نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

والنتيجة هي أنّ هناك مبدأ علم وقدرة عظيم وراء نظام عالم الخلقة (سواء أطلقنا عليه اسم الله أو وضعنا له إسما آخر) لأنّ التسمية لا تؤثر في مثل هذه البحوث.

العلاقة بين النظام والعلم :

قبل كل شيء يجب إثبات المقدمة الثانية المسماة بكبرى القياس ، ومن أجل هذا لابدّ من تعريف مختصر لـ «النظام».

يمكن القول : أن أي منظمة أو موجود يعمل وفق برنامج معين ويعطي نتائج معينة ، هو موجود منظم ، وعلى هذا الأساس فإنّ «الحساب» و «البرنامج» و «الهدف» تشكل العناصر الأصلية الثلاثة للنظام ، فمثلاً الساعة نموذج لـ «الموجود المنظم» ، ذلك أنّ أجزاءها مصنوعة وفق حساب دقيق ، ثم هنالك برنامج لتركيبها ، والهدف منها هو التشخيص الدقيق للوقت.

ولأجل التوصل إلى هذه العلاقة (علاقة النظام والعلم) يمكن الاستعانة بعدّة أدلة :

١ ـ الوجدان : مع أننا لم نر أبداً الكثير من العلماء الكبار والمخترعين والفنانين المهرة ، ولم يبق منهم سوى الآثار ، إلّاأنّنا حين ننظر إلى تلك الآثار والكتب والصناعات واللوحات النفيسة والأبنية البديعة ، نعترف بدون الحاجة إلى دليل بعقلهم وذوقهم وعلمهم ومهارتهم الصناعية والفنية.

٢ ـ من أجل إثبات هذه العلاقة يمكن ـ بالإضافة إلى الوجدان ـ الاستعانة بالدليل المنطقي ، فمن أجل أحداث بناية منظمة واظهارها إلى الوجود يجب أن يكون هناك اختيار في سبع مراحل على الأقل.

فلو تصورنا بناية عظيمة وجميلة ومحكمة ، وجب أن نمارس عملية الاختيار والانتخاب بشكل محسوب على عدة أصعدة «اولها» نوعية المواد المستخدمة ، و «ثانيها» مقدار وكميَّة المواد ، و «ثالثها» جودة المواد ، و «رابعها» الأشكال والأحجام المختلفة ، و «خامسها» إيجاد الانسجام بين الأجزاء ، و «سادسها» إيجاد التناسب بينها ، و «سابعها»

٤١

من حيث وضع كل من الأجزاء في مكانه المناسب.

وهذه الاختيارات السبعة يجب أن تتمّ كل واحدة منها وفقاً للعلم والاطلاع والحساب ، وأحياناً الحسابات الدقيقة جدّاً ، ومن هنا عندما نرى مثل هذه البناية نتيقن أن صانعها بلا شك كان يملك العلم والمعرفة والاطلاع الواسع.

٣ ـ يمكن إثبات هذه العلاقة (علاقة النظام والعلم) عن طريق آخر (عن طريق البرهان الرياضي).

إنّ «حساب الاحتمالات» الذي اصبح اليوم فرعاً علمياً مستقلاً في الجامعات ذو فاعلية جيدة جدّاً في مجال العلاقة بين النظام والعلم ، وهو نفس الشيء الذي ندركه بصورة إجمالية في حياتنا ، لكن حساب الاحتمالات يعكسه في شكلٍ رياضي واضح.

إنّنا لا نصدق أبداً أنّ إنساناً امياً يستطيع عن طريق الصدفة أن يؤلف كتاباً في مجال «الفلسفة» مثلاً أو «الآداب والشعر» أو «الطب» ، بمعنى أن نعطيه آلة طابعة فيبدأ بدون أن يعرف الحروف بالضغط على أزرار الآلة ليطبع كتاباً.

وليس من المستحيل كتابة كتاب علمي عن طريق الصدفة فحسب ، بل لا يمكن كتابة حتى رسالة قصيرة أيضاً.

لأنّه لو افترضنا أن حروف الآلة الطابعة ثلاثون حرفاً فقط ، (وهي بالطبع أكثر بكثير ، لأنّ لبعض الحروف صور متعددة ، فمثلاً حرف الباء الأولية والباء الوسطية والباء النهائية والباء المفردة تشكل أربع صور مختلفة لحرف الباء) يقول حساب الإحتمالات هنا : إنّ الظهور التصادفي لكلمة «من» المكونة من حرفين هو احتمال واحد من تسعمائة احتمال.

(٣٠ / ١* ٣٠ / ١ / ٩٠٠ / ١).

واحتمال ظهور كلمة مكونة من ثلاثة أحرف هو احتمال واحد من ٢٧ ألف احتمال ، وحين نصل إلى كلمة مكونة من خمسة أحرف سوف نجتاز حدود ٢١ مليون!!.

والآن إذا كانت الحروف الموجودة في رسالة قصيرة هي مائة حرف فإنّ مجموعة احتمالات هذه الأحرف هي العدد ٣٠ مرفوعاً إلى الأُس ١٠٠ بحيث أن رسالتنا المعينة

٤٢

تشكل احتمالاً واحداً من هذا العدد الهائل من الاحتمالات ، أي عدداً كسرياً بسطه واحد ومقامه العدد ٣ إلى يمينه مائة صفر.

إنّ مقام هذا الكسر من الضخامة بحيث لا يمكن حسابه ، ولا شيء في هذا العالم يصل إلى ضخامة هذا العدد.

ولأجل إيضاح هذه الحقيقة يكفي أن نعلم أننا لو قطرنا جميع المحيطات على الكرة الأرضية قطرة قطرة وحسبنا عددها لكان عددها أقل من عدد على يمينه واحد وعشرون صفراً فقط.

وعلى هذا الحساب لو حسبنا كتاباً مكوناً من ألف صفحة فإنّ عدد الاحتمالات سيتضخم إلى درجة أنّ الاحتمال التصادفي لعدده الكسري «البسط» يتساوى مع الصفر أي أنّه مستحيل.

وبهذا الدليل ، إذا ادّعى شخص مثلاً : أنّ «ابن سينا» مؤلف كتاب «القانون» في الطب كان أمياً تماماً ، وأنّ «المتنبّي» لم يكن له ذوق شعري مطلقاً ، وأن «أنشتاين» لم يكن يفقه شيئاً من الرياضيات وأنّ بنّائي الأبنية التاريخية الشهيرة لم يكن لهم أدنى اطلاع في فن العمارة ، وأنّ جميع الآثار التي تركوها ظهرت بمحض الصدفة والحركات غير المقصودة لأيديهم على الأوراق أو على المواد الإنشائية! فلا شك أنّ من يقول مثل هذا الكلام إن لم يكن يمزح فهو مجنون!.

وخلاصة القول أنّ علاقة النظام بالعلم واضحة إلى درجة أنّ الكثير من العلوم والمعارف البشرية قائمة على النظام ، فمثلاً جزء مهم من تاريخ الحضارة البشرية كتب من خلال مطالعة ودراسة الآثار الجذابة للسلف التي خلفوها بعد رحيلهم.

والعلماء ـ بمطالعة الآثار التي يعثرون عليها بواسطة الحفريات أو التي يكتشفونها في قبور ومعابد الأقوام الغابرة ـ يتوصلون إلى مستوى ثقافتهم وحضارتهم ونوعية عقائدهم. في حين إذا أنكرنا علاقة النظام والعلم إنهارت كل هذه الاستنباطات.

الآن وقد اتّضحت تماماً العلاقة بين النظام والعلم ، وبعبارةٍ ثبتت كبرى البرهان ، نتطرّق

٤٣

إلى مصاديقها في عالم الوجود التي اعتمد عليها القرآن الكريم.

واللطيف أنّ آيات القرآن لا تتحدث مطلقاً عن كبرى برهان النظام ، أي «علاقة النظام والعلم» ، لأنّها كانت واضحة ووجدانية إلى حد أنّه لم تكن ثمة حاجة لبيانها ، وكما قلنا فإنّ الإنسان إذا أنكر هذه العلاقة يجب عليه إنكار الكثير من الحقائق الموجودة في حياته ، وما من شك في أن منكري هذه العلاقة يشبهون بـ «السفسطائيين» الذين ينكرون الحقائق أثناء حديثهم ، ولكنهم في حياتهم اليومية يقبلون جميع الحقائق مثل الآخرين ، فمثلاً لو تمرضوا يراجعون الطبيب ويستعملون الدواء وينفذون إرشادات الطبيب حرفاً بحرف ، أي أنّهم يعترفون رسمياً بوجود «الطبيب» و «الدواء» و «علم الطب» و «الصيدلة» ومئات الأمور الأخرى الدائرة في هذا الفلك.

إنّ منكري «علاقة النظام والعلم» أيضاً بدورهم يستنتجون علمياً وعملياً من أي أثر علمي وصناعي وأدبي وفني ، وجود مُبدىء واع وذي ذوق وفن ، ولا يعتمدون أبداً على الاحتمالات المجنونة.

الآن وقد اتّضحت علاقة النظام والعلم تماماً ، وثبتت كبرى البرهان حسب الاصطلاح المنطقي ، نعرج على مصاديقها في القرآن الكريم والتي اعتمد عليها.

ونعتقد أن من الضروري ذكر هذه النقطة وهي : أنّ الفلاسفة الماديين الذين حاربوا برهان النظم (انكار وجود النظام في العالم أو إنكار علاقة النظام والعلم) وعلى رأسهم «دافيد هيوم» لم يتحفونا بسوى مجموعة من الوساوس التي لا قيمة لها ، الوساوس التي لم يكونوا يقبلونها في حياتهم أبداً.

* * *

٤٤

١ ـ آياته في خلق الإنسان

في البداية نمعن خاشعين في الآيات الكريمة أدناه :

١ ـ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ). (الروم / ٢٠)

٢ ـ (إِنَّا خَلَقْنَا الْإنْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً). (الإنسان / ٢)

٣ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِّنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ). (المؤمنون / ١٢ و ١٣)

٤ ـ (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* الَّذِى أَحَسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ مَّاءٍ مَّهِينٍ* ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُّوْحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ). (السجدة / ٦ ـ ٩)

٥ ـ (وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١). (الجاثية / ٤)

* * *

شرح المفردات :

«بَشَرْ» : من أصل «بَشَرَة» بمعنى ظاهر جلد الإنسان ، ولكن يستفاد من «مقاييس اللغة» أنّ أصلها هو ظهور شيءٍ ذي حسن وجمال ، لذا فإنّ حالة «البُشر» (على وزن اليُسر) بمعنى الفرح والانبساط ، وانطلاقاً من أنّ هذه الحالة خاصة بالإنسان ، كانت مفردة «البشر»

__________________

(١) هنالك في هذا المجال آيات متعددة أخرى أيضاً ، صرفنا النظر عن ذكرها لتقارب مضمونها مع ما ذكرناه من الآيات ، من جملتها آيات سورة النجم ، ٤٥ ـ ٤٦ ؛ غافر ، ٦٧ ؛ فاطر ، ١١ ؛ الكهف ، ٣٧ ـ ٣٨ ؛ النحل ، ٤ ؛ الانعام ، ٢.

٤٥

اسماً للنوع الإنساني (١) ، وهذه المفردة تطلق على الرجل والمرأة والمفرد والمثنى والجمع (٢).

«سُلالة» : (على وزن عُصارة) بمعنى الشيء المأخوذ من شيء آخر ، فيكون خلاصته وعصارته ، وهي في الأصل من «سَلَّ» على وزن «حَلَّ» بمعنى سحب وجرَّ برفق وتستخدم لسحب السيف من القراب أيضاً ثم اطلقت على عصارة وخلاصة الأشياء (٣) ، وحينما نقرأ في الآيات المذكورة أنّ الله خلق الإنسان من سلالة من طين ، فمعنى ذلك من العصارة المصطفاة من الطين ، وقال البعض : إنّ المراد من هذا هو أنّ آدم مخلوق من عصارة كل الأتربة الموجودة على الأرض (ولهذا فقد استخلص آثار الجميع في وجوده) وإطلاق «السليل» على «الابن» من باب أنّه ناتج من عصارة وجود الأب والأم.

«النطفة» : في الأصل بمعنى «الماء الصافي» ، واعتبرها بعض أهل اللغة بمعنى «الماء القليل» ، وبما أنّ الماء الذي يمثل المبدأ في ظهور الإنسان قليل ومصطفىً وعصارة من كل الجسم فقد أُطلقت هذه المفردة عليه ، ويقال للسوائل الجارية «ناطف» أيضاً.

«أمشاج» : جمع «مَشْج» (على وزن نشج) بمعنى الشيء المخلوط ، والبعض اعتبرها جمعاً ل «مشيج» ، ولأنّ ماء الرجل والمرأة يختلطان عند انعقاد نطفة الإنسان فقد أطلقت هذه المفردة عليه.

جاء في «لسان العرب» أنّ هذه المادة في الأصل بمعنى اللونين المختلفين الذين يمتزجان مع بعضهما (ثم أطلقت على الأشياء المختلفة التي تختلط مع بعضها).

خلق الإنسان من (نطفة أمشاج) ، يمكن أن تكون إشارة إلى المواد المختلفة التي تشكل النطفة ، أو القابليات المتنوعة التي تجتمع في النطفة عن طريق عامل الوراثة وغيره من العوامل ، أو أنّه إشارة إلى كل هذه الامتزاجات.

* * *

__________________

(١) مقاييس اللغة ، لسان العرب والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(٢) لسان العرب ، ومجمع البحرين.

(٣) مفردات الراغب ، مجمع البحرين ، ولسان العرب.

٤٦

جمع الآيات وتفسيرها

آيات الأنفس الأولى :

للقرآن الكريم عبارات متنوعة حول بداية ظهور الإنسان ، يقول في أول آية بهذا الخصوص :

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَاب).

ويقول في الآية الرابعة : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِيْنٍ).

ويقول في الآية الثالثة : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ).

ويقول في الآية ١١ من سورة الصافات : (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّنْ طِيْنٍ لَّازِبٍ).

ويقول في الآية ٢٦ من سورة الحجر : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مِّسْنُونٍ).

وجاء في الآية ١٤ من سورة الرحمن : (خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ).

«الصَلْصَال» : في الأصل بمعنى لوي الصوت في الجسم اليابس ، ولهذا سمّى الطين اليابس الذي يصدر منه صوت عند ارتطام جسم آخر به بالصلصال ، وحين يُفخر على النار يقال له «الفخار».

«الفخار» : مأخوذ من مادة «فخر» أي الفخور كثيراً ، ولأنّ الأشخاص الفخورين أناس كثيرو الضجيج والكلام وفارغون ، فقد أُطلق هذا الاسم على الكوز وكل فخار فارغ الجوف ، بل أطلق على كل أنواع الفخار (١).

يستفاد من مجموع الآيات أعلاه أنّ الإنسان كان تراباً في البداية ، وقد امتزج هذا التراب بالماء واستحال إلى الطين ، وقد أخذ هذا الطين بعد مضي فترة شكلَ الوحل ثم استخلصت من عصارته المادة الأصلية لآدم ثم جُفِّفَتْ ، وباجتيازها المراحل المهمّة تكوّن آدم.

لكن في آيات اخرى من القرآن كالآية الثانية المعنية ، يعتبر خلقة الإنسان من نطفة

__________________

(١) مفردات الراغب ؛ ومجمع البحرين ؛ ولسان العرب.

٤٧

مختلطة : (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ).

وفي الآية الثالثة يعتبرها اولاً من «عصارة الطين» ، ثم من «نطفة في الرحم» : (مِنْ سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَكِيْنٍ).

واضح أنّ المراد من هذه الآيات هو خلقة الإنسان في المراحل والأجيال اللاحقة ، وبهذا فإنّ جدنا الأول مخلوق من التراب ، وأولاده وعقبه من نطفة أمشاج.

وثمّة احتمال في تفسير الآية أعلاه هو : بما أنّ المواد المكوِّنة للنطفة مأخوذة جميعها من التراب (لأنّ غذاءنا إمّا من المواد الحيوانية أو النباتية ونعلم أن جميع هذه المواد نحصل عليها من التراب) ، لهذا فلم يكن الإنسان الأول من التراب فحسب ، بل إنّ جميع الناس في المراحل اللاحقة ينشأون من التراب أيضاً (١).

* * *

وعلى كل حال ، فهذه حقّاً من العجائب الكبيرة في عالم الوجود وغرائب عالم الخلقة أن يولد ـ من مادة ميتة وبلا روح ولا قيمة لها كالتراب ـ موجود حي وعاقل وذو قدر وقيمة كالانسان ، فهذه من الآيات البينات لذلك المُبدىء الكبير ، و «إنّ ذلك الخالق لجدير بالشكر والثناء لأنّه خلق من الماء والطين مثل هذا الشكل الجذاب».

وبشكل عام فإن ظهور الحياة من موجود ميت مايزال من ألغاز عالَم الفكر والمعرفة ، فضمن أيّ شروط وظروف يخرج موجود حي من موجود ميت كالتراب؟ يعتقد كل العلماء أنّ الكرة الأرضية حين انفصلت عن الشمس كانت كلها ناراً محترقة ، ولم تكن عليها حياة مطلقاً ، ثم بردت قليلاً قليلاً وهطلت عليها سيول الأمطار من الغازات المضغوطة الموجودة حولها ، فتكونت البحار ، بدون أن يكون فيها كائن حي ، ثم ظهرت بوادر الحياة سواء النباتية أو الحيوانية وأخيراً خُلقَ الانسان!

إنّنا سواء اعتقدنا بالخلق المستقل للإنسان (كما هو ظاهر الآيات القرآنية) ، أو اعتبرنا

__________________

(١) ورد في تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ١٧٣ إشارة مقتضبة لهذا المعنى.

٤٨

الإنسان متكاملاً من أنواع الأحياء الأخرى (كما يقول أتباع داروين ، ونظرية التكامل) ، فمهما كان فإن جذور هذا الإنسان تعود إلى التراب ، فهو منبثق ومخلوق منه ، وإذا كان ظهور كائن حي أُحادي الخلية ومجهري من التراب ، محيّراً لأفكار كل العلماء ، فكيف بظهور الإنسان من التراب الميت الخالي من الروح؟

هنا يجب الاعتراف أننا بأزاء آية كبيرة من آيات الحق وعلامة محيّرة من عظمة الله ، آية من العالم الصغير هي نموذج متكامل للعالم الكبير.

يقول كاتب «سر خلق الإنسان» «غرسي موريسن» في معرض إشارته إلى بداية ظهور الحياة على الكرة الأرضية :

«وقعت حادثة عجيبة في بداية ظهور الحياة على الكرة الأرضية كان لها أثر كبير على حياة الموجودات الأرضية ، حيث أصبح لاحدى الخلايا خاصية عجيبة وهي أنّها وبواسطة ضوء الشمس بدأت تحلِّل وتجزِّء بعض التراكيب الكيميائية وتوفر بهذا العمل المواد الغذائية لنفسها ولسائر الخلايا المشابهة ، وقد تغذت الخلايا المنشطرة من احدى هذه الخلايا البدائية على الأغذية التي وفرتها لهم أمهم وأوجدت جيل الحيوانات ، في حين أنّ خلية أخرى بقيت على شكلها النباتي وكونت نباتات العالم ، وهي اليوم تغذي كل الأحياء الأرضية.

ثم يضيف : هل يمكن التصديق أنّه وحسب الصدفة كانت إحدى الخلايا منشأً لحياة الحيوانات وخلية أخرى كانت أصلاً ومصدراً للنباتات؟».

ووفق قول آخرين :

إنّ العلماء يقسمون موجودات عالم المادة إلى نوعين ، العضوية (وهي الموجودات القابلة للفساد كأنواع النباتات وأجسام الحيوانات) ، والموجودات اللاعضوية «المعدنية» التي لا تقبل الفساد ، ولهذا يقسمون الكيمياء إلى قسمين «الكيمياء العضوية» و «اللاعضوية».

تشكل المواد العضوية جميع أطعمة الإنسان تقريباً ، وهي مأخوذة كلها من التراب ،

٤٩

وحين تدخل جسم الإنسان تكوّن تراكيب كيميائية جديدة تناسب تغذية كل عضو من الأعضاء ، وهذه نفس الحقيقة التي يبينها القرآن بعبارة : (إنّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُراب) أو (مِنْ سُلالةٍ مِّنْ طِين) (١).

صحيح أنّ للإنسان علاوة على المادة الترابية روحاً إلهية ، ولكن لا شك أنّ الروح تكون مظهراً للأعمال والأفعال المختلفة بالتنسيق مع الجسم وعليه فإنّ هذه المادة الترابية تستطيع بالتنسيق مع الروح أن تقدم أنواع القابليات والأذواق والابتكارات والأعمال التي يحار فيها العقل.

مع أنَّ الإنسان صار موضوعاً لعلوم مختلفة ، وهنالك عالِم خاص حول كل جانب من جوانبه يمارس دراساته وأبحاثه ، إلّاأنّ الإنسان ما يزال موجوداً مجهولاً ، ويلزم من الوقت سنين طويلة لكي يحل العلماء بجهودهم المتواصلة هذا اللغز الكبير في عالم الوجود وينيروا زواياه ، وربّما لم يستطيعوا أبداً أن يقوموا بذلك!

يمكن لكل عضو من أعضاء جسم الإنسان أن يكون لوحده موضوعاً لحساب الاحتمالات : العين ، الاذن ، القلب ، العروق ، الجهاز التنفسي ، الكلى ، المعدة ، الكبد ، وأخيراً الجهاز العصبي المعقّد ، وبعملية رياضية بسيطة يتضح أن أي عقل لا يوافق على أنّها خُلقت صدفة.

نعم ، إنّه من أجل التوصل إلى بنية ونوع فعالية وفسلجة كل واحد من الأعضاء فقد درس آلاف العلماء والعقول المفكرة وكتبت مئات أو آلاف الكتب حولها.

هل يصدق أحد أنّه من أجل معرفة كل واحد من هذه الأعضاء تلزم كل هذه العلوم والعقول والذكاء والدراية ، بينما لا يلزم صنعها علماً وعقلاً على الاطلاق؟! كيف يمكن أن يكون فهم اسلوب عمل إحدى المعامل متطلباً لسنين من المطالعة ، بينما تكون صناعة هذا المعمل قد حصلت على يد العوامل غير العاقلة؟ أي عقل يصدق هذا؟!

هنا لا يعتبر ظهور الإنسان من المادة البسيطة (التراب) ومن سلالة من طين ومن الحمأ

__________________

(١) مقتبس من إعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة ، ص ٢٣ و ٢٤.

٥٠

المسنون إحدى أعمال الخلق العظيمة والآيات الكبيرة على وجود الله فحسب ، بل إنّ كل واحدة من خلايا الجسم بامكانها أن تكون مرآة عاكسة لعظمة الله ووجوده.

التعقيد والدقة في نظام الخلق :

يقولون : إنّ للجهاز الفلاني نظام معقد ، هذا عندما يكون بناؤه متكوناً من أجزاء وتشكيلات مختلفة ذات ارتباطات متعددة ومتنوعة ، ويقوم بأعمال متباينة مهمّة ، فمثلاً الحاسبة الألكترونية التي تستطيع فضلاً عن أعمال الحساب الأصلية أن تحل أنواع المعادلات الجبرية والقضايا الهندسية وتؤدّي مختلف الحسابات الرياضية بسرعة أو تحفظها في حافظتها ، تعتبر ذات نظام معقد.

يقول العلماء : إنّ خلف غشاء شبكية العين يُوجد تسعون ألف حزمة عصبية تربط بين خلايا الشبكية وسلسلة الأعصاب (بالطبع لكل عين من عيني الإنسان تسعون ألف حزمة) وهذا نظام عجيب ومعقد جدّاً ، وبأخذ هذه النقطة بنظر الاعتبار نعود إلى أصل البحث :

في عالم الخلقة وعلاوة على قضية الظرافة والدقّة ، ثمّة أنظمة معقدة غاية التعقيد ، تبهت الإنسان وتحيره ، وحسب تعبير بعض العلماء فإنّ في مدينة جسم الإنسان العظيمة أبنية تكون أكبر ناطحات السحاب في العالم إلى جانبها مثل كوخ طيني.

وكنموذج : نأخذ بناء الخلية وهي من بين الأنظمة المعقدة في العالم ، والذى اكتشفت اليوم أسرار عظيمة منه.

وكذلك فإنّ الإنسان وبشكل معدل في جسمه «عشرة ملايين مليار» وحدة حية صغيرة تسمى «الخلية».

كان أول من اكتشف الخلية ووضع لها تسمية ، عالمٌ يدعى «هوك» في القرن السابع عشر الميلادي ، وطبعاً فإنّه لم يكن يعلم يومذاك ما في بناء هذه الوحدة الصغيرة من تعقيد يبعث على الحيرة ، ولكن العلماء الذين جاؤوا بعده واصلوا مساعيه وتوصلوا إلى أسرار نسرد فيما يلي جانباً من شهاداتهم :

٥١

١ ـ يمكن تشبيه خلية مجهرية واحدة بمدينة فيها آلاف التأسيسات مجهزة بمنشآت ومعامل لتبديل المواد الغذائية إلى المواد التي يحتاجها الجسم ، بحيث لا يمكن أن نقيس أعظم وأحدث الظواهر الصناعية للبشر بها.

٢ ـ تتكون هذه المدينة الصغيرة والصاخبة من ثلاثة أقسام :

أ) جدار الخلية وهو بمثابة سور المدينة.

ب) القسم الأوسط للخلية (السايتو بلازم).

ج) النواة أو مركز القيادة.

إنّ السور المصنوع حول الخلية من اللطافة والظرافة بحيث لو وضعنا ٥٠٠ ألف من هذه الجدران إلى جانب بعضها فمن الصعب أن تساوي سمك ورقة اعتيادية! ومع هذا فهو حساس ومحكم قبال هجوم العوامل الخارجية إلى درجة أن سور الصين المعروف ليس شيئاً يذكر بالقياس إليه!

وهذا السد الرقيق مصنوع بدوره من ثلاثة جدران أو من ثلاث طبقات اصطلاحاً ، يتشكل طرفاه من الأنسجة البروتينية وأسفله مليءٌ بالدهنيات وهذه الدهنيات لاتسمح لشيء أبداً بالدخول داخل المدينة إلّابمفتاح رمزي ، وهذا المفتاح الرمزي هو : أنّ المواد التي تريد الدخول إلى المدينة يجب أن تتمكن من إذابة دهون الجدار فيها والنفوذ إلى الداخل ، وهذا دليل يثبت أنّها صديقة وليست من الاعداء ، وبهذا فإنّ هذه المدينة محروسة بشدة من كل جانب بدون حاجة إلى حارس.

٣ ـ يوجد في داخل هذه المدينة (الخلية) قنوات كثيرة تمتد من الجدران إلى أطراف «النواة» ، أي حصن قيادة الخلية ، تأخذ المواد الغذائية وتحيلها إلى بروتينات.

واللطيف أنّ ٢٣ نوعاً خاصاً من الأحماض تدخل هذه الخلية ، والبروتين يتكون من تركيب عدة أنواع منها.

٤ ـ النواة الأصلية بمفردِها تمثل ناطحة سحاب مكوّنة من آلاف الطبقات بحيث تكون ناطحات السحاب المعروفة في نيويورك منزلاً متواضعاً إلى جانبها.

٥٢

للنواة الأصلية في الخلية وهي مقر القيادة تشكيلات معقدة : غشاء النواة ، العصارة الداخلية ، والحزمات الرفيعة حولها التي تتولى كل منها مهمّة خاصة.

٥ ـ العجيب أنّ في نواة الخلية وحدات صغيرة جدّاً وظريفة تسمى «الجينات» يصل عددها طبقاً لدراسات العلماء إلى حدود ٢٥ ألف جين.

ليست «الجينات» هي الكل في الكل في أعمال الخلايا وحسب ، بل إنّها تمسك بكل نشاطات الجسم ، ومن أهمها التحكم بالأُمور الوراثية ونقل الصفات والخصائص إلى الخلايا اللاحقة ، أي أنّ انتقال كل الصفات الوراثية عند البشر وسائر الحيوانات يتمّ عن طريق الجينات.

ولأنّ العمل الأساسي للجين يقع على عاتق الحامض الخاص في النواة ، لذا يمكن تسميته بالعقل الألكتروني أو كامبيوتر الجين.

والأعجب من هذا ، أنّ نفس هذه الجينات متكونة من أجزاء أخرى تصل طبقاتها من ٣٠ إلى ٥٠ ألف حسب ما يعتقد العلماء.

ومختصر الكلام أنّ هذه المدينة العظيمة بذلك السور العجيب وآلاف المنافذ والبوابات ، وآلاف المعامل والمخازن وشبكة الأنابيب ومركز القيادة بتأسيساته الكثيرة وارتباطاته المتعددة والنشاطات الحياتية المتنوعة في تلك الحدود الصغيرة ، من أعقد وأدهش مدن العالم ، إذ إنّنا لو أردنا أن نصنع مؤسسات تقوم بنفس الأعمال (ولا نستطيع ذلك أبداً) ، وجب علينا اقتطاع عشرات الآلاف من الهكتارات من الأرض لوضعها تحت اختيار هذه المؤسسات والأبنية المختلفة والأجهزة المعقدة لتكون جاهزة لمثل هذا البرنامج ، لكن المدهش أنّ نظام الخلق قد ضغط كل هذا في مساحة تعادل ١٥ مليون مليمتر! (١).

أجل ، في خلقة الإنسان آلاف آلاف من الآيات والعلامات الإلهيّة : (الْعَظَمَةُ لِلَّهِ الواحِدِ القَهَّارِ).

* * *

__________________

(١) من كتب فسلجة الحيوان ، فسلجة الوراثة ، والسفر إلى أعماق وجود الإنسان.

٥٣
٥٤

٢ ـ آياته في نمو الجنين

تمهيد :

ظلت تحولات نمو الجنين في بطن أمه ولسنين طويلة خافية عن أعين العلماء ، إلى أن رفعت يد العلم النقاب عن هذا العالم المملوء بالأسرار ، وأظهرت أنّ النطفة عندما تستقر في محلها من الرحم وتبدأ سيرها التكاملي ، ماذا تطوي من المراحل المختلفة والمتنوعة حتى تصبح على هيئة إنسان كامل ، والعجيب أن القرآن الكريم أكد عدة مرات على قضية نمو الجنين في آياته المختلفة وفي ذلك العصر والزمان الذى لم تكن فيه علوم ولا اكتشافات ، تارةً لإثبات التوحيد وتارة لإثبات المعاد.

مع إنّ «علم الأجنة» ما زال في مراحله الأولى ، ومعلوماتنا عن هذا العالم الغامض ما تزال قليلة جدّاً ، ولكن حتى هذا المقدار الذي كشف العلم البشري النقاب عنه ، قد وضع دنيا من العجائب والغرائب مقابل أعين العلماء.

بهذه الإشارة نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية :

١ ـ (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَّكِيْنٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِيْنَ). (المؤمنون / ١٢ ـ ١٤)

٢ ـ (الَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّنْ مَّنِىٍّ يُمَنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الَذَّكَرَ وَالأُنْثَى). (القيامة / ٣٧ ـ ٣٩)

٣ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُّطْفَةٍ فَاذا هُوَ خَصِيْمٌ مُّبْينٌ). (يس / ٧٧)

٥٥

٤ ـ (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً). (الكهف / ٣٧)

٥ ـ (هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَّنْ يُتَوّفىَ مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أجلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُوْنَ) (١). (غافر / ٦٧)

* * *

شرح المفردات :

«العلقة» : من مادة «عَلَق» (على وزن شفق) وهي في الأصل بمعنى العلاقة والإرتباط بشىء ، ولهذا جاءت كلمة «عَلَق» بمعنى «الدم المتخثر» و «الديدان المصاصة للدماء» ، وقد سميت «العلقة» بهذا الاسم لأنّها احدى مراحل تكوين الجنين في رحم الأم ، فهي تشبه قطعة الدم المتخثرة (٢).

جاء في «مقاييس اللغة» أنّ أصل مفهوم هذه المفردة هو ارتباط وتعلق شيء بموجود أعلى منه ثم اتسع مفهومها بعد ذلك (٣).

«المضغة» : من مادة «مَضْغ» بمعنى مضغ الطعام وبمعنى قطعة اللحم التي يمضغها الإنسان لمرة واحدة شرط أن تكون غير مطبوخة ، وإطلاق هذا المصطلح على إحدى مراحل الجنين التي تأتي بعد مرحلة «العلقة» جاء من باب تشابهها مع مثل هذا اللحم ، ففي ذلك الحين يصبح الجنين على شكل قطعة حمراء فيها الكثير من العروق ذات اللون الأخضر ، ويقال أحياناً «قلب الإنسان مضغة من جسده» ، كل هذه التعابير تعود إلى أصل واحد (٤).

__________________

(١) توجد على هذا الصعيد آيات اخرى في القرآن الكريم نكتفي بذكر رقمها وسورتها لتقارب معناها من الآيات المذكورة أعلاه ، فاطر ، ١١ ؛ والحج ، ٥.

(٢) مفردات الراغب.

(٣) وفي كتب اللغة الأخرى تعابير تشبه هذا التعبير كما في لسان العرب ومجمع البحرين.

(٤) مقاييس اللغة ؛ مفردات الراغب ؛ مجمع البحرين ؛ لسان العرب وصحاح اللغة.

٥٦

«المنيّ» : في الأصل من مادة «مَني» (على وزن سَعي) بمعنى التقدير والقياس ، وبما أنّ في ماء النطفة مقياس إنسان أو حيوانٍ ما ، فقد اطلقت هذه المفردة عليه ، ولهذا أيضاً يسمى الموت بـ «المنيّة» فهي الأجل المقدر للإنسان أو الحيوان.

وإطلاق مفردة «التمنّي» على الآمال جاء بسبب أنّ الإنسان يُصوِّر ويُحدِّد آماله في قلبه ، ولأنّ الكثير من الآمال لا تطابق الواقع تأتي مفردة «الأمنية» أحياناً بمعنى الكذب(١).

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

عالم الجنين الغامض :

كما اشرنا سابقاً فإنّ القرآن الكريم أكد مراراً على مسألة المراحل التكاملية لنمو الجنين في رحم الأم ، ودعا الناس كافة إلى مطالعتها بدقة ، واعتبرها إحدى الطرق للوصول إلى معرفة الله ، وكذلك إحدىَ طرق إثبات إمكانية المعاد.

إنّ الآيات الأولى المعنية بالبحث وبقرينة العبارة الأخيرة منها : (فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الْخَالِقْينَ) تشير إلى قضية التوحيد ، وبالرغم من أنّ الآيات اللاحقة من نفس سورة «المؤمنون» هذه تدلّ على أنّها تشير إلى قضية المعاد أيضاً وبهذا تكون هذه الآيات قد تعرضت إلى مسألة معرفة الله وتوحيده بالاضافة إلى معاد.

وقد تحدثت في البداية عن خلق الإنسان من (سُلالَةٍ مِّنْ طِيْنٍ) ثم من (نُطْفَةٍ فِى قَرارٍ مَكِيْنٍ) ، وبعد ذكر هاتين المرحلتين تنتقل إلى ذكر خمس مراحل أخرى :

١ ـ مرحلة «العلقة» حيث تتبدل النطفة إلى دم متخثر في داخله الكثير من العروق.

٢ ـ مرحلة «المضغة» حيث يصبح هذا الدم المتخثر على شكل قطعة من اللحم.

٣ ـ مرحلة» العظام» حيث تتبدل كل الخلايا اللحمية إلى خلايا عظمية.

٤ ـ يأتي دور مرحلة تغطية العظام باللحم حيث تغطي العضلات كل العظام : (كَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً).

__________________

(١) مفردات الراغب ، مجمع البحرين ، ولسان العرب.

٥٧

٥ ـ هنا تتغير لهجة القرآن وتخبرنا عن تحول وخلق مهم وجديد للجنين ، فيقول بتعبير فيه أسرار وخفايا : (ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ).

وعندما تنتهي هذه المراحل السبع يصف القرآن هذه الخلقة العجيبة أجمل وصف بعبارة : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقْينَ) ، وهي عبارة لم تأتِ في أي آية أخرى من القرآن ولم تستخدم في مجال أي موجود آخر.

ذكر المفسرون تفاسير متنوعة في المراد من العبارة الغامضة : (الخلق الآخر).

ويبدو أن أنسبها وأقربها إلى القصد هو بلوغ الجنين مرحلة الحياة الإنسانية ، حيث يظهر فيه الحس ويبدأ بالحركة ، ويضع قدماً في عالم الحيوانات والبشر ، يعبر القرآن عن هذه الطفرة الكبيرة والعجيبة بكلمة «الإنشاء» في إشارة إلى الطريق الطويل الذي يقطعه الإنسان خلال هذه المدة القصيرة.

نقرأ في حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام في تفسير عبارة : (ثُمَّ أَنْشَأناهُ خَلْقاً آخَرَ) قوله : «هو نفخ الروح فيه» (١).

صحيح أنّ الجنين كائن حي مند لحظاته الأولى ، ولكنه وحتى فترة معينة لا يمتلك أي إحساس وحركة في بطن الأم ، ويكون في الحقيقة أشبه بالنبات منه بالحيوان أو الإنسان ، ولكن بعد مضي عدّة أشهر تُبعثُ فيه الروح الإنسانية ، ومن هنا جاء في الروايات الإسلامية أنّ الجنين لا يستحق قبل بلوغه هذه المرحلة الدية الكاملة أبداً ، أمّا إذا بلغ هذه المرحلة كانت ديته نفس الدية الكاملة للإنسان (٢).

التعبير ب «أَحسن الخالقين» بالرغم من أنّه لا خالق غير الله إنّما هو لأجل أنّ مفردة «الخلق» ليست فقط بمعنى الإيجاد بعد العدم فحسب ، بل لها معان أخرى منها : «التقدير» و «الصناعة» و «إعطاء الأشكال الجديدة للأشياء الموجودة في العالم» ، ولا شك أنّ الإنسان يستطيع بما منحه الله من قوى أن يوجد تغييرات كثيرة على مواد هذا العالم

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٤١ ، ح ٥٦ و ٥٧.

(٢) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٥٤١ ، ح ٥٦ و ٥٧.

٥٨

المختلفة ، فيصنع من الحديد والفولاذ المصانع والمعامل أو يبني من المواد الإنشائية بناءً عظيماً بأحجام مختلفة.

إذن فللخلق مفهوم واسع يشمل كل هذه الأمور.

ولهذا وَرَد في القرآن الكريم عن لسان النبي عيسى عليه‌السلام قوله : (إِنِّى أخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّيْنِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ). (آل عمران / ٤٩)

وبالطبع فإنّ الخالق الحقيقي أي ذلك الذي يوجد المادة والصورة وإليه تعود كل قدرات وخواص الأشياء هو الله فقط ، ومهمّة غيره من الخالقين وهم الخالقون المجازيون ، هي تغيير الأشكال وتصميم المواد.

* * *

تشير الآية الثانية من الآيات المنظورة إلى مرحلة بداية ظهور الإنسان أولاً ، أي عندما كان قطرة ماء حقير اسمه المني ، ثم تذكر مرحلة العلقة فقط من بين مراحل نمو الجنين ولا تذكر المراحل الأخرى إلّاتحت عنوان : (فَخَلَقَ فَسَوّى) وهو تعبير شامل جدّاً ، وتشدِّد خاصة على قضية ولادة الجنس «المذكر» و «المؤنث» وهي من أعقد المظاهر المتعلقة بعلم الأجنة : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والْأُنْثى).

«سوَّى» : من مادة «تسوية» بمعنى التنظيم والتسوية ، ويعتقد البعض أنّها إشارة إلى خلق الروح الذي جاء في الآية السابقة بشكل آخر.

ويرى البعض أنَّ كلمة «الخلق» إشارة إلى خلق الروح ، وكلمة «سوّى» إشارة إلى تنظيم وتعديل أعضاء الجسم الإنساني ، وفسّرها البعض بالتعديل والتكميل.

لكن الظاهر أنّ تعبيرات الآية شاملة وواسعة بحيث تستوعب كل ألوان الخلق والتنظيم والتعديل والتكامل التي تطرأ على العلقة حتى ساعة وضع الحمل (١).

يقول الراغب في كتاب المفردات : تقال «التسوية» لصيانة الشيء من الأفراط والتفريط من حيث المقدار والنوعية.

__________________

(١) تفاسير القرطبي ، روح المعاني ، في ظلال القرآن ، الميزان والكبير ، في التعقيب على الآية المعنية.

٥٩

في الآية الثالثة يؤكد على نقطة جديدة أخرى ويقول بعد الإشارة إلى خلق الإنسان من النطفة (خصيم مُبين).

وقد وردت تفاسير متعددة لهذا التعبير : فقالوا تارة إنّها إشارة إلى مرحلتي «الضعف» و «القوة» لدى الإنسان ، حيث كان يوماً ما نطفة حقيرة ويصبح لاحقاً قوياً ومقتدراً إلى درجة قيامه بالخصومة والضجيج ازاء كل شخص حتى ازاء الله!.

وقالوا تارة إنّها إشارة إلى ملكة النطق والفهم والشعور لدى الإنسان ، فهذه النطفة الحقيرة يصل بها الأمر إلى عدم الاقتصار على النطق فقط ، بل إلى التمتع بالقدرة على الاستدلال المنطقي بانواعه والاقتدار العقلي ، ونحن نعلم أنّ ظاهرة النطق والبيان والمنطق والاستدلال من أهم ظواهر الوجود الإنساني.

وقيل أحياناً : إنّ هذا التعبير إشارة إلى النزاع العجيب الذي يحصل بين الخلايا الذكرية «الحيامن» من أجل التسلط والاتحاد بالخلية الانثوية «البيضة» ، لأنّ نطفة الذكر عندما تدخل الرحم تتحرك آلاف الحيامن بسرعة كبيرة لتصل إلى نطفة الأنثى وتتحد معها.

وأول حيمن يصل إليها وينفذ إلى داخلها يسد الطريق على بقية الحيامن ، لأنّ غشاءً مقاوماً سيحيط بالبيضة ويمنع من نفوذ بقية الحيامن إليها ، وبهذا فإنّ البقية سيهزمون في هذا الصراع العجيب ويمتصهم الدم ، ولهذا يشير القرآن الكريم بعد ذكر مرحلة النطفة إلى قضية (خصيم مُبين) (١).

* * *

في الآية الرابعة أيضا يرد ذكر الخلقة من التراب ثم النطفة وبعد ذلك مرحلة التسوية والتنظيم ، وفي الآية الخامسة وهي آخر الآيات يضيف القرآن إلى كل هذا مرحلة «الولادة» وخروج الجنين من بطن الأم على شكل طفل وليد : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً).

وكما نعرف فإنّ أهم عجائب الجنين هي نهاية عمره ، بالولادة ، أية عوامل تؤدّي إلى

__________________

(١) إعجاز قرآن از نظر علوم روز ، ص ٢٧ (بالفارسية).

٦٠