نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

ويضيف في سياق هذه الآيات : (لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً* وَجَنَّاتٍ الْفَافاً) ، ويشمل هذا التعبير جميع أنواع النباتات والحبوب وأشجار الفاكهة.

* * *

وفي الآية الحادية عشرة ، وبعد بيان ما جاء في الآيات السابقة : (وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ) ، يَرِدُ ما يلي : (وَأَنْزَلنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوْراً).

وهذا موضوع جديدٍ حيث يستند إليه في هذه الآية.

و «الطّهور» : صيغة مبالغة من «الطهارة» والنقاوة حيث تفيد طهارةَ الماء وكذلك كونه مطهّراً ، ولو لم تكن للماء صفة التطهير لتلوثت كلُّ مقومات حياتنا واجسامنا وأرواحنا خلال يومٍ واحد ، ويمكن أن نلمسَ حقيقة هذا الكلام إذا ما ابتُلينا تارة بفقدان ماء للتنظيف ، حينها يصعبُ توفير الغذاء ، وسنفقد نظافة الجسم والنشاط والطراوة والصحة والسلامة. صحيحٌ أنّ الماء لا يقتل الجراثيم ولكنّه «مُذيب» جيد فهو يقوم بتحليل أنواع الجراثيم وإزالتها ، ولهذا فهو عاملٌ مؤثرٌ في تأمين السلامة ، ويطهِّرُ روحَ الإنسان من الأدران عن طريق الوضوء والغُسل أيضاً.

وليس عبثاً أن يأتي في الآية : (لِنُحْىَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً).

* * *

ثم نواجه في الآية الثانية عشرة والأخيرة مسألةً جديدةً وهي أنّ الله تعالى يسوق المياه إلى الأرض «الجُرُز» أي الجافة اليابسة الخالية من الكلأ ، فيقول : (أَوَلَمْ يَرَوا انَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلىَ الأَرْضِ الجُرُزِ)؟! (فَنُخرِجُ بِه زَرَعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أنْعَامُهُمْ وأَنْفُسُهُمْ) ، فيَأكلون الحبوب وتأكل بهائمهُم السوق والأوراد والجذور.

ويستفاد من كلام أرباب اللغة أنّ «الجُرُز» ماخوذة في الأصل من مادة «جَرَز» على وزن «مَرَضْ» وتعني «الانقطاع» أي انقطاع الماء ، والنبات ، والإعمار والطراوة ، ولذا يقال

٢٠١

للناقة التي تأكل وتقطع كل شيء بـ «ناقة جروز» ، ولمن يأكل كل ما موجود على خوان الطعام ويفرغها تماماً بـ «رجل جروز» (١).

ويقول في نهاية الآية داعياً إلى التفحص في هذه النِعَم الإلهيّة العظيمة وآيات التوحيد : (أَفَلا يُبْصِرُوْنَ).

ولكن لماذا تقدمت «الانعام» على الإنسان في الآية المذكورة؟ يقول بعض المفسِّرين : لأنَّ الزرعَ أول ما ينبت يصلح للدواب ولا يصلح للإنسان بالإضافة إلى أنّ الزرعَ غذاء الدَّواب وهو لابدَّ منه ، في حين أنّ للإنسان اغذية اخرى (٢).

النتيجة :

يستفادُ جيداً من الآيات الآنفة وبالانتباه إلى المسائل الدقيقة والظريفة التي انعكست فيها ، أنّ هناك نظاماً دقيقاً جدّاً ومضبوطاً يسود وجود الرياح والغيوم والأمطار ، حيث كلّما أطالَ الإنسان التمعُن فيها تزداد معرفته بالظرافة والمنافع والبركات الكامنه فيها.

فقد اعتُبر الماء في بعض هذه الآيات أساساً للحياة ، وفي بعضها وسيلةً للنظافة ، وفي بعضها كموجودٍ مباركٍ (سورة ق ، ٩) ، وفي البعض الآخر كمشروبٍ سائغ (مَاءً فُراتاً). (المرسلات / ٢٧)

ومن مجموع ذلك فاننا أينما وجهنا النظر وحدقنا نعثر على آثار حكمة الله البالغة ، وأينما يقع بصرُنا تتجلى لنا صورة من العظمة الإلهيّة.

* * *

توضيحات

١ ـ تكوين الرياح وفوائدها

إنَّ مصدرَ حصول الريح هو الاختلاف في درجة الحرارة بين منطقتين مختلفتين من

__________________

(١) التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، ومصباح اللغة.

(٢) تفسير الكبير ، ج ٢٥ ، ص ١٨٧.

٢٠٢

الأرض ، ويمكن تجربة هذا أثناء فصل الشتاء حيث يكون هواء الغرفة حاراً وفي خارجها بارداً ، فلو وضعنا شمعتي إضاءة عند طرفي الباب العلوي والسفلي وفتحنا الباب قليلاً سيتضح هذا الأمر جيداً إذ إنَّ الهواء البارد وبسبب ثقله يدخلُ من الاسفل والهواء الحار يخرج من الأعلى لخفّته فيحرك شعلةَ الشمعة باتجاهه (إنَّ الهواء الحار يكون ممدداً وخفيفاً والهواء البارد مضغوطاً ثقيلاً ،) ولو لم تكن هذه الصفة وتتوقف الرياح عن الحركة فايُّ بلاءٍ عظيمٍ سينزل على الإنسان؟!).

كما نعرفُ أيضاً أنّ للكرة الأرضية ثلاث مناطق ، فالمنطقة الباردة «الأطراف القطبية» ، والحارّة جدّاً «المناطق الاستوائية» ، والمعتدلة (المناطق التي تتوسط هاتين المنطقتين).

وهذا الاختلاف في درجات الحرارة على الأرض يكون سبباً في انتقال الهواء من جهةٍ إلى اخرى وأهمّه الرياح التي تُسمى «الرياح القطبية» (وهي الرياح التي تهبُّ من القطب نحو المنطقة الاستوائية ولأنّها تكونُ باردةً فهي تسير بالقرب من سطح الأرض) ، والرياح «الاستوائية» (وهي الرياح التي تهبُّ من المنطقة الاستوائية نحو القطب وبما أنّها تكون حارَّة فهي تتحرك في طبقات الجو العليا) (١).

فضلاً عن أنّ ماء المحيطات لا يكون حاراً كحرارة السواحل أثناء شروق الشمس ، إضافة إلى أنّ ماء البحر يفقد حرارته ليلاً اسرعُ ممّا يفقده الساحل ، فهذا الاختلاف في درجات الحرارة بين ماء البحر والساحل يتسبب أيضاً في هبوب الرياح باستمرار من البِّر إلى البحر ومن البحر إلى البِّر أيضاً.

وإضافة إلى كل هذا فانَّ كروية الأرض تؤدّي إلى أن تقع بعضُ المناطق في مواجهة الشمس مباشرة (أثناء الظهر) ، وأن تَشِّعَ الشمسُ على المناطق الاخرى بشكلٍ مائلٍ (أثناء الشروق والغروب) ، فهذا الاختلاف في درجات الحرارة أحد أسباب حصول الرياح في مختلف المناطق أيضاً (وكذلك هناك عوامل معقّدة اخرى).

وتتظافر هذه الأسباب في تحريك الرياح في سائر انحاء الكرة الأرضية وتتزامن معها

__________________

(١) اعجاز القرآن في نظر العلوم المعاصرة ، ص ٦٥.

٢٠٣

الفوائد الجمَّة التالية التي تمَّت الإشارة إليها في الآيات السابقة :

١ ـ للرياح نصيبٌ مهمٌ في تكوين الغيوم بسبب هبوبها على المحيطات.

٢ ـ إنّ الرياحَ تصطحبُ معها الغيوم إلى المناطق الجافة واليابسة ولولاها لاحترقَ جانبٌ كبير من الكرة الأرضية بسبب الجفاف.

٣ ـ إنّ الرياحَ تلطِّفُ الجوَّ وتجلبُ الاوكسجين الضروري من المناطق البعيدة.

٤ ـ إنّ الرياحَ تأخذ معها التلوث حيث تساعد في تنقية الجو عن هذا الطريق.

٥ ـ إنّ الرياحَ تُقللُ من شدّة حرارة الشمس على أوراق النباتات ، وتمنع احتراقها بهذه الأشعة ، وبصورة عامة فانّها وسيلةٌ مهمةٌ لاعتدال الجو في بقاع الأرض.

٦ ـ إنّ الرياح ـ وكما قلنا في تفسير الآيات ـ تعصُر الغيوم وتُعدُّها لإنزالِ المطر.

٧ ـ إنّ الرياح تسوقُ الغيوم نحو طبقات الجو العليا ، وبسبب البرودة وفقدان قدرة تحمل الاشباع تتحول إلى قطرات مطرٍ تهبُ الحياة.

٨ ـ إنّ الرياح تُحرِّك السفن الشراعية في المحيطات ، كما أنّها تُعتبر أحد المصادر المهمّة للطاقة.

٩ ـ تُستخدم الرياح لتشغيل الطاحونات الهوائية.

١٠ ـ إنّ الرياح تُعتبرُ وسيلة مهمة جدّاً للمزارعين في تصفية الحنطة وغيرها وعزلها عن التبن.

١١ ـ إنّ الرياح تعملُ على تحريك مياه البحر فتحصل الأمواج وهذه الأمواج تؤدّي بدورها إلى اختلاط الهواء مع الماء ، فيكون أساساً لحياة الموجودات في البحر ، ولولا الرياح والأمواج لتبدَّل البحر إلى مستنقعٍ آسن لا حياة فيه.

١٢ ـ وختاماً فانَّ الرياح تساهم في تلقيح النباتات ، إذ تحمل حبوب اللقاح إلى الأجزاء الانثوية ، ولو تقاعست عاماً واحداً لتناقصت كمية الفاكهة المنتجة لدينا!

هذا جانبٌ من بركات هبوب الرياح الذي توصَّلَ إليه العلمُ البشري حتى الآن ومن المسلَّم به أنّ بركاتها لا تنحصر بما قلناه ، وينبغي الانتظار حتى يرفعَ العلمُ الحجابَ عن

٢٠٤

أسرار جديدة ، ولكن كُلاً من الامور المذكورة أعلاه يكفي لوحده أن يبرهنَ لنا على علم وقدرة الخالق جلَّ وعلا ، ناهيك عن مجموعها ، فكم هو رحيم ورؤوف ذلك الإله الذي يُكُنُّ لعباده كلَّ هذا العطف والمحبّة ، وكَمْ مليئة بـ «البركة» تلك «الحركة» التي تترك كل هذه الآثار الايجابية المهمّة أثناء هبوب ذرات الهواء؟.

* * *

٢ ـ أسرار تكوين الغيوم وهطول الأمطار

لا يخفى أنّ الغيوم هي ذرّات بخار الماء ، أو بتعبير أكثر دقّة هي ذرات الماء التي انفصلت جزئياتها عن بعضها وتحولت إلى بخار.

إنَّ التمعنَ في ما يخص تكوّن الرياح والأمطار يكشف لنا أسراراً لطيفةً عن هاتين الظاهرتين العجيبتين ، منها :

١ ـ إنّ أغلبَ السوائل لا تتبخر إذا لم تصل إلى درجة الغليان ، إلّاأنَّ الماء من السوائل المستثناة حيث يتبخر في أي درجة من الحرارة ، ولولا هذه الميزة في الماء لما تبخرت قطرة واحدة من ماء البحر ، ولما تكوّنت الغيوم ، ولما نزلت المطر ولاحترقت اليابسة من الجفاف.

٢ ـ وهذا ما يجدر بالاهتمام أيضاً ، فأثناء عملية التبخر يتبخر الماء الصافي فقط ، وتبقى الأملاح والذّرات الاخرى التي فيه في مكانها ، أي أنّ هناك عملية تصفيةٍ طبيعية كي ينالَ البشرُ المياهَ الصالحة.

٣ ـ لو لم تكن الطبقات العليا من الجو أكثر برودة من الطبقات السفلى لما امطرت الغيوم المضطربة في الجو أبداً ، ولكن هذا الاختلاف في درجات الحرارة هو الذي يؤدّي إلى نزول الأمطار ، وكذلك لو كانت قدرة إشباع ذرات البخار متساوية في الهواء البارد والحار لما نزلت الأمطار ، ولكن بما أنّ الهواء البارد له قدرةُ إشباعٍ ضعيفة فانّه يُنزلُ البخار الذي تحول إلى ماءٍ.

٢٠٥

٤ ـ إنّ الأمطار إضافة إلى توفيرها للماء الضروري لنمو النباتات ، تقوم بغسل الأرض وتحمل الأوساخ معها نحو البحار.

٥ ـ إنّ الأمطار تُنّظفُ الجوَّ أيضاً ، وتقوم بإنزال التراب والغبار والذّرات المعلَّقة في الجو التي تذوب فيها إلى الأرض ، ولولا هطول الأمطار لتلوَّثَ الجو بعد مدةٍ قصيرة واستحالَ التنفُس على الإنسان.

٦ ـ إنّ الأمطار تغسلُ صخور الجبال شيئاً فشيئاً ، ليخرجَ منها التراب الذي يمكن استثماره ، فتمتد السهول الواسعة على سطح الأرض.

٧ ـ إنّ الأمطار تحمل معها الاتربة الغنيّة من المناطق البعيدة وتنشرها في المزارع لتقويتها ، كما يجلب جريان الماء معه أفضل الاسمدة الطبيعية للنباتات إلى بعض المناطق «كسواحل النيل».

٨ ـ إنّ الأمطار لا تهبُ الحياة في المناطق الجافة فحسب ، بل إنَّ هطول الأمطار على البحار يُعتبر مؤثراً للغاية أيضاً ، وليس أقل من تأثيره في المناطق اليابسة كما يقول بعض العلماء ، لأنَّ سقوط الأمطار في البحر يساعد على نمو النباتات الصغيرة في وسط أمواج المياه ، حيث تكون طعاماً مناسباً جدّاً للاسماك والاحياء البحرية ، وفي السنة التي يقلُّ فيها نزول الأمطار يسوء فيها وضع الصيد.

٩ ـ إنّ ارتفاعَ الغيوم عن سطح الأرض أكثر من ارتفاع اعلى نقاط الأرض ولهذا فلا تُحرم أيةُ بقعةٍ من الاستفادة من ماء المطر.

١٠ ـ إنّ العديد من أشجار الغابات والأعشاب الطبية والغذائية تنمو على سفوح الجبال الشاهقة ، وهذا يدل على أنّ الأمطار تقوم بإيصال الكمية اللازمة من الماء إليها ، ولولا الأمطار لاصبحت هشيماً يابساً.

١١ ـ لو تأملنا جيداً بالسدود الضخمة التي أنشِئَتْ في عصرنا هذا والتي تُؤمِّنُ جانباً مهماً من الطاقة الكهربائية في العالم ، وتقوم بتشغيل المعامل العملاقة لوجدناها من بركات هطول الأمطار على المناطق الجبلية.

٢٠٦

١٢ ـ إنّ بعض ترشحات الغيوم تنزلُ إلى الأرض على هيئةِ جليدٍ فتتراكم على قمم الجبال كمصادر للمياه ، وتقوم بتغذية خزانات المياه الموجودة تحت الأرض أيضاً لأنّها تذوب تدريجياً وتَنْفُذُ داخل الأرض ، ولكن لو تساقط الجليد باستمرار بدلاً من المطر تنعدم عندئذٍ الكثير من المنافع التي ذُكرت.

١٣ ـ الغيوم بحار معلقة في السماء ، وما أعظمَ الإله الذي يُرسلُ كلَّ هذا الماء إلى السماء خلافاً لقانون الجاذبية ، ويقوم بنقله بسهولةٍ من نقطةٍ إلى اخرى.

١٤ ـ بالاضافة إلى كل هذا فانَّ للغيوم تأثيراً ملموساً في خفض درجة الحرارة شتاءً وخفض درجة الحرارة صيفاً.

١٥ ـ إنّ الغيوم تحمل الشحنات الكهربائية المختلفة حيث تؤدّي إلى وقوع الرعد والبرق ، وسوف نتحدث عن هاتين الظاهرتين في البحث الذي يتعلق بالرعد والبرق إن شاء الله.

وعلى العموم فانَّ هاتين الظاهرتين اللّتين نعتبرهما من الامور العادية جدّاً نتيجة لأُنْسِنا بهما ، مدهشتان ومليئتان بالأسرار ، ويمكن مشاهدة آيات التوحيد العظيمة في أعماق أسرارهما ، والوصول إلى عظمة تلك الذات المقدّسة من خلال هذه الآيات العظيمة.

* * *

٣ ـ الرياح والأمطار في الروايات

نقرأ في الحديث المعروف بتوحيد المفضّل عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال :

«وانبهك يا مفضل على الريح وما فيها ، ألست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس ، ويمرّض الأصحاء وينهك المرضى ، ويفسد الثمار ، ويعفّن البقول ، ويعقّب الوباء في الأبدان ، والآفة في الغلات ففي هذا بيان أنّ هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق.

ولو أنّ ملكاً من الملوك قسّم في اهل مملكته قناطير من ذهب وفضة ألم يكن سيعظم

٢٠٧

عندهم ويذهب له به الصوت؟ فأين هذا من مطرة رواء؟ إذ يعمر به البلاد ويزيد في الغلّات أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض كلها.

تأمل نزوله على الأرض والتدبير في ذلك فانّه جعل ينحدر عليها من علو ليتفشّى ما غلظ وارتفع منها فيروّيه ولو كان إنّما يأتيها من بعض نواحيها لما علا على المواضع المشرفة منها ويقل ما يزرع في الأرض وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤونة سياق الماء من موضع إلى موضع ، وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتى يستأثر بالماء ذوو العزة والقوة ويحرمه الضعفاء. ثم إنّه حين قدّر أن ينحدر على الأرض انحداراً جعل ذلك قطراً شبيهاً بالرش ليغور في قطر الأرض فيرويها ولو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغوُر فيها ثم كان يحطم الزرع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولا رقيقاً فينبت الحب المزروع وفي نزوله أيضاً مصالح اخرى فانّه يلين الأبدان ويجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ويغسل ما يسقط على الشجر والزرع من الداء».

ويقول في جانب آخر من الرواية :

فكّر يا مفضل في الصحو والمطر كيف يعتقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه ، ولو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده ، ألا ترى أنّ الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر واسترخت أبدان الحيوان وخصر الهواء فأحدث ضروباً من الأمراض وفسدت الطرق والمسالك وأنّ الصحو إذا دام جفّت الأرض واحترق النبات وغيض ماء العيون والأودية فأضرّ ذلك بالناس وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا اخرى من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الآخر فصلحت الأشياء واستقامت (١).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام السجاد عليه‌السلام :

«أنزل من السماء ماءً يعني المطر ينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ١١٩ ـ ١٢٦ (مع الاختصار).

٢٠٨

واوهادكم ثم فرقه رذاذاً ووابلاً وهطلاً لتنشفه ارضوكم ، ولم يجعل ذلك المطر نازلاً عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم» (١).

٤ ـ لقد كشفت البحوث الحديثة للعلماء النقاب عن أسرار جديدة وبيَّنَتْ التأثيرات المهمّة للرياح في نزول الأمطار بكيفية جديدة حيث يُعتبر التوضيح الآتي نموذجاً منه (يجب توفر شرطين لتكوين الغيوم وهطول الأمطار) وهما :

١ ـ وجود بخار الماء في الهواء.

٢ ـ تشَبُّع الهواء بالبخار وتقطيره.

أمّا فيما يتعلق بالشرط الأول فبالرغم من أنّ الهواء لا يخلو على الاطلاق من بخار الماء وتبلغ ادنى نسبة له نحو ٥٠ غراماً في المتر المكعب ، إلّاأنّ هذا المقدار من الرطوبة لا يكفي لتكوين الغيوم ونزول الأمطار ، بل يجب امدادها باستمرار ، أي يجب أن يصل هواءٌ جديدٌ مُحمَّلٌ ببخار الماء بعد تكوين الغيوم ونزول الأمطار تباعاً ، ويستمر هبوب الرياح ، ويكون انطلاقها أو مسيرتها من البحر أو الغابات الكثيفة كي تتزود من الرطوبة بالمقدار اللازم.

وأمّا الشرط الثاني أي الوصول إلى حالة الاشباع وحصول ظاهرة التقطير (تعرُّق الهواء وتحول البخار إلى سائل) فهذا يستلزم برودة الهواء ، كما يحدث في الشتاء إذ يَتعرق زجاج شبابيك الغرف التي تحتوي على ما يكوّن البخار كالسماور والقدر ....

والعامل الوحيد المؤثر في برودة الهواء والذي يوصله إلى مرحلة تكوين الغيوم والتقطير هو ارتفاع الهواء وعلوه ، ويحدث ارتفاع الهواء على ثلاثة أشكال أو في ثلاث حالات ، وينزل في كل حالةٍ منها مطرٌ خاصٌ وهي :

أ) اصطدام الهواء بالأجزاء البارزة من الأرض والصعود من وسط الجبال حيث تنتج عنه الأمطار الجبلية.

ب) حرارة وخفَّةُ الهواء وصعوده السريع اثر اشعة الشمس وملامسة المناطق الحارة وتنتج عنه (أمطار العواصف).

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤١ ؛ بحار الأنوار ، ج ٥٦ ، ص ٣٤٤ ـ ٣٧٤ أيضاً وردت روايةٌ أشارت إلى أسرار تكوُّنِ الغيوم والمطر.

٢٠٩

ج) اصطدام جناحي الهواء الحار والبارد وتقلبهما وتنتج عنه (الأمطار الغزيرة) ، وأنَّ الغيوم والأمطار كافة تنشأ عن أحد هذه الحالات الثلاث واهمها النوع الأخير.

اذن فالهواء يرتبط بالغيوم والأمطار في كل المراحل فهو يتدخل ابتداءً من حمل البخار وايصاله إلى المناطق الجافة ، مروراً وانتهاءً بهزّ الغيوم وانزال المطر ، وليس من الممكن حصول الغيوم والأمطار بدون الهواء ، والمعروف أنّ الغيوم ليست سوى الهواء (أي الهواء المحمَّل بالماء).

وورد في قسمٍ آخر من هذا البحث : «إنَّ قطرات الأمطار تهطل من الغيوم المتكونة من عدّة طبقات والتي ترتفع أكثر من عشرة كيلو مترات ، وهذه الغيوم العارية الصاخبة تظهر على هيئة جبالٍ حيث يُغطى القسم الأعلى منها بقضبان الثلج وقطع الجليد وقد تكون ممتلئة بالبرَدِ».

وحتى قبل الحرب العالمية الاولى حيث تمكنت الطائرات حينذاك من الارتفاع فوق الغيوم وشاهد الطيارون الستائر المتكونة من الجليد والناشئة من الغيوم المتصاعدة ، لم يكن لأي شخصٍ علمٌ بوجود الجليد والبَرَدِ في غيوم السماء.

«فالصعود المتقلِّب الاطبقي للرياح الرطبة والحارة يؤدّي إلى تكوين جبالٍ عاليةٍ من الغيوم المتجمدة التي تتزامن مع الزوابع الشديدة وسط الرعد والبرق المتتابعين» (١).

ويمكن أن يعطي هذا التوضيح تفسيراً جديداً للآية ٤٣ من سورة النور ويرفع الحجاب عن معجزة علمية لطيفة للقرآن الكريم ، حيث يقول : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيْبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيصْرِفُهُ عَن مَّنْ يَشاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) فأيُّ جبلٍ في السماء توجدُ فيه قطع البَرَدِ؟ هذا السؤال الذي كان صعباً ومعقداً بالنسبة للكثيرين ، ولهذا فقد ذكروا له عدة تفاسير.

ولكن من خلال الاكتشافات أعلاه يتضح عدم الحاجة إلى التبرير والتقدير والمجاز وامثال ذلك لتفسير الآية المذكورة ، ويتبينُ معنى الآية في ظل هذا الأمر (٢).

__________________

(١) الهواء والمطر ، ص ٥٧ ـ ٦٥ (مع الاختصار).

(٢) من أجل المزيد من الايضاح يراجع التفسير الأمثل ، ذيل الآيه ٤٣ من سورة النور.

٢١٠

١٢ ـ آياته في حدوث الرعد والبرق

التمهيد :

هنالك القليل ممن يولي ادنى اهتمامٍ لهاتين الظاهرتين السماويتين قبل دراسة أسرار الرعد والبرق ، وعادةً ما يمرُّ الجميعُ عليها مرور الكرام ، ولعلَّ بعضهم ينظرُ إليها وكأنَّها مزاحُ الطبيعة ، كما يتحدث بعض آخر حولها بقصصٍ خرافية ، إلّاأنّ الحقيقة هي أنّ هاتين الظاهرتين تحدثان من خلال نظامٍ خاصٍ ، ولهما آثارٌ وبركاتٌ جديرةٌ باهتمام الإنسان حيث سيأتي شرحها في تفسير الآيات الآتية.

بعد هذا التمهيد نقرأ خاشعين بعض آيات القرآن الكريم في هذا المجال :

١ ـ (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا انَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ). (الروم / ٢٤)

٢ ـ (هُوَ الَّذِى يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ). (الرعد / ١٢)

٣ ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيْبُ بِهَا مَنْ يَشَآءُ). (الرعد / ١٣)

* * *

شرحُ المفردات :

«البرق» : كما يقول الراغبُ في المفردات تعني في الأصل النورَ الذي يظهر من الغيوم ، ثم استُعملت للتعبير عن كل شيءٍ ساطعٍ ، فمثلاً يقال للسيفِ اللامعِ : «السيفُ البارق».

٢١١

إضافة إلى ذلك ، يستفاد من «مقاييس اللغة» أنّ «البرق» له معنى آخر ، وهو اجتماع السواد والبياض في شيءٍ واحدٍ ، ولكنَّ الظاهر أنَّ المعنى الثاني يعود إلى المعنى الأول ، السواد عندما يكون إلى جانب البياض يُبدي بريقاً أكثر ، كما اعتبر بعضٌ مفهومَ الشِّدةِ والضغط جزءاً من معنى البرقِ أيضاً فيقولون : إنّ البرقَ واللمعان يحدثان بشكل خاص من خلال الشدَّة والضغط (١).

ويقول «الراغب» إنّ «الرعد» هو صوت الغيوم ، ويستعمل كناية أيضاً عن تحطُّمِ وسقوط الشيء الثقيل المتزامن مع الصوت ، إلّاأنَّ صاحب «مقاييس اللغة» ذكرَ أنَّ معناه الحقيقي هو الحركة والاضطراب ، ولكن بصورة عامة ، يستفاد جيداً من كتب اللغة أنّ المعنى الحقيقي هو الصوت الذي ينطلق من الغيوم ، وبقية المعاني لها صبغةٌ كنائية.

و «الصواعق» : جمع «صاعقة» ، وتعني في الأصل الصوت الشديد المهيب الذي ينطلقُ من الجو مصحوباً ببريقٍ ناريٍّ عظيم ، وجاءت هذه المادة أيضاً بمعنى الذهول بسبب سماع الاصوات القوية ، وقد تستعمل بمعنى الهلاك أيضاً.

وقال بعض أرباب اللغة : إنَّ موارد استعمال الصاعقة ثلاثة وهي : «الموت» و «العذاب» و «النار» (٢) إلّاأنّ الظاهر أنّ جميعها من لوازم المعنى الحقيقي.

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

أسرار خلق الرعد والبرق :

تعتبرُ الآية الاولى من البحث بشكل صريح ، أنّ برقَ السماء من آيات الله فتقول : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيْكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً). هذه الآية تارة تذكر الخوف وأحياناً الأمل والرجاء.

الخوف الناتج عن الصوت المهيب الذي يرافق الرعد ، واحتمال تزامنه مع صاعقةٍ

__________________

(١) التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، مادة (برق).

(٢) مفردات الراغب ، ولسان العرب ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٢١٢

مميتة ، والأمل والطمع بسبب احتمال نزول المطر ، لأنّه في كثير من الحالات يعقبُ الرعدَ والبرقَ زوابع مليئةٌ بالبركة.

ولعلَّه لهذا السبب يضيف في سياق هذه الآية : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْىِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا).

فالأرضُ اليابسة والمحترقة تحيى بقليلٍ من المطر والغيث الذى يهب الحياة ، بحيث تنتعش الأزهار والنباتات فيها وكأنها ليست تلك الأرض السابقة.

ولهذا يضيف في نهاية الآية للتأكيد فيقول : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقومٍ يَعْقِلُوْن).

فهُمْ يفهمون أنّ هذه الظواهر ليست ظواهر عاديّة تحدث صدفةً ، فيتفكرون فيها ويتعرفون على أسرارها.

* * *

وورد هذا المعنى في الآية الثانية من بحثنا بتعبيرٍ آخر تعريفاً بالذات الإلهيّة المقدّسة عن طريق آثاره فيقول تعالى : (هُوَ الَّذِى يُرِيَكُمُ البَرْقَ خَوْفاً وطَمَعاً).

الخوفُ من الصواعق والتفاؤل بنزول المطر ، أو خوف المسافرين ، وتفاؤل المقيمين في المدن والارياف.

واللطيف أنّه يقول بعد ذلك مباشرة : (ويُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَال).

وقيل في بيان هذه الجملة (تتزامن مع العواصف القويّة كُتلٌ من الغيوم ، فتغطي اعالي الجو القريبة من الأرض ، فيصبح الجو مظلماً ، وتتولد شحنات كهربائية نتيجة تلاطم الرياح ، وتهتز الأرض والجو بسبب صوت الرعد المتتابع ، وأخيراً فانَّ الغيوم المتراكمة في طبقات الجو السفلى كثيفة ومحملة بكثير من قطرات الماء الكبيرة لذلك تكون ثقيلة للغاية على الرياح المحركة (١).

* * *

__________________

(١) الريح والمطر ، ص ١٣٨.

٢١٣

ويشير في الآية الثالثة والأخيرة من بحثنا إلى ظاهرة «الرعد» فيقول : (ويُسَبِّحُ الرَعْدُ بِحَمْدِهِ).

ويُبَيِّنُ هذا التعبير أنّ هذه الظاهرة السماوية ليست مسألة عاديةً ، بل تُنبىءُ عن علم وقدرة الله تعالى ، لأنَ «التسبيح» يَعني التنزيه عن كل عيبٍ ونقص ، و «الحمد» تعني شكره مقابل الكمالات ، وعليه فانَّ صوت الرعد يتحدث عن الأوصاف الجمالية والجلالية لله تعالى!

ويمكن أن يكون هذا الكلام بلسان الحال ، كما يتحدثُ اختراعٌ مهمٌ عن علم ووعي المخترع ، أو لوحةٌ جميلةٌ جدّاً عن الذوق الحاد للرسام ، أو قطعة شعرية عن الذوق الأدبي للشاعر ، فتمدحه وتشكره ، فتكون لسان حالٍ ، كما قالَ بعض المفسرين بأنَّ لدى ذرات هذا العالم كافة عقلاً وشعوراً ، كل حسب حظه ، وتسبيحها وحمدها ينبع من العقل والشعور والإدراك.

يقول الفخر الرازي في تفسيره :

«فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة والعلم والقدرة والنطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع من الأفعال الاختيارية لله سبحانه وتعالى.

وكما هو تسبيح الجبال في زمن داود عليه‌السلام وتسبيح الحصى في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

فليكن أيُّ الاحتمالين ، فليس هنالك اختلافٌ في بحثنا ، وعلى كل حال فإنّ هناك أسراراً خفيّةً في هذه الظاهرة السماوية حيث تكشفُ عن عظمة الخالقِ وتمثل آيةً من آياته.

والمعروف أنّ الماء والبخار ، والغيوم الناتجة منهما عناصر لا تنسجم مع النار ، ولكن بقدرة الخالق تنطلقُ منها نارٌ هائلة أكثر احراقاً من أنواع النيران الموجودة على الأرض كافة ، وكذلك البخار ، الجسم اللطيف جدّاً ، ولكن ينطلقُ منه صوتٌ لا ينطلقُ من سقوط أثقل وأقوى الأجسام.

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ١٩ ، ص ٢٥.

٢١٤

ويستفاد من مجموع هذه الآيات أنّ كلاً من «الرعد» و «البرق» من ظواهر عالم الوجود الجديرة بالاهتمام ويجب دراستها بجديّة ، للتوصل إلى أسرارها ، والتعرف على عظمة الخالق عن طريقها ، وسيأتي هذا الأمر في قسم التوضيحات إن شاء الله تعالى.

* * *

توضيحان

١ ـ الرعد والبرق في نظر العلم المعاصر

يعتقد العلماء المعاصرون أنَّ بريق السماء يحدث من خلال تقارب كتلتين من الغيوم المحملة بالشحنات الكهربائية المختلفة واحدة موجبة والاخرى سالبة ، فتُحدِثان بريقاً كما يحصل من اقتراب قُطبَيْ المُوصِّل الكهربائي تماماً.

وحيث تتحمَّل قطع الغيوم بالشحنات الكهربائية العظيمة يكون بريقها عظيماً أيضاً ، ونحن نعلمُ أنّ لكلِّ بريقٍ صوتاً ، وكلّما اشتد البرقُ كلما تعاظم صوته ، ولهذا قد يكون الصوت المهيب لهذا البرق من الشدّةِ بحيث يهزُّ جميع المباني ويُحدثُ صوتاً كالقنابل الشديدة الانفجار.

ولكن البرق لا ينتج نتيجة اقتراب كتلتين من الغيوم دائماً لتكون بعيدة عن متناول الإنسان ولا تُسبب أيَّ خطر ، بل قد تقترب الغيوم الحاوية على الشحنات الموجبة من الأرض ، وبما أنّ الأرض تحتوي على الشحنات السالبة لذلك يحدث البرق بين «الأرض» و «الغيوم» ، وهذا البرق العظيم الذي يسمى بالصاعقة خطيرٌ للغاية ، فهو يُحدثُ هزَّةً شديدةَ في المنطقة التي يقع فيها ، وكذلك يولد حرارة عالية جدّاً بحيث إذا أصابت أيَّ شيءٍ تجعلُهُ رماداً (١).

__________________

(١) مع أنّ مدة الصاعقة لا تتجاوز عُشرَ الثانية وقد تكون ١٠٠ ١ من الثانية ، ولكن الحرارة التي تنتج منها تصل إلى ١٥٠٠٠ (سانتيغراد) بامكانها التسبب في حدوث اخطارٍ بالغة الشدّة (حرارة سطح الشمس ٨٠٠٠ فقط) (اعجاز القرآن ، ص ٧٨).

٢١٥

ونظراً لتجمع الشحنات على الأجزاء المدببة للأجسام ففي الصحارى التي تحدث فيها الصواعق ، يظهر البرق في النقاط المرتفعة كرؤوس الأشجار ، وحتى رأس الإنسان المار عبرها ، لذلك يعتبر التوقف في الصحارى أثناء الجو العاصف المليء بالرعد والبرق خطيراً للغاية ، وفي مثل هذه الحالات يمكن أن يزيلَ اللجوءُ إلى الوديان أو الاقتراب من الأشجار واسفل الجبال والتلال الخطر إلى حدٍ ما (إنّ الاتكاء على الأشجار والشبابيك الحديدية لا يخلو من خطورة أيضاً).

ويتضح جيداً من خلال الإشارة أعلاه اخطارُ البرقِ وعامل الخوف الذي اشيرَ إليه في الآيات الآنفة.

٢ ـ فوائد وبركات الرعد والبرق

بالرغم من الاخطار التي تصحب الرعد والبرق أحياناً إلّاأنّ لهذه الظاهرة فوائد جمّة سنشير إلى بعضها هنا :

أ) الري ـ من المعروف أنّ البرق يولِّدُ حرارة عاليةً جدّاً ، قد تبلغ ١٥ ألف درجة سانتيغراد ، وهذه الحرارة كافية لاحراق مقدارٍ كبيرٍ من الهواء المحيط ممّا يؤدّي إلى هبوط الضغط الجوي مباشرة ، ونحن نعلمُ أنّ الغيومَ تُمطرُ أثناء هبوط الضغط ، ولهذا فغالباً ما يبدأ نزول المطر عقبَ حدوث البرق وتنزل قطرات الأمطار الكبيرة ، وفي الواقع يعتبر الري من هذا الجانب أحد بركات البرق.

ب) رش السموم ـ عندما يظهر البرق بتلك الحرارة ، تتزود قطرات المطر بكمياتٍ إضافية من الاوكسجين ، فيحصل الماء الثقيل أي الماء المؤكسد (H ٢ O ٢) ، ونحن نعلم أنّ من آثار هذا الماء هو القضاء على الجراثيم ، ولهذا يستعمل طبياً في تنظيف الجروح ، فهذه القطرات تقضي على بيوض الآفات المسببة لأمراض النباتات عندما تنزل إلى الأرض ، وتقوم برش السموم على أحسن وجهٍ ، لذلك فقد قالوا : في كل سنةٍ يَقلُّ فيها الرعد والبرق تزداد الآفات النباتية.

٢١٦

ج) التغذية والتسميد ـ إنّ قطرات المطر وأثر حدوث البرق وحصول الحرارة الشديدة الناتجة عنه وتركيبها الخاص ، تحصل على حالةٍ من حامض الكاربونيك ، فتقوم بتكوين سمادٍ نباتيٍ مؤثرٍ أثناء تناثرها على الأرض وتخلُّلها فيها ، فتتغذى النباتات عن هذا الطريق.

ويقول بعض العلماء : إنَّ كمية السماد الحاصل من حالات البرق في السماء خلال سنةٍ واحدة يبلغ عشرات الملايين من الاطنان ، وهذا رقم مرتفعٌ للغاية.

بناءً على ذلك نرى أنّ هذه الظاهرة الطبيعية العاديّة وغير المهمّة إلى أيَّ حدٍّ مفيدةٍ ومليئةٍ بالبركة؟ فهي تسقي ، وترش السموم أيضاً ، وتقوم بالتغذية ، وهذا نموذج صغيرٌ من الأسرار العجيبة لعالَم الوجود حيث يصلح أنْ يكون دليلاً في الطريق لمعرفة الله.

كل هذا من بركات البرق ، ولكن الحرائق التي تنتج عن نوعٍ منه وهي الصواعق من جانبٍ آخر قد تحرق الإنسان أو الحيوان والمزارع والأشجار ، بالرغم من أنّ هذا الأمر قليلٌ ونادر الوقوع ويُمكن اجتنابه ، إلّاأنّه بإمكانه أن يصبح عامل خوفٍ وهَلَعٍ ، وعليه فانَّ ما قرأناه في الآية السالفة بانَّ البرق أساسٌ للخوف وأساسٌ للأمل أيضاً قد يكون إشارة إلى مجمل هذه الامور.

ومن الممكن أن تكون عبارة «(وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقالَ) الواردة في نهاية الآية لها ارتباط بميزة البرق هذه التي تؤدي إلى تحمُّلِ الغيوم بقطرات الأمطار.

* * *

٢١٧
٢١٨

١٣ ـ آياته في خلقِ البحار والفُلك

تمهيد :

نحنُ نعلمُ أنّ الماءَ يغطي ثلاثة ارباع سطح الكرة الأرضية ، وأنّ المحيطات والبحار ترتبط مع بعضها ، كما نعلم أنّ الإنسان قد استثمر البحار للحمل والنقل منذ غابر الأيّام على افضل وجه ، بالإضافة إلى استغلاله لجانبٍ مهمٍ من المواد الغذائية الكامنة في البحر ، وكذلك فانَّ القسم الأعظم من مختلف المواد التي تُستعمل في الصناعات تُستخرج من البحار.

والأهم من كل ذلك ، أنّه لا يخفى على أي شخص دور البحار في تكوّن الغيوم وسقي الاراضي اليابسة كافة ، وواضحٌ للجميع تقريباً وضعُ حيوانات البحار وتنوعها وعجائبها.

لهذه الأسباب اعتبرَ القرآنُ الكريم البحارَ والفلك من آيات الله ، ودعا الناس إلى التمعنِ في أسرارها.

بعد هذا التمهيد نيَمِّمُ وجوهنا صوب القرآن الكريم ونقرأ خاشعين الآيات الآتية :

١ ـ (وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمَاً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيْهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (النحل / ١٤)

٢ ـ (وَمَا يَسْتَوى الْبَحرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سَائِغٌ شَرابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ اجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأكُلُونَ لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرىَ الْفُلْكَ فِيْهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوْا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (فاطر / ١٢)

٣ ـ (اللهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرىَ الْفُلْكُ فِيْهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (الجاثية / ١٢)

٢١٩

٤ ـ (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ* إِنْ يَشَأ يُسْكِنِ الرِّيْحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). (الشورى / ٣٢ ـ ٣٣)

٥ ـ (أَلَمْ تَرَ انَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُريَكُمْ مِنْ آياتِهِ انَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ). (لقمان / ٣١)

٦ ـ (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ... والْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ ... لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (البقرة / ١٦٤)

٧ ـ (رَبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَّ بِكُمْ رَحِيْماً). (الاسراء / ٦٦)

* * *

شرح المفردات :

«البَحْر» : حسب قول الراغب في «المفردات» ، هو المكان الواسع الذي يتجمع فيه ماءٌ كثير ، كما يطلقُ على كلِّ شيءٍ واسعٍ ، و «متبحر» أو «مستبحر» : يقال للشخص الذي يمتلك علماً واسعاً ، ويقال للتغيُّر الذي يحدث للعليل فجأة بـ «بُحران» (ثم اطلقَ لفظ «بُحران» على الحوادث الحادة) واعتبر بعضٌ أنّ الملوحةَ تدخل في مفهوم «البحر» علماً أنّ البَحر يُطلقُ على الماء العذب أيضاً (١) ، و «الفُلْك» (على وزن قُفْل) وتعني السُفن ، ويستوي فيها المفرد والجمع والمذكَّر والمؤنث ، ولفظ «فلَكْ» (على وزن فَدَك) يعني مسير ومدار النجوم تفرَّعَ من هذا الأصل.

و «الجواري» : جمع «جارية» وهي مأخوذة في الأصل من «الجري» أي العبور السريع ، ويقالُ «جارية» للسفن التي تجري وتتحرك في البحار ، ويقالُ للشابّةِ في لغة العرب «جارية» أيضاً وذلك لنشاط الشباب الذي يملأُ كل وجودها ، وجاء في «المصباح المنير» أنّ اطلاق لفظ «الجارية» على الخادمة لِكونها مسخَّرةً لأوامر مولاها وتجري لانجاز الأعمال باستمرار.

__________________

(١) صحاح اللغة ، والمقاييس ؛ ومفردات الراغب ؛ ومجمع البحرين ؛ ولسان العرب.

٢٢٠