نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

لقد قاموا بتربية الحيوانات من أجل غاياتٍ مهمّةٍ ، كالطيور التي تنقل الرسائل ، والحيوانات التي تُرسلُ إلى السوق للشراء ، وحيوانات الصيد ، وكلاب الشرطة التي تستعمل للكشف عن المخدّرات ، وملاحقة المجرمين وامثال ذلك ، فتُربّى هذه الحيوانات بنحوٍ قد تكون أفضل وأكثر ذكاءً من الإنسان في انجاز مهمتها ، حتى في هذا العصر الذي تنوعت فيه معدات كشف الجرائم لم يجدوا في انفسهم غنىً عن هذه الكلاب!.

خصوصاً أنَّ بعض الحيوانات كالنحل والنمل والأرضة ، وبعض الطيور كالطيور المهاجرة ، وبعض حيوانات البحر كالأسماك الحرّة التي تقطع آلاف الأميال في اعماق البحر باتجاه منشئها الأصلي أثناء وضع البيوض ، تعيش حياةً دقيقةً ومليئةً بالأسرار بحيث لا يمكن نسبتُها إلى الغريزة ، لأنَّ الغرائز تُعتبر عادةً مصدراً للأعمال ذات النَسق الواحد ، في حين أنَّ حياة هذه الحيوانات ليست كذلك ، وأعمالها دليلٌ على فهمها واحساسها النسبي.

يقول مؤلف تفسير «روح المعاني» :

أنا لا أرى مانعاً من القول بأنّ للحيوانات نفوساً ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان ، والشواهد على هذا كثيرة وليس في مقابلتها دَليل يجب تأويلها لأجله (١).

والظاهر أنّ مقصوده من الشواهد هذه التلميحات أو التصريحات التي جاءت في القرآن الكريم في قصة «الهدهد وسليمان» وكذلك «النملة وسليمان» ، وكذلك الروايات التي نُقلت في تفسير آية البعث بأنَّ الحيوانات تُحشرُ وتُنشرُ وتحاسبُ يوم القيامةِ أيضاً (٢).

ولكن على أيّةِ حالٍ فسواء كانت أعمالها وتصرفاتها ناتجة عن عقلٍ وإرادةٍ أو عن غريزة فلا أثر لذلك على بحثنا ، فهي بأيَّ نحوٍ آيةٌ من آيات الله وبرهانٌ من براهين علمه وقدرته.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٧ ، ص ١٤٧.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٢٩٨.

٣٠١

واللطيف أنّه يقول في نهاية الآية : (مَا فَرَّطْنَا فِى الْكِتابِ مِنْ شَىءٍ) (١). (ثُمَّ إِلَى ربِّهِمْ يُحْشَرُوْنَ).

والتعبير بـ «حَشر» يشير أيضاً إلى أنّها ذات عقلٍ وإرادةٍ نوعاً ما.

يُستفادُ من الآيات أعلاه أنَّ الطيور ومن عدة جوانب تعتبر من آيات الله ولا يمكن نسبة هذه الظواهر الدقيقة والمعقدة والمليئة بالأسرار إلى الصدفة العمياء والصماء أو إلى الطبيعة التي لا عقل ولا شعور لها.

* * *

توضيحات

١ ـ فَنُّ الطيران الْمعقَّد

منذ سنواتٍ والإنسان يُفكر : ما هذه القوة الخفيّة التي تساعد الطيور الثقيلة نسبياً على الطيران خلافاً لجاذبية الأرض وتجعلها تطير بانسيابية ويُسرٍ ومهارةٍ في أعالي السماء ، وتتنقلُ بسرعةٍ؟ ولكن باختراع الطائرة وصناعتها تمّ اكتشاف هذا السر بانَّ هناك قوة تسمى «القوة الرافعة» تستطيع أنْ ترفع الأجسام الثقيلة جدّاً وتجعلها تطير في السماء ، فضلاً عن الطيور. ويمكن توضيح ذلك في عبارةٍ بسيطةٍ وخاليةٍ من المصطلحات الفنية بما يلي :

لو كان لجسمٍ سطحان مختلفان (كاجنحة الطيور أو اجنحة الطائرة حيث يكون سطحها العلوي منحنياً وبارزاً ، فلو تحرك هذا الجسم افقياً ستتولد قوةٌ خاصةٌ ترفعُهُ إلى الأعلى ، وهذا يعود إلى أنَّ ضغط الهواء سيتضاعف على السطح السفلي أكثر من العلوي (لأنَّ السطح العلوي أوسع من السفلي).

وتعدّ الاستفادة من هذا القانون السبب الرئيس في تحليق الاجسام الثقيلة في الجو ، ولو

__________________

(١) «فَرَّطنا» من مادة «تفريط» أي التقصير في اداء العمل وتضييعه بنحوٍ يضيع (صحاح اللغة) ويردُ هذا الاحتمال أيضاً بأنَّ المقصود من عدم التفريط في هذا الكتاب السماوي يعني أنَّ للقرآن مفهوماً جامعاً حيث يشمل كافة حاجات الإنسان إلّاأنّه نظراً إلى ذيل الآية فانَّ المعنى أعلاه يعتبر أكثر مناسبة.

٣٠٢

تأملنا اجنحة الطيور جيداً للمسنا هذا القانون الفيزيائي بكل دقة.

غير أنّ هذه مسألة واحدة فقط من عشرات المسائل المهمّة في الطيران ، ومن أجل تصور أوسع له لابد من التطرق إلى الامور الآتية :

١ ـ السرعة الأولية لحصول القوّة الرافعة (فالطائرة تسير وقتاً طويلاً على الأرض للحصول على هذه السرعة ، أمّا الطيور فقد تركض قليلاً أو بقفزةٍ سريعةٍ في الهواء فتصل هذه الغاية!).

٢ ـ كيفية التحكم بهذه القوّة أثناء الهبوط (وهذا الأمر يجري في الطيور والطائرة بتقليل السرعة وتغيير هيئة الجناح!).

٣ ـ كيفية تغيير الاتجاه أثناء الطيران (ويتم هذا الأمر عن طريق الاستفادة من حركات مؤخرة الطائرة أو الريش الخاص في قوافي الطيور التي تحدث حركات في مختلف الاتجاهات وتسوق الطائر نحو أيِّ اتجاه).

٤ ـ اتخاذ الشكل المناسب للطيران بالنحو الذي يجعل مقاومة الهواء على جسم الطائر تصل إلى الحد الأدنى (وهذا الأمر تمَّ تأمينه من خلال الهيكل المغزلي للطيور ، والرأس البيضوي ، والمنقار المدبَّب والحاد ، وهيئة الطائرة تقليدٌ له!).

٥ ـ أدوات التنسيق مع الطيران (وهذا المعنى متوفرٌ من خلال الريش الذي يسمح للطيور أنْ تسبح في الهواء ، ووضع البيوض بدلاً من الحمل ، كي لا يصبح جسمها ثقيلاً ، والعيون الحادّة حيث ترى الفريسة أو الصيد جيداً من مكان بعيد وأمثال ذلك).

٦ ـ لقد كان العلماء ولمدةٍ من الزمن يلاحظون أنَّ عجلات الطائرات علاوة على تخفيفها لسرعتها فهي لا تخلو من الأخطار أثناء طيرانها ، حتى شاهدوا الطيور تجمع أرجُلَها أثناء الطيران وتفتحها قبل الهبوط بقليل فادركوا أنّه يجب الاستفادة من العجلات المتحركة التي تُجمع بعد الارتفاع ، وتُفتح قبيل الهبوط!.

ولا عجب في إجراء العلماء لبحوث كثيرة ولسنواتٍ متماديةٍ على مختلف أنواع الطيور مهتمين بكيفية الطيران ، والهبوط ، وشكل الأجنحة والأذناب ، وقاموا بصِناعةِ أنواع مختلفة

٣٠٣

من الطائرات تقليداً لمختلف الطيور.

فهل يُمكن أن تكون الاسس الضرورية المذكورة في الطيران وليدة للطبيعة العمياء والصّماء؟ أوَليسَ جملةُ : (مَا يُمسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ) إشارة دقيقة وجميلة إلى جميع تلك الاسس؟ لا سيما وأنّ المعنى يتم بعد جملة : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَىءٍ بَصيرٌ).

* * *

٢ ـ «عجائب الطيور» و «الطيور العجيبة»

للطيور أنواع مختلفة وعجيبة ، وبعضها أكثرُ عجباً ، إذ يقول بعض العلماء : شوهد ٢٨٩ نوعاً من الحمام و ٢٠٩ نوع من الحجل و ١٠٠ ألف نوع من الفراشة لحد الآن (١).

ويمكن ذكر «الخفاش» مثلاً من بين الطيور العجيبة ، فهو يضجر من ضوء الشمس على عكس سائر الطيور ، ويطير في ظلام الليل بكل شجاعةٍ وجرأةٍ وبأيّ اتجاه شاء ، وجسمه خالٍ من الريشِ تماماً واجنحتُه متشكلة من جلد رقيق ، وهو لبونٌ ولودٌ ، فيحيضُ ، ويأكل اللحم ، ويقالُ إنَّ الطيور تنصبُ له العداء ، كما أنّه يعاديها أيضاً! لهذا فهو يقضي حياته منعزلاً.

وحركته السريعة والجريئة في ظلمة الليل من دون أن يصطدمَ بمانعٍ تبعث على الحيرةِ ، فهو يَمر من خلال انحناءاتٍ والتواءاتٍ كثيرة بدون أن يضِّل طريقه ، ويوفر طعامه بدقّة أينما كان مختفياً ومن دون خطأٍ ، لامتلاكه لجهازٍ خفي يشبه «الرادار».

فهو يرى بأذنه «أَجَلْ بأذنه!» لأنَّ الأمواجَ الخاصَّة التي يصدرها من حنجرته ويرسلها إلى الخارج عبر أنفهِ ترتطمُ بكل ما يصادفها وتعود ، وهو يلتقط الأمواج المنعكسة بأذنه ، ويتحسسُ الوضعَ في جميع الجهات فيتجنب العقبات.

إنَّ بناءَ حنجرته وانفهِ وأذنهِ عجيبٌ ، دقيقٌ لا يوجد له مثيل في أيٍّ من اللبائن.

والأمواج التي يرسلها إلى الخارج هي أمواج ما وراء الصوت ، التي لا نستطيع سماعها ، وفي كلِّ ثانيةٍ يرسل ٣٠ ـ ٦٠ مرّة إلى كل الاتجاهات المحيطة به ويستلم ردَّها.

__________________

(١) يراجع كتاب أسرار حياة الحيوانات ، ص ١٤٢ إلى ١٩٦.

٣٠٤

لقد اجروا بحوثاً كثيرة حول «الخفّاش» وأَلّفُوا مقالاتٍ عديدةً ، تتشكل منها دروس حقة لمعرفة الله.

ولهذا يتحدث أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة في خطبةٍ معروفةٍ باسمِ «خطبة الخفّاش» عن هذا الحيوان ، ويُبينُ مهارتَه ودقته في بيانهِ العظيم والبليغ ، حيث يقول :

«من لطائف صنعته ، وعجائب خلقته ، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش ...» (١) ثم يضيف بصدده قائلاً :

«وقيل من الحيوانات من يحتضن صغاره ، ويحمله تحت جناحه وربما قبض عليه بفيه وهو في حنوه عليه واشفاقه عليه وربما ارضعت الانثى ولدها وهي طائرة ...» (٢).

ومن عجائب الخلق طائرٌ آخر يُسمى «الطاووس» ، بريشه الجميل الذي تصيب الدهشة من يتمعن بألوانه ، فكأنّما خرجَ لتوِّهِ من تحت يد رسّام ماهر مليئاً بالألوان الخلابة الزاهية الشفّافة والجذّابة ، مصففاً ريشه بمظلة عجيبة التي إذا رأيتها فسوف لن تغيب عن بالك ، أنّ ذلك لآية اخرى من آيات خلقِ الله.

لهذا أكَّد معلمُ التوحيد ومعرفة الله ، الإمام علي عليه‌السلام في احدى خطب نهج البلاغة «خطبة الطاووس» على هذا الأمر قائلاً :

«ومِنْ أَعجبِها خلقاً الطاووس الذي أَقامَهُ في أَحكَمِ تعديلٍ ، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد بجناحٍ أشرج قَصَبَهُ وذنب أطال مَسْحَبَه إذا درج إلى الانثى نثره من طيّه وسما به مطلاً على رأسه كأنّه قلع داري عنجة نوتيّةٌ يختال بألوانه ...» (٣).

و «الطيور المهاجرة» من أكثر أنواع الطيور إثارة للدهشة أيضاً ، فهي تقطع أحياناً كل المسافة بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي ، ثم تعودُ إلى مكانها الأول ، قاطعة سفراً طويلاً بعيداً قد يبلغ آلاف الأميال ، والعجيب أنّها تستخدم في هذه المسافة الشاسعة آلاتٍ

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٥.

(٢) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٤٠٣.

(٣) تراجع بقية هذا الحديث في الخطبة ١٦٥ من نهج البلاغة.

٣٠٥

خفية تستطيع بها تشخيص طريقها بين الجبال والغابات والصحارى والبحار.

والأعجب من كل هذا مواصلة طيرانها لعدّة أسابيع بدون توقف ليلاً ونهاراً دون الحاجة إلى غذاء ، لأنّها تبدأ بالأكل قبل بداية سفرها ـ بدافع داخليِّ ـ ، أكثر من الحد اللازم ، وتختزن هذه الأطعمة على هيئةِ دهون في جسمها ، كي تكتسب الطاقة اللازمة لهذا الطيران الطويل المستمر.

فهل تستفيد من الجاذبية المغناطيسية للأرض من أجل تشخيص طريقها؟ أو من استقرار الشمس في السماء والنجوم أثناء الليل؟ وفي هذه الحالة يجب أن تكون هذه الطيور من الفلكيين المرموقين ، أو تستفيد من طريقةٍ خفيَّة اخرى نجهلها لحد الآن؟

والأهم من ذلك أنّها تنام في السماء أحياناً وهي طائرةٌ وتواصل مسيرتها نحو هدفها! كما أنّها تتوقعُ التحولات في الجو قبل حصولها من خلال تنبؤ ذاتي ، فتستعد للحركة.

لعلكم شاهدتم بأعينكم أنَّ الطيور المهاجرة تتحرك بشكلٍ جماعيٍّ وتُشكِّلُ نسقاً على هيئةِ رقم ٧ ، فهل هذا حدثَ صدفةً؟ لقد أثبتت بحوث العلماء أنَّ الطير عندما يحرِّك جَناحَيهُ في الهواء فهو يخفضه ممّا يسهل عملية تحريك جناح الطائر الذي يليه ، لهذا فانَّ الطيور حينما تتحرك بالشكل أعلاه قليلاً ما تتعب ، وتختزن كميةً لا بأس بها من طاقتها ، فايُّ معلِّمٍ اعطاها هذا الدرس الدقيق؟

* * *

٣ ـ الطيور في خدمة الإنسان والبيئة

يقول أحد العلماء : إنَّ شقاءَ وقسوة الإنسان ، وغفلته وجهله لا عدّ ولا حدود لها ، فيجب أن يعلَم أنَّ قتلَ الطيور يكلفه خسارةً فادحةً ، ويحرمُهُ عون ونصرة أعزِّ وأغلى الاصدقاء والرفاق في صراعه مع الحشرات الضارة.

فللإنسان طريقتان في مكافحته للحشرات الضارة : إحداهما الاسلوب البدائي وهو عبارة عن إبادة اليرقات في البساتين والمزارع وقتلها ، والقضاء على الجراد وحشرة المنّ ، عن طريق السموم ، والاخرى الصراع العلمي عن طريق «البيولوجيا» بواسطة الفايروسات

٣٠٦

والطفيليات الخاصة التي يتم تكثيرها لهذا الغرض.

إلّا أنّه يدفعُ ثمناً غالياً في هذين الاسلوبين من الصراع ويتحملَ المتاعب والمشقة ، بينما لو ترك الطيور سالمةً ، وقام بتكثير الطيور التي تقتل الحشرات كالبوم ، وبعض الطيور التي تتغذى على الحشرات فستكون المكافحة أسهل وافضل (وارخص).

يقول عالمٌ يُدعى «ميشيل» : «لولا وجود الطيور ستصبح الأرض فريسةً للحشرات» ، ويكتبُ آخرُ يُسمى «فابر» في تأييده : «لولا وجود الطيور سيقضي القحط على البشر»!.

وتحدِّثنا الاحصاءات ، بأنْ لو حصلنا على حسابات دقيقة نسبياً عن معدل اليرقات والحشرات التي تستهلكها الطيور الصغيرة سنوياً في طعامها وطعام فراخها فستتضح هذه المسألة كثيراً.

فهنالك طيرٌ صغيرٌ يُدعى «رواتوله» يأكل سنوياً «ثلاثة ملايين» من هذه الحشرات المهاجمة! وهناك نوع من الطيور يُسمى «الطائر الازرق» يأكل سنوياً «ستة ملايين ونصف المليون» من الحشرات ، ويستهلك «أربعاً وعشرين مليوناً» لاطعام فراخه التي لا تقل عادةً عن اثني عشر أو ستة عشر فرخاً ...

والسنونو تطوي يومياً أكثر من ستمائة كيلو متر وتأكل «الملايين» من الذباب ، وهناك طيرٌ يُدعى «تروغلوديت» يتغذى على «تسعة ملايين» حشرة منذ أن يخرج من البيضة وحتى طيرانه من العش! وغالباً ما يعتبر الناس أنَّ الغراب الاسود مضرٌ ، ولكن لو ذبحتم أحد الغربان وتفحصتم حوصلته تجدونه مليئاً بنوعٍ من الديدان البيضاء (١).

هذا جانبٌ من خدمات الطيور للمزارعين والبيئة ، فافرضوا الآن لو أنّها تأخذُ نصيباً من محاصيلنا الغذائية الذي لا يساوي واحداً بالالف ممّا تستحقه من هدية! فهل يؤدّي بنا هذا إلى اعتبارها حيواناتٍ ضارةً ومؤذية؟

فَمَنْ أَوْدَعَ هذا التكليف لدى هذه الطيور بأن تتكفَّل بدورٍ مهمٍ بموازنة القوى في عالم الحيوانات والحشرات التي لها فوائدها أيضاً.

* * *

__________________

(١) نظرةٌ إلى الطبيعةِ وأسرارها ، ص ١٩٥ ـ ص ١٩٧ «مع الاختصار».

٣٠٧

٤ ـ دروس التوحيد في وجود الطيور

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام معلمُ التوحيد العظيم في الحديث المشهور بـ «المفضل» :

«تأمّل يا مفضل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدّر أن يكون طائراً في الجو خفّف جسمه وادمج خلقه فأقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين ومن الأصابع الخمس على أربع ، ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه كما جعل السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء وتنفذ فيه وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران وكُسيَ كله بالريش ليدخله الهواء فيقله ، ولما قدّر أن يكون طعمه الحبّ واللحم يبلعه بلعاً بلا مضغ نقص من خلقه الأسنان وخلق له منقار صلب جاس يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحب ولا يتقصف من نهش اللحم ، ولمّا عدم الاسنان وصار يزدرد الحبّ صحيحاً واللحم غريضاً اعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ ؛ واعتبر ذلك بأنّ عجم العنب وغيره يخرج من أجواف الانس صحيحاً ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ثم جعل ممّا يبيض بيضاً ولا يلد ولادةً لكيلا يثقل عن الطيران ...» (١).

ثمَّ يشرحُ الإمام عليه‌السلام بعد ذلك ، الامورَ المهمّة والدقيقة الاخرى حول الطيور حيث نُعرض عنها مراعاةً للاختصار.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ١٠٣ وما بعدها.

٣٠٨

١٨ ـ آياتُه في حياة النحل

تمهيد :

إنَّ حياة النحل من أكثر ظواهر الخلق دهشةً ، وقد اكتشفت عجائبُ عن حياة هذه الحشرة الصغيرة من خلال بحوث العلماء ، إذ يعتقد البعض أنَّ حضارتها وحياتها الاجتماعية أكثر تطوراً من حياة الإنسان ، فانتم لا تعثرون على أي مجتمعٍ متطورٍ قد حلَّ مشكلة «البطالة» و «المجاعة» بشكلٍ كاملٍ ، إلّاأنّ هذه المسألة حُلَّت تماماً في عالم النحل «خلايا النحل» ، فلا يُعثُر في هذه المدينة على زنبورٍ عاطلٍ عن العمل أو زنبور جائعٍ أيضاً.

فبناء الخلية ، وكيفية جمع رحيق الورود ، وصناعة العسل وخزنهِ ، وتربية الصغار واكتشاف المناطق المليئة بالأزهار ، واعطاء عنوان السكن لباقي النحل ، والعثور على الخليّةِ من بين مئات أو آلاف الخلايا كل ذلك دليلٌ على الذكاء الخارق لهذه الحشرة.

إلّا أنّ من المسلَّم به أنَّ الإنسان لم يكن يمتلك مثل هذه المعلومات عن النحل سابقاً ، ولكن القرآن الكريم أشار في السورة المسماة باسم هذه الحشرة (النَّحل) باشاراتٍ مليئةٍ بالمعاني إلى الحياة المعقَّدة والمدهشة لهذه الحشرة.

بهذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية :

١ ـ (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلىَ النَّحْلِ أَنِ أتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً ومِنَ الشَّجَرِ ومِمَّا يَعرِشُونَ). (النحل / ٦٨)

٢ ـ (ثُمَّ كُلىِ مِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ فَاسلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرابٌ

٣٠٩

مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيْهِ شَفاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ). (النحل / ٦٨ ـ ٦٩)

* * *

شرح المفردات :

«النَحْل» : اسمُ زنبور العسل و «نِحلَة» (على وزن قِبلة) تعني العطاء بلا عوض ، ومفهومها محدودٌ أكثر من مفهوم الهبة ، لأنَ «الهبة» تشمل العطاء بعوض وبغير عوض بينما تشمل النحلة العطاء بلا عوض فقط ، و «نحول» تعني الضَعف ، تشبيهاً بُهزالِ زنابير العَسَلِ ، و «نواحل» تطلق على السيوف الحادة «الرفيعة».

وقد يُحتمل أنّ المنشأ الاصلي لـ «نِحلة» يعني العطاء ، وإذا اطلقَ على زنبور العسل (نَحل) فلأنّه يصطحبُ معهُ عطاءً وهبةً حلوةً لعالم الإنسانية. (١)

و (أوْحى» : من مادة «وحي» ولها معانٍ كثيرة وقد ذكرنا شرحها في الجزء الأول من «نفحات القرآن» في بحث «مصادر المعرفة» ، وأصلها يعني «الإشارة السريعة» وبالنظر إلى أنَّ أمر الله تعالى فيما يتعلق بالنشاطات المختلفة والمعقّدة للنحل قريب الشبه من الإشارة السريعة أو الالهام القلبي فهذا المعنى استُخدمَ أيضاً فيما يخص النحل ، لأنَّ جميع هذه الأعمال المعقّدة قد تُنجز من خلال إشارةٍ الهية سريعة.

* * *

لنزورَ بلاد النحل :

لقد استند القرآن الكريم في آيات عديدة إلى جوانب مختلفة من حياة النحل حيث كلٌ منها اعجبُ من الآخر ، فقد أشارَ أولاً إلى مسألة بناء بيوتها ، قائلاً : (وَأَوْحَى رَبُّكَ الى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبالِ بُيُوْتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ).

وقد يكون التعبير بـ «اتَّخذي» بصيغة الفعل المؤنث إشارة إلى أنَّ النَّحلَ عندما يهاجر

__________________

(١) مفردات الراغب.

٣١٠

لاختيار بيتٍ جديدٍ فهو يسير خلف «الملكة» التي هي بمنزلة القائد في الخليّة ، وعليه فانَّ المتنفذ الحقيقي هي «الملكة».

والتعبير ب «أوحى» تعبيرٌ جميلٌ حيث يبرهنُ على أنَّ الله تعالى قد علَّمَ هذا الحيوان طراز بناء البيت الذي يُعدّ من أروع أعمال هذه الحشرةِ بواسطةِ الهامٍ خفيٍّ وسيأتي شرحه في «التوضيحات» إن شاء الله ، وهي تقوم بانجاز واجباتها على أفضل وجهٍ وفقاً لهذا الوحي الإلهي ، فقد تختار صخور الجبال ، أو بطون الكهوف لبناء بيوتها ، وتضع الخلية بين أغصان الأشجار أحياناً ، وقد تستخدم الخلايا الاصطناعية التي يصنعها الإنسان لها على القصب ، أو أنّها هي التي تقوم ببناء البيت على القصب.

إنَّ ألفاظ الآية تدللُ جيداً على أنَّ بناء البيت هذا ليس بناءً عادياً وإلّا لما عبَّر عنه القرآن بالوحي ، وسنرى عاجلاً أنَّ الأمر هكذا.

* * *

وفي الآية الثانية توجَّه نحو صناعة عسل النحل مضيفاً : أنَّ الله قد أوحى لها أن تأكل من جميع الثمار : (ثُمَّ كُلِى مِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ) «واقطعي الطرق التي يَسَّرها وسخَّرها لكِ ربُّكِ لتكوين العسلِ الحلو» : (فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً).

«سُبُل» : جمع «سبيل» وتعني «الطريق اليسير» (١).

وهنا : ما المقصود من هذه السُبُل في الآية أعلاه؟ لقد أبدى المفسِّرون احتمالات مختلفة :

فقال بعضهم : المقصود هي الطرق التي يطويها النَّحلُ نحو الأزهار ، والتعبير بـ «ذُلُل» (جمع «ذلول» وتعني التسليم والطاعة) (٢) يدللُ على أنَّ هذه الطرقَ تُعيَّنُ بدقةٍ بحيث يكون ارتيادها سهلاً وعاديّاً للنحل ؛ وتؤيدُ دراساتُ خبراء النحل هذا المعنى أيضاً ، فهم يقولون :

__________________

(١) كما أوردها الراغب في المفردات.

(٢) من الممكن أن تكون «ذللاً» حالاً ل «سبل» ، أو ل «النحل» ، ويبدو أنَّ الاحتمال الأول اكثرُ صحةً.

٣١١

تخرجُ مجموعةٌ من النحل مكلفةٌ بتشخيص مكان الأزهار صباحاً ، من الخلّيةِ ، وبعد اكتشاف المناطق المليئة بالأزهار ترجع ، وتعطي للباقين العنوان الكامل لذلك المكان بشكلٍ سريٍّ ومدهش ، وقد تشَخِّصُ الطريق بوضعها علاماتٍ عليه متكونة من موادٍ ذات رائحةٍ خاصةٍ ، وبنحوٍ لا تضل أيّة نحلة باتباعها.

وقال بعضهم الآخر أيضاً : إنّ المقصود هو طريق العودةِ إلى الخلية ، لأنَّ النحلَ قْدَ يُجبَر على قطع مسافاتٍ طويلةٍ ، ولا يبتلى بالتيه عند عودته ، فهو يتجه نحو الخليّة بدقةٍ ، بل وأنّه يعثر على خليته بيُسرٍ من بين عشرات الخلايا المشابهة.

وقال آخرون : إنَ «السُبُلَ» هنا لها معنىً مجازيٌّ فهي تشير إلى الاساليب التي يتبعها النحلُ لإعداد العسل من رحيق الأزهار ، فهي تمتص رحيقَ الأزهار بنحوٍ خاصٍ ترسله «حوصلتها» وهناك حيث تكون كمختبرٍ للمواد الكيميائية يتبدل إلى «عسلٍ» من خلال التغييرات والتطورات التي تجري عليه ، ثم يستخرجه الزنبور من حوصلته.

أجَلْ .. إنّه يعرف الاسلوب اللازم لاجراء هذا العمل جيداً ، من خلالِ أمرٍ إلهيٍّ فيسلكُ هذا الطريق بدقّة.

ونظراً إلى أنّ هذه التفسيرات الثلاثة لا تتعارض فيما بينها وكون ظاهر الآية عاماً ، فيمكن القول : بشمول جميع هذه المفاهيم ، إذ يقطع النحل هذه الطرق الملتوية والمنحنية بالاستفادة من الشعور الذي منحه الله له ، أو بالالهام الغريزي ، ويستخدم هذه الأساليب بكل مهارةٍ واقتدار.

وفي المرحلةِ الآتية أشار إلى صفات (العسل) وفوائده وبركاته قائلاً : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُوْنِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ).

وقد حَمَل بعضهم التعبير بـ «بُطُوْنِ» (جمع بطن) على معنى مجازيٍّ وقالوا : إنّها تعني الأفواه ، وقالوا إنَّ العَسَل الذي هو رحيق الأزهار مخزون في فم النَّحل ثم ينتقل إلى الخليّة (١).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٣٧٢.

٣١٢

بينما يعتقد بعضهم أنَّ العسل هو فضلات النحل!

ويعتبره بعضهم الآخر من المسائل الخفيّة التي لم تُكتشف لحد الآن (١).

ولكن بحوث العلماء برهنت على عدم صواب أيٍّ من هذه الآراء ـ كما أشرنا ـ ، بل إنّ النحلَ يُرسلُ رحيق الأزهار إلى مكان خاصٍ في جسمه يسمى «الحوصلة» وبعد أن يجري عليه تغييرات وتطورات يقذفه خارجاً من فمه (٢).

والتعبير ب «بُطون» شاهدٌ على هذا المعنى ، واجلى منه التعبير ب «كُلي» ، لأنَّ العربَ لا يقولون لحفظ الشيء في الفم «أكل» أبداً ، وحمل هذه الجملة على المجاز تفسيرٌ مجازيٌ لا ضرورة له.

وأمّا المقصود من «ألوان مختلفة» هنا فهي ذات تفاسير متباينة أيضاً ، فقد اعتبرها بعضهم بمعنى هذا «اللون» الظاهري الذي يتفاوت فيه العسل فبعضه أبيضٌ شفاف ، وبعضٌ أصفر ، والآخر أحمر اللون ، وبعضُه يميلُ إلى السواد ، ويمكن أن يكون هذا التباين مرتبطاً باختلاف أعمار النحل ، أو مصادر الأزهار التي يتغذى عليها ، أو كليهما.

وقد احتملَ أيضاً أن يكون المقصود من هذا التفاوت (نوعية) العسل ، فبعضٌ غليظ ، وبعض خفيف ، أو أنّ عسلَ الأزهار المختلفة له آثار ومزايا مختلفة أيضاً ، كما يختلف العسل العادي كثيراً عن «الشهد» (العسل الخاص الذي يُصنع لملكة الخليّة) ، لأنَّ المشهور أنَّ لـ «الشهد» قيمةً من الناحية الغذائية بحيث يزيد كثيراً في عمر الملكة ولو تمَّكنَ الإنسان أن يتغذى عليها فإنّها تتركُ اثراً عميقاً في طول عمره.

وفي بعض البلدان هناك حدائق من ورودٍ متشابهة حيث تُنصب فيها الخلايا الخاصة بالنحل ، وبهذا تُستخلص أنواع مختلفة من العسل كلٌ منها مستخرجٌ من زهرٍ خاص ، ويتمكن الراغبون من شراء العسل من الورد الذي يرغبونه ، وبهذا نواجه ألواناً مختلفةً من

__________________

(١) وفي تفسير القرطبي ينقل عن ارسطو أنّه صَنَع خليَّةً من الزجاج كي يرى كيفية صناعة العسل غير أنَّ النَّحلَ كان يُعتِّمُ الزجاجة لكي لا ينكشف السر حينما يريد مزاولة عمله (المصدر السابق ليرى).

(٢) تربية النحل ، لمحمد مشيري ، ص ١١٣ ؛ وكتاب نظرة على الطبيعة وأسرارها ، ص ١٢٦.

٣١٣

العسل تدخل في المفهوم الواسع والعام للآية.

والتعبير بـ «شراب» جاء لأنَّ العرب لا يستخدمون لفظ «أكل» بخصوص العسل كما يقول بعض شّراح لغة العرب ، ويُعبر عنه بالشرب دائماً (ولعلَّه بسبب أنَّ العسلَ في تلك المناطق يكون خفيفاً) (١).

وفي الختام أشار إلى تأثير العسل في العلاج قائلاً : (فِيْهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).

والتعبير بـ «شفاء» بصيغة النكرة ، إشارةٌ إلى أهميّته الفائقة ، وكما سيأتي في التوضيحات إن شاء الله ، فللعسل الكثير من المزايا العلاجية الجاهزة التي تحتوي عليها الأزهار والنباتات الطبية الموجودة على الكرة الأرضية ، وقد ذكر العلماء لا سيما في هذا العصر خصائص عديدة له تشمل الجانب العلاجي وجانب الوقاية من الأمراض أيضاً.

فللعسل تأثيرات مذهلة في علاج الكثير من الأمراض وهذا يعود إلى الفيتامينات والمواد الأساسية التي يحتويها ، حيث يمكن القول : (إنَّ العسلَ يخدم الإنسان علاجياً وصحيّاً وجمالياً).

وفي نهاية الآية أشار إلى الجوانب الثلاثة الآنفة (بناء خلية النحل ، طريقة جمع رحيق الأزهار وصناعة العسل ، وخصائصه العلاجية) فيقول : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

وعليه ففي كل مراحل حياة النحل ، واستخراج محصول هذه الحشرة الذكية والمثابرة ، تظهر للعيان آيةٌ بل آياتٌ لعلمِ وقدرة الخالق جلَّ وعلا الذي ابتدعَ مثل هذه الظواهر المذهلة.

* * *

توضيحات

١ ـ حضارة النَّحل العجيبة!

مع اتساع علم الحيوان وعلم الاحياء والدراسات المستفيضة للعلماء تم اكتشاف

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ١٤ ، ص ١٦٨.

٣١٤

مسائل عجيبة وحديثة عن حياة هذه الحشرة الصغيرة أذهلت الإنسان بشدة ، ولا يُصدَّق أبداً بأنْ يسودَ حياة النحل مثل هذا النظام والتدبير والتخطيط بلا أيِّ احساسٍ طبيعيٍّ.

يقول أحد العلماء المختصين بعلم الاحياء ويدعى «مترلينغ» الذي كانت له دراسات كثيرة على مدى سنوات طويلة حول حياة النحل ، والنظام العجيب الذي يحكم ممالكها يقول : «إنَّ الملكة في مدينة النحل ليست هي الزعيم كما نتصورها ، بل هي كسائر أفراد هذه المدينة تخضع لسلسلةٍ من القوانين والأنظمة العامة أيضاً».

ثم يضيف : «نحن لا نعرف مصدر هذه القوانين وبأيّة طريقةٍ توضعُ ، ونحن ننتظر اليوم الذي نتوصل فيه إلى معرفة واضع هذه المقررات ، إلّاأننا نطلقُ عليه حالياً اسم «روح الخليّة» ، ولا ندري أين تكمنُ «روح الخليّة» وفي أيٍّ من سكان الخلية حلَّت ، إلّاأننا نعرف أنَّ الملكةَ كالآخرين تطيعُ روح الخلية أيضاً»!.

«إنّ روحَ الخليّةِ لا تشبه غريزة الطيور ، ولا تعمل بآليةٍ وإرادةٍ عمياء ، فهي تشخصُ تكليفَ كلِّ واحدٍ من سكان هذه المدينة العملاقة حسب قابليته وتعطي لكلٍّ منها واجباً ، فقد تأمُر مجموعةً ببناء البيت ، وأحياناً تُصدر أمرَ الرحيل والهجرة»

«والخلاصة إننا لا نستطيع إدراك أنَّ قوانين مملكة النحل التي توضع من قبل روح الخليّة هل ستطرح في «مجلس شورى» ويُصادقُ عليها ويتخذُ القرار بتنفيذها؟ ، ومَنْ الذي يُصدرُ أمرَ الحركةِ في اليوم المحدَّد»؟! (١)

إلّا أنَّ القرآن الكريم أعطى جواباً لجميع هذه التساؤلات بتعبيرٍ جميلٍ ودقيقٍ جدّاً إذ يقول : (وَأَوْحى رَبُّكَ الَى النَّحْلِ)!

وهو نفس التعبير الذي ذكرَهُ بخصوص الأنبياء (عليهم‌السلام) ، صحيحٌ أنَّ هذا الوحي يختلف عن ذلك الوحي كثيراً ، إلّاأنّ تناسقَ التعبير دليلٌ على أهميّة العلم الذي أودعه الله لدى النَّحل ، كي يدعو مفكّري العالم إلى دراسة أوضاعها.

فمن المسلَّم به أنَّ بناء خلية النحل يجري بالهامٍ الهيٍّ ، لأنَّها تبني تشكيلات سداسيّة

__________________

(١) كتاب النحل ، تأليف مترلينغ ، ص ٣٥ و ٣٦ مع الاختصار.

٣١٥

منظمة واسعة من كمية قليلةٍ من الشمع (حيث يمكن استغلال جميع زواياه ويكون مقاوماً أمام الضغط أيضاً) وتتكون بيوتها من طبقتين ، وعندما تبني بيتاً في الجبال أو على الأشجار فهي تقتصر على هاتين الطبقتين إلّاأنّها تضيفُ طبقتين اخريين في الخلايا الاصطناعية وبما يمكن استيعابه منها.

ويتخذ قعر البيت شكلاً هرمياً حيث يتألف من ثلاثة سطوح لوزية الشكل ويغور الرأسُ والأجزاء البارزة بكل طبقةٍ في قعر الطبقة السفلى.

وقد أثبتت التجارب أنّه لو كان سطح الشمع مربع الشكل أو باي شكل آخر وصُبَّ في قوالب اصطناعية ووُضعَ النحل في داخله فسوف لا يرتضي مثل تلك الجدران غير المطابقة للمواصفات ، بل يرفع الجدران إلى الأعلى ويعيدها إلى وضعها الصحيح.

لقد قاسَ أحد العلماء ، قعر بيت النحل ، فكانت زاويته الكبيرة تُقدرَّ ب ٩. ١ درجة و ٢٨ دقيقة ، ثم طرحت هذه المسألة على مهندسٍ الماني كبيرٍ يُدعى «كنيك» كسؤالٍ عامٍ بأن لو أراد إنسان بناءَ هرمٍ بأقلِ كميةٍ من مواد البناء وباكبر ظرفية بحيث يتشكل من ثلاثة سطوحٍ لوزية فما مقدار زواياه؟.

فقام بحلَّ هذه المسألة المعقدة بالاستعانة بحساب «ديفرانسيل» وكتب في الجواب ، مائة وتسعة درجات وستة وعشرين دقيقة بدونٍ علمٍ منه بأنَّ هذا يرتبط ببيت النَّحل ومتفاوت معه بدقيقتين فقط.

ثم تلاهُ مهندسٌ آخر يُدعى «ماغ لورن» فاجرى حساباتٍ دقيقةً وتأكَّدَ بأنَّ تلك الدقيقتين كانتا نتيجة لاهمال المهندس الأول ، والجواب الصحيح كما فى عمل النحل»! (١)

ينقل العالم البلجيكي المعروف «متر لينع» في كتاب «النحل» عن أحد العلماء ويُدعى «رأيت» ما يلي : لدينا ثلاثة طرق علمية فقط في الهندسة لتقسيم الفواصل المنظمة وربطها وتكوين الأشكال الكبيرة والصغيرة ، وهذه الطرق الثلاثة عبارة عن (المثلث القائم الزوايا) و (المربّع) و (المسدَّس) وتستخدم الطريقة الثالثة أي «المسدَّس» في بناء غرف النحل ،

__________________

(١) تفسير روح الجنان هامش المرحوم الشعراني ، ج ٧ ، ص ١٢٣ «مع شيء من الاختصار».

٣١٦

وهذا الشكل أكثر ملاءمةً لاستحكام البناء (لأننا لو دققنا قليلاً نجد أنَّ الشكل السداسي يشبه الأقواس من جميع الجهات حيث يمتلك الحد الأقصى لمقاومة الضغط ، بينما تتضرر المثلثات والمربعات أمام الضغط كثيراً).

بالإضافة إلى أنَّ جسمَ النحل اسطواني الشكل تقريباً ويتلاءم كثيراً مع الخروج والدخول في مثل هذه البيوت.

على أيّةِ حالٍ ، كلَّما تحققّنا بخصوص ما أشار إليه القرآن الكريم في مسألة بناء بيت النّحل نحصل على مسائل عجيبةٍ جديدة ، تجعلنا نعظم خالق ومبدع ومرّبي هذه الحشرة العجيبة.

* * *

٢ ـ جمع رحيق الأزهار وصناعة العسل

الأمر الثاني الذي استند إليه القرآن هو جمع العسل من رحيق الأزهار ، وهو من المسائل المدهشة والمحيّرة حقاً.

يقول بعض العلماء : يجب أن تسافر ٥٠ الف نحلة من أجل إعداد كيلو غرام واحد من العسل!.

وتؤكد حسابات العلماء أيضاً أنّه من أجل اعداد كيلو غرام واحد من الرحيق يجب أن يَمتصَ النحل سبعة آلاف وخمسمائة زهرةٍ كمعدلٍ ويستخرج رحيقها (وطبقاً لهذه المعادلة يجب امتصاص ٥ ، ٧ مليون زهرةٍ لاعداد كيلو غرام واحد من العسل!) (١).

ولابدّ أن نعلمَ أيضاً أنَّ النَّحلَ يسافر يومياً حوالي ١٧ ـ ٢٤ مرّة من أجل جمع رحيق الأزهار.

ولا عجب أن نعلم أنّ النَحْلَ لم يَذق طعمَ الراحةِ طول عمره ، وأنّه لا يرى النومَ أبداً ، فهو يقظٌ طول عمره! (٢).

__________________

(١) تربية النحل ، ص ١١٢.

(٢) المصدر السابق ، ص ١١٥.

٣١٧

ومن أجل أن ندرك العَمَلَ المرهق لهذه الحشرة الكادحة يجب أن نقول انَّهُ يتعين على النحل أن يسافر ٨٠ ألف مرّة ذهاباً واياباً على الاقل من أجل كل اربعمائة غرام من العسل الذي يَحصل عليه ، ولو ربطنا هذا الذهاب والاياب معاً وقدَّرنا مسافةَ كلِّ مرةٍ (كمعدل) بكيلو مترٍ واحدٍ ، ستكون المسافة التي يقطعها النحل من أجل الحصول على اربعمائة غرام من العسل تعادل ضعفَ محيط الكرة الأرضية ، أي أنَّ هذه الحشرة الكادحة تقطع مسافة ما يعادل ضعف محيط الكرة الأرضية من أجل جمع شرابٍ يُصنعُ من اربعمائة غرام من العسل! (١).

ومن الضروري الانتباه إلى هذه النكتة وهي أنَّ معظمَ الأزهار لا تمتلك الرحيق باستمرار كي يستطيع النحل امتصاصه ، بل إنّها تقدّمُ رحيقها مرةً واحدةً في اليوم وفي ساعاتٍ معينةٍ تتبع نوع الزهرة ، فبعض الأزهار تعطي رحيقها صباحاً ، وبعضها ظهراً ، وبعضها الآخر بعد الظهر ، والعجيب أنّ النَّحلَ يعرف هذه البرامج جيداً فيتوجه نحو الأزهار وفقاً لها تماماً فلا يذهب وقته هدراً! (٢).

وحريٌ بالإنسان أن يخجلَ عندما يشاهد هذه الأرقام والاعداد في مجال جمع العسل وعدد مرات الطيران وعدد الأزهار المستهلكة من أجل غرامٍ واحدٍ من هذه المادة الغذائية المهمّة ، ولكن لو فكَّر بامعان في نفس الوقت بعظمة خالقِ هذه الحشرة الكادحة وتَحقَّقَ بعلمه وقدرته لخضع امامه مؤدياً شكر هذه النعمة ، ويُمكن أن يكون كل ذلك مقدمةً لهذه الغاية السامية.

والنكتة الاخيرة التي يجب أن نذكرها ونغلقَ هذا الملف الكبير قبل أن نخرج عن مضمون البحث التفسيري ، هي أنَّ النحل علاوةً على امتصاصه للرحيق فهو مكلَّفٌ بجمع «الحبوب الصفراء» للأزهار المسماة «بولن» ومزجها مع العسل.

ولهذه الحبوب آثار حياتية فائقة ، فهي تحتوي على ٢١ نوعاً من حامض الامونيك

__________________

(١) عالم الحشرات وفقاً لنقل عجائب الخلق ، ص ١٤٣.

(٢) الحواس الخفية للحيوانات تأليف فيتوس دروشر ، ص ١٥٧ (مع الاختصار).

٣١٨

وأنواع الزيوت ، وهورمونات النمو ، والسكَّر ، والانزيمات ، كما تستخدم عصارة الحبوب تلك في معالجة الالتهابات والاورام المزمنة التي تعجز المضادات الحيوية عن علاجها ، كما أنّ لها آثاراً منشطّة أيضاً (١).

وللأرجل الخلفية للنحل نتوءات كأسنان المشط يثير بها غبار الأزهار ، ويصنع منه ذرات كروية ، وهنالك أيضاً إلى جانب تلك النتوءات ما يشبه «السلّة» وآخر يشبه «الملقط» حيث يجمع ذرات غبار الورد هناك ويحفظها ، وحينما يعود إلى الخليَّة يجلب معه بالاضافة إلى رحيق الأزهار كرتين صفراوين كانتاج لعملهِ اليومي (٢).

* * *

٣ ـ العسل غذاءٌ مفيدٌ ودواءٌ شافٍ

لقد تحدثَ القرآن الكريم في الجزء الثالث من الآيات المذكورة عن مسألة التأثير المهم للعسل في شفاء المرضى بتعبير مختصر وغامض ويتم في هذا العصر كشف النقاب عن أسراره من خلال دراسات المختصين بعلم الغذاء ، إذ يذكر هؤلاء مزايا وآثاراً لا تُحصى للعسلِ تبعث على دهشة الإنسان.

فهم يقولون : إنَّ العسلَ مادةٌ لا تفسد أبداً وتبقى صالحةً لآلاف السنين فيما إذا كان صافياً ، لأنّ اي مكروب لا يمكنه أن يعيش فيه أبداً (٣).

وقد عُثرَ في قبور الفراعنةِ على ظروفٍ من العسل تعود إلى آلاف خلت من السنين ، وقد بقي هذا العسل صالحاً وطبيعياً بشكل كامل ، وهذا بحد ذاته دليلٌ على صدق الادعاء أعلاه.

العسل ونظراً لأنّه يُستخرج من رحيق الأزهار المختلفة (ونحن نعلم أنّ كل نوع من

__________________

(١) الجامعة الاولى ، ج ٥ ، ص ٥٧ إلى ٥٩ (مع الاختصار).

(٢) نظرة على الطبيعة وأسرارها ، ص ١٢٧.

(٣) مجلة السلامة.

٣١٩

الأزهار يحتوي على مواصفات علاجية خاصة) فيمكن أنْ يحمل معه صفات هذه الأزهار.

يقول العلماء : يعتبرُ العسلُ مادةً حيَّةً بسبب احتوائه على الفيتامينات و «الانزيمات» و «حامض الفورميك» فهو يحتوي على الفيتامينات : أ ، ب ، ث ، د ، ك ، آي ، ومواد معدنية كالبوتاسيوم ، والحديد ، والفسفور ، و «الرصاص» و «المنغنيز» و «الالمنيوم» و «النحاس» و «الكبريت» و «الصوديوم» ومواد اخرى متفرقة ، وكذلك يحتوي على مختلف الحوامض (١).

ونحن نعلمُ أنَّ لكلٍّ من هذه المواد الحياتية دوراً اساساً في حياة الإنسان ، ولهذا فانَّ العسلَ يحتوي على المواصفات الآتية :

يؤثر العسل في تركيب الدم.

للعسل أثرٌ جيدٌ في ازالة التعب وتقلص العضلات.

يحدُّ العسل من حدوث الالتهابات في المعدة والامعاء.

ويؤدّي إلى أن يتمتع الوليدُ بجهازٍ عصبيٍّ متينٍ إذا ما تناولته المرأة الحامل.

والعسلُ مفيدٌ لمن لديهم جهاز هضمي ضعيف.

ويعتبر العسلُ مُرَمِّماً قوياً.

ويؤثر في تقوية القلب.

ويولدُ العسلُ طاقةً لا بأس بها لدى المسنّين.

ينفع لعلاج قرحة المعدة والاثني عشري.

ويفيدُ العسلُ لعلاج مرض الربو «ضيق التنفس».

ويعتبر عاملاً مساعداً في علاج الأمراض الرئوية.

ويعتبر دواء لعلاج مرض الروماتيزم ، وضعف نمو العضلات ، والمتاعب العصبية.

ويعدّ العسلُ مفيداً للمصابين بالاسهال نظراً لميزته في قتل الجراثيم.

__________________

(١) الجامعة الاولى ، ج ٥ ، ص ١٢٩ (مع شىء من الاختصار).

٣٢٠