نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

إصدار الأوامر للجنين بالخروج في لحظة معينة! وتقلبه عن شكله العادي (في الحالة العادية يكون رأس الجنين إلى الأعلى ووجهه إلى ظهر الأم) فترسل رأسه إلى الأسفل لتسهيل عملية ولادته؟!.

في البداية يُخرق كيس الماء الذي كان الجنين يسبح فيه ، وتخرج المياه ويستعد الجنين لدخول الدنيا لوحده.

يصيب الأم ألم شديد ، تضغط كل عضلات بطنها وظهرها وجانبيها على الجنين ، وتدفعه إلى الخارج.

إنّ التفاعلات الكيميائية والتغييرات الفيزيائية التي تحصل للجسم أثناء الولادة على درجة من الغرابة والعجب بحيث تحكي جميعها عن علم وقدرة غير متناهيين أوجدا هذه البرامج لمثل هذا الهدف المهم.

وبهذا نستنتج بوضوح من الآيات المذكورة أنّ النظام المعقد والمذهل لنمو الجنين يُعَدُّ من الآيات والعلامات المهمّة التي تخبر عن وجود العلم والقدرة اللامتناهية لموجده ، ومن جانب آخر على قدرته على قضية المعاد والحياة بعد الموت ، ذلك أنّ الجنين يتخذ كل حين حياةً ومعاداً جديداً ، ولذلك كان هذا النمو دليلاً على التوحيد بقدر ما هو دليل على المعاد.

* * *

توضيحات

١ ـ صورة في الماء

هنالك مثل رائج ومشهور عندما يراد التذكير بعدم ثبات شيء معين فيقولون : «إنّه كالصورة في الماء» لأنّها تتبعثر بأقل حركة أو نسيم ، لكن العجيب أنّ الله الكبير يجعل كل الصور المختلفة للإنسان وللكثير من الأحياء الأُخرى صوراً في الماء ويودع كل هذه الصور في قطرة من ماء النطفة ، من يرسم الصور في الماء سوى الله الكبير؟

٦١

٢ ـ في ظلمات ثلاث

والأغرب من ذلك حسب قول القرآن ، هو أنّ هذه الخِلَقِ التي يوجدها الله واحدة تلو الأخرى في ماء النطفة ليخرجها خلال فترة قصيرة على هيئة إنسان كامل يقوم بها عزوجل جميعاً في محل مظلم لا تصل إليه يَدُ أحد ، كما يقول القرآن : (يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُوْنِ امَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِى ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُم لَهُ الْمُلْكُ لَآإِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُوْنَ). (الزمر / ٦)

إنّ الظلمات الثلاث كما يرى الكثير من المفسرين وكما أشارت بعض الروايات هي :

ظلمة بطن الأم ، ثم ظلمة الرحم ، وبعد ذلك ظلمة «المشيمة» (الكيس الخاص الذى يحتوي الجنين) التي تكون على شكل ثلاث ستائر سميكة حول الجنين (١).

يحتاج الرسامون والنحاتون المهرة أن ينفذوا صورهم أمام النور والضياء الكامل ، لكن ذلك الخالق الكبير يرسم صورة على الماء في ذلك المنزل المظلم بحيث يفتن ويبهر الجميع ويجذبهم للمشاهدة.

٣ ـ مقر الأمن والامان

يقول القرآن بصراحة : إننا جعلنا نطفة الإنسان في مقر الأمن والأمان : (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرارٍ مَكْينٍ). (المؤمنون / ١٣)

والحقيقة إنّ أكثر نقاط الجسم صوناً هي تلك التي تستقر فيها النطفة والجنين بحيث تكون محمية من كل جانب ، فمن ناحية هنالك العمود الفقري والأضلاع ، ومن ناحية أخرى هنالك العظم القوي المسمى بالحوض ، ومن ناحية ثالثة الأغطية والعضلات المتعددة التي تحتويها البطن ، بالإضافة إلى أن أيدي الأم تتحول بشكل لا شعوري أثناء وقوع بعض الحوادث الخطيرة إلى درع مقابل البطن!

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ؛ تفسير الميزان ؛ التفسير الكبير وتفاسير أخرى (روى المرحوم الطبرسي في مجمع البيان نفس هذا المعنى ضمن حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام).

٦٢

والأغرب من كل هذا أنّ الجنين يقع في داخل كيس مملوء بماء لزج بحيث يكون معلقاً في داخل ذلك الكيس وفي حالة تامة من فقدان الوزن ، أي لا يواجِهُ أي ضغط من أي جانب ، ذلك أنّ بنية الجنين وخاصة في بداياته تكون رقيقة جدّاً بحيث يمكن لأقلّ ضغط عليه أن يسحقه.

ولهذا الكيس بما يحتويه من ماء خاصية القابلية على مواجهة الضربات ، وهو تماماً كاللوالب المرنة التي توضع لأفضل السيارات ، حيث بامكانها امتصاص وابطال مفعول أية ضربة توجه إليه نتيجة الحركات السريعة للأم.

والألطف أنّه يحفظ درجة الحرارة بالنسبة للجنين ضمن الحدود المعتدلة ، ولا يسمح للحرارة والبرودة المفاجئة التي تهاجم بطن الأم من الخارج أن تترك آثارها بسهولة على الجنين!

فهل يمكن العثور على مقر أكثر أماناً من هذا؟ وما أجمل تعبير القرآن حين يسمي مقر النطفة بـ «القَرار المكين»؟!

٤ ـ خصيمٌ مبين

هذه أيضاً إحدى عجائب الجنين ، سواء فسرناها بمعنى قدرة الإنسان على الكلام والاستدلال والاحتجاج ، كما قال بعض المفسرين ، أو فسرناها كونها المسابقة والنزاع الذي يحصل بين الحيامن أثناء الحركة باتجاه البويضة (نطفة الأنثى) في رحم الأم ، والذي ينتهي بنجاح أحد الحيامن في اتحاده بالبويضة ، أمّا بقية الذين انهزموا في هذه الخصومة فانّهم يفنون ويجذبهم الدم ، أو اعتبرناها إشارة إلى كلا التفسيرين.

وعلى كل حال ، فهذه من النقاط الظريفة والبديعة للجنين ، إذ يظهر من موجود منحط وحقير ظاهرياً إِلى ظاهرة سامية وقيّمة جدّاً.

٥ ـ تغذية الجنين

تغذية الجنين بدورها إحدى العجائب ، لأنّ النمو والرشد السريع للجنين يستلزم مواداً

٦٣

غذائية كاملة ونظيفة ومصفّاة من ناحية ، ومن ناحية أخرى يحتاج إلى الأُوكسجين والماء بالمقدار الكافي الذي يجب أن يصل الجنين بشكل مستمر ، وقد جعل الله هذه المهمّة على عاتق جهاز اسمه «الحبل السري» الذي خلقه منذ اللحظات الأولى إلى جانب الجنين ، والذي يرتبط من أحد طرفيه بقلب الأم عن طريق شريانين ووريد واحد ، ومن طرفه الآخر بالجنين عن طريق عقدة السُرّة.

يمتص هذا الجهاز كل المواد الغذائية والماء والاوكسجين اللازم بواسطة نظام الدورة الدموية للأم ، ثم ينقل هذه المواد بعد تصفيتها ثانيةً إلى الجنين ، ثم يقوم باستقطاب الفضلات والزوائد والكاربونات وما شاكل ويعيدها إلى دم الأم.

إذن فالحبل السري يلعب دور الجذب والدفع بالإضافة إلى كونه مصفىً بحيث يستطيع الإنسان من خلال مجرّد مطالعته للبناء المذهل لهذا الحبل السري أن يصل إلى عظمة الخالق.

اللطيف أنّه ورد حديث عن أحد المعصومين عليهم‌السلام يقول فيه ما معناه : إنّ الجنين يستفيد من النسيم الذي تستنشقه الأم!

لم تمض سوى سنوات على اكتشاف العلماء بأنّ رئتي الجنين لا تقومان بنشاطهما التنفسي وأنّه يسبح في ماء الرحم وأنّه بحاجة إلى الأُوكسجين؟ ولم تمض سوى سنوات على معرفتهم أنّ الاوكسيجين الذي تستنشقه الأُم يدخل إلى دمها وينتقل إلى الحبل السري فينتفع منه الجنين عن طريق سُرّته؟

على أيّة حال ، لم يمض زمن طويل على ذلك لكن العين البصيرة للإمام عليه‌السلام رأت هذه الحقيقة منذ مئات السنين فقال : إنّ الجنين يستفيد من هذا النسيم ، هل هناك تعبير مقابل الهواء الملوّث الذي نتنفسه أفضل من كلمة النسيم الذي استخدمه الإمام للاشارة إلى الأُوكسيجين؟ (١)

__________________

(١) إقتبس من كتاب اولين دانشكاه ، ج ١ ، ص ٢٥٣ (بالفارسية).

٦٤

٦ ـ مصير الجنين من حيث الجنس

لم يتمكن أحد من الإجابة عن السؤال القائل : كيف وبتأثير أيّة عوامل يصير الجنين ذكراً أو أُنثى؟ أي أنّ العلم لم يعثر لحد الآن على جواب له ، فمن الجائز أن تكون بعض المواد الغذائية أو الأدوية مؤثرة في هذا المجال ، لكن المسلم بهِ هو أن تأثيرها ليس مصيرياً وجازماً.

ومع هذا فالعجيب مشاهدة تعادل نسبي دائم بين هذين الجنسين (الرجل والمرأة) في المجتمعات البشرية ، وإن كان ثمّة اختلاف فانّه ليس بالاختلاف الملفت للنظر.

تصوروا يوماً يختلُّ فيه هذا التعادل فتكون نسبة الرجال إلى النساء عشرة إلى واحد مثلاً ، أو على العكس يكون عدد النساء عشرة أضعاف الرجال ، أيّة مفاسد عظيمة سوف تظهر؟ وكيف سيضطرب نظام المجتمعات البشرية؟ وهل أنّ المجتمع الذي يكون فيه مقابل كل رجل عشر نساء أو مقابل كل إمرأة عشرة رجال يستطيع أن يوفر لنفسه حياة هادئة؟

لكن الذي خلق الإنسان لحياة سالمة ، أَوجد هذا التوازن العجيب والغامض فيها ، أجل إنّ الله تعالى ووفقاً لمشيئته وحكمته يهب لمن يشاء ذكوراً ويهب لمن يشاء إناثاً : (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَآءُ الذُّكُورَ). (الشورى / ٤٩)

لكن هذه المشيئة والإرادة محسوبة.

٧ ـ تغيّرات سريعة ومبهمة

من العجائب الأُخرى في الجنين ، أنّ النطفة الأصلية للإنسان تكون في بدايتها مجرّد موجود أُحادي الخلية ، ينمو ويكثر بواسطة الانشطار على شكل متوالية هندسية ، تحدث هذه الكثرة وهذه التحولات بصورة سريعة جدّاً وكما قال القرآن : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) ولو استمر هذا النمو على هذه السرعة بعد الولادة لكانت للإنسان خلال مدّة قصيرة قامة بطول الجبال! ولضاق به وجه الأرض ، ولكن نفس الذي منح الجنين السرعة في سيرهِ التكاملي سوف يخفف منها عند وصول الإنسان إلى مرحلة معينة ثم يوقفها بالتدريج!

٦٥

٨ ـ نظرة الرحم المستقبلية!!

ما هي العوامل التي تجعل من الخلايا الناتجة عن خلية واحدة تأخذ أنواعاً متباينة : خلايا غضروفية ، عظمية ، عضلية ، جلدية ، وغيرها؟ هل هو الرحم الذي قدّر مستقبل هذا الموجود فمنح الخلايا أشكالها كلّاً في محلها؟ إن كان له مثل هذا الذهن والقدرة والابداع فمن وهبه هذا الذهن والقدرة والإبداع؟!

يقول العالم المعروف «الكسيس كارايل» في كتاب «الإنسان ذلك المجهول» : «كأنَّ كل جزء من الجسم على معرفة بالاحتياجات الحالية والمستقبلية لكل الجسم ، وهو يغير نفسه وفقاً لهذه الإحتياجات ، للزمان والمكان مفاهيم أخرى عند الأنسجة ، لأنّها (الأنسجة) تدرك جيداً البعيد كإدراكها للقريب والمستقبل كإدراكها للحال ، فمثلاً تصبح الأنسجة اللينة للأعضاء الجنسية للمرأة في نهاية فترة الحمل ألين وأكثر قدرة على الاتساع ، وهذا التغيّر يُسهّل عبور الجنين في الأيام اللاحقة عند الولادة ، وفي نفس الوقت تزداد خلايا الثدي ويكبر هذا العضو بل إنّه يمارس نشاطه وينتج اللبن استعداداً لتغذية الوليد حتى قبل الولادة ..

إنّ وضع وسلوك العضلات على طول فترة نمو الجنين في رحم الام ، يكون وكأنّها تعلم المستقبل مسبقاً ، فيُراعى انسجام الأعضاء في لحظتين زمنيتين متفاوتتين أو في نقطتين مكانيتين مختلفتين» (١).

مهما سمينا هذا الموضوع فانّه لن يتغير ، لكنه على أيّة حال يخبر بوضوح عن وجود مبدأ كبير للعلم والقدرة فيما وراءَه.

٩ ـ كساء للعظام

قرأنا في تفسير الآية ١٤ من سورة المؤمنون أنّ للقرآن تعبيراً خاصاً عن قضية ظهور العضلات يقول فيه : (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً) ، إنّ اختيار كلمة : (كَسَوْنَا) إحدى معجزات القرآن العلمية ، فقد ثبت اليوم أنّ العظام تظهر قبل الأنسجة اللحمية (٢).

__________________

(١) الإنسان ذلك المجهول ، ص ١٩٠.

(٢) إعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة ، ص ٢٩.

٦٦

١٠ ـ خروج الجنين

كما قرأنا في تفسير الآية ٥ من سورة الحج ، فإنّ الله ينسب إخراج الجنين من الرحم إلى نفسه : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) إنّ هذا التعبير يكشف عن أهميّة عملية الولادة التي توصل إليها العلماء في عصرنا الحاضر.

ما هو العامل الذي ينظم زمان الولادة؟ وما هي الظروف اللازمة لإصدار الأوامر للجنين بالخروج؟ وكيف تُعَدُّ جميعُ أعضاء الجسم لهذا التحوّل المهم؟ وضمن أيّة عوامل ينقلب جسم الجنين تدريجياً ليخرج رأسهُ إلى الدنيا أولاً؟ هل تراه يعلم أنّ ولادته ابتداءً برجليه غير ممكنة أو أنّها مستعصية جدّاً؟ مَن يصدر الأوامر لكل عضلات جسم الأم بتسليط أشد الضغوط على الجنين من أجل الخروج؟

وتظهر أهميّة هذا الموضوع عندما يختل هذا النظام نادراً ويضطر الأطباء إلى عملية «فتح البطن» «الولادة القيصرية» ، وربّما كان وجود مثل هؤلاء الأشخاص القلة ، إنذاراً للجميع لكي يفكروا بأهميّة هذا الموضوع.

بالطبع يمكن في بعض الحالات التنبؤ بزمان الولادة على وجه التقريب ، ولكن في بعض الحالات تحصل الولادة قبل الموعد وأحياناً بعده.

وهكذا فإنّ عملية الولادة بكل ما يتعلق بها من أمور محسوبة ، إنّ هي إلّاآية أخرى من آياته تبارك وتعالى.

١١ ـ التغيّرات المذهلة في لحظة الولادة

ذكرنا أنّ أحداً لا يستطيع تعيين لحظة الولادة بصورة دقيقة ، وما يتنبأ به الأطباء عموماً أو خصوصاً لإخبار الناس فإنّه ذو طابع تخميني فقط ، كما تقول الآية :

(اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيْضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (١). (الرعد / ٨)

__________________

(١) «تغيض» من مادة «غيض» على وزن فيض بمعنى امتصاص السائل أو احتوائه ، ثم جاءت بمعنى النقصان ـ

٦٧

ظاهر الآية أنّ هذا من العلوم الإلهيّة الخاصة ، وهو العلم بخصائص الجنين من كل الجوانب قبل ولادته ، فهو عزوجل لا يعلم بالجنين من حيث جنسه فقط وإنّما يعلم بكل قابلياته وأذواقه وصفاته الظاهرة والباطنة ، كما أنّ لحظة ولادته لا يعلمها إلّاالله ، ومن أجل أن لا نتصور أنّ الزيادة والنقصان تأتيان بدون حساب أو مبرر ، بل إنّ ساعتها وثانيتها ولحظتها محسوبة جميعاً ، فقد أضاف قائلاً : (وكُلُّ شَىءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ).

المثير هو ظهور تغيرّات عجيبة على نظام حياة الوليد في لحظة ولادته وهي تغيرات ضرورية جدّاً لتكييفه مع المحيط الجديد ، وسوف نشير إلى اثنتين منها فقط :

أ) تغيّر نظام دوران الدم ، فعملية دوران الدم في الجنين دوران بسيط ، لأنّه لا يتحرك الدم الملوّث نحو الرئتين من أجل التصفية ، إذ لا تنفس هناك ، ولهذا كان إثنان من أجزاء قلبه (البطين الأيمن والأيسر) الذي يتحمل أحدهما مسؤولية إيصال الدم إلى الأعضاء والثاني يتحمل مسؤولية إيصال الدم إلى الرئتين للتصفية ، على اتصال مع بعضهما ، ولكن بمجرّد أن يولد الجنين تُغلق البوابة بينهما وينقسم الدم إلى قسمين ، قسم يُرسل إلى كل خلايا الجسم لتغذيتها والقسم الآخر إلى الرئتين لتصفيته.

أجل ، ما دام الجنين في بطن الأُم فإنّه يحصل على ما يحتاج من الأوكسجين من دم الام ، لكن عليه أن يكتفي ذاتياً بعد الولادة ويحصل على الاوكسجين بواسطة الرئة والتنفس ، الرئة التي كانت قد خِلُقتْ وأُعدّت مسبقاً بشكل تام في رحم الأم ، سوف تمارس عملها فجأة بأمر إلهي واحد ، وهذا من العجائب حقاً.

ب) إنسداد عقدة السُرّة وجفافها وسقوطها (عادةً ما يقطعون عقدة السرة التي تعتبر طريق تغذية الجنين بواسطة الحبل السري من دم الأم ، ولكن حتى لو لم يقطعوها فإنّها تتيبس وتسقط تدريجياً).

__________________

ـ وكذلك بمعنى الفساد ، ولهذا فسر البعض كلمة تغيض في الآية أعلاه بمعنى نقصان الجنين والبعض بمعنى الولادة قبل الموعد وهو المعنى المشهور بين المفسرين ، وهو المروي في حديث عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهما‌السلام، كما أنّ ذيل الآية يدل على ذلك.

٦٨

أي كما أنّ طريق الحصول على الاوكسجين يتغير عند الولادة ، فإنّ طريق التغذية يتغير أيضاً وبشكل مفاجيء ، ويبدأ الفم والمعدة والأمعاء التي اكتملت في الفترة الجنينية ولكنها لم تكن تعمل ، فتبدأ بالعمل فجأة ، وهذه واحدة أخرى من العجائب المهمّة في خلقة الإنسان.

١٢ ـ بكاء الأطفال

غالباً ما يكثر الأطفال الرضّع من البكاء ، من الممكن أن يكون هذا البكاء دلالة على آلامهم ، فهم لا يمتلكون لساناً غير لسان البكاء للافصاح عن الألم ، أو أنّه بسبب الجوع والعطش ، أو بسبب الانزعاج إزاء ظروف الحياة الجديدة سواء كانت حراً أو برداً أو ضوءً شديداً أو ما شابه ، لكن من الممكن أن يبكي الأطفال بدون هذه الظروف أيضاً ، وهذا البكاء رمز حياتهم وبقائها.

فهم في ذلك الحين بحاجة شديدة إلى الرياضة والحركة والحال أن ليس بامكانهم الرياضة ، الرياضة الوحيدة القادرة على تحريك كل وجودهم بما فيه الأيدي والأرجل والقفص الصدري والبطن وإدارة الدم بسرعة في كل العروق لتغذية كافة الخلايا بصورة متواصلة ، هي «رياضة البكاء» التي تعتبر بالنسبة للطفل رياضة كاملة ، ومن هنا إذا لم يبكِ الوليد فيُحتمل أن يتعرض لأضرار جمّة أو تتعرض حياته كلها إلى الخطر.

وفضلاً عن هذا فإنّ هنالك رطوبة عالية في مخ الأطفال إذا بقيت هناك يمكن أن تؤدّي إلى أمراض وأوجاع شديدة ، أو تسبب العمى ، والبكاء يعمل على خروج الرطوبة الزائدة من أعينهم على شكل دموع ، فيضمن ذلك صحتهم.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في حديثه المعروف بـ «توحيد المفضل» بعد الإشارة إلى هذا الأمر : «أفليس قد جاز أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء ووالداه لا يعرفان ذلك فهما دائبان ليسكتاه ويتوخّيان في الأُمور مرضاته لئلا يبكي ، وهما لا يعلمان أنَّ البكاء أصلح له وأجمل عاقبةً ...» (١).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٦٥ و ٦٦.

٦٩

وفي نفس الرواية ، يشير الإمام عليه‌السلام إلى جريان الماء من أفواه الأطفال الذي يكمّل مهمّة دموع أعين الأطفال ، ويقول : «فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم» (١).

١٣ ـ اليقظة التدريجية للعقل والحواس عند الأطفال

لو كان للطفل عقل منذ البداية فلا شك أنّه كان يتألم بشدة ، لأنّه سوف يشعر آنذاك بالضعف والمذلة ، فهو لا يستطيع المشي ولا الأكل ولا القيام بأبسط الحركات ، يجب أن يلفّوه بقماش ويضعوه في المهد ويغطوه بغطاء ويشطّفوه ويحفظوه.

يقول الإمام الصادق عليه‌السلام ضمن الإشارة إلى هذا الموضوع في حديثه المسمى بـ «توحيد المفضل» : «فإنّه لو كان يولد تام العقل مستقلاً بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد ، وما قدر أن يكون للوالدين في الأشتغال بالولد من المصلحة ...» (٢).

بالإضافة إلى أنّ الانتقال إلى عالم جديد بكل شىء ومجهول كان سيسبب له من الوحشة والاضطراب ما قد يضر بفكره وأعصابه ، لكن تلك القدرة الأزلية التي خلقت الإنسان للتكامل قدّرت فيه كل هذه الأصول.

كذلك لو كانت حواسه متكاملة ، وفتح عينيه فجأة وشاهد مشاهد جديدة واستمعت أذنه إلى الأصوات والأنغام الجديدة ، لما كان في وسعه تحملها ، فكان التدريج في تلقي برامج الحياة الجديدة هو الاسلوب الأمثل.

الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُوْنَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ والأَفْئِدةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُروُنَ). (النحل / ٧٨) وفقاً لهذه الآية فإنّ الإنسان لا يمتلك أي علم في البداية ولا يتمتع حتى بالسمع والبصر ، ثم وهبه الله القدرة على السماع والنظر والتفكير ، ربّما كان ذكر السمع قبل ذكر الأبصار

__________________

(١) بحار الانوار ، ج ٣ ، ص ٦٥ و ٦٦.

(٢) المصدر السابق ، ص ٦٤.

٧٠

إشارة إلى أنّ النشاط السمعي عند الوليد يبدأ أولاً ، وبعد فترة تكتسب الأعين قدرتها على الابصار ، بل إنّ البعض يعتقد وكما أسلفنا أنّ للأذن في عالم الجنين مقداراً من القابلية على السماع ، فهي تسمع أنغام قلب الأم وتعتاد عليها.

١٤ ـ غذاء الطفل مُعدٌّ قبل ولادته

لا يستطيع وليد الإنسان والكثير من الحيوانات في بداية ولادته أن يأكل الأطعمة الجافة والثقيلة ، ولهذا فقد هيّأت يد الخالق المقتدرة غذاءً خاصاً في ثدي الأم إسمه «اللبن» ، والحقيقة أن نفس دماء جسم الأم التي كان الطفل ينتفع منها في الفترة الجنينية تتحول إلى لبن ضمن عملية تغيّر واسعة وسريعة ، فتغذّيه حتى الفترة اللازمة.

يتغير شكل ثدي الأم بصورة تدريجية خلال فترة الحمل ، ويكبر شيئاً فشيئاً نتيجة الافرازات التي يقذف بها الحبل السري إلى دم الأم ليأمرها بالاستعداد الكامل ، وهكذا يُهيء الثدي نفسه لوظيفتِهِ المستقبلية الثقيلة.

إنّ الأنابيب الموجودة في الثدي والممتدة حتى قمة الثدي «الحلمة» ، تتشعب وتزداد وتفرز إفرازات بسيطة ، وعند ولادة الطفل تعلن عن استعدادها التام.

العجيب أن ترشح اللبن من خلايا الثدي ليس دائمياً وإلّا لخرج اللبن بصورة متواصلة إلى الخارج ، بل إنّه بمجرّد ملامسة شفتي الوليد لثدي الأم وبدئه بالامتصاص تتجه الحوافز العصبية عن طريق الأعصاب إلى النخاع ومن النخاع إلى الهايبوثالموس فتؤدّي إلى نوعين من الافراز ، يصب أحدهما في الأثداء عن طريق الدم فيضغط على الأنسجة المحيطة بأنابيب اللبن ليندفع اللبن باتجاه الحلمة ، وتتمّ كل هذه الأعمال خلال ٣٠ ثانية ، والأعجب أنّ اللبن لا يتحرك في ذلك الثدي الذي يرضع منهُ الطفل فقط ، بل ويحدث هذا في الثدي الآخر أيضاً فيكون مستعداً ، ولذا يُؤكد الأطباء على إرضاع الوليد من كلا الثديين.

اللبن غذاء كامل ، وخاصة لبن الأم الذي يعتبر غذاءً أكمل بالنسبة لوليدها ولا يستطيع شيء في العالم أن يحل محله.

٧١

يحتوي الحليب على أنواع الفيتامينات كفيتامين A ، B ، D ، P وفيتامينات أخرى ، وقد اكتشف فيه العلماء ٢٢ مادة مختلفة ، علاوة على أنواع الأنزيمات (١) ، والكثير من الأدوية الضرورية تنتقل عن طريق لبن الأم إلى وليدها ، ومن هنا فإنّ الأطفال المحرومين من لبن الأم يصابون بمختلف الأعراض.

يبدو أنّ لبن الأم لا يغذي جسم الطفل فحسب ، بل إنّه يروي عواطفه وروحه أيضاً ، ولهذا قد يصاب المحرومون من لبن الأم بمشاكل ونواقص عاطفية بعض الأحيان.

وعلى هذا الأساس يقول القرآن الكريم : (وَالْوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ). (البقرة / ٢٣٣) إنّ عجائب وغرائب اللبن أكثر من أن يحتويها هذا المختصر ، وإذا أردنا أن نترك العنان للقلم لمثل هذه الأبحاث نكون قد خرجنا عن بحثنا التفسيري.

* * *

__________________

(١) من أجل مزيد من الاطلاع تراجع دائرة معارف القرن العشرين ، مادة (لبن) ، والجامعة الأولى (اولين دانشگاه) ، ج ٦ ، وإعجاز القرآن من وجهة نظر العلوم المعاصرة ، وقد وردت إشارات مثيرة حول هذا المعنى في حديث توحيد المفضل (بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٦٢).

٧٢

٣ ـ آياته في عالم الحياة

تمهيد :

إنّ ظاهرة الحياة هي أعقد ظواهر هذا العالم حسب ما نعلم ، ظاهرة حَيّرت عقول كل العلماء ، وقد مضت آلاف السنين والعلماء يفكرون فيها ، لكن هذا اللغز لم يُحلّ لحد الآن.

ما هو السبب الذي أدّى إلى أن تضع الموجودات الجامدة وبطفرة عجيبة ، أقدامها في مرتبة الحياة والعيش فتكون لها تغذية ونمو وتناسل؟!

من الممكن أن يصنع الإنسان جهازاً بالغ التعقيد (كالعقول الالكترونية المتطورة جدّاً) بعد قرون من التجارب ، وهذا بدوره شاهد على سعة اطلاع ومعرفة من صنعوه ، ولكن هذا الجهاز الدقيق والمعقد للغاية لا ينمو أبداً ، ولا يداوي أو يرمم كسوره وعيوبه ، ولا يتناسل بصورة مبدأيةٍ مطلقاً.

أمّا الكائنات الحيّة ، فإنّها فضلاً عن بنائها الدقيق والمعقد والمذهل إلى أقصى الحدود ، فانّها تستطيع القيام بهذه الأعمال وأعمال أخرى كثيرة ، والقليل من المطالعة حول وضعها يشكل آية واضحة ودليلاً بيّناً على العلم والقدرة اللامتناهية لخالقها.

يُكثر القرآن من الاستناد إلى موضوع الحياة والموت في آياته المختلفة ضمن قضية إثبات وجود الله ، ونفي الشرك بانواعه ، ويؤكد عليه كثيراً ، والحق أنّه كذلك.

بعد هذه الإشارة نقرأ خاشعين الآيات الكريمة أدناه :

١ ـ (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحىِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤفَكُوْنَ). (الانعام / ٩٥)

٧٣

٢ ـ (كَيْفَ تَكْفُروُنَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْن). (البقرة / ٢٨)

٣ ـ (هُوَ يُحْيِى وَيُمِيْتُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (يونس / ٥٦)

٤ ـ (وَهُوَ الَّذِىْ يُحْىِ وَيُمِيْتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ والنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُوْنَ). (المؤمنون / ٨٠)

٥ ـ (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ يُحْيِى وَيُمِيْتُ وَمَالَكُمْ مِّنْ دُوْنِ اللهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا نَصِيْرٍ). (التوبة / ١١٦)

٦ ـ (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِى ويُمِيْتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِيْنَ). (الدخان / ٨)

٧ ـ (أَلَمْ تَرَ الَى الَّذِى حَآجَّ ابراهِيمَ فى رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ ابْراهِيْمُ رَبِّيَ الَّذِى يُحْيِى وَيُمِيْتُ قَالَ أَنَا أُحْيِى وَأُمِيْتُ). (البقرة / ٢٥٨)

٨ ـ (إِنّا نَحْنُ نُحْيِى وَنُمِيْتُ وإِليْنَا الْمَصِيْرُ). (ق / ٤٣)

٩ ـ (اللهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُم هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِّنْ شَىءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُوْنَ). (الروم / ٤٠)

١٠ ـ (واللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُوْنَ). (النحل / ٦٥)

* * *

شرح المفردات :

«الحياة» : يقول الراغب في المفردات : تستخدم الحياة في معان مختلفة : الحياة النباتية ، الحياة الحسية «حياة الحيوانات» ، الحياة العقلانية «حياة البشر» ، الحياة بمعنى زوال الغم والهم والحزن ، الحياة الأخروية الخالدة ، والحياة المذكورة كونها إحدى الصفات الإلهيّة ، ويأتي لكل واحدة منها بشاهد من الآيات القرآنية.

ولكن في «مقاييس اللغة» يُذكر لهذه المفردة معنيان أساسيان ، أحدهما الحياة مقابل الموت ، والآخر «الحياء» وهو ما يقابل الوقاحة والصلافة.

٧٤

غير أن البعض يعتقد برجوع المعنيين إلى أصل واحد ، لأنّ الذي يتمتع بالحياة والخجل إنّما يصد نفسه عن الضعف والعجز ويتحرك باتجاه الخير والطهارة ، وإن كان الثعبان العظيم يسمى بـ «الحية» فذلك لشدّة تحركها التي تعتبر من أبرز آثار الحياة والعيش ، وتسمى القبيلة بـ «الحي» بلحاظ امتلاكها حياةً اجتماعيةً وجماعيةً (١).

وبالطبع فإنّ لهذه المفردة معانٍ كنائية كثيرة من جملتها «الإيمان» في مقابل الكفر ، و «الطراوة» في مقابل الذبول ، و «الحركة» في قبال السكون ، ويطلق على التحية اسم «التحية» من باب أنّ فيها طلباً للسلامة والحياة.

«الموت» : هو بالضبط النقطة المقابلة للحياة ، لهذا كانت له أنواع مختلفة يقابل كل منها نوعاً من أنواع الحياة ، منها «الموت النباتي» كما في قول القرآن حول المطر (أَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً). (ق / ١١)

و «الموت الحيواني) و (الموت العقلاني) أي الجهل.

و «الموت» بمعنى الغم والحزن كما يقول القرآن الكريم : (وَيَأتِيْهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ). (ابراهيم / ١٧)

«والموت» : بمعنى النوم ، كما قالوا : «النوم موت خفيف» مثلما أنّ الموت نوم ثقيل.

وَاعتبر البعض «الموت» بمعنى الإنحلال التدريجي للكائن الحي ، و «الموتة» حالة شبيهة بالجنون ، وكأنّ العقل والعلم يموتان في تلك الحالة.

كما أنّ البعض فرّق بين «الميِّت» و «المائت» وقالوا : الميت هو الميت أمّا «المائت» فهو الموجود في حالة الانحلال والانحدار نحو الموت.

ولهذه المفردة معانٍ كنائية كثيرة منها «الكفر» ، و «النوم» ، و «الخوف».

وَسميت الأرض الموات بالموات لافتقادها الحياة النباتية ، والقابلية على الغرس والزراعة ، وأمّا بعد أن تُهيَّأَ للغرس والزرع فيسمونها «مهيأة».

ورد في قواميس اللغة أنّ أصل هذه المفردة هو ذهاب القوّة ، والذي يعتبر موت الكائنات الحية من مصاديقه البارزة.

__________________

(١) التحقيق في كلمات القرآن الكريم ؛ مفردات الراغب ، لسان العرب ؛ مجمع البحرين ؛ وكتب اللغة الأخرى.

٧٥

جمع الآيات وتفسيرها

خَلقُ الحياة آية الخلق :

جرى الاستناد في الآيات العشر أعلاه وعدد آخر من الآيات القرآنية إلى قضية الحياة والموت بعنوان إحدى الآيات الإلهيّة الكبيرة وعلامات الذات المقدّسة للخالق ، كان التأكيد في أغلبها على حياة وموت الإنسان ، وفي بعضها على الحياة والموت بشكل عام أي عند جميع الأحياء ، وفي البعض أكدت على حياة وموت النباتات.

في الآية الأولى المخصصة للبحث ، ورد كلام عن فلق النواة والحبّة بواسطة القدرة الإلهيّة ، وعن استخراج الكائن الحي من الكائن الميت وبالعكس الكائن الميت من الحي ، بحيث تشمل الحياة والموت بالمعنى الواسع للكلمة في النباتات والحيوانات والبشر.

الملفت للنظر أن بذور النباتات ذات جدار صلب ومحكم ، والنواة أكثر إحكاماً منه ، إذ ليس فلقها بالأمر الممكن بسهولة ، ومع هذا فالفِلْقة الخارجة من داخل الحبّة والنواة بحيث لايمكن وصف رقتها ولطافتها ، أمّا كيف يمكن لتلك الفِلْقة اللطيفة أن تفلق تلك القلعة والحصن الحصين فتخرج من خلال جدرانه وتستمر في طريقها؟ فليس ذلك سوى القدرة الإلهيّة الفريدة ، وكأنَّ عبارة : (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) إشارة دقيقة إلى هذا المعنى.

وحول كيفية إخراج الله تعالى الميِّت من الحيِّ والحيِّ من الميتِ ، ذكر الكثير من المفسرين الماضين الأمثلة عليها ، بخروج الدجاجة من البيضة ، والشجر والنبات من الحبة والنواة ، والإنسان من النطفة ، في حين صار من المسلّم به لدى العلماء اليوم أنّ الكائنات الحية تظهر دائماً من الكائنات الحية ، أي أنّ في داخل حبة ونواة النباتات والأشجار فضلاً عن الكمية المعينة من المواد الغذائية ، توجد خلية حية هي في الحقيقة نبات وشجرة مجهرية صغيرة جدّاً وإذا استقرت في المحيط المناسب فسوف تستفيد من هذه المواد الغذائية فتنمو وتكبر ، وكذلك بالنسبة إلى نطفة الإنسان والحيوان فإنّ الخلايا الحية كثيرة ، وهي المصدر لتكاثر وتناسل الإنسان والحيوان.

أجاب بعض المفسرين المعاصرين (كالمراغي ومؤلف تفسير المنار) الذين التفتوا إلى

٧٦

هذا الإشكال بأن هذه الخلايا الخاصة مع أنّها تسمى في عرف علماء العلوم الطبيعية بالكائنات الحية ، ولكنها لا تجدر بهذه التسمية في العرف العام للناس واللغة ، لأنّ أياً من آثار الحياة والعيش لا تظهر عليها (١).

والأفضل أن نقول : إنّ المراد بخروج الكائن الحي من الميت لا يعدو أحد المعنيين التاليين :

الأول : هو بالرغم من أنّ الكائنات الحية في الظروف الحالية تخرج دائماً من البذور والحبوب والنطف الحية ، ولكن لا شك أنّ الأمر لم يكن كذلك في البداية ، لأنّ الكرة الأرضية عندما انفصلت عن الشمس كانت عبارة عن كتلة من نار ، ولم يكن عليها أي كائن حي ، ثم ظهرت أول الكائنات الحية من الكائنات غير الحية ضمن ظروف لا علم لنا بها اليوم وبأمر الله بعد سلسلة من القوانين البالغة في التعقيد.

والفرضية القائلة : إنّ من الممكن للحياة أن تكون قد انتقلت من الكواكب الاخرى إلى الكرة الأرضية بواسطة القطع والأجرام السماوية والتي يُصّر البعض عليها ، لا تستطيع أن تحل لنا أية مشكلة ، لأنّ الإشكال يصدق على تلك الكواكب أيضاً ، فهي ولا شك كانت في البداية كتلاً محترقة ، ولايستطيع أى كائن حي أن يتحمل تلك الظروف.

الثاني : هو أنّ البذور والحبوب والنطف الأولى لم تكن إلّاموجودات صغيرة جدّاً لكنّها نمت وتطورت عن طريق تغذيتها على المواد الغذائية غير الحية وهي في الحقيقة تجذب إليها الموجودات غير الحية وتحولها إلى حية ، وعليه فإنّ آلاف الآلاف وملايين الملايين من الخلايا الحية قد ظهرت من الموجودات الميتة ، وعن هذا يقال : إنّ الله يخرج الميت من الحي ويخرج الحي من الميت.

والبعض قالوا : إنّ المراد بهذا التعبير ولادة «الكافر» من «المؤمن» و «المؤمن» من «الكافر» ، أو ولادة الجنين السقط من الإنسان الحي ، وولادة الطفل الحي من الام التي تموت فجأة ولا يزال الطفل حياً في بطنها.

__________________

(١) تفسير المراغي ، ج ٧ ، ص ١٩٧ ؛ وتفسير المنار ، ج ٧ ، ص ٦٣١.

٧٧

ولكن ممّا لا شك فيه أنّ هذه الأقوال هي مصاديق للمفهوم الكلي للآية ولا تشمل كل مفهوم الآية ، المفهوم الأصلي للآية هو أحد المفهومين المُشار إليهما.

وعلى أيّة حال فالتعقيد الذي يحيط بقضية الحياة والموت من الدرجة بحيث أنّ العلماء لا يزالون عاجزين عن فهم أسراره ، فإذا كان فهم أسرار إحدى الظواهر يحتاج إلى كل هذا العقل والتفكير والذكاء ، فهل يمكن إيجاد هذه الظاهرة بدون الحاجة إلى أي عقل وذكاء؟!

ولهذا يقول القرآن في نهاية نفس هذه الآية : (ذلِكُمُ اللهُ فَأنّى تُؤْفَكُوْنَ).

* * *

تقول الآية الثانية بلهجة الاستفهام المُوبِّخ : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وكُنتُمْ أَمْوَاتاً فأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يُحْيِيكمْ) وفى هذا إشارة إلى أنّ قضية الحياة والموت كافية لمعرفة الله.

وبتعبير آخر فإن ظاهرة الحياة والموت في عالم الخلقة من أهم الوثائق لإثبات وجود الله.

إنّ الإنسان عندما يفتح عينيه ويعرف نفسه ، فإنّه يطالع هذه الوثيقة الكبيرة قبل كل شيء.

ويدرك الإنسان جيداً أنّ حياته ليست من عنده لأنّه كان يوماً في عداد الموجودات غير الحية ، إذن ، ثمّة قدرةٍ وهبته الحياة ، الحياة بكل أسرارها ورموزها ، بكل دقائقها وتعقيداتها.

اعتبر بعض المفسرين «الكفر» في هذه الآية بمعنى «كفران النعمة» ، أي كفران نعمة الحياة والموت ، هذا الموت الذي هو مقدّمة لحياة أخرى ، ولكن الظاهر هو أنّ الكفر هنا بمعنى إنكار وجود الله أو إنكار توحيده مِن قبل المشركين.

بالإضافة إلى أنّه جرى التأكيد في هذه الآية على قضية المعاد ، أي أنّ ظهور الحياة والموت تمثلان دليلاً على التوحيد بالإضافة إلى كونهما دليلاً على إمكان المعاد.

* * *

٧٨

الآية الثالثة تُعد ضمن آيات المعاد ، ولكن كما قلنا فإنّ قضية الحياة والموت دليل على إثبات وجود الله وعلى إثبات المعاد ، والتعبير بـ (هُو يُحْيِى وَيُمِيْتُ) إشارة إلى أنّ الحياة والموت بيد الله فقط ، ولا يمكن لأحد سوى الله القادر المتعال أن يصنع مثل هذه الظاهرة المهمّة والعجيبة إلى أقصى الحدود.

* * *

أمّا الآية الرابعة فقد وردت ضمن آيات التوحيد في سورة (المؤمنون) ، وأكدت على قضيتين «قضية الحياة والموت» ، و «قضية ذهاب وإياب الليل والنهار» ولهذين شبه كبير فيما بينهما ، الموت كالظلمة ، والحياة كالنور والضياء ، وربما كان تقديم الليل على النهار من هذا الباب أيضاً ، ذلك أنّ الموت كان قبل أن تكون الحياة وكان الإنسان سابقاً أجزاءً ميتة ثم أنعم الله عليه فكساه ثوب الحياة ، وسواء كان «اختلاف الليل والنهار» بمعنى ذهاب وإياب الليل والنهار (من مادة «خِلفة» على وزن حِرفة بمعنى التناوب في المجيء والحلول محل البعض) ، أو من مادة «خِلاف» بمعنى التباين والاختلاف التدريجي في فصول السنة المختلفة ، وأيّاً كان المعنى فهو يدل على النظام الدقيق الذي يحكمهما وما يرافقه من فصول أربعة ومن بركات ناتجة عنها ، كما أنّ لقضية الموت والحياة والنظام الذي يحكمها في المجتمع الإنساني نتائج وآثاراً كثيرة لا يمكن بدونها تنظيم حياة الإنسان.

فَإذا لم يمت أحد ، لَما كانت الأرض محلاً للحياة ، وإن مات الجميع بسرعة خلت الأرض أيضاً ، ولكن خالق هذا العالم جعل فيه نظاماً دقيقاً بحيث لا تخلو الأرض من أقوام يعيشون عليها ويتمكنون من الانتفاع من مواهب الحياة ، وهذه هي سنّة الله فَقوم يأتون وقوم يذهبون.

ولهذا يقول تعالى في نهاية الآية : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفلا تتفكرون في قدرة الخالق وربوبيته ووحدانيته؟ وإنّ من المستحيل ظهور هذا النظام البديع من غير علم ولا تدبير.

* * *

٧٩

وفي الآية السادسة جاءت قضية الحياة والموت إلى جانب قضية الربوبية ، فهوالله سبحانه مالككم وربّكم أنتم وآبائكم ، الأولين وهو خالق الموت والحياة.

وبشكل أساسي فإنّ قضية الموت والحياة إحدى فروع ربوبية الله سبحانه وتعالى ، «الربوبية» بمعنى الإصلاح والتنظيم والتربية ، وهذه لا تحصل إلّاعن طريق الحياة والموت ، الحياة تعطي الإنسان إمكانية التكامل ، والموت أيضاً مقدمة لتكامل آخر وحياة جديدة في عالم أوسع.

* * *

تعكس الآية السابعة الحوار التاريخي بين النبي إبراهيم عليه‌السلام وجبار زمانه «نمرود» ، ويبدو أنّ هذا الحوار جاء بعد قصة تحطيم ابراهيم الأصنام وظهوره كبطل من الأبطال وشياع صيته في كل مكان واضطرار نمرود إلى إحضاره (١).

إنّ أول سؤال سأله هذا الرجل الأناني الذي أذهب عقله غرور السلطان للنبي إبراهيم عليه‌السلام هو : «من إلهك»؟.

فاعتمد إبراهيم قبل كل شيء في جوابه على ظاهرة الحياة والموت المهمّة وقال : «ربّيَ الذي يُحيِي ويميت».

فقال الجبارالطاغي نمرود مع علمه الأكيد بأحقّية كلام إبراهيم ومن أجل استغفال من حوله وتخدير عقولهم : إنني استطيع القيام بهذا أيضاً «أنا أحيي وأميت».

لم يذكر القرآن ما صنعه نمرود من أجل إثبات ادّعائه هذا ، ولكن الكثير من المفسرين قالوا : إنّه أمر فوراً باحضار إثنين من السجناء ، فأطلق سراح أحدهم وحكم على الآخر بالموت وقال : أرأيت كيف أن الحياة والموت بيدي؟!

والفخر الرازي استبعَدَ هذا المعنى في تفسيره وهو أن يكون الحضار في مجلس نمرود

__________________

(١) ورد هذا المعنى وهو أنّ الحوار أعلاه حصل بعد تحطيم الأصنام من قبل إبراهيم في عدّة تفاسير منها تفسير المراغي ج ٣ ، ص ٢١ ؛ والكبير ج ٧ ، ص ٢٥.

٨٠