطُ كلَّ مكان ، فهل تستطيع هذه الأصنام أو أيُّ موجودٍ آخر أن يرزقكُم ويُطعِمكُم؟ ولو انقطعت عنكم الأرزاق المعنوية والروحية بأمرٍ من الله ، فهل مِنْ هادٍ يرشدكم؟ ينبغي القول أنَّ الجواب على كل هذه التساؤلات سلبيٌ ، فكيف اذن يتمادى الوثنيون في عملهم القبيح هذا؟ فهلْ منْ سبب هنا سوى العناد والتعصب؟

لهذا يقول في خاتمة الآية : (بَلْ لَّجُّو فِى عُتوٍّ وَنُفُوْرٍ) (٢).

* * *

وفي الآية الخامسة استند إلى أمرٍ آخر يتعلق بمسألةِ الأرزاق ، إذ يؤكد أنَّ بسط وقبضَ الرزق هو بمشيئة الله ، فيقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله يَبْسُطُ الِّرزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)؟!

صحيحٌ أنَّ سعيَ ومثابرة الناس والمؤهلات والاستحقاقات تؤثرُ في تحصيل الرزق.

وصحيحٌ أنَّ العالَم ، عالم الأسباب ، وغالباً ما يستفيد المثابرون أكثر من الكسالى في تحصيل الأرزاق.

إلّا أننا نرى استثناءات كثيرة قبالة هذه القاعدة ، فقد نرى أناساً مُقعدين قد فُتحت أمامهم

__________________

(١) بالرغم من احتمال بعضهم بتقدير محذوف من الآية إلَّاأنَّ ظاهر الأمر يشير إلى أن لا محذوف هناك فيكون المعنى كما يلي «إنْ امسَكَ الله رزقهُ مَنْ هذا الذي يرزقكم» فتكون «أم» هنا بمعنى «بل» (فتأمل جيداً).

(٢) «لجوا» من مادة اللجاجة و «العَتو» تعني الطغيان و «النفور» تعني الابتعاد والهروب من الشيء.

٢٧٩

أبوابُ الرزق ، وبالعكس فقد نرى مثابرين ومستحقين أينما يولّوا وجوههم فانَّ الأبواب مغلقة أمامهم ، كما يقول الشاعر العربي المعروف :

كم عاقلٍ عاقلٍ أَعْيَتْ مذاهبُهُ

وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقاً

وهذا من أجل أن لا يضيع الإنسان في عالم الأسباب وليعلمَ أنّ وراء هذا العالم ، يداً قادرةً تديرُهُ وتعلو قدرتها فوق جميع القدرات ، وكي لا يصيبَ الغرورُ المتنعمين والمستفيدين بسبب إمكانياتهم ، فيظلموا ويطغوا ، وحتى لا ييأس ذوو الإمكانيات المحدودة ، لأَنَّه من الممكن أن يتغيَر الوضعُ في كل لحظةٍ حسبَ الإرادة والمشيئةِ الإلهيّة.

وبتعبير آخر : من أجل توفر الرزق والقوت لكل إنسان تتظافر عشرات الأسباب أحدها سعي الإنسان ومثابرته ، حتى أنَّ الله قد منح القدرة على السعي والمثابرة ودوافعهما أيضاً.

وهنا يتمكن الإنسان من فهم نفحات من الذات الإلهيّة المقدّسة من خلال مسألة سعة الرزق وضيقه ، فقد قال في نهاية الآية : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) اولئك الذين لديهم استعدادٌ لقبول الحق بسبب إيمانهم ، ويتعرّفون أكثر على الذات المقدّسة من خلال مشاهدة هذه الميادين يومياً.

وفي الحقيقة أنَّ الأية أعلاه قد تكرر مضمونُها ومحتواها عشر مرات في القرآن الكريم تشبه ما نُقل عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام حيث يقول : «عَرَفْتُ الله سبحانه بفسخ العزائم وحلِّ العقود ونقضِ الهِمَمِ» (١).

وتشابه ما نُقلَ عن بعض المفسِّرين أنَّ أحدَ العلماء سُئل عن الدليل على وحدانية الله؟ فقال : «ثلاثة ادلّة : ذلُّ اللّبيب وفقرُ الأديب وسُقمُ الطبيب» (٢).

والتعبير بـ (اوَلَمْ يَرَوا) إشارة إلى أنْ لو تمعنَ الإنسان قليلاً في حياة الناس لرأى هذه الاختلافات جيداً.

ولابدّ من ذكر هذه النكتة وهي أنَّ إرتباط سعة وضيق الرزق بالإرادة الإلهيّة يعني

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٢٥٠.

(٢) تفسير روح البيان ، ج ٧ ، ص ٣٩.

٢٨٠