نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

الإنسان عندما يولد لا يمتلك القدرة على النظر والمشاهدة إلى فترة من الزمن بعد ولادته ، ولأنّه معتاد على الظلام فهو يخاف من النور ويغمض عينيه لمدّة من الزمن ، في حين أنّ الاذن تسمع الأصوات من أول لحظة ، ومن الواضح أنّ القدرة العقلية والتمييز والشعور تبدأ بالعمل والنشاط لدى الإنسان بعد السمع والبصر ، خاصةً وأنّ «الفؤاد» كما يصرح أرباب اللغة بمعنى «العقل الناضج العميق» ولا يمثل مرحلة عادية من العقل ، وطبعاً فإنّ مثل هذا الشيء يظهر بعد ذلك.

فضلاً عن أنّ الآية المذكورة يمكن أن تكون إشارة إلى حقيقة أنّ الوصول إلى «الكليات العقلية» يأتي بعد العلم بـ «الجزئيات» عن طريق الحس ، وعلى كل حال ، فالآية تصرح أنّ الهدف من إسداء هذه النعم هو تحريك روح الشكر لدى البشر ، والذي يدعوهم بالنتيجة إلى محبّة الخالق ومعرفة الله وإطاعة أوامره.

وبالطبع فإنّ هذا لا يتناقض مع كون بعض العلوم الإنسانية علوماً فطرية لأنّ المعلومات الفطرية عند الولادة موجودة في طبيعة الإنسان على شكل الاستعداد والقابلية ، وليس لها طابع الفعلية ، ثم تثمر بعد ذلك.

* * *

الآية الثانية تشير إلى ثلاث نعم إلهيّة أخرى تتعلق جميعها بتسخير البحار وتعتبرها دافعاً نحو الاستفادة من فضل الله وشكره ، ومن هذه النعم :

أولاً : اللحوم التي تستخرج من البحر والمسماة ب «لَحْماً طَرِياً» ، وهو اللحم الذي لم يبذل الإنسان جهداً في تربيته أبداً ، وإنّما ربته يد القدرة الإلهيّة في أعماق البحار ووضعته في متناول أيدي الإنسان مجاناً ، فيعتبر نعمة كبيرة ، خاصة في عصر وزمان كانت تكثر فيه اللحوم الفاسدة وكان الناس يضطرون إلى الاحتفاظ باللحوم إلى فترة معينة عن طريق تمليحها أو شيها وتجفيفها تحت أشعة الشمس ، وكانت هذه اللحوم تسبب الكثير من الأمراض والتسمم للمسافرين ، في حين كانوا يستخدمون اللحوم الطازجه بكل سهولة في سفراتهم البحرية أو الساحلية.

٢١

ثانياً : ثم تشير الآية إلى المواد المستعملة للزينة المستخرجة من أعماق البحار والمستخدمة من قبل البشر وتقول : (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا).

أي أنّ الله وفر لكم أكثر المواد الغذائية ضرورةً بالإضافة إلى الحاجات ذات الطابع التجميلي الصرف.

ثالثاً : وفي المرحلة الأخيرة تشير الآية إلى واحدة أخرى من بركات البحار التي كان لها دور مؤثر جدّاً في حياة البشر حتى في يومنا الحاضر ، وهي استخدام البحر كطريق كبير وواسع ومتصل لحمل ونقل أنواع الأمتعة التي يحتاجها الناس في السفر ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ حوالي ٧٥ بالمائة من وجه الأرض مغطىً بالبحار التي تصل إلى كل نقاط العالم ، وأنّ قسماً كبيراً من البضائع والمواد الضرورية تنقل عن هذا الطريق ، وأنّ قسماً كبيراً من الأسفار يتمّ من خلال هذا الطريق ، ومن هنا تتضح أهميّة هذا الموضوع.

يقول عزوجل : (وَتَرَى الفُلْكِ مَوَاخِرَ فِيهِ).

ثم يضيف في النهاية : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وبهذا جعل الالتفات إلى هذه النعم أيضاً وسيلة لإحياء روح الشكر وبالتالي اكتساب المعرفة بالله ، وإلّا فما حاجة الله إلى شكرنا؟ كل هذه ذرائع إلى معرفة ذاته وصفاته والحركة نحو هذا الكمال المطلق.

والجدير بالذكر أنّ «مواخر» هي جمع «ما خرة» من مادة «مخر» (على وزن فخر) ، وهذه المادة كما يستفاد من محصلة كلمات أرباب اللغة والمفسرين بمعنى الشق والخرق ، كشق «أمواج الماء» بصدر السفينة ، أوشق «أمواج الرياح» بواسطة الوجه والأنف والتقدم نحو الأمام ، أو شق الأرض لأجل الزراعة.

ولأنّ هذه الأمور غالباً ما تكون مصحوبة بالصوت فقد اطلقت هذه المفردة على صوت هبوب الرياح الشديدة أيضاً (١) ، إنّ كل حياة الإنسان والعالم تعتريها موانع يجب على

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٠ ، ص ٧ وقد جاء نفس هذا المعنى في تفسير روح المعاني والقرطبي تذييلاً للآية المنظورةفي بحثنا.

٢٢

الإنسان كشفها واجتيازها كي يشق طريقة بالتقدم والتطور ، وهذه من النقاط المهمّة والحساسة.

وبالضمن فلقد علمنا أنّ «المواخر» تعني السفن والمراكب ، ولذلك فقد فسر ابن عباس «المواخر» بالسفن التي في حالة حركة «الجارية» (١) حيث إنّ قيمة السفينة تكمن في كونها متحركة.

* * *

أمّا الآية الثالثة والأخيرة والتي خاطبت مشركي مكة أو المؤمنين ، وفي احتمال قوي أنّ الآية عنت بخطابها الاثنين معاً ، فقد أمرت بقولها : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ).

والملفت للنظر هنا أنّ الآية ذكرت في آخرها : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فالبعض قال : إنّ هذه القضية شرطية وذلك لانّ هؤلاء لايعبدون الله اصلاً فكيف يشكرون نعمته ، فيكون الأمر «سالباً بانتفاء الموضوع».

وأيضاً يرد احتمال حول هذه المسألة وهو أنّ جزاء القضية الشرطية هي عبارة «فكلوا ممّا رزقكم الله ...» والذي ورد مسبقاً حيث يعني بان هذه الأرزاق في حالة كونها حلالاً طيباً عندما أكون عبداً ومطيعاً لله سبحانه وتعالى ، لأنّ كل النعم خلقها الله سبحانه وتعالى من أجل المؤمنين ، وَمثلُ ذلك مثل المزارع الذي يسقي الورد ماءً ، فهو إنّما يعمل ذلك من أجل أن يحصل على الورود لا أن يجني الأشواك بالرغم من أن الأشواك لا تخلو من فوائد ، وقد ذكروا تفسيراً ثالثاً وهو أنّ الآية تخاطب الوثنيين ، أنّكم إذا أردتم العبادة فاعبدوا من هو ولي نعمتكم ، لماذا تعبدون الأصنام التي لا دور لها مطلقاً (٢).

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٠ ، ص ٧ ، وكذلك ورد هذا المعنى في تفسير روح المعاني وتفسير القرطبي وذلك في تفسيرالآية قيد البحث هذا.

(٢) تفسير الكشاف ، ج ٢ ، ص ٦٤٠ ، وثمّة تفسير آخر ورد كاحتمال من الأحتمالات في تفسير الميزان وروح المعاني تذييلاً للآيات المنظورة في البحث.

٢٣

وليس من المستبعد الجمع بين هذه التفاسير لأنّ المخاطب حسب الظاهر هم جميع المؤمنين والكافرين ، بالرغم من أنّ الآيات السابقة واللاحقة تدل على أنّ الكلام موجه إلى المؤمنين أكثر ممّا هو موجه إلى الكفّار.

وعلى كل حال ، فالعلاقة بين «النعمة» و «الشكر» و «العبادة» ثم «معرفة المعبود» و «ولي النعمة» تتضح بجلاء من هذه الآية.

وبهذا نتوصل إلى الحافز الثاني لمعرفة الله وهو مسألة شكر المنعم.

* * *

شكر المنعم في الروايات الإسلامية :

١ ـ جاء في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : «لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب ألّا يُعصى شكراً لنعمه» (١).

إنّ التعبير ب «الواجب» في هذا الحديث هو في الحقيقة نفس تلك الوظيفة التي تنبع من عواطف الإنسان.

٢ ـ نقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند عائشه ليلتها ، فقالت : يا رسول الله لمّ تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ (٢) فقال : يا عائشه ألا أكون عبداً شكوراً) (٣).

٣ ـ يقول الإمام الرابع علي بن الحسين عليهما‌السلام في أحد أدعية الصحيفة السجادية : «والحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفةَ حمده على ما أبلاهم من مننهِ المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة لتصرّفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسعوا في رزقِه فلم يشكروه ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيميّة فكانوا كما وصف في محكم

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٢٩٠.

(٢). إشارة إلى ذيل الآية الأولى من سورة الفتح من التفسير الامثل.

(٣) أصول الكافي ، ج ٢ ، باب الشكر ، ح ٦.

٢٤

كتابه إنّ هم إلّاكالأنعام بل هم أضل سبيلاً» (١).

٤ ـ جاء في كلام آخر من نهج البلاغة : «... ولو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة» (٢).

تتضح من هذه الروايات العلاقة الروحية بين «شكر النعمة» و «معرفة الله وإطاعة أوامره».

* * *

__________________

(١) الصحيفة السجادية ، الدعاء الأول.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٥.

٢٥
٢٦

٣ ـ الدافع الفطري

تمهيد :

عندما نتحدث عن الفطرة فالمقصود هو نفس تلك الاحساسات الداخلية والإدراكية التي لاتحتاج إلى أي استدلال عقلي.

عندما نشاهد منظراً طبيعياً جميلاً جدّاً أو زهرة ذات لون ورائحة طيبة نحسُّ بقوة جذب تدفعنا نحوها ، ويسمى هذا الاحساس بالميل نحو الجمال وحبه ولا نرى أي حاجة هنا للبرهنة على إثبات قولنا هذا.

أجل ، إنّ الميل للجمال يعد من الرغبات المتعالية للروح الإنسانية.

إنّ الاندفاع نحو الدين وخاصةً معرفة الله هو أيضاً من هذه الاحساسات الفطرية والداخلية ، بل هو من أقوى الدوافع في أعماق طبيعة وروح جميع البشر.

ولهذا السبب لا نشاهد قوماً أو أمة لا في الحاضر ولا في الماضي التاريخي لم تكن تمتلك نوعاً من العقائد الدينية تتحكم في فكرها وروحها ، وهذه علامة على أصالة هذا الاحساس العميق.

وانطلاقاً من أن التوحيد الفطري يُطرح في مجال براهين معرفة الله كبرهان مستقل مع كل آياته ، لا نرى داعياً للبحث المسهب حول هذا الموضوع ، فنكتفي بذكر نقطة واحدة ونؤجل المزيد من البحث حول هذا الموضوع في محلّه إن شاء الله.

عندما يذكر القرآن قصص نهضة الأنبياء العظام فانّه يؤكد في عدة مواضع على هذه النقطة وهي أنَّ الرسالة الأصلية للأنبياء تتمثل بازالة آثار الشرك والوثنية (وليس إثبات وجود الله ، لأنّ هذا الموضوع مخبَّأٌ في أعماق فطرة كل إنسان).

٢٧

وبتعبير آخر : إنّهم لم يكونوا بصدد غرس «بذور عبادة الله» في قلوب الناس ، بل كانوا في صدد سقاية الغرسة الجديدة الموجودة واستئصال الأشواك والأدغال الزائدة المضرة التي قد تقتل أو تُذبِل هذه النبتات بصورة تامة في بعض الأحيان.

وردت جملة : (أَلَّا تَعبُدُوا إِلَّا اللهَ) أو (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إيَاهُ) في كلام الكثير من الأنبياء في القرآن الكريم ، وهي عبارات تفيد نفي الأصنام وليس اثبات وجود الله.

كماجاء في دعوة رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إَنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ). (هود / ٢)

ودعوة نوح عليه‌السلام : (أن لَاتَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ). (هود / ٢٦)

ودعوة يوسف عليه‌السلام : (... أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ). (يوسف / ٤٠)

ودعوة النبي هود عليه‌السلام : (.. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). (الاحقاف / ٢١)

وَفضلاً عن هذا فَإننا نمتلك في أعماق نفوسنا أحاسيس فطرية أصيلة أخرى ، منها ما نراه في نفوسنا في الرغبة الشديدة للعلم والمعرفة والاطلاع.

فَهل من الممكن أن نشاهد هذا النظام العجيب في هذا العالم المترامي ، ولا تكون لنا رغبة في معرفة مصدر هذا النظام؟

أليس من الغرابة أن يقضي أحد العلماء مدة عشرين سنة من أجل التعرف على حياة النمل ، ويثابر عالِم آخر عشرات السنين لمعرفة عادات أوضاع بعض الطيور أو الأشجار أو أسماك البحار بدون أن يكون لديه دافع لحب العلم؟ هل يمكن أنّهم لا يريدون معرفة مصدر هذا البحر اللامتناهي الذي يشمل الأشياء من الأَزلِ إلى الأبد؟!

نعم ، هذه دوافع تدعونا إلى «معرفة الله» ، العقل يدعونا إلى هذا الطريق ، العواطف تجذبنا نحو هذا الاتّجاه ، والفطرة تدفعنا إلى هذه الجهة.

كانت هذه خلاصة للمحفزات والدوافع الواقعية والحقيقية لظهور الدين ومعرفة الله.

٢٨

توضيحات

التبريرات المنحرفة :

هنالك إصرار عجيب من قبل بعض علماء الاجتماع والنفس الماديين في الغرب والشرق على أنّ مصدر ظهور الدين والعقيدة التوحيدية معلول للجهل أو الخوف أو عوامل اخرى من هذا القبيل.

بالطبع إنّ هذا الأمر ليس عجيباً في نظر البعض ، لأنّهم كما يبدو قد اتخذوا قرارهم باتفاق مسبق ، ويعتبرون من المسلمات أن ليس ثمّة شيء غير عالم المادة ، لهذا يرون أنفسهم ملزمين بأن يفسروا كل ظاهرة على أساس العوامل المادية.

من ناحية أخرى نعلم أن وجود العقائد الدينية ما ينفك يزلزل أركان المادية ، وإذا أضفنا إلى هذا المعنى الصراعات الشنيعة بين الكنيسة وعلماء العلوم الطبيعية في القرون الوسطى ، يمكن الاستنتاج أنّ مثل هذه التفاسير المادية للدين والاعتقاد بالله جزء من العداء الذي تكنه المدارس المادية للدين.

مع أنّ البحث في كل هذه النظريات بشكل مفصل يحتاج إلى أحاديث طويلة يُخرجنا الدخول فيها عن كُنه بحثنا التفسيري ، ولكن يبدو من الضروري الإشارة إليها هنا بشكل مختصر ، لكننا نكرر أن كل هذه التفاسير قائمة على أساس أحكام مسبقة وهي أن نسلّم بعدم وجود عالم وراء الطبيعة ، وبأنّ عالم الوجود يتلخص في نفس عالم الطبيعة هذا.

وَيمكن تحديد هذه النظريات ـ أو بعبارة أدق هذه الفرضيات ـ بشكل عام في خمس فرضيات :

١ ـ نظرية الجهل

يقول أحد علماء الاجتماع المعروفين : «مع أنّ العلم والفن كشف الكثير من الأسباب الخفية ، إلّاأنّ الكثير من هذه الأسباب ما تزال بعيدة من نطاق العلم وباقية في لفيف

٢٩

الأسرار ، وضرورة التوصل إلى هذه الأسباب دعت إلى ظهور الدين» (١).

ويضيف أحد الفلاسفة الماديين : أنّ الإنسان عندما ينظر إلى الأحداث من زاوية تاريخية فسيتصور العلم والدين عدوين لا يقبلان الصلح! وذلك لسبب واضح جدّاً ، فالذي يعتقد بحركة العالم بلحاظ قانون العلية لا يستطيع أن يسمح ولو للحظة واحدة بأن يدخل عقله تصورٌ يقول : إنَّ بامكان موجود خلق الموانع والعثرات في واقع الأحداث (٢).

وبعبارة أبسط إنّهم يريدون الادّعاء أنّ جهل الإنسان بالعلل الطبيعية كان السبب في تصوره لوجود قوة وراء الطبيعة أوجدت هذا العالم وما انفكت تديره ، ولهذا فكلما اتضحت الأسباب والعلل الطبيعية تزلزل الاعتقاد بالدين وبعبادة الله.

إنّ الخطأ الأساسي لاتباع «فرضية الجهل» ينبع من :

أولاً : إنّهم ظنوا أنَّ الإيمان بوجود الله يعني إنكار قانون العلية ، وإننا على مفترق طريقين : إمّا التسليم للعلل الطبيعية أو لوجود الله ، في حين أنّ الإيمان بقانون العلية والكشف عن العلل الطبيعية من وجهة نظر الفلاسفة الإلهيين يعد أحد أفضل طرق معرفة الله.

إنّنا لا نبحث عن وجود الله وسط الفوضى والحوادث الغامضة والمبهمة ، أبداً ، بل نبحث عن وجوده في وسط الأنوار والنظم المعروفة لعالم الوجود ، لأنّ وجود هذه النظم علامة واضحة على وجود مصدر علم وقدرة في عالم الوجود.

ثانياً : لماذا تراهم يغفلون عن هذه النقطة ، وهي أنّ الإنسان ومنذ أقدم العصور ولحد الآن يرى دائماً نظاماً خاصاً يحكم العالم؟ نظاماً لا يمكن تبرير ارتباط وجوده بالعلل التي لا شعور لها ، وكان يعتبره دوماً علامةً على وجود الله ، وكل ما في الأمر أنّ هذا النظام كان معروفاً في الماضي بدرجة أقل ، وكلما تطور علم البشر ، إكتشفت منه دقائق وطرائف

__________________

(١) جامعه شناسى ، ساموئيل كنيك ، ص ٢٠٧ (علم الاجتماع عند ساموئيل كنيك).

(٢) الدنيا التي أراها ، ص ٥٨ ـ وكم هو مضحك قول «اوغست كونت» إنّ العلم عزل أبا الكائنات من وظيفته وساقه إلى مكان منزو (أي باكتشاف العلل الطبيعية لم يبق ثمّة محل للأيمان بالله) (الدوافع نحو المادية ، ص ٧٦).

٣٠

جديدة واتّضح علم وقدرة خالق عالم الوجود أكثر.

ومن هنا فإننا نعتقد أنّ «الإيمان بوجود الله» و «الدين» يتقدم إلى الأمام بتقدم «العلوم» ، وكل اكتشاف جديد لأسرار ونظم هذا العالم إنّما هو خطوة جديدة لمعرفة الله بصورة أفضل ، فلم يكن بامكان السابقين أبداً أن يعرفوا الله بالشكل الذي نعرفه اليوم ، تطور العلوم لم يكن على ما هو عليه الآن.

* * *

٢ ـ نظرية الخوف

ذكر المؤرخ الغربي المعروف «وِل ديورانت» في تاريخه ضمن بحث بعنوان منابع الدين عن الحكيم الروماني «لوكروتيوس» بأنّ «الخوف هو الأم الأولى للآلهة ، ومن بين أنواع الخوف هو الخوف من الموت الذي يَحتل مكانة أهم بين بقيّة أنواع الخوف ... ولهذا لم يكن باستطاعة الإنسان البدائي أن يصدق بأنّ الموت ظاهرة طبيعية ولذا كان يتصور له سبباً ما ورائياً على الدوام» (١).

ويكرّر «راسل» نفس هذا الكلام بصياغة أخرى في قوله :

«أتصور أنّ مصدر الدين هو الخوف والرهبة قبل كل شيء ، الخوف من الكوارث الطبيعية ، الخوف من الحروب وما شاكل ، والخوف من الأعمال غير اللائقة التي يرتكبها الإنسان أثناء غلبة الشهوات عليه» (٢).

ويتّضح بطلان هذه الفرضية من حيث إنّ أتباعها كأنّهم قد تعاهدوا جميعهم بشكل ضمني على الاتفاق بأنّه ليس ثمة جذور ما ورائية للدين والاعتقاد بعبادة الله ، ولابدّ من البحث عن سبب له في الطبيعة ، سبب يعود إلى نوع من الظن والخيال ، ولهذا فهم دائماً يرون الأمور الفرعية وينسون المسألة الأصلية.

__________________

(١) قصة الحضارة ، ل «وِلْ ديورانت» ، ج ١ ، ص ٨٩.

(٢) العالم الذي أعرفه ، ص ٥٤.

٣١

صحيح أنّ الإيمان بالله يمنح الإنسان طمأنينة واقتداراً روحياً ، وصحيح أنّه يمده بالشجاعة قبال الموت والحوادث العصيبة ، إلى درجة أنّه في بعض الأحيان يكون مستعداً لكل ألوان التضحية والفداء ، لكن لماذا ننسى ما هو أمام أعين البشر دائماً أي النظام الذي يحكم الأرض والسماء والنباتات والأحياء ووجود الإنسان ذاته؟!

وبعبارة أخرى فإنّ الإنسان مهما كان جاهلاً بعلم التشريح والفسلجة وما شابه ، لكنّهُ حينما ينظر إلى بناء عينه وأذنه وقلبه ويده ورجله يراه بناءً عجيباً ودقيقاً ، وهذا لا يمكن تفسيره أبداً بعوامل اللاشعور والصدفة ، فنمو غصن من الزهور ، زنبور العسل ، بزوغ الشمس والقمر وسيرهما المنتظم وبقية الظواهر الاخرى لا يمكن تفسير كل هذه الظواهر بالصدفة واللاشعور.

هذا هو الشيء الذي كان موجوداً ولا يزال دائماً أمام أعين الإنسان وهو السبب الأصلي في ظهور الإيمان بوجود الله ، لماذا يتجاهلون هذه الحقائق البينة ويتشبثون بمسألة الخوف والجهل؟ لا شيء غير خوفهم من نمو العقائد الدينية؟ لماذا تركوا الطريق الأصلي النيّر وسلكوا الطريق المنحرف؟ والسبب هو أنّ الأحكام المسبقة حالت بينهم وبين معرفة الحقيقة؟!

٣ ـ نظرية العامل الاقتصادي

إنَّ أتباع هذه النظرية يعتقدون بأنّ القوة التي تحرك التاريخ هو شكل وسائل الانتاج ، ويعتبرون جميع الظواهر الاجتماعية سواء الثقافية منها أو العلمية أو الفلسفية أو السياسية وحتى الدين وليدة هذا العامل!

ولأصحاب هذا الرأي تبريرات عجيبة من أجل الربط بين ظهور الأديان والمسائل الاقتصادية ، منها قولهم : إنّ الطبقة الحاكمة في المجتمعات البشرية قد أوجدت الدين من أجل القضاء على مقاومة الشعوب المستعمَرة وتخديرها ، ويلفتون الأنظار إلى عبارة «لينين» المعروفة التي أوردها في كتابه «الاشتراكية والدين» والتي يقول فيها : «الدين أفيون الشعوب»!

٣٢

ولهم في هذا الموضوع كلام كثير هو في الغالب تكرار للمكررات.

ومن حسن الحظ أنّ أتباع هذه النظرية «الاشتراكيون» قد أجابوا على إشكالاتهم بأنفسهم من خلال عباراتهم المتناقضة ، فهم عندما يواجهون الإسلام وكيف كان سبباً في حركة ونهوض أُمة متخلفة ، وكيف استطاع أن ينهي سلطة المستعمرين من أمثال سلاطين ساسان وقياصرة الروم وفراعنة مصر و «تبابعة» اليمن ، يضطرون إلى استثناء الإسلام على الأقل من هذا المقطع التاريخي.

وفوق كل هذا ، عندما يشاهدون اليوم الحركات والنهضات الإسلامية التي تنطلق ضد المستعمرين (خاصة في العصر الحاضر) بوجه حكام الشرق والغرب وانتفاضة الشعب الفلسطيني ضدّ الكيان الصهيوني ، فليس أمامهم سبيل سوى أن يشكّوا في تحليلاتهم ، بغض النظر عن الذين يعيشون حصاراً في حصار ولا يستطيعون أن يبصروا حتى نور الشمس الساطع.

وعلى كل حال ، مع الأخذ بنظر الاعتبار التاريخ المعاصر والقديم لا سيما الخاص بالإسلام ، يتضح جيداً أنّ الدين وخلافاً لزعمهم ليس مادة مخدرة وأفيوناً أبداً ، فضلاً عن أنّه السبب في ظهور أقوى الحركات الاجتماعية وأكثرها مثاراً للإعجاب ، والقضايا الاقتصادية تشكل بدورها جزءً من حياة الإنسان ، وحصر الإنسان في الزاوية الاقتصادية يعتبر أكبر خطأ في معرفة الإنسان ومعرفة نوازعه وميوله المتعالية.

٤ ـ النظرية الجنسية

والآن تعالوا واستمعوا للسيد «فرويد» الذي يريد أن يقيم جسراً بين «ظهور الدين» و «الغريزة الجنسية» ويعتبر الدين وليداً للغريزة الجنسية!

إنّه يحاول أن يربط هذا الموضوع في فرضيته باحدى القبائل الوهمية (للأب في هذه القبيلة الخيالية نساء كثيرات ، أمّا الأولاد الشباب فيعانون الحرمان ، وأخيراً ثار الأولاد وقتلوا الأب وأكلوا لحمه ، ثم ندموا على فعلتهم ، لقد غضوا النظر عن نساء القبيلة وعمدوا

٣٣

إلى إدانة وتقبيح عملهم) ومن هنا نشأ بينهم نوع من الحظر وبتعبيره «تابو» أي (حظر الزواج من المحارم).

وَيضيف : يوجد في القبائل المتوحشة اليوم شيء باسم «التوتم» وهو الأب أو كبير العشيرة بالنسبة لاعضاء القبيلة ، ويعتبر حاميهم وولي نعمتهم.

إنّهم يحترمون «التوتم» ويتصورون أنّ عليهم أن يتشبّهوا به ويقلّدوه (هذا الاعتقاد بالتوتم نابع من نفس الاعتقاد بالقبيلة الوهمية أيضاً).

يعتقد فرويد أنّ الإيمان بالتابو والتوتم هو السبب لظهور العقائد الدينية ، ووفقاً لما ذكرنا أعلاه فإن له علاقة بالقضية الجنسية! (١).

وفضلاً عن أنّ فرضية فرويد الجنسية قائمة على أساس اسطورةٍ (اسطورة القبيلة الوهمية) ، فإنّ تحليلاته تشبه إلى حد كبير الأساطير والخرافات ، وهذا ناتج من أنّه ينظر الى روح وجسم الإنسان الذي يحمل أبعاداً وميولات متنوعة من زاوية واحدة وبعد واحد.

صحيح أنّ للإنسان غريزة جنسية ، لكن من المسلم به أنّ وجود الإنسان لا ينحصر في الغريزة الجنسية ، فجسمه يقع تحت تأثير غرائز مختلفة ، ولروحه ميول متعالية مختلفة ، «فَالنظر من بعد وأحد» خطأ لم يقع فيه فرويد فحسب بل إنّ الاشتراكيين الذين يحصرون وجود الإنسان في البعد الاقتصادي قد وقعوا فيه بشكل آخر ، وكلا النظريتين اخطأتاخطأً فاحشاً في معرفة الإنسان.

كان الأجدر بفرويد وبدل الاعتماد على الأوهام أن ينظر إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الإنسان منذ فجر حياته وحتى اليوم أبصر نظاماً حاكماً على العالم المترامي وعلى وجوده هو لا يمكن تفسيره بالعلل الطبيعية غير العاقلة وغير العالمة ، وكان هذا هو المنطلق في ظهور الاعتقاد بالله ، فَلماذا يرفضون نهجاً بهذا الوضوح ويسلكون طريق الجهل والضلال؟!

__________________

(١) الاقتباس من فرويد والفرويدية.

٣٤

٥ ـ نظرية الحاجات الأخلاقية

يقول «أنشتاين» في بحث بعنوان «الدين والعلوم» : بقليل من الدقّة يتّضح أنّ الأحاسيس والانفعالات التي أدّت إلى ظهور الدين مختلفة ومتباينة جدّاً .. وبعد أن يشير إلى نظرية الخوف يضيف :

إنّ النزعة الاجتماعية لدى البشر هي أيضاً من أسباب ظهور الدين ، فالفرد يرى أنّ أباه وأمه ، أصدقاءه وأقاربه ، قادته وعظماءه ، يموتون ، ويرحلون منْ حوله واحداً واحداً ، إذن فالرغبة في الهداية والمحبّة وأن يكون محبوباً في مجتمعه وأن يكون له أمل في شخص ما معتمداً عليه ، تمهد الأرضية في نفسه لقبول الاعتقاد بالله (١).

وبهذا فهو يريد أن يفترض دافعاً أخلاقياً واجتماعياً لظهور الدين.

وهنا أيضاً نلاحظ أنّ الذين طرحوا هذه الفرضية قد خلطوا بين «الأثر» و «الدافع) ، في حين أنّنا نعلم أن ليس كل أثر هو دافع بالضرورة ، فَمن الممكن أن نعثر على كنز أثناء حفرنا لبئر عميق ، وهذا هو «أثر» ، والحال أنّه لا شك في أنّ المحرك والدافع الأساسي لحفرنا البئر شيء آخر وهو الحصول على الماء وليس اكتشاف كنزٍ ما.

وعليه فصحيح أنّ بامكان الدين تسكين ومعالجة آمال وآلام الإنسان الروحية ، وأنّ الإيمان بالله يخلصه من الاحساس بالوحدة عند فقد الأحبّة والأصدقاء ويملأُ الفراغ الناتج من فقدانهم ، ولكن هذا أثر وليس دافعاً.

الحافز الأصلي للدين والذي يبدو منطقياً جدّاً هو في الدرجة الأولى ما أشرنا إليه سابقاً ، فحينما يرى الإنسان نفسه وجهاً لوجه أمام نظام في عالم كلما تأمل فيه أكثر تعرف على عمقه وتعقيده وعظمته أكثر ، فهو لا يستطيع أبداً أن يعتبر ظهور ولو «وردة» واحدة بكل ما لها من ظرافة وبناء عجيب ، أو ظهور «عين» واحدة بكل ما فيها من نظام ظريف ودقيق ومعقد ، لا يستطيع أن يعتبر ذلك وليداً للطبيعة غير العاقلة والمصادفات العمياء الصماء ، ومن هنا يبحث الإنسان عن مُبدىء لهذا النظام.

__________________

(١) الدنيا التي أراها ، ص ٥٣.

٣٥

وبالطبع فهنالك أمور أخرى تدعم هذا المعنى أشرنا إليها سابقاً.

والعجيب أن «انشتاين» نفسه الذي اقترح مثل هذه الفرضية تراجع عن كلامه في مكان آخر وأعرب عن عقيدته في موجد عالم الوجود وايمانه الراسخ بذلك المُبدىء الكبير بشكل ملفت للنظر ، يدل على إنّه ينكر الاعتقاد الممتزج بالخرافات ولا ينكر التوحيد الخالص من أي خرافة.

إنّه يقول : «ثمة وراءَ هذه الأوهام معنى واقعي لوجود الله لم يتوصل إليه سوى القليل من الناس» ثم يصرح بعقيدته وعقيدة كبار العلماء بنوع من الإيمان الديني الذي يسميه «الأحساس الديني بالخلق» أو «الوجود» ويدعوه في مكان آخر ب «الحيرة اللذيذة من نظام الكائنات العجيب الدقيق».

والألطف من ذلك أنّه يقول : «إنّ هذا الإيمان الديني سراج درب البحوث في حياة العلماء» (١).

طبعاً الكلام هنا كثير وإذا أردنا أن نترك العنان للقلم حسب التعبير الدارج فسوف نخرج عن شكل البحث في التفسير الموضوعي.

لهذا نعود إلى أصل الحديث مرّة أخرى ، وننهي هذا البحث ، ونلفت النظر إلى أنّه يجب البحث عن دافع ظهور الأديان في مطالعة عالم الخلقة أولاً «الحافز العقلي والمنطقي» ، ثم في الجاذبية الذاتية العنيفة «الحافز الفطري» ، ثم في التوجه نحو ذلك المبدىء الكبير بسبب التمتع بنعمه اللامتناهية «الحافز العاطفي» (٢).

* * *

__________________

(١) الدنيا التي أعرفها ، ص ٥٦ و ٦١.

(٢) من أجل مزيد من المعلومات في هذا المجال يراجع كتابنا «الحافز في ظهور الأديان».

٣٦

براهين معرفة الله :

١ ـ بُرهَان النظم

٢ ـ برهان التغيّر والحركة (يبحث في مجلّد ٣)

٣ ـ برهان الوجوب والإمكان (الغنى والفقر) (يبحث في مجلّد ٣)

٤ ـ برهان العلة والمعلول (يبحث في مجلّد ٣)

٥ ـ برهان الصدّيقين (يبحث في مجلّد ٣)

٦ ـ الطريق الباطنى لمعرفة الله (الفطرة) (يبحث في مجلّد ٣)

٣٧
٣٨

١ ـ بُرهَان النظم

التمهيد :

إنّ أوسع برهان اعتمد عليه القرآن الكريم في آياته وسوره في إثبات «معرفة الله» هو «برهان النظم» بشكل غطى هذا البرهان على كافة البراهين التي وردت في القرآن الكريم.

وهذا يدل على أنّ أفضل وأوضح طريق لمعرفة الله وتنزيهه من كافة ألوان الشرك من وجهة نظر هذا الكتاب السماوي العظيم هو البحث في نظام الخلقة وأسرار الوجود وآيات الآفاق والأنفس.

مميزات برهان النظم :

لهذا البرهان خصائص من أجلها اعتمد وأكد عليه القرآن الكريم إلى هذا الحد.

١ ـ إنّ برهان النظم يقنع العلماء كما يقنع عامة الناس ، أي أنّ كل فئة تستطيع الاستفادة والانتفاع منه حسب قابليتها ، وذلك لأنَّ الناس مختلفون في إدراك أسرار الخلقة.

٢ ـ ليس في برهان النظم الجفاف الموجود في الاستدلالات الفلسفية ، بل على العكس فيه لطف خاص يمنح الإنسان حبّ الاطلاع على ذلك المُبدىء الكبير ، ويوجد فيه نوعاً من الاندفاع والشوق نحوه ، ويخلق لديه حالة من الخضوع الممزوج بالحبّ ومعرفة الله ، وبتعبير آخر فهو يروي عقل الإنسان كما يروي عواطفه وأخلاقه.

وأخيراً فإنّ برهان النظم وبسبب دراسته لأنواع النعم الإلهيّة ضمن دراسة نظم هذا العالم فهو يؤكد على مسألة شكر المنعم ، وهذا بحدّ ذاته حافز آخر من حوافز التوحيد.

٣٩

٣ ـ إنّ برهان النظم برهان في حال تطور (متجدد) ، وبتعبير آخر هو برهان لا متناه ، المقدّمة الكبرى وإن كانت ثابتة ، لكن صغراها تمثل أعصانا متفرعة ومورقة وذات برأعم نامية لهذا البرهان ، لأنّ أي اكتشاف من الاكتشافات العلمية حول أسرار الخلقة إنما يشكل مصداقاً وصغرى جديدة لهذا البرهان ، فهو لهذا جديد دائماً ، وفي كل يوم يأخذ شكلاً آخراً ، وهو متطور ومتقدم إلى جانب تطور العلم والمعارف البشرية.

٤ ـ إنّ برهان النظم يدعو الإنسان إلى سلوك الآفاق والأنفس ، وهذا السلوك المملوء بالبركة يزيد من مستوى معرفة الإنسان في كل يوم ويجعل تفكيره مزدهراً ، خاصة وأنّ أسس برهان النظم مختلطة بحياة الإنسان وهو يواجهها في كل خطوة من خطواته ، وليس كالبعض الآخر من البراهين التوحيدية التي تقع على هامش قضايا الحياة وخارجها.

٥ ـ برهان النظم هو البرهان الوحيد الذي يستطيع إخضاع الفلاسفة التجريبيين الذين ينكرون الاستدلالات العقلية المحضة ، ويستخدم حربة العلم التي يستخدمونها في إثبات «المادية» ضدهم ، وهو بهذا اللحاظ ذو فاعلية عالية.

ولهذا ليس من العجيب أن يضع القران الكريم الغالبية العظمى من مباحثه التوحيدية على أساسه ، لكن من العجيب أنّ بعض المحققين المتأثرين بشدة ببراهين أخرى (البراهين الفلسفية المحضة) يتجاهلون الأهميّة القصوى لهذا البرهان وكأنّهم لا علم لهم بمميزاته وآثاره العميقة.

أسس برهان النظم :

يرتكز هذا البرهان في شكله الأول على ركيزتين أساسيتين ، بحسب ما هو مصطلح يشكل صغرى وكبرى.

١ ـ هنالك نظام دقيق ومحسوب يحكم عالم الوجود.

٢ ـ أينما وجدنا نظاماً دقيقاً ومحسوباً فمن غير الممكن أن يكون وليد الحوادث التصادفية ، بل لابدّ أن يصدر عن علم وقدرة عظيمين.

٤٠