نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

وفي الآيات الثالثة والرابعة والخامسة عُبِّر عن الجبال بـ «الرواسي» حيث يقول : (وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً).

ويقول في مكان آخر : (وَأَلْقىَ فِى الأَرضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيْدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُوْن).

ويشاهد هذا المعنى في الآية الخامسة أيضاً.

ويستفادُ من مجموع هذه الآيات أنّ أحَد أهم فوائد الجبال هو منع الحركات غير الطبيعية والزلازل الأرضية.

و «تَميدُ» : من مادة (مَيْد) (على وزن صَيْدْ) أي إهتزاز الأشياء الضخمة ، وقال البعض إنّها الحركة المتزامنة مع التمايل يميناً وشمالاً ، كحركة السفن الخالية بسبب أمواج البحر ، ولهذا يقال «مَيْدان» أثناء المسابقات أو الحروب.

وقد تحدثنا في شرح الآيات السابقة عن تأثير الجبال في منع حركات قشرة الأرض أثر الضغط الداخلي ، وجاذبية المد والجزر للشمس والقمر ، والاضطرابات الناتجة عن السيول المستمرة ، ولا حاجة إلى التكرار.

ويُفهم من هذه الآيات بصورة عامة أيضاً ، أنَّ لتكوين الأنهار علاقةً بوجود الجبال ، وهو الصحيح ، فالأنهار الكبيرة التي تجري على مدى السنة وتسقي الأراضي اليابسة هي من بركة المياه التي تجمعت في أعماق الجبال أو قممها على هيئة جليدٍ أو ثلج ، ولهذا تُعتبر الجبال العملاقة في العالم ينابيع لأنهار العالم العظيمة. وربّما يحدث لدى البعض شبهة في كون وجود الجبال يكون حائلاً في عزل الأراضي عن بعضها وسبباً في غلق طرق العبور والمرور ، لكن الآيات الواردة أعلاه صرحت بأنّ الله سبحانه وتعالى جعل طرقاً واودية يسلكها الناس ليهتدوا إلى بلوغ مقاصدهم ونيل مآربهم.

وهذه نقطة ظريفة جدّاً حيث توجد على الدوام في أعماق الجبال العظيمة الشاهقة ممرات وطرقٌ يستطيع الناس من خلالها المرور والعبور ، أي أنّها في ذات الوقت الذي تشكلُ سداً قوياً أمام العواصف والأعاصير ، فهي لا تمنع عبور ومرور الناس ، ونادراً ما تقوم هذه الجبال بعزلِ أجزاءٍ من الأرض بشكل كامل.

١٨١

وهناك نقطة بالغة الاهمية وهي لو كان سطح الأرض مستوياً ، فسوف تكون درجة الحرارة على الأرض عالية جدّاً ومحرقة وذلك بسبب حركة الأرض السريعة حول نفسها وحركة الهواء على سطح الأرض وبذلك تتعذر الحياة على سطح الأرض.

لكن الباري تعالى الذي جَعَلَ الأرض مهداً لراحة الإنسان ، أمر الجبال أن تكون مرتفعة في طبقات الجو ، وتدور حول نفسها تبعاً لدوران الأرض ، كي تمنع اهتزاز الجو وحصول الحرارة.

بناءً على ذلك نلاحظ جيداً أهميّة الدور الذي يلعبُهُ وجود هذه القطع الصخرية الصمّاء في حياة الموجودات.

بالاضافة إلى ذلك فانَّ الجبالَ تُوجدُ مساحات مسطَّحة شاسعة بسبب التعرجات والانكسارات وتؤدّي إلى مضاعفة الجزء الذي يمكن استغلاله من الأرض لعدّة مرات ، وفي نفس الوقت فانَّ أغلبها يعتبر مكاناً لنمو أشجار الغابات الكثيفة وأنواع النباتات الطبية والغذائية والمراتع.

* * *

ولعلَّ لهذا السبب جاء الحديث في الآية السادسة عن بركات الأرض واقواتها بعد نصب الجبال في الأرض إذ يقول : (وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِىَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيْهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا).

لأنَّ ممّا لا شك فيه أنّ الجبال نفسها وكذلك المياه التي تسيل من بطونها لها دورٌ حساسٌ للغاية في انتاج المواد الغذائية.

وممّا يلفت الانتباه قوله في نهاية الآية : (سَواءً لِلسَّائِليْنَ) ، فلعلّه إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنّ المواد الغذائية تعادل ما يحتاجه السائلون والمحتاجون تماماً ، ويمكن أن يكون تعبير (السائلين) إشارة إلى كافة الحيوانات والناس والنباتات (وإذا جاء بصيغة جمع المذكر للعاقل فهو من باب التغليب) نعم فالكل يسأل عن (الاقوات) بلسان حاله.

و «أقوات» : جمع (قوت) وتعني الغذاء ، وقد فسَّرها بعض المفسرين بـ الأمطار فقط ، والبعض الآخر فسَّرها بالمواد الغذائية المدَّخرة في باطن الأرض ، إلّاأنّ الظاهر هو أنّها

١٨٢

إشارة إلى كافة المواد الغذائية التي تخرج من الأرض أو التي تنمو عليها ، ولعلَّ التعبير بـ «قَدَّرَ» وهي من «التقدير» ، إشارة إلى أنّه قد تمّ تقدير وتخطيط كافة احتياجات الإنسان وبقية الموجودات قبل خلقها.

وقد ورد مضمون الآية السابعة في الآيات الآنفة.

* * *

وأشار في الآية الثامنة إلى أربع نِعَمٍ الهية : فالأرضُ مستقرةٌ بنحوٍ يستطيع الإنسان والموجودات الاخرى من العيش عليها براحةٍ واطمئنان ، وتكوين الأنهار التي تشق سطح الأرض ، وخلق الجبال العظيمة الراسخة ، وتكوين البرزخ بين البحرين (من الماء العذب والمالح) كي لا يختلط احدهما بالآخر.

وهذه النعم الأربع ترتبط مع بعضها بنحوٍ مدهش ، فالجبال أساسُ استقرار الأرض ، ومصدر مياه الأنهار ، وهذه الأنهار عندما تصبُ مياهها في البحر فهي تبقى منفصلة بواسطةِ حاجزٍ غير منظورٍ لفترة طويلة لا تختلط مع المياه المالحة ، وهذا الحاجز ليس سوى اختلاف كثافة الماء «المالح» و «العذب» ، وبتعبير آخر أنّ اختلاف كثافتهما يؤدّي إلى عدم امتزاج مياه الأنهار العذبة بالمياه المالحة لمدّة طويلة ، ولهذا فائدة ضرورية للزراعة في المناطق الساحلية ، لأنَّ هذه المياه العذبة تتراجع إلى الخلف عن طريق المد والجزر وتُغطي معظم الأراضي الزراعية فتغمر البساتين النَظِرة والمزارع المزدهرة.

فليس جزافاً أن يقول في نهاية هذه الآية : (أَإِلهٌ مَّعَ اللهِ)؟ (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ).

أَجَلْ ... فهؤلاء يجهلون أسرار هذه النِعَم والبركات ، النِعَمُ الموجودة في كل زوايا وبقاع العالم ، وكلٌ منها برهانٌ على تلك الذات المقدّسة ، إلّاأنّ هؤلاء الجهلةَ محجوبون عنها.

* * *

وفي الآيتين التّاسعة والعاشرة أشار إلى مجموعةٍ اخرى من خصائص ومنافع الجبال ، فبعد أنْ ذكرَ خلقَ الجبال التي تقي الإنسان حرارة الشمس المحرقة ، يشير إلى الملاجيء

١٨٣

الموجودة فيها حيث يقول : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً).

و «الاكنان» : جمع «كِنّ» على وزن «جِنّ» وكما قال صاحب مجمع البيان هو المكان الذي يضم الإنسان بداخله ، إلّاأنّ البعض ذكر ذلك بمعنى كلّ نوعٍ من اللباس ، حتى أنّهم اعتبروا «الرداء» «كنّاً» للإنسان ، والمقصود بـ «اكنان الجبال» المغارات والكهوف التي يستطيع الإنسان أن يستخدمها كملجاً له ، قد تكون أهميّة الملاجيء الجبلية والمغارات مجهولة بالنسبة لسكنة المدن ، غير أنّها ذات أهميّة حسّاسة جدّاً للمسافرين العُزّل ، وقاطعي الصحراء ، والرعاة ، والسائرين ليلاً ، وغالباً ما تنقذهم من الموت المحتوم ، لا سيما وإنَّ هذه الملاجيء دافئة في الشتاء وباردةٌ في الصيف.

فضلاً عن ذلك فإنّ بعض الناس منذ غابر الأزمان وحتى يومنا هذا ينحتون بيوتهم في وسط الجبال ، وهي مُحكَمَةٌ جدّاً وآمنة تماماً في مواجهة الحوادث الطبيعية ، كما ورد في القرآن الكريم حول «أصحاب الحجر» (قوم ثمود : (وَكَانُوا يَنْحِتُوْنَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِيْنَ). (الحجر / ٨٢)

وهذه فائدة اخرى للجبال.

وفي قسمٍ آخر من هذه الآيات إشارة إلى الطرق التي صنعها الباري تعالى بالوانٍ مختلفة بيضاء وحمراء وأحياناً سوداء بكاملها : (وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وحُمْرٌ مُختَلِفٌ أَلوانُهَا وغَرابِيبُ سُودٌ).

و «جُدَدٌ» : جمع (جُدّة) (كغُدَدٌ وغُدَّة) بمعنى الطريق والجادّة ، و «بِيضٌ» جمع «أبيض» ، و «حُمر» جمع «أحمر» ، و «غرابيب» جمع «غربيب» وتعني شديد السواد ، ولهذا يقال «غراب» ، و «سود» جمع «أسود» ووردت هنا بعد كلمة «غرابيب» للتأكيد.

فطرقُ الجبال المختلفة ، بألوانها المتباينة تماماً ، لها أهميّة كبيرة حيث تساعد المسافرين في العثور على مقاصدهم ، وتنقذهم من التيه ، إضافة إلى أن تعدُّد الألوان يدلُّ على اختلاف مركبات الصخور ، وقد تكون دليلاً على وجود المعادن المختلفة التي تختفي فيها.

* * *

١٨٤

يستفاد جيداً من تسلسل هذه الآيات أنّ خلق الجبال بفوائدها الحياتية والضرورية جدّاً والمصيرية ، من البراهين المهمّة على علم وقدرة الباري تعالى وآيات حكمته ورأفته بالإنسان ، ويوضح جيداً أن خلقَ هذا العالم وذرات موجوداته ، مليءٌ بالمعنى والمحتوى إلى حدٍ كلمّا تم التمعُن به تنكشفُ للإنسان أسرارٌ جديدة ويتولد على أثرها حبٌ وارتباطٌ بالخالق جلَّ وعلا.

* * *

توضيحات

١ ـ الجبال والاعجاز العلمي للقرآن

١ ـ لعلَّ إلى ما قبل قرنٍ من الزمان كانت نظرية العلماء تنصُ على سطحية الجبال ، وكان الاعتقاد السائد هو أنَّ كل الجبال عبارة عن قطعٍ صخرية كبيرة تستقر على سطح الأرض ، ولكن مع مرور الزمان ازيلَ الحجابُ عن سرٍّ مهمٍ ، وتوصلَ العلماء إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الجزءَ الأعظم من كل جبلٍ يقع تحت الأرض!

وكما يقول «جورج غاموف» في كتاب «قصة الأرض» : «طبقاً للنظريات المعاصرة فانّ جبال الأرض لها أوضاع تشبه الجبال الجليدية التي تتكون تحت تأثير ضغط الثلوج في المناطق القطبية ، فكلُ من زار المناطق القطبية يعرف جيداً أنّ القطع الثلجية الضخمة حينما تتكسر تحت تأثير الضغط تتراكم على بعضها ، وتندفع نحو البحار ـ وأثناء ذلك ـ تنهار اغلب كميات الثلج في المياه ، (ولعلَّ عُشرُها فقط خارج المياه وتسعةُ اعشارها تحت الماء) ، ولهذا ففي مقابل كلِّ جبلٍ يرتفع على سطح الأرض هنالك جبلٌ تحت سطح الأرض ، متكون من مادة حجر الغرانيت يَغوص في ثنايا طبقة من الصخور التحتية الناعمة» (١).

وهنا نصل إلى هذه المسألة الاعجازية في القرآن حيث يطلق على الجبال «اوتاد» ومسامير الأرض ، وذلك لأننا نعلم أنّ القِسمَ الأعظم من المسمار يغور في الجدار أو الأشياء الاخرى دائماً.

__________________

(١) قصة الأرض ، تأليف جورج غاموف ، ص ١٢٦ مع شيء من الاختصار.

١٨٥

وهنا حيث تستخدم المسامير في تثبيت شيءٍ ما ، أو ربط القطع المختلفة مع بعضها أيضاً ، فهذا التعبير يعتبر إشارة لطيفة إلى التأثير المهم للجبال في منع تبعثر قطع الأرض أثر الضغط الداخلي للكرة الأرضية والضغط الناتج عن حالات المد والجزر.

٢ ـ لايقتصر دور الجبال على حفظ استقرار وثبات الأرض فحسب ، بل تساعد في استقرار المناخ المحيط بالأرض أيضاً ، والكل يعلم مدى صعوبة العيش في الصحراء الشاسعة لأنّ الهواء دائماً في حالة من السرعة المقرونة بالغبار والرمال ، فيصبح الاستقرار في هذه المناطق عسيراً والتنفس صعباً مقرونا بعدم الراحة.

نعم .. فهذه القمم الشاهقة للجبال هي التي تقف أمام هذه العواصف الهوجاء ، وتصدُّها ، أو تُرسلها إلى طبقات الجو العليا.

٣ ـ إضافة إلى ذلك فإنّ للجبال تأثيراً بالغاً في نزول الثلوج وهطول الأمطار ، لأنّها تقف في طريق الغيوم والرطوبة الصاعدة من البحر ، فتوقفها وتدفعها إلى الهطول فينحدر بعض هذه الأمطار من سفوحها ، وتحتفظ بالقسم الآخر في هذه السفوح ، أو تحتفظ بها على هيئة ثلج وجليد في قمتها.

٤ ـ وكذلك فانَّ للجبال دوراً مهماً في تعديل حرارة الجو لا سيما في المناطق الاستوائية ، لأنَّ ارتفاع الجبال يؤدّي إلى ابتعاد المناطق المجاورة لها عن سطح الأرض ونحن نعلم أننا كلّما ابتعدنا عن سطح الأرض تزداد برودة الجو.

٥ ـ إنّ الجبالَ مصدرٌ مهمٌ لانواع المعادن والثروات الهائلة التي تختفي في أعماقها ، ومن أجل أن يظفر الناس بهذه الثروات فهم يتجهون إلى الجبال دائماً للبحث عنها.

٦ ـ للجبال دورٌ مهمٌ آخر في ايقاف حركة الكثبان الرملية ، فنحن نعلم أنّ الكثبان الرملية تتحرك أثناء هبوب الرياح في الصحراء القاحلة ، وقد تدفُنُ تحتها الأشجار والناس والقوافل وحتى القرى ، وتصبح سبباً في هلاك النباتات والحيوانات ، فإذا لم تتم السيطرة عليها فسوف تأتي على جميع أنحاء الأرض ، فأيُّ عاملٍ أفضلُ من الجبال يُمكنُه السيطرة عليها؟!

إنَّ هذه الفوائد العظيمة إضافةً إلى فوائد اخرى كثيرة ذكرناها في تفسير الآيات السابقة

١٨٦

توضح لنا الدور المهم للجبال من جهةٍ ، وعظمة آيات القرآن الكريم في هذا المجال من جهة اخرى.

* * *

٢ ـ حديث للإمام الصادق عليه‌السلام حول الجبال

وفي حديث توحيد المفضّل وهو حديث مليءٌ بالمعاني ، وكاشفٌ لأسرار الخلق في مختلف الجوانب لمعرفة الله ، جاء ما يلي :

«انظر يا مفضّل إلى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها ، والمنافع فيها كثيرة : فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فيبقى في قلالها لمن يحتاج إليه ، ويذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام ، وينبت فيها ضروب من النبات والعقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل ، ويكون فيها كهوف ومقايل للوحوش من السباع العادية. ويتخذ منها الحصون والقلاع المنيعة للتحرز من الأعداء ، وينحت منها الحجارة للبناء والأرحاء ، ويوجد فيها معادن لضروب من الجواهر ، وفيها خلال اخرى لا يعرفها إلّاالمقدّر لها في سابق علمه» (١).

وقد تكون العبارة التي جاءت في ختام حديث الإمام عليه‌السلام إشارة إلى الفوائد المهمّة الاخرى التي اكتُشفت تدريجياً مع تطور العلوم وتمّت الإشارة إليها في البحوث الماضية ، المنافع التي لا زالت خافيةً عن أنظار العلم البشري.

* * *

٣ ـ كلامٌ لعالم كبير

عندما يتعرض العلّامة المرحوم المجلسي رحمه‌الله إلى البحث حول الجبال في كتابه بحار الأنوار ، يذكر في تفسير الآية : (والجِبَالَ أَوْتَاداً) سبعة آراء ، نذكر ثالثها :

«ما يخطر بالبال وهو أن يكون مدخلية الجبال لعدم اضطراب الأرض بسبب اشتباكها

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ١٢٧.

١٨٧

واتصال بعضها ببعض في أعماق الأرض بحيث تمنعها عن تفتّت أجزائها وتفرّقها ، فهي بمنزلة الأوتاد المغروزة المثبتة في الأبواب المركبة من قطع الخشب الكثيرة بحيث تصير سببا لالتصاق بعضها ببعض وعدم تفرّقها وهذا معلوم ظاهر لمن حفر الآبار في الأرض فانّها تنتهي عند المبالغة في حفرها إلى الأحجار الصلبة ، وأنت ترى أكثر قطع الأرض واقعةً بين جبال محيطة بها ، فكأنّها مع ما يتصل بها من القطعة الحجرية المتصلة بها من تحت تلك القطعات كالظرف لها تمنعها عن التفتّت والتفرق والاضطراب عن عروض الأسباب الداعية الى ذلك» (١).

إنَّ هذا الحديث واستناداً إلى التصريح الذي أوردناه آنفاً لاحد العلماء المتأخرين ، والذي هو من اكتشافات القرن الأخير ، يعتبر أمراً مثيراً جدّاً حيث يشير هذا العالم الإسلامي الكبير إلى ذلك قبل أكثر من ٣٠٠ سنة.

* * *

٤ ـ حديثٌ اعجازيٌ حول تكوين الجبال

وهذه نقطة جديرةٌ بالاهتمام أيضاً حيث ورد في روايةٍ أنّ شخصاً سألَ أميرَالمؤمنين عليه‌السلام قائلاً : مِمّ خُلقتِ الجبالُ؟ فقال الإمام عليه‌السلام في جوابه : «من الأمواج» (٢).

وهذا الحديث يتطابق تماماً مع النظرية المشهورة للعلماء المعاصرين إذ يعتقدون بأنَّ أغلبَ الجبال تكونت نتيجةً لتعرُّج قشرة الأرض بسبب انجمادها كالتجعدات التي تظهر على قشرة التفاح عند جفافها وهذه التعرّجات تشبه الأمواج التي تحدث على سطح الماء ، وقد يكون تعبير : (وَأَلْقَى فِى الأَرْضِ رَوَاسِيَ). (النحل / ١٥)

إشارة إلى خلق الجبال بعد خلق الأرض أيضاً.

* * *

__________________

(١) بحار الانوار ، ج ٣ ، ص ١٢٧.

(٢) بحارالانوار ، ج ٥٧ ، ص ٧٣ وج ٦٠ ، ص ١٢٠.

١٨٨

١١ ـ آياته في

تكوين الغيوم والرياح والأمطار

تمهيد :

إنَّ دورَ الغيوم ، والرياح والأمطار ، في حياة الإنسان وكافة الكائنات الحيّة واضحٌ إلى حدٍ لا يحتاج معه إلى شرح أو تفصيل ، صحيحٌ أنّ الماء يغمُر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ، ولكن أولاً : أنّ المياه المالحة لا تصلح للري ، ولا لشرب الإنسان والحيوانات ، وثانياً : لو فرضنا أنَّ كلَّ مياه البحار كانت عذبةً فبأي طريقةٍ يُمكن نقلها إلى المناطق والأراضي التي قد ترتفع عن مستوى سطح البحر عدة آلاف من الأمتار؟

هنا نرى بجَلاء القدرة العظيمة لمُبدىء الخلق ، حيث القى هذا التكليف المهم على عاتق أشعة الشمس لتشرق على المحيطات وتَقوم بتبخير وتصفية مياهها ، فيظهر على هيئة قطعٍ من الغيوم ، ثم تتجه به نحو المناطق الجافة بمساعدة الرياح ، وتُنزله عليها بصورة قطرات مطر لطيفةٍ وصغيرة وبهدوء ، حيث تدُب الحياة في جميع أرجاء المعمورة ، فينتشر الإزدهار والإعمار والخُضرة في كُل مكان ، وهذا يأتي من خلال نظامٍ دقيقٍ ومحسوب مقرون بظرافة بالغة.

وبعد هذا التمهيد القصير نتجه نحو آيات القرآن الكريم بهذا الخصوص فنقرأ خاشعين الآيات الآتية :

١ ـ (اللهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً

١٨٩

فَتَرى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ). (الروم / ٤٨)

٢ ـ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَليُذِيقَكُمْ مِّنْ رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (الروم / ٤٦)

٣ ـ (وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلَنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الَّثمَراتِ). (الاعراف / ٥٧)

٤ ـ (وَاللهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلىَ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحِيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا). (فاطر / ٩)

٥ ـ (انَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاختَلفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلكِ الَّتِى تَجرى فِى البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وتَصْرِيْفِ الرِّياحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالارْضِ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (البقرة / ١٦٤)

٦ ـ (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ* أَأنْتُمْ أنْزَلُتمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ اجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ). (الواقعة / ٦٨ ـ ٧٠)

٧ ـ (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَّرِ والْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله تَعالىَ اللهُ عَمَّا يُشرِكُونَ). (النمل / ٦٣)

٨ ـ (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ). (الحجر / ٢٢)

٩ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيْعَ فى الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعَاً مُّخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ... إِنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِى الأَلْبَابِ). (الزمر / ٢١)

١٠ ـ (وَأَنْزَلنَا مِنَ المُعْصِرَاتِ ماءً ثَجَّاجاً* لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتَاً* وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً).

(النبأ / ١٤ ـ ١٦)

١١ ـ (وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً

١٩٠

طَهُوراً). (الفرقان / ٤٨)

١٢ ـ (أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ). (١) (السجدة / ٢٧)

* * *

شرح المفردات :

«الرياح» : تكررَ هذا اللفظُ عشرَ مراتٍ في القرآن الكريم ، تسعٌ منها إشارة إلى الرياح التي تُحركُ الغيوم وتُعِدُّها لتنزل الأمطار.

و «الرياح» : في الأصل جمع (ريح) وتعني الهواء المتحرك ، وأصلُها «رَوْحْ» ، وغالباً ما تعتبر مؤنثاً لفظياً ، والجدير بالذكر أنّها تستخدم بصيغة الجمع دائماً في الآيات التي تتعلق بحركة الغيوم ونزول الأمطار في القرآن الكريم ، وذكر البعض دليلاً على ذلك بأنَّ الرياح إذا تحركت بشكلٍ جماعي فانّها تنشر الغيوم وتُكوِّنُ أمطاراً غزيرة ومليئة بالبركة ، وإذا تحركت على هيئة أجزاءٍ متفرقة فانّها تكون عقيمة وغير مفيدة ، بل مضرّةً عندئذ ، لذلك ورد في الدعاء : «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» (٢).

ويقول «الراغب في المفردات» : في جميع الموارد التي ذكر الله تعالى لفظة «الريح» بصورةٍ مفردة (في القرآن) فهي تحكي عن «العذاب» ، وأينما ذكرت بصيغة الجمع فهي تحكي عن الرحمة.

وقول الراغب صائبٌ في ما يَخص «الرياح» في صيغة الجمع ، ولكن ليس هناك تعميمٌ في مورد «الريح» بصيغة المفرد ، لإنَ «الريح» استخدمت في القرآن بصيغة المفرد في مورد

__________________

(١) توجد في القرآن الكريم آياتٌ كثيرةٌ في هذا المجال ، وما ورد أعلاه مقتطفات من هذه الآيات بامكانها تبيان ابعاد هذه الامور الثلاثة المهمّة وهي كما يلي : الانعام ، ٩٩ ؛ ابراهيم ، ٣٢ ؛ النحل ، ٦٥ ؛ طه ، ٥٣ ؛ الحج ، ٦٣ ؛ النمل ، ٦٠ ؛ العنكبوت ، ٦٣ ؛ لقمان ، ١٠ و ١١ ؛ فاطر ، ٢٧ ؛ فصلت ، ٣٩ ؛ الرعد ، ١٧ ؛ الأعراف ، ٥٧ ؛ الحجر ، ٢٢ ؛ النمل ، ٦٣.

(٢) مجمع البحرين ـ مادة (ريح).

١٩١

النعمة أيضاً ، كما في قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا بِهَا). (يونس / ٢٢)

ونقرأ أيضاً بخصوص سليمان عليه‌السلام : (وَلِسُلَيَمانَ الرِّيْحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَواحُهَا شَهْرٌ). (سبأ / ١٢)

و «تَصْريفِ الرِّياح» تعني نقل الرياح من حالٍ إلى حال (من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال) ، وهي من مادة «صرف» (على وزن حرف) أي تحويل الشيء من حالةٍ إلى حالةٍ اخرى أو إِبداله بشيءٍ آخر (١).

وقد يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الرياح لو سارت باتجاهٍ واحدٍ باستمرار فمن الممكن أن تدفعَ بالرطوبة والغيوم المتصاعدة من البحار نحو جهة واحدة فقط أما تغيُّر الرياح فانّه يؤدّي إلى أن تتحرك الغيوم من مكانٍ إلى مكانٍ آخر ، وتَستفيد أغلبُ المناطق الجافة من الأمطار إلى اقصى حد.

فضلاً عن ذلك وكما سيأتي فإنّ فائدة الرياح لا تنحصر بحركة الغيوم ، بل لها منافع كثيرة اخرى سنشير إليها في تفسير الآيات ـ إن شاء الله ـ (٢).

و «السَّحاب» : من مادة «سَحْب» (على وزن مَحْو) ، وتعني في الأصل الجرَّ ، حيثُ تُسحبُ الغيوم بواسطة الرياح ، أو أنّ الغيوم تسحبُ المياهَ نحو أيِّ اتجاهٍ ، فيُطلقُ اسم «السحاب» عليها ، وقد يُستخدم هذا المفهوم بمعنى الظِّل أو الظلام من باب التشبيه.

واللطيف إنَّه قد تمَّ التعبير في الآيات أعلاه بـ «سُقناه» من مادة «سوق» أي «الدفع» وقد استُعمِلَ هذا التعبير لأنَّ الله تبارك وتعالى يدفعها نحو اتجاه معيَّن (بالرغم من أنّ السحاب يتحرك طبيعياً).

و «مُزن» : على وزن «حُزن» وتعني «الغيوم الواضحة» ، وفسَّرها البعض بـ «الغيوم الممطرة» (٣).

__________________

(١) مجمع البحرين ، ومفردات الراغب.

(٢) يُقسِّمُ العربُ الرياحَ إلى اربعة اقسام : «الشمالية» التي تهب من الشمال ، و «الجنوبية» التي تهبُّ من الجنوب ، و «الصبا» التي تهبُّ من الشرق ، و «الدبور» التي تهبُّ من الغرب.

(٣) مفردات الراغب ولسان العرب ، مادة (مُزن).

١٩٢

ولهذا يُطلقُ على الهلال الذي يبرز من بين الغيوم بـ «ابن مُزنة» ، و «مازن» تعبيرٌ يطلق على بيض النمل.

و «بُشْر» : (على وزن عُشْر) ، وحسب ما جاء في «مصباح اللغة» فهي مأخوذة من «بَشَرْ» (على وزن سَقَرْ) أي السرور والفرح (١).

والسببُ في تسمية القرآن الكريم للغيوم بـ «بُشْر» و «مُبَشِّرات» لأنّها غالباً ما تكون مبشِّرات بهطول المطر الذي يَهَبُ الحياة.

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

ظاهرة الريح والأمطار والأسرار الكامنة فيها :

أشارت الآية الاولى من البحث وكتعريفٍ بالذات الإلهيّة المقدّسة إلى مسألة هبوب الرياح وحركة الغيوم بواسطتها حيث يقول : (اللهُ الَّذى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيْرُ سَحَاباً).

ثمَّ تعرضت إلى بسط الغيوم في كبد السماء ، وتراكمها فوق بعضها ، وفي الختام أشارت إلى خروج قطرات الأمطار من وسطها ، فيقول : (فَيَبْسُطُهُ فِى السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ويَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرىَ الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ).

و «الكِسَفْ» : على وزن «قِمَم» تعني هنا تراكم قطعِ الغيوم حيث تستعد لنزول المطر ، و «الودق» (على وزن خَلْقْ) تُطلقُ على الرذاذ الذي يشبه الماء ، وفسَّرها البعض بأنّها قطرات المطر.

وفي نهاية الآية أُشير إلى استبشار عباد الله أثر نزول المطر فيقول : (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَستَبْشِرُونَ).

وعليه فانَّ الرياح لا تُحرِّكُ الغيومَ فقط ، بل تبسطها في السماء ثم تضعها على بعضها وتقوم بتبريد أطراف الغيوم وإعدادها لإنزال المطر.

__________________

(١) «بُشْر» اسم مصدر وتأتي بمعنى اسم فاعل (مُبَشِّر) أيضاً.

١٩٣

فالرياح شأنها شأن الرعاة ذوي الخبرة والتجربة حين يقومون بجمع قطيع الماشية في وقتٍ محدَّدٍ من أطراف الصحراء ويسوقونها في طريقٍ معينٍ ، ثم يحضّرونها للحلب.

فلا سُمكُ الغيوم يكون بحد بحيث يمنع خروج قطرات المطر ، ولا شدّة الرياح بالقدر الذي تمنع نزول هذه القطرات إلى الأرض. ولا تكون قطرات الأمطار صغيرة بالقَدْرِ الذي يجعلها تبقى معلقةً في السماء ، ولا كبيرة حيث تؤدّي إلى تدمير المزارع والبيوت ، ولا يقتصر نزول المطر على بشارة الناس بالإعمار والازدهار فقط ، بل إنَّه يُصَفّي ويُلطِّفُ الجو ويبعثُ على النشاط.

والملفت للنظر أنّ الآيات التي تلي هذه الآية من سورة الروم تُذكِّر بالرحمة الإلهيّة في إحياء الأرض بعد موتها : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا). (الروم / ٥٠)

ومن أجل إدراك مفهوم هذه الآية يكفينا مشاهدة صورٍ من بعض الصحارى ، والمزارع في بعض المناطق في أفريقيا كيف خيَّم عليها شبحُ الموت أثر الجفاف المستمر ، ورحلت عنها ملائكة الرحمة والحياة.

وفي المقابل فإنّ هذه الأمواج اللطيفة للرياح التي تَخترقها قطراتُ الأمطار بسهولةٍ ، تقوم أحياناً باقتلاع الأشجار الضخمة ، وتُدمِّرُ المبَاني ، وتختطفُ الإنسان معها إلى السماء ثم تقذفه إلى مكانٍ آخر إذا ما أمرت بذلك.

* * *

وتتعقبُ الآية الثانية هذا الموضوع أيضاً بشيءٍ من الاختلاف ، فهي تصفُ الرياحَ بالمبشِّرات ، وبالإضافة إلى مسألة نزول الأمطار فهي تشير إلى حركة السفن بواسطة الهبوب المنظَّم للرياح أيضاً ، فجاء في النهاية : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

ومن الممكن أن تكون عبارة (وَليُذيْقَكُمْ مِّنْ رَّحْمَتِهِ) إشارة إلى بقية فوائد الرياح ، كتلقيح الأشجار ، ودفع العفونات وتصفية الأجواء وغيرها كما تمّ توضيحه في تفسير الميزان(١).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٢٠٩.

١٩٤

والحقيقة أنّ الإنسان لا يعرف قَدْرَ النعمةِ إلّاإذا سُلبت منه ، فلو توقفت هذه الرياح والنسمات يوماً واحداً لأصبح العيش في أجملِ البساتين والمزارع اسوأ من العيش في مطامير السجون المظلمة ، ولو هبَّت نسمةٌ على طامورةٍ انفراديةٍ فهي تضفي عليها صبغة الفضاء الطلق. ولو توقَّفَت الرياح فوق سطح المحيطات ، وتوقّفت الامواج ، فانَّ حياة الكثير من الاحياء المائية تتعرض إلى الخطر بسبب نقص الاوكسجين ، وتتبدَّل البحارُ إلى مستنقعات متعفنة رهيبة.

* * *

واهتَّم في الآية الثالثة بهذا الأمر أيضاً مع هذا التفاوت وهو اعتبار الرياحَ مقدمة لرحمته ، ووصفَ الغيوم بـ «الثِّقال» أي (الأحمال الثقيلة ، جمع ثقيل) لانَّ الغيوم الممطرة اثقل من بقية الغيوم ، وتكون قَريبة من الأرض ، لذلك عبَّر عنها القرآن الكريم بـ «الثِّقال».

و «اقلَّت» : من مادة «إقْلالْ» وتعني حملُ شيءٍ يكون خفيفاً بالنسبة لقدرة الحامل ، فهو يعتبره قليلاً ولا قيمة له ، إنّ وجود هذا التعبير في الآية أعلاه يبرهنُ على أنّ الغيوم الثقيلة التي قد تحملُ معها ملايين الاطنان من المياه لا تُحمّلُ الرياح ثقلاً كبيراً ، وهذا عرضٌ لقدرة الله تعالى.

* * *

وقد أشارت الآية الرابعة إلى أنّ ارسالَ الرياحِ لأداء هذا الدور العظيم هو أحد آثار عظمة الذات الإلهيّة المقدَّسة ، إذ يُحيي الأراضي الميتة بواسطة هذه الرياح.

والجدير بالذكر هنا هو أنّ الآية استعملت كلمة «تثير» أي أنّ الرياح تُثير السُحبَ ، وقد يكون هذا التعبير إشارة إلى تكوُّنِ الغيوم بسبب هبوب رياح المناطق الحارّة على سطح المحيطات حيث تؤدّي إلى تكاثف الغيوم ، لأنَّ مسألة حركة الغيوم اخِذَتْ بالاعتبار في

١٩٥

عبارة «فسقناه» ، وعليه فانَّ الرياح لها أثرٌ مهمٌ في حصول الغيوم ، وكذلك في تحريكها نحو المناطق الجافة ، ورفعها إلى اعالي الجو وتهيئة الظروف لهطول الأمطار.

وذِكْرُ هذه العبارة بصيغة الفعل المضارع «تثير» إشارة إلى عمل السُحبِ الدائم والمستمر أيضاً.

على أيّة حال فانَّ هذه المسألة تُعتبر برهاناً على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا وكذلك دليلٌ على قدرته في المعاد ، ولهذا تمت الإشارة إلى مسألة المعاد في ختام بعض هذه الآيات.

* * *

واستند في الآية الخامسة من بحثنا إلى خلقِ سبعةِ أشياءٍ مختلفةٍ كآياتٍ ودلائل على علم وقدرة الله تعالى ليستفيد منها المفكرون والعقلاء وهي : خلق السماء ، والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، والفُلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، والأمطار ، وهبوب الرياح واختلافها ، والسحب المعلقة بين الأرض والسماء.

واستند في هذه الآية على مسألة الحركات المختلفة للرياح : (وَتَصْرِيْفِ الرِّياحِ) ، وكذلك الغيوم المعلقة بين الأرض والسماء : (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّر بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) ، السحبُ التي تحمل ماء البحار في أوساطها ، وهي في ذات الوقت معلقة بين الأرض والسماء ، فهي تمثل في الواقع أعظم آيات الله ، «فتحيي الأرضَ بنزول المطر وتبّثُ أنواعاً مختلفةً من الدّواب على وجه الأرض» : (فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيْهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ).

وعندما نشاهد أنّ الرياح والغيوم قد ذكرت في هذه الآية بعد نزول الأمطار فلعلّها من أجل الإشارة إلى هذه النقطة ، وهي أنّ فائدة الرياح لا تنحصر بتحريك الغيوم وانزال المطر فحسب ، بل لها فوائد جمّة اخرى تمّت الإشارة إليها سابقاً ، وسيشار إليها في نهاية الموضوع أيضاً.

١٩٦

وبغض النظر عن كون الغيوم هي السبب في هطول الأمطار ، فإنّ الغيوم لوحدها تعتبر ظاهرة عجيبة أيضاً ، لأنّها تحتفظ ببحارٍ من المياه وهي معلقةٌ بين الأرض والسماء (١).

* * *

وتستَند الآية السادسة إلى مسألة مياه شرب الإنسان ، وتذكر موضوعاً جديداً حيث تقول : (أَفَرَأَيْتُم المَاءَ الَّذِى تَشْرَبُون* أَأَنْتُمْ أنزَلُتمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحنُ المُنْزِلُونَ)؟ ثم يضيف تعالى : (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) فلو أنَّ ماء البحر يصطحبُ أثناء تبخره إلى السماء ذرّات الأملاح الصغيرة ، وتنزلُ المياه المالحة والمرَّة من الغيوم لتحولّت الأرضُ إلى مملحةٍ ، فلا ينمو نباتٌ ، أو شجر ، وإذا أراد الإنسان أن يدفع الموت عنه أثر العطش لم يستطع أن يتجرع شربة من هذا الماء أبداً.

إنّ القدرة التي جعلت الماء يتبخر والأملاح الموجودة في مياه البحار تبقى في مكانها ، هذه العملية التي أثرت على حياة الإنسان وغيرت مجراها بل أثرت على أوضاع كل المخلوقات على وجه الكرة الأرضية ، هل يستطيع الإنسان أن يشكر هذه النعمة طيلة بقائه حياً في هذه الدنيا؟

وكما قلنا فإنّ «المُزْن» تعني الغيوم الممطرة و «الأجاج» تعني الماء الشديد الملوحة أو المرارة.

* * *

وأشار في الآية السابعة إلى هِبَتَين عظيمتين اخريين من هِبات الله إلى عباده وهما : هبة الهداية في ظلمات البر والبحر «بواسطة النجوم» ، وهبة ارسال الرياح كمبشِّراتٍ قبل نزول أمطار رحمته ، فحيثما تنزلُ الأمطار تصدحُ الحياة بنغماتها وتكون أساساً لأنواع الخير والبركة.

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أنّ السحاب : البخار المتراكم وتسميه العرب (ضباباً) ـ بالفتح ـ مالم ينفصل من الأرض فإذا انفصل وعلا سُمّي (سحاباً وغيما وغماماً) ، (تفسير الميزان ج ١ ، ص ٤١١).

١٩٧

ويستند في نهاية الآية على هذين الموضوعين كوثيقةٍ لإثبات وحدانية الله تعالى ، ويخاطب المشركين : (أَإِلهٌ مَعَ الله تَعَالى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، ولعلَّ ذكرُ هاتين الهِبَتين معاً إشارةٌ إلى هذا المعنى وهو عندما يكون الجو صافياً يمكن الاستفادة من النجوم ليلاً في الإهتداء إلى الطريق للوصول إلى الهدف ، وإذا كان الجو غائماً فثمة رحمة أخرى وهي المطر ينالها الإنسان ، إذنْ ففي كلا الحالتين هناك موهبة ورحمةٌ ، وهو برهانٌ لمعرفة الذات الإلهيّة المقدّسة.

* * *

وفي الآية الثامنة إشارة إلى مسألة الرياح ونزول الأمطار بتعبيرٍ جديد ، فيقول : (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَواقِحَ).

هل أنّ المقصود من الآية الكريمة هو حمل حبوب اللقاح بواسطة الرياح لتلقيح النباتات التي ستحمل الفواكه والثمار من بعد ذلك ، أم المقصود هو تلقيح السحاب لكي يحمل المطر؟

وبالنظر لقوله في تكملة الآية : (فَأَنْزَلنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ) ، فيظهر أنّ المعنى الثاني أكثر تناسباً ، بالرغم من إمكانية الاستفادة من المعنيين معاً.

على أيّة حال ، فانَّ التعبير أعلاه تعبيرٌ لطيفٌ جدّاً حيث شَبَّه قِطعَ الغيوم بالامهات والآباء ، فتتلاقح هذه الغيوم عن طريق الرياح ثم تحملُ ، وتضعُ جنينها أي قطرات الأمطار على الأرض!

ويشيرُ في ختام الآية إلى المياه الجوفية المخزونة تحت الأرض ، والتي هي من الذخائر الإلهيّة للناس ، فيقول : (وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ).

فنحن الذين أمرنا طبقات الأرض أن تحتفظ بمياه الأمطار الصافية في داخلها ، وقد تكون الآبار والقنوات التي تستخدمونها اليوم هي من احتياطي المياه التي ذُخرت لكم منذ ملايين السنين في باطن الأرض ، من غير أنْ تَتلوث أو تتعفن.

١٩٨

وقد نقوم بخزنها عن طريق تجميدها في قمم الجبال على هيئة جليد وثلجٍ كي تصبح ماءً بشكلٍ تدريجيٍ ، ونسقيكم أنتم وحيواناتكم ومزارعكم ، وربّما تكون المياه التي تنحدر من القمَّة الفلانية اليوم مخزونةً منذ ملايين السنين.

* * *

وفي الآية التاسعة ، فبالاضافة إلى إشارته إلى نزول الأمطار من السماء ، فهو يشير إلى مسألة تكوُّنِ الينابيع ، فيقول : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ انْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيْعَ).

و «ينابيع» : جمع «ينبوع» وتعني العَيْن ، وهي في الأصل مأخوذة من مادة (نَبْعْ) وتعني انبثاق الماء من الأرض ، ومن الطبيعي إنَّ تكوُّنَ الينابيع في الأرض الذي يجعل الإنسان يستفيد من الماء الجاري بدون الحاجة إلى قوة اخرى ، يتبع ظروفاً خاصةً أولُها : أن تكون طبقة الأرض قابلة للاختراق كي يتغلغل الماء خلالها ، ثم يجب أن يكون ما تحت هذه الطبقة صلداً كي يتوقف الماء ويُخزنَ هناك ، وأن يكون هناك فارقٌ في المستوى بين خزانات المياه والمناطق الاخرى حتى ينسابَ الماء من هناك إلى بقية النقاط ، ومن المسلَّم به استحالةُ تناسق هذه الأمور لولا تخطيط مُبديء العلم والقدرة.

ويضيف في سياق الآية : (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعَاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ).

فيمكنُ أنْ يكون اختلاف الألوان هذا إشارة إلى ألوان النباتات المختلفة تماماً ، أو إشارة إلى أنواع النباتات وأزهار الزينة والاعشاب الطبية والصناعية والخضروات التي يأكلها الإنسان والتي لها أنواع لا تحصى في الواقع.

أَجَل .. إنّ الله تعالى يستخرج من هذا الماء الذي لا لون له مئات الآلاف من ألوان الورود والنباتات المنتشرة في هذه الرياض الكثيرة، وكما يقول الشاعر نقلاً عن اللغة الفارسية :

فإذا توصَّلت إلى أسرارها

ستعرف أنّ هذا هو سر الأسرار

حيث هناك واحدٌ ولا يوجد غيره

«وحده لا اله إلّاهو»

لهذا فهو يقول في نهاية الآية : (إِنَّ فى ذلِكَ لَذِكْرى لأُولى الألْبَاب).

* * *

١٩٩

وقد أُشير في الآية العاشرة إلى نكتةٍ جديدة اخرى ، فيقول : (وَأَنْزَلْنَا مِنَ المُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً).

و «مُعْصِرات» : جمعُ «مُعْصِر» من مادة «عَصْر» وتعني الضغط ، والمُعصرات تعني الضاغطات ، وما هو المقصود هنا بهذا التعبير؟ لقد ذكروا تفاسير متعددة : فالبعض اتخذها صفةً للغيوم ، إذ اعتبرها إشارة إلى نظامٍ خاص يتحكم بها عندما تتراكم على بعضها ، فكأنّما تعصِر نفسها كي تجري الأمطار منها ، واعتبر هذا التعبير من المعاجز العلمية للقرآن الكريم (١).

إلّا أنّ البعض الآخر اتخذها صفةً للرياح ، واعتبرها إشارة إلى العواصف الرملية والأعاصير الشديدة والزوابع الترابية ، حيث لها تأثيرٌ عميق في تكوين الأمطار والرعد والبرق (علماً أنّ «الإعصار» يعني ريح ترتفع بالتراب أو بمياه البحار).

فيقول هؤلاء .. أثناء هبوب العواصف الرملية الشديدة على سطح البحار والمحيطات فانّها تحمل معها البخار من على سطح المحيط ، وحينما تصل به إلى نقاط الجو العليا الباردة جدّاً ، وحيث تكون قدرة إشباع البخار هناك ضعيفة ، يحصل الرعد والبرق الشديد ، وبما أنّ «ثجّاجاً» صيغة للمبالغة ، وهي من مادة «ثَجَ» على وزن «حّجَّ» وتعني سكب الماء تتابعاً وبكثرة فهي تتناسب كثيراً مع مثل هذا الرعد والبرق (٢).

واعتبرها البعض إشارة إلى الغيوم التي تتزامن مع العواصف الرملية والأعاصير (٣) ، فهذه العواصف تسوق الغيوم نحو الأعلى ، وتأخذها نحو مناطق الجو الباردة حيث تتبدّل هناك إلى قطرات من الماء ، وبما أنّ هذا العمل يتمّ سريعاً فهو يولد زوابع رعدية شديدةٍ و «الماء الثجّاج» ، ونلاحظ كثرة مثل هذه الزوابع الرعدية في فصل الربيع ولعله بسبب كثرة حالات الزوابع الرعدية والعواصف في هذا الفصل.

__________________

(١) راجِع كتاب الريح والمطر ، ص ١٢٦.

(٢) اعجاز القرآن في نظر العلوم المعاصرة ، ص ٦٧.

(٣) التفسير الكبير ، ج ٣١ ، ص ٨ إذ ذكر هذا المعنى كأحدِ التفاسير لهذه الآية.

٢٠٠