نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

الإرادة الممتزجة مع الحكمة وإلّا ليس لله مشيئةٌ بدونِ حكمه سواء كان هنا أم في باقي الموارد.

علماً أنَّ ضيق الرزق في هذه الآية (والآيات العشر) المذكورة لا يعني مُطلقَ الحرمان من الرزق ، حتى يتعارض مع الآيات الآتية التي تقول : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلَّا عَلى اللهِ رِزْقُهَا). (هود / ٦)

بل المقصود قلةُ الرزق وفي نفس الوقت وجود الحد الادنى والكافي منه.

* * *

وفي الآية السادسة بعد أن يؤكّد على هذه النكتة وهي : أنَّ الله لا يحتاجُ عبادَهُ وحينما يدعوهم إلى عبادته فليس بسببِ حاجته فيقول تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَاقُ ذُو القُوَّةِ الْمَتِيْنُ). (الذاريات / ٥٦ ـ ٥٧)

و «الرزّاق» : صيغةُ مبالغةٍ تعني كثير العطاء ، وهذا يصدقُ بخصوص ذاته المقدّسة فقط ، حيث جلست الكائنات الحية في كلِّ زاويةٍ من هذا العالم العريض : على الجبال ، في بطون الصخور ، في أعماق الوديان ، في قاع البحار ، وباختصارٍ في كلِّ زاويةٍ وجانبٍ من هذا العالم العظيم على مائدة احسانِه ، متنعمة بامداداته وفيضه.

وبما أنَّ مثل هذا العطاء والبذل الواسع وغير المحدود يحتاج إلى قدرةٍ وقوةٍ تامةٍ ، فقد ذَكر بعد هذا وصفين آخرين : «ذُو القُوةِ» و «الْمَتِيْنُ» وهي من مادة «متن» وتعني في الأصل العَضلتين اللتين تحيطان بالعمود الفقري ، وتقومان بشَدِّ عضلات ظهر الإنسان من أجل انجاز الأعمال الشاقة ، وهنا كنايةٌ عن القوة والاقتدار الخارق.

وفي الواقع أنَّ هذه الجملة وصفٌ للذات الإلهيّة المقدّسة في بذل الأرزاق ، لأنَّ هذه الصفة تخصُهُ فقط ، وأمّا الآخرون فكل ما يملكون فهو منه جلَّ وعلا ، وإذا استعمل وصف «الرزاق» لبعض الناس أو للأسباب الطبيعية فهو يعني في الحقيقة الواسطة في انتقال فيوضاتهِ وليس الفّياض وخالق النِّعم.

٢٨١

واستند في الآية السابعة إلى موضوعٍ آخر وهو شمول رزق الله لكلِّ الدّواب ، هذا العمل الذي لا يمكن حصوله بدونِ احاطةٍ وعلمٍ كامل بجميع موجودات العالم ، فلابدّ أن يعرفَ المُضيِّفُ عددَ ضيوفهِ سلفاً ، وكذلك مقدار حاجاتهم وأذواقهم ، كي يتمكنَ من تقديم الطعام الملائم لهم ، لهذا يقول في هذه الآية : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ الَّا عَلىَ اللهِ رِزْقُهَا).

ويُشير هذا التعبير بجلاء إلى أنَّهُ قد تكفَّلَ برزق عباده ، كي يَحدَّ من حرص وطمع بعض الناس واضطراب وقلق بعضهم الآخر من جانب ، ومن جانبٍ آخر يبرهنُ على أنّه لو شوهدت شحةٌ في الأرزاق ، فهي مفتعلة ومن المؤكد أنّها حصلت نتيجة لظلم جماعةٍ من الناس وهضم الحقوق ، والاحتكار وافتعال الأزمات الكاذبة أو في النهاية بسبب عدم السعي للاستفادة من هذه المائدة الإلهيّة المبسوطة ، تلك هي الأسباب التي يؤدّي كلٌّ منها أو مجتمعة ، إلى حرمانِ بعض الناس من رزقهم وقوتهم ، وإلّا فانَّ الله قد ضمنَ رزقَ كلّ الدَّواب.

وبما أنَّ ايصالَ الرزق لهم يُعدّ متعذراً بدونِ علمٍ كاملٍ بأماكنهم وخصائصهم فهو يقول في سياق الآية : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا).

وكلُّ ذلك مسجّلٌ في كتابٍ جلّيً (هو اللوح المحفوظ ، لوح علم الخالق) (كلٌّ فِى كِتابٍ مُبِيْنٍ).

و «دابَّة» : من مادة «دبيب» «وتعني المشي البطيء» ويُطلقُ هذا اللفظ (دابّة) على البهائم والحيوانات والحشرات ، بالرغم من استعمالهِ بخصوص الخيل في بعض الموارد ، إلّاأنّ المسلَّم به هنا أنّه ذو معنىً واسعٍ وشاملٍ حيث يشمل جميع البهائم (١).

ولفظ «مُستَقَّر» يعني المقر ، والمكان الثابت ، وهو مأخوذ في الأصل من مادة «قُرّ» على وزن «حُرّ» وتعني البرد القارص الذي يجعلُ الإنسان جليسَ الدار.

و «مُستَوْدَع» : يعني المكان غير الثابت ، وهي من مادة «وديعة» وتعني في الأصل ترك واطلاق الشيء ، ولهذا يقال للُامور غير المستقرة «مستودع».

__________________

(١) إنَّ «التاء» في «دابّة» لا تدل على التأنيث ، بل تشمل جميع الحيوانات مذكرها ومؤنثها ، وبتعبير آخر أنَّ تأنيثها لفظيٌ وليس حقيقياً (مفردات الراغب وتفسير الكبير ، ج ١٧ ، ص ١٨٥).

٢٨٢

وهذه الألفاظ تلمّح إلى أنّه لا تظنّوا أنَّ الله يوفرُ الرزقَ للموجودات في مستقرها فقط ، بل أينما تكون وفي أيّ نقطةٍ من الأرض والسماء ، فهو يعلمُ ويرى مكانها ويعطيها رزقها هناك!

روى بعض المفسّرين في ذيل هذه الآية حديثاً مفاده : «أنّ موسى عليه‌السلام عند نزول الوحي عليه وكان برفقة طفله وزوجته في ليلة ظلماء في وادٍ بطور سيناء ، حيث أمره الله سبحانه وتعالى أن يذهب إلى فرعون ، فانصرف ذهنه إلى زوجته وطفله ، كيف سيكون مصيرهم بعده.

فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانفلقت وخرجت منها صخرة ثانية ؛ ثم ضربها بعصاه مرّة اخرى فانفلقت وخرجت صخرة ثالثة ، ثم ضربها بعصاه فانفلقت فخرجت منها دودة كأصغر ما تكون عليه النملة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ، وعند ذاك رفع الحجاب عن سمع موسى عليه‌السلام فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني ، ويسمع كلامي ، ويعرف مكاني ، ويذكرني ولا ينساني» (١).

كما ورد في حديثٍ أنَّ الإمام الحسين عليه‌السلام كان له سيفٌ كتبَ عليه : «الرزقُ مقسومٌ والحريصُ محرومٌ ، والبخيل مذمومٌ ، والحاسدُ مغمومٌ» (٢).

ونختتم هذا الحديث بشعرٍ لأحد شعراء العرب ، إذ يقول :

وكيف أخافُ الفقرَ والله رازقي

ورازقُ هذا الخلق في العسرِ واليُسرِ

تكفَّلَ بالأرزاق للخلق كُلِّهِم

وللضَّبِ في البيداء والحوتِ في البحرِ

* * *

وفي الآية الثامنة ، يبدو وكأنّه يحاكمُ المشركين ، ويبينُ بطلان عقائدهم عن طريق مسألة ايصال الرزق إلى الخلائق ، ويوضح وحدانية الرَّب ، فيقول : (قُلْ مَنْ يُرزُقُكُم مِنَ السَّموَاتِ وَالأَرضِ) من ضوء الشمس ، من قطرات المطر الذي يهب الحياة ، ومن هذا الهواء

__________________

(١) تفسير الكبير ؛ ج ١٧ ، ص ١٨٦ ؛ تفسير روح البيان ، ج ٤ ، ص ٩٧ ؛ وتفسير روح المعاني ، ج ١٢ ، ص ٢.

(٢) تفسير روح البيان ، ج ٤ ، ص ٩٧.

٢٨٣

الذي يمد الكائنات بالحياة ، ومن أنواع المواد الغذائية الموجودة في أعماق الأرض وتظهر على هيئة ثمراتٍ وغلاةٍ وخضروات.

ثم لا يَدَعُ النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر جوابهم فيردّ الجواب قائلاً : (قُلِ الله وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلى هُدىً أَو فِى ضَلالٍ مُبِينٍ).

ولأنَه لا تجتمع عقيدتان متناقضتان ، وبما أنّكم لا تملكون دليلاً يثبتُ أنّ الأصنام هي منشأ البركات ، يتضح اذن أننا نتبع الحقَّ وأنتم في ضلالٍ مبينٍ.

ولو لاحظنا هنا أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينتظر جوابهم ، لأنَّهم في الواقع لا يملكون جواباً لهذا التساؤل ، سوى السكوت الممزوج بالخجل ، وعليه يجب على المتكلِّم الفصيح أن يُمسكَ بزمامِ الحديث في مثل هذه الحالات ويقدِّمَ الجوابَ بنفسِه.

وأحدُ فنون الفصاحةِ هو أنْ يُلقى الكلام الغامض على الخصوم من خلال الحوار ويترك الفصل لهمْ ، لهذا يقول هنا : (وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلى هُدىً او فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ) ومن المسلَّم به أنَّ الضّالَ والمهتدي يتضحُ هنا ، ومن الأفضل أن تبقى العبارةُ غامضةً في الظاهر كي لا يتمادى هؤلاء في عنادهم ، وأن يُكلِّفوا أنفسهم عناء الاستنتاج.

والعجيب أنَّ بعضَ المفسِّرين يعتقدون أنَّ هذه العبارة من قَبيل «التقيّة» في الوقت الذي لا مجال للتقيّةِ هنا ، والأمرُ مشكوفٌ بجلاء ـ ولكن بشيء من اللطافة ـ ، وحيث يقول في البداية : «إنّا» ثم يقول : «أنتم» ويتابع قائلاً على «هدىً» أو على «ضلال» ، وهذا التسلسل يوضحُ الأمرَ أكثر.

* * *

وفي الآية التاسعة ، بعد أن أشارَ إلى نزول المطر المبارك من السماء ، استند إلى ثلاثة أصنافٍ من الارزاقِ التي يستفيد الجميع منها ، فيقول : (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُّبارَكاً فَأنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيْدِ).

٢٨٤

(وَالنَّخلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيْدٌ) (١) (رِزْقاً لِلْعِبادِ).

وفي الواقع فقد استند في هذه الأية إلى الثمار والمحاصيل الغذائية لأنّها تمثلُ أهمَ وأَصلح جانبٍ من المواد الغذائية للناس ، واستند إلى التمر بالخصوص من بين الثمار ، بسبب أهميّته الغذائية الفائقة ، حيث بحثناه بالتفصيل في محلِّه (٢).

والجدير بالذكر : إنَّ بعض المفسِّرين يعتقد أنَّ استناد القرآن إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأرزاق جاء بسبب خصائص كلٍّ منها على حدة ، لأنَّ بعض النباتات يُثمرُ سنوياً ، دون الحاجة إلى بذر البذور ، كانواع أشجار الفاكهة ، وبعضها يحتاج إلى بذر البذور سنوياً كالحنطة والشعير والرز والذرة وبعضها وسطاً بينهما كالنخيل الذي يكون أصلهُ ثابتاً إلّاأنّه يحتاج في كلِّ عامٍ إلى «التلقيح» ، بالنحو الذي يرفعون طلع الذكر وينثرونه على ثمار النخلةِ كي تحمل بشكلٍ كامل ، ومن الممكن أن تلقح بطريقة اخرى (عن طريق الرياح والحشرات) إلّا أنّها لن تكون غزيرة الثمار.

وهذه النكتة جديرة بالاهتمام أيضاً حيث إنّ في تعبير «رزقاً للعباد» ، (٣) إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي وجوب استثمار النعم الإلهيّة لسلوك طريق عبوديةِ اللهِ ، وهذه الموجودات مذعنةٌ ومطيعةٌ للإنسان كي ينال الرزق ولا يأكلُه غافلاً عن الله ، كما قال الحكماء :

أنت تعيش لتأكل وأنا آكل لأعيش وأذكر الله.

* * *

وفي الآية العاشرة وآخر الآيات في بحثنا استند إلى الأنواع المتباينة من الاطعمة التي

__________________

(١) «حصيد» تعني المحصود (أو الجاهز للحصاد) ، و «باسقات» جمع «باسقة» وتعني الطويلة و «طلع» تعني ثمرة النخيل في بداية تكوينها ، و «نضيد» تعني المتراكم والكثيف الذي يبعث على التعجب لا سيما في ثمار النخيل أي التمر.

(٢) يُراجع التفسير الأمثل ، ذيل الآية ٢٥ من سورة مريم.

(٣) إنَّ نصبَ «رزقاً» جاء لكونه «مفعولاً لاجله» ، ويُستبعدُ احتمال كونه «مفعولاً مطلقاً» أو «حالاً».

٢٨٥

وضعها الباريء ، تعالى في متناول الإنسان والدَّواب ، ودعا الإنسان إلى التفحصِ فيها ، كي يُعدَّهُ لمعرفة المُنعم ومعرفة الله من خلال تحريضه على الشعور بالشكر.

فيقول : (فَلْيَنْظُرِ الإِنْسانُ الىَ طَعَامِهِ).

ليرى كيف تظافرت مختلف العوامل من الشمس والأرض والهواء والمطركي تضع في خدمته هذه النَّعَم. فيجب أنْ ينظُر ويرى كيف : (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً* فَأنبَتنَا فِيهَا حَبّاً* وعِنَباً وقَضْباً (١) * وزَيْتُوْناً وَنَخْلاً* وَحَدَائِقَ غُلْباً* وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) (٢).

مع أنَ «فاكهة» تشمل جميع أنواع الثمار ، و «حدائق» تتضمن جميع البساتين ، إلّاأنَّ الاستناد إلى «العنب» و «الزيتون» و «التمر» يأتي بسبب مزاياها المهمّة للغاية التي ثبتت الآن في علم النبات بالنسبة لكلِّ منها.

وبالرغم من أنَ «طعام» تعني عادةً الغذاء المادي ، لا سيما بخصوص الآية التي تعقبها ، فقد ذُكرت موارد عديدة للاطعمة الماديّة ، الفواكه والحبوب ، إلّاأنّه وكما ورد في بعض الروايات ، يمكن أن يكون للطعام معنى واسع وشامل حيث يشمل الغذاء المعنوي أيضاً ، ويجب أن ينظرَ الإنسان جيداً ممَّ يكتسبُ العلمَ الذي هو غذاؤه الروحي ، فلا ينبغي أن يكون مشتملاً على علوم سامة وهدامة.

والكلام الأخير حول هذه الآية الشريفة ، هو من الممكن أن تكون عبارة «فَلْيَنْظُرِ» هي النظر من أجل إدراك أسرار المبدأ والمعاد ، وكذلك النظر لتمييز الصنف الطيِّب والطاهر ، من الخبيث والملوث ، والمشروع من اللامشروع والمفيد من الضّار.

يستفادُ جيداً من مجموع ما قيلَ في شرح هذه الآيات أنَّ أنواع الرزق الإلهي آياتٌ

__________________

(١) «قضب» على وزن (جذب) وتعني القطع والقطف ، وقد فسَّرها المفسِّرون بأنّها الخُضرُ التي تُقطعُ عدّة مرات.

(٢) «حدائق» جمع «حديقة» وتعني البساتين المحصورة بين الجداران ، و «غُلب» جمع «اغلب» من مادة «غُلبة» وتعني الضخم الجُثّه ، و «أب» تعني النباتات الطبيعية والمراتع الطبيعية ، أو الثمار التي تُجفَّف وتحفظ. (والآية ٣١ من سورة عبس).

٢٨٦

وآثارٌ على عظمتهِ ، وكيفية ظهورها ، والنظام المدهش الذي استُعملِ في بنائها ، والصفات المميزة لكل منها ، والمواد المعاشية الموجودة في كلٍّ منها ، وكذلك كيفية ايصالِ هذه الأرزاق إلى المحتاجين ومطابقتها لحاجتهم ، فكلٌّ منها آية ودليل عن حكمة وعظمة الذات الإلهيّة المقدّسة.

* * *

توضيحات

١ ـ من عجائب عالم الأرزاق

حقاً لو تأملنا في النظام العجيب الموجود في ارتزاق مختلف الموجودات من المصادر الطبيعية ، لتجلَّت لنا امورٌ لطيفةٌ ومدهشة عن قدرة الخالق جلَّ وعلا.

الأمر الأول منها هو لماذا لا تتقلص كمية المواد الغذائية الموجودة على الأرض مع قلتها واستفادة الناس والحيوانات على مدى آلاف الآلاف من السنين؟! كيف لا تنتهي هذه المائدة الممتدة في كل مكانٍ؟!

حينما نتأمل جيداً نرى أنَّ المواد الغذائية في هذه الدنيا لها شكلٌ خاص بحيث لو استُفيدِ منها لملايين الملايين من السنين ، لم ينقص منها بقدر رأس الابرة ، وهذا بسبب «حركتها الدائرية» فمثلاً أنَّ المياه تتبخر من البحر ثم تظهر على هيئة غيومٍ وامطار ، فيهطل قسمٌ من ماء المطر إلى البحر ثانيةً ، والقسم الآخر يصبحُ جزءاً من جسم الإنسان والحيوانات والنباتات ويتبخر وينتشر في الجو ، وتستمر هذه الحركة الدائرية دائماً.

فالاشجار تمتص المواد الغذائية من الأرض وتتكون الفروع والأوراق ، ثم تتساقط الأوراق وتتفسخ وتتحول فيما بعد إلى سمادٍ ومواد غذائيةٍ لنفس الأشجار ، وتستفيد الحيوانات من المواد الغذائية ثم تُصبحُ تراباً ، وجزءاً من المواد الغذائية في الأرض.

ويتنفس الإنسان والحيوانات غازَ «الاوكسجين» ويطرح غاز «ثاني اوكسيد الكاربون» ، ولكن الأشجار على العكس من ذلك فهي تأخذ غاز «ثاني اوكسيد الكاربون» وتطرح غاز

٢٨٧

«الاوكسجين» ، ويتكرر هذا التبادل دائماً ، هنا نشاهد أنّ هذه المائدة الإلهيّة السرمدية مبسوطة باستمرار لتجلس كافة المخلوقات إليها للارتزاق منها دون أن يصيبها النقصان.

وكيفية إعداد الرزق للحيوانات عجيبةٌ أيضاً ، فالبعضُ يتغذى على النباتات والرطوبة الموجودة على الأرض ، وبعضٌ يحصل على غذائه من الماء «النباتات العائمة» وبعضٌ من الجو ، وبعضٌ عن طريق الالتحام بنباتاتٍ اخرى «كبعض الطفيليات» وتعيش حيوانات أعماق البحار في مكانٍ لا ينمو فيه نباتٌ أبداً ، لأنَّ اشعة الشمس تتلاشى تماماً في عمق ٦٠٠ ـ ٧٠٠ م ثم يسود ماءَ البحر بعدها ليلٌ حالكٌ وسرمديٌّ ، إلّاأنّ الباري تعالى يهيء ويعدُّ رزقَها على سطح البحر ويرسلُه إليها في أعماق البحر فالنباتات التي تنمو بكثرة على سطح البحر وسط الأمواج تصبحُ ثقيلة وتهبط إلى قاعه بعد نضوجها وتخصيص قسم منها للموجودات الحيّة على سطحه ، وكذلك تنزل بقايا الموجودات التي تعيش على سطح البحر على هيئة مائدةٍ سماوية إلى الموجودات في قاعه.

فقد تُصبحُ الطيورُ طُعمةً لأسماك البحر ، واسماك البحر طعمةً للطيور ، وقد يجعل النباتاتِ غذاءً للحيوانات ، أو الحيوانات غذاءً للنباتات التي تأكل اللحوم! وقد يصنع من فضلات ولعاب بعض الموجودات غذاءً لذيذاً لموجودٍ آخر (كما في بعض حيتان البحر حيث تخرج إلى ساحل البحر بعد تغذّيها على أسماك البحر المختلفة ، فتبقى الفضلات بين أسنانها ، فتفتح فمَها الذي يشبه الغار ، فتدخلُ مجموعةٌ من طيور الساحل إلى فمها وتقوم باخراج اللحوم المتبقية من بين اسنانها وتتخذها طعاماً لذيذاً لها ، فتقوم بدورِ المسواك في تنظيف أسنان هذا الحيوان ، الذي لا يسيء ردَّ الجميل ، فلا يُطبقُ فاهُ حتى خروج آخر طيرٍ من فمه ، وحينما ينتهي الأمر ويتخلص من المواد المزعجة ، وتمتليء بطون الطيور من الطعام حينئذ يُطبقُ فمَهُ ويتجه نحو أَعماقِ البحر (١).

وباختصار : كلّما دققنا في هذه المسألة أكثر ، سنحصل على نقاطٍ جديدة في مجال علمِ

__________________

(١) يضيف الفخر الرازي في تفسيره ضمن إشارته المختصرة لهذا الموضوع ، أنّه على رأس هذا الطائر شيءٌ يشبه الشوك ، فلو قَرر التمساحُ ابتلاع هذا الطائر فسيؤلمه ذلك «تفسير الكبير ، ج ٢٤ ، ص ١١).

٢٨٨

وحكمةِ الخالق جلَّ وعلا ، والتدبير الذي صُرفَ في مجال الأرزاق ، بشكلٍ لا يبقي مجالاً لأي نوع من الصدفة.

يكفينا التأمُل في وضع الإنسان خلال المراحل الثلاث : الجنين ، الرضاعة ، والأكل ، كيف أنَّ الله تعالى وضعَ في متناولهِ ما يناسب حاله في كلِّ واحدةٍ من هذه المراحل الحساسة بدونِ نقصٍ ، فيتغذى طيلة مكوثه في رحم الام عن طريق جهاز الحبل السّري المعقّد والإرتباط المباشر بدم الام ، وبعده الولادة ، عندما لا توجدُ أسنانٌ لمضغ الطعام ، ومعدتُه وامعاؤهُ غير مستعدةٍ لاستقبال الطعام ، يهييء له ثدي امه المليء بالحليب ، غذاءً مناسباً ، غنياً بكافة المواد الغذائية ، معتدل الحرارة ، لا تغلب عليه الحلاوة أو الملوحة ، ولا يحتاج إلى مضغٍ ونشاطٍ لمعدتهِ كي تهضمه.

وفي المرحلة الثالثة ، يضع في متناوله أنواعاً من الاطعمة «المناسبة» ، فلو لم تكن أطعمة الإنسان وباقي الحيوانات «ملائمة» ويكون مجبوراً على تناولها كالأدوية المرّة ، فايٌّ مأزق سينشأ في حياته ، ألا يفنى معظمُ الناس بسبب عدم توفر الطعام السليم لهم؟

ومن جانبٍ آخر ، فقد أودعَ في الإنسان الشعورَ بالجوع والعطش ، كي ينجذب نحوهما بشكل آلي عندما يحسُ بالحاجةِ إلى هاتين المادتين الحيويتين ، فتأملوا ما يحصل لولا هذا الشعور؟!

وكما يقول الإمام الصادق عليه‌السلام في الحديث المعروف عن المفضّل :

«فكّر يا مفضل في الأفعال التي جُعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبّر فيها فانّه جُعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرّك يقتضيه ويستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن وقوامه والكرى تقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام قواه والشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه ، ولو كان الإنسان إنّما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئاً يضطره إلى ذلك كان خليقاً أن يتوانى عنه أحياناً بالتثقل والكسل حتى ينحل بدنه فيهلك ... ، فانظر كيف جُعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرك من نفس الطبع يحركه لذلك ويحدوه عليه» (١).

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ٣ ، ص ٧٨ و ٧٩ ، توحيد المفضّل.

٢٨٩

لهذا تُعتبر الرغبةُ في نوعٍ من الطعام بالنسبة للاصحاء من الناس دليلاً على حاجة الجسم إلى ذلك الغذاء على نحو الخصوص ، ويجب على مثل هؤلاء الأشخاص كذلك النزول عند هذه الرغبات الداخلية ؛ يقول العالم الروسي المعروف «باولف» : «إنَّ الغذاءَ الطبيعي والمفيد ، هو الغذاء الذي يؤكل بشهيَّةٍ وتلذذ».

ولهذا أيضاً لا معنى للالتزامِ بنظامٍ خاصٍ في الامتناع عن الأطعمة التي يرغب الإنسان بتناولها لأنّ تلك الرغبة تعتبر بحد ذاتها أفضل دليلٍ على حاجةِ الجسمِ لها.

ما هذه التركيبات المحبوكة التي تحددُ بنفسها نوع حاجتها ، ووقودها ، وصنعها؟ وبمجرد أن يحصلَ نقصٌ توقظ شعورَ الإنسان وتدفعهُ نحو ذلك؟ هل يمكن حمل مثل هذه الامور على سبيل الصدفة؟ وهل هنالك إمكانية لوجود مثل هذا البرنامج المنظّم لولا وجود عقلٍ وتدبيرٍ واسعٍ؟

* * *

٢ ـ هل أنَّ الرزقَ مقسومٌ؟

وردت هذه النكتة في بعض الآيات أعلاه وهي أنَّ رزقَ كلِّ دابةٍ على الله ، وقد تكفَّلَ الله به : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ الَّا عَلى اللهِ رِزْقُهَا ...). (هود / ٦)

وورد في بعضٍ آخر أنّ سعة الرزق وضيقة مشيئة الهية. (الروم / ٣٧ وآيات اخرى). واشير إلى هذا المعنى في الروايات أيضاً ، فيقول امير المؤمنين عليه‌السلام : (وَقَدَّر الأرزاقَ فكثَّرها وقلَّلها وقسَّمها على الضَّيق والسَّعة) (١).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام نقرأ في حثِّه على طلب العلم إذ يقول :

إنَّ طلبَ العلمِ أوجَبُ عليكم من طلبِ المال ، إنَّ المالَ مقسومٌ مضمونٌ لكم قد قسَّمَهُ عادلٌ بينكم وضَمِنَه وَسَيَفي لكم والعلمُ مخزونٌ عند أهلهِ قد امرتُم بطلبهِ (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة خطبة ٩١.

(٢) معالم الدين ، ص ٩.

٢٩٠

والآن يبرز هذا التساؤل وهو : لو كان الأمر كذلك فما هو مفهوم السعي والاجتهاد لطلب الرزق والتخطيط لتحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع؟

ولكن من خلال التمعُن في الآيات والروايات فيما إذا جُمعت مع بعضها يتضح الجواب على هذا السؤال بأنَّ المقصود من ضمان الرزق من قبل الله تعالى وتكّفله والتزامه بتقسيمه هو اعداد الأرضية اللازمة ، ومتى ما تظافرت الأرضية الخارجة عن طاقة الإنسان ، والاستعدادات الموجودة في ذاتهِ ، يستلم الإنسان نصيبه من الرزق.

وهذا يشبه تماماً رواتب العاملين في مؤسسة ما والتي يحددها المدير إلّاأنَّه لا يجلبُ تلك الرواتب إلى بيوتهم بل يجب عليهم أن يعملوا ، ثم يذهب كلٌ منهم لملء بطاقةِ راتبه ليستلمه.

ولا يجب نسيان هذه الحقيقة بأنّ الله تعالى ومن أجل أن لا يضيع الناس في «عالم الأسباب» ويعتبروا أنَّ حاصل الرزق يأتي عن طريق السعي والاجتهاد فقط ، فهو يوصل الرزق أحياناً لاناسٍ لم يبذلوا جهداً جهيداً وقد يسلب الرزق من أشخاصٍ مجتهدين كي يوضح أنَّ وراء هذا العالم قدرةً اخرى (ولكن يجب أن لا ننسى أنَّ هذا مجرّد استثناء ، وأمّا القاعدة الأساسية فهي السعي والاجتهاد).

ولعلّه لهذا الأمر ورد في حديثٍ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

«واعلموا أنَّ الرزقَ رزقان : فرزقٌ تطلبونه ورزقٌ يطلبكُم فاطلبوا أرزاقكم من حلال ، فانّكم إن طلبتموها من وجوهها أكلتموها حلالاً وإنْ طلبتموها من غير وجوهها أكلتموها حراماً» (١).

هذا الفارقُ في الرزق يعتبرُ في الواقع دليلاً على الجمع بين الآيات والروايات التي تعتبرُ الرزقَ مُقَسَّماً ومضموناً ، والروايات التي تعاكسها ، التي تعتبر الجد والاجتهادَ والمثابرة شرطاً للاستفادة من الرزق (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٤٧.

(٢) من أجل التعرف على هذه الروايات يراجع ، وسائل الشيعة ج ١٢ ، كتاب التجارة ، ص ٩ و ١٦ و ١٨ و ٢٢ و ٢٤ و ٢٦.

٢٩١

بالإضافة إلى أنَّ التعرف على هذا الاختلاف في الرزق يدفع الحريصين إلى التخلي عن حرصهم ، ولا يتلوث المؤمنون بتحصيل الرزق من الحرام ، ولا ييأس المحرومون أيضاً.

* * *

٣ ـ إذا كانَ الرزقُ مضموناً للجميع فلماذا يموتُ البعضُ جوعاً؟

في الآيات أعلاه تتجسدُ هذه الحقيقة جيداً بأنَّ الله تعالى قد تكفَّلَ برزق جميع الموجودات الحيّة ، وايصاله إليها أينما كانت ، ولكن يبرز هذا السؤال وهو : لماذا ماتت وتموت مجاميعُ من الناس جوعاً الآن وعلى طول التاريخ؟ أَلَمْ يُؤَمَّنُ رزقُها؟!.

في الرد على هذا التساؤل يجب أخذ النقاط الآتية بنظر الاعتبار : أولاً : إنَّ تأمين وضمان الرزق لا يعني اعدادَه للإنسان العاقل والمكلَّف وارساله إلى بيته ، أو وضعهِ في فمه كاللقمة ، بل قد اعدت الأرضية اللازمة ، وسعيُ الإنسان واجتهاده يعتبر شرطاً لتحقيق هذه الأرضية وايصالها إلى مرحلة الفعل ، حتى مريم (عليها‌السلام) عندما كانت في ذلك الوضع الصعب وفي تلك الصحراء القاحلة حيث هيأ لها اللهُ تعالى رزقها رطباً جنياً على جذع النخلة أمرها بأنْ تسعى وخاطبها : (وهُزِّى الَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ).

ثانياً : لو أنَّ الناسَ ـ في الماضي والمستقبل ـ يقومون بهضم حقوق الآخرين ويسلبون أرزاقهم ظلماً فهذا ليس دليلاً على عدم تأمين البارىء تعالى للرزق ، وبتعبير آخر : إضافة إلى مسألة السعي والاجتهاد فإنّ وجود العدالة الاجتماعية يعتبر سراً في التوزيع العادل للأرزاق ، وإذا قيل : لماذا لا يمنع اللهُ ظلمَ الظالمين؟ نقول : إنَّ أساس حياة البشر يقوم على الحرية وليس على الاجبار والاكراه كي يخضع الجميع للامتحان ، وإلّا فلا يحصل التكامل «فتأمل جيداً».

ثالثاً : هناك مصادر كثيرة لتأمين طعام البشر على هذه الكرة الأرضية ولكن يجب أن تكتشفَ وتُستخدمَ بذكائهم ومعرفتهم ، وإذا قصَّر الإنسان في هذا المجال فالذنبُ ذنبهُ.

لا يجب أن ننسى أنّ بعض مناطق افريقيا التي يموت شعبها جوعاً تعتبر من اغنى

٢٩٢

مناطق العالم ، إلّاأنّ العوامل المدمرّة التي أشرنا إليها آنفا جعلتهم يهيمون في ليلٍ مظلمٍ.

نختتم هذا البحث المختصر بحديثٍ عن الإمام علي عليه‌السلام ورد في نهج البلاغة ، يقول :

«انظروا إلى النملةِ في صِغرِ جُثتها ولطافةِ هيئتها لا تكادُ تُنالُ بلحظِ البَصرِ ولا بمُستدركِ الفكَرِ كيفَ دبَّت على أرضها ، وصُبَّت على رزقها تنقُلُ الحبَّةَ إلى جحرِها وتُعِدُّها في مستقرها ، تجمعُ في حَرِّها لبردها ، وفي وِردِها ، لصدرِها» (١).

* * *

٤ ـ سعةُ الرزق وضيقه

وردَ في الآيات أعلاه أنَّ الله تعالى يبسطُ الرزقَ لمن يشاء ويُضيقَهُ على مَنْ يشاء ، وهذا التعبير الذي تكرَّر في آياتٍ عديدةٍ يمكنُ أن يُوجدَ هذا الخلط وهو أنَّ نظام الرزق خارجٌ عن إرادة الإنسان بشكلٍ كامل ، طبقاً لذلك فلو تَنَعَّمَ قومٌ وحُرمَ آخرون فهذه مشيئة الله وليس ما كسبته أيدينا وليس لنا حول ولا قوّة! ويُمكن أن يكون هذا مكسباً جيداً لُاولئك الذين يشكلون على أصل الدين ويعتبرونه وليداً للحركات والمشاريع الاستعمارية.

ولكن لو تأملنا في هذه الآيات والروايات وفكّرنا في أسباب ضيق الرزق وسعَته لتجلّى لنا تفسير هذه الآيات وأسرارها وسيتم القضاء على تلك الأفكار الهدّامة ، ونتوصل إلى امور مهمة وقيمّة للغاية.

لقد قلنا مراراً أنَّ التعبير بـ «الارادة الإلهيّة» لا يعني الإرادة التي تخلو من الحساب والكتاب ، بل الإرادة الممتزجة بـ «الحكمة».

إنَّ حكمة الله تقتضي أنّ من يسعى ويجتهد ويُخلصُ ويُضحي أكثر ، يكون رزقه أوسعُ : (وأَنْ لَّيْسَ لِلِانْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى). (النجم / ٣٩)

و (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌ). (المدثر / ٣٨)

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَايَحتَسِبُ). (الطلاق / ٢ ـ ٣)

__________________

(١) نهج البلاغة خ ١٨٥.

٢٩٣

فالتقوى تؤدّي إلى سيادة العدالة الاجتماعية ومن ثمَّ تؤدي إلى سعة الرزق ، كما أنّ السعي والمثابرة تُعِدُّ الأرضية اللازمة للازدهار الاقتصادي وتعتبر سبباً في سعة الرزق ، وبناءً على ذلك فانَّ التعاليم أعلاه ونظراً لجذورها واصولها لا تعتبر سبباً في الخمول وترك السعي ، بل إنّها من العوامل المؤثرة في السعي والاجتهاد.

والشاهد هو هذا الحديث القيّم الذي نُقل عن الإمام علي عليه‌السلام ، حيث يقول :

(إنَّ الأشياءَ لمّا ازْدَوَجَتْ إزْدَوَجَ الكَسَلُ والعَجْزُ فَنَتَجا بينهما الفَقْر) (١).

نعم .. ففقرُ كلِّ قومٍ ، نتيجة مباشرة لضعفهم وخُمولهم ، وقد اقتضت الحكمة الإلهيّة أنْ يضيق الرزقُ على مثل هؤلاء.

إنَّ التَأمُّلَ في أسباب ضيق وسعة الرزق في الروايات شاهدٌ ناطقٌ آخر على القول السابق.

ومن جملة الامور التي ذكرتها في الروايات كاسبابٍ لسعة وبسط الرزق ما يلي :

صلة الرحم ، نظافة الدار والأواني والجسم ، مواساة المسلمين ، السعي مبكراً لطلب الرزق ، شكر النعمة ، الاقلاع عن البخل ، اجتناب اليمين الكاذبة ، الاستغفار والتوبة من الذنوب ، حسن النية في الأعمال ، الاحسان إلى الجيران وذكر الله (٢).

نقرأ في حديثٍ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «طيبُ الكلام يزيدُ في الارزاق» (٣).

وجاء في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «في سعةِ الاخلاقِ كنوز الأرزاق» (٤).

وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «كَثرةُ السُحتِ يمحقُ الرزق» (٥).

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٦٠.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧٣ ، ص ٣١٤ (باب ما يورث الفقر والغنى) ، وسفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥١٩ و ٥٢٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

٢٩٤

١٧ ـ آياته في خلق الطيور

تمهيد :

لقد أَحْبَّ الإنسان على مرّ التاريخ الطيورَ وتمتَّع بتربيتها ومشاهدتها تُحلقُ فوقَ رأسهِ في السماء بشكلٍ جميلٍ ، وكانت هذه الظاهرة تبعث على دهشته دائماً ، وهي كيفية امكان أنْ يحلِّق جسم ثقيل في السماء ويتحرك بتلك السرعةِ خلافاً لقانون جاذبية الأرض؟!.

وليست هذه الصفة فقط بل صفات اخرى كالريش والجناحين ، التغريد اللطيف لبعضها ، طراز بناء البيت والعش ، تربيةِ الفراخ واطعامها ، الهجرة الطويلة لقسمٍ منها ، وامور اخرى من هذا القبيل كانت مصدراً لدهشته ، بالرغم من أنّ تكرار هذه الحالات المثيرة أدّى ـ وبالتدرج ـ إلى أن يمرَّ بعض الناس عليها مرور الكرام.

وقد أشارَ القرآن الكريم في جانبٍ من آياتِ التوحيد إلى هذه المسألة ، ودعا الجميع مشاهدة عالم الطيور ، كي يَرَوْا آيات وبراهين الباري تعالى.

بهذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات الآتية.

١ ـ (أَلَمْ يَرَوْا إِلىَ الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). (النحل / ٧٩)

٢ ـ (أَوَلَمْ يَرَوا إِلىَ الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافّاتٍ ويَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحمَنُ انَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ بَصِيرٌ). (الملك / ١٩)

٣ ـ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِى السَّمَواتِ وَالأَرْضِ والطَّيْرُ صَافَاتٍ كُلٌ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيْحَهُ وَاللهُ عَلِيْمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ). (النور / ٤١)

٢٩٥

٤ ـ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيْرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا امَمٌ أَمْثالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتابِ مِنْ شَىءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ). (الانعام / ٣٨)

* * *

شرح المفردات :

«طَير» : جمع «طائر» وتُقال لكلِّ حيوانٍ ذي جناحٍ وريشٍ ، ويحلِّقُ في الهواء ، ومصدرها «الطيران» (١) و «تَطَيَّر» تقالُ لطالع السوء الذي كانوا يستلهمونه في الجاهلية من حركة الطيور ، ولكن اطلقَ فيما بعد على كل أشكال التشاؤم وسوء الطالع.

كما جاء لفظ «تَطايُر» بمعنى الحركة بسرعة أيضاً (٢).

«صافّات» : من مادة «صف» وتعني وضع الأشياء في خطٍ مستقيمٍ ، كالناس أو الأشجار حينما يكونون في خطٍ واحد ، فعندما يُطلق هذا اللفظ وصفاً أو حالاً للطيور : (والطَّيْرُ صافّاتٍ) ، فهو إشارة إلى بسط الأجنحةِ في السماء أثناء الحركة ، ويعاكسها : (ويَقْبِضْنَ).

ولفظ «إصطفاف» كناية عن التسليم والطاعة المحضة والخضوع التام ، وإشارة للخدمِ الذين يقفون في صفٍ واحدٍ استعداداً لتقديم الخدمة (٣).

وبطبيعة الحال أنّ احتمال : «والطيرَ صافاتٍ» إشارة إلى مجموعة من الطيور التي تتحرك بشكلٍ جماعيٍّ في صفٍ أو عدة صفوف حيث تلفتُ الانتباه بتناسقها وارداً أيضاً ، إلّا أنَّ عبارة «ويقبضنَ» تمنعُ هذا التفسير.

* * *

__________________

(١) وقد قالوا إنّ مصدر هذا الفعل «طَير» أيضاً ، وطيور جمع الجمع (جمع طَير) وذكر بعضهم أنّ «طيور» جمع «طائر».

(٢) مفردات الراغب ؛ لسان العرب ؛ كتاب العين ؛ ومجمع البحرين.

(٣) التحقيق في كلمات القرآن الكريم ؛ ومفردات الراغب.

٢٩٦

جمع الآيات وتفسيرها

الطيرُ يُسبّحُ وأنا صامت!

أكدت الآية الاولى على أن تحليق الطيور في جو السَّماءِ خلافاً للجاذبية الأرضية هو آيةٌ من آيات الله : (أَلمْ يَرَوْا الَى الطَّيرِ مُسَخَّراتٍ فى جَوِّ السَّماءِ) (١).

ونظراً لطبيعة الأجسام في الانجذاب نحو الأرض فانَّ حركة الطيور في أعالي الجو تبدو شيئاً عجيباً ، ويجب أنْ تُؤخذ مأخذ جدّ ، فمن المسَّلم به أنَّ هناك مجموعة من المزايا لدى الطيور تمكنها من الطيران بيُسرٍ في السماء مستثمرة مختلف القوانين الطبيعية المعقّدة ، إنّه لشيء يبعث على الدهشة بلا شك.

إنّ لهذا الميدان العجيب والقوانين التي تسبب هذه الظاهرة المدهشة ربّاً قادراً حكيماً مطلعاً على أسرار العلوم ، بل ليست العلوم إلّاشيئاً من القوانين التي وضعها ، لهذا يقول في سياق الآية : (مَا يُمْسِكُهنَّ الَّا اللهُ).

ويضيف في ختام الآية : (إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآياتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

وسنرى في الايضاحات التي ستأتي في نهاية هذه الآيات ـ إن شاء الله ـ ما هي القوانين التي يجب أنْ تتظافر كي تحصل هذه الظاهره التي تُدعى «الطيران» ، لذلك نواجه في كلِّ خطوةٍ آيةً جديدةً من آيات مُبديء الوجود العظيم.

* * *

والآية الثانية تتشابه مع الاولى من عدة وجوه ، إلّاأنَّه يُلاحظُ فيما بينهما اختلافاتٌ أيضاً ، ففي هذه الآية يدعو الناس «لا سيما المشركين» إلى تفحّص اوضاع الطيور ، هذه الموجودات التي تنطلق من الأرض خلافاً لقانون الجاذبية الأرضية ، وتتحرك مسرعةً بكل

__________________

(١) لقد اتخذ بعضهم لفظ «جَوّ» بمعنى الفضاء الذي يحيط بالأرض ، وبعضٌ بمعنى «الهواء» قريباً كان أم بعيداً عن الأرض ، ولكن يبدو أنّ ما يستعمل عادةً هو المعنى الأول ، وهو الذي يناسب الآية أعلاه حيث يمكن أن يكون مصدراً للاعجاب.

٢٩٧

يُسرٍ في جو السّماء لساعاتٍ وأحياناً لأسابيع ، وحتى أحياناً لعدة شهور بدون توقفٍ ، حركةً مرنة وسريعةً ، بنحوٍ تبرهن على أنّها لا تواجه مشكلةً في عملها.

فيقول : (أَوَلَمْ يَرَوا الَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ ويَقْبِضْنَ) (١).

فلا أحد سوى الرحمن الذي عمَّت رحمتُه كلَّ شيء ، يستطيع أن يُمسكَهُنَّ هناك : «(مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرحْمَنُ).

أجل .. اللهُ الذي منَحها كلَّ أدوات الطيران ، وعلَّمها طريقته واسلوبه ، كما وضعَ قوانين وانظمةً تستفيدها فتحلّق بيسر وسهولة ، فهو العليم بحاجات كل الموجودات والبصير بكلِّ شيءٍ : (إِنَّه بِكُلِّ شَىءٍ بَصِيْرٌ).

وابتداءً من الذرات حتى المنظومة الشمسية ، والمنظومات الاخرى الجبارة ، ومن النباتات والحيوانات المجهرية ، حتى الموجودات العملاقة ، والكل يستمر في وجوده بتدبيره جلَّ وعلا ، التدبير الذي يُطلعنا في كلِّ مرحلةٍ منه على آيةٍ جديدةٍ من علمه وقدرته تبارك وتعالى ، وينفي كل أشكال الاحتمال بوجود الصدفةِ وقدرتها على الخلق ، ويملأ القلب بحبّه والإيمان به.

ويُمكن أن يكون التعبير بـ «صافاتٍ» و «يَقْبِضْنَ» إشارة إلى وضع الطير ، حيث يبسطنَ أجنحتهنَّ تارةً ، ويجمعنَها اخرى ، ويقدرنَ على الطيران من خلال هذين الفعلين ، ويرِدُ هذا الاحتمال أيضاً بأنْ يكون إشارة إلى صنفين من الطيور : الطيور التي غالباً ما تكون أجنحتها مبسوطة ، وتركبُ أمواجَ الهواء ، وفي نفس الوقت تسيرُ في كلِّ اتجاهٍ بسرعة ، فكأنّما هناك قدرةٌ خفيَّةٌ تُحركُها لا نراها بأعيننا ، والطيور التي تخفق اجنحتها باستمرار أثناء طيرانها ، ولبعضِ الطيور حالةٌ وسطٌ بين هاتين الحالتين أثناء الطيران (٢).

__________________

(١) يقول بعض المفسرين لو تعدت «الرؤية» ب «إلى» فهي تعني الرؤية الحسّية ، وإذا تعدت ب «في» فهي تعني المشاهدة القلبية والمطالعة العقلية (تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٩١).

(٢) لماذا جاءت «صافاتٍ» بصيغة الاسم الفاعل ، و «يقبضنَ» بصيغة الفعل المضارع؟ وردت تفسيرات كثيرة أفضلها : يقال إنّه عند انبساط الاجنحة يأخذ وضع الطائر نسقاً واحداً ، بينما يتكرر رفيف اجنحته عند خفقانها ، ـ

٢٩٨

وفي الآية الثالثة نواجه صياغة جديدة بصدد الآيات التوحيدية لحياة الطيور إذ يخاطبُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِى السمَّواتِ وَالأَرْضِ) (والطَّيْرُ صافَّاتٍ).

الطيور التي تتحرك في الجو صفوفاً ، بجلالٍ وعظمةٍ وجمال ولا تتعبُ العين من مشاهدتها أبداً ، فهي ترسمُ أشكالاً هندسيةً مختلفة على صفحة السماء بحيث تذهلُ الإنسان ، إذ قد تطير المئات بل الآلاف من الطيور وتغيُّر طريقها باستمرار من خلالِ أمرٍ خفيٍّ من دون أن يحدث اصطدامٌ فيما بينها.

ويضيف في سياق الآية : (كُلٌ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيْحَهُ) (١).

نعم .. فلكلٍّ منها صلاةٌ وابتهال ومناجات ودعاءٌ وحاجاتٍ في عالمها الخاص ، ولكلٍّ تسبيحه وتعظيمه وثناؤه ، ومن المعروف أنَّ ذرات وجود أيٍّ منها وبناء مختلف أعضائه وحركاته وسكناته تُخبرُ عن مُبديءٍ عظيمٍ يجمعُ كافة الكمالات ومُنَزَّهٍ عن جميع النواقص ، وهي دائمةُ التّسبيح بحمده بلسان حالها.

ويعتقد بعضهم أنَّ حمدَها وتسبيحها وصلاتها عن وعي ، ويعتبرون لكلِّ موجودٍ حتى الذي نَحسبُه جماداً وبلا روح ، عقلاً واحساساً ، بالرغم من جهلنا به ، كما نقرأ في مكانٍ آخر : (وَإِنْ مِّنْ شَىءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَّاتَفْقَهُوْنَ تَسْبِيْحَهُم). (الاسراء / ٤٤)

وكل تفسير من ذينك التفسيرين الصحيحين يصلح أن يكون شاهداً على ادعائنا بأنَّ جميع الموجودات في هذا العالم ، لا سيما الطيور التي تطير في جوِّ السماء ، آياتٌ وبراهينٌ على قدْرةِ وعلم خالق الكون.

__________________

ـ وهذا ما يناسب الفعل المضارع ويكسبه صفة الاستمرارية. وذُكر تفسير آخر في «الكشاف» وأيده بعض المفسرين : بأنّ منشأ هذا التفاوت ينبع من أنّ الطيران هو الحالة الأصلية الاولى للطيور ، والحالة الثانية هي عرضية. غير أن الغموض يكتنف هذا التفسير.

(١) هنا حيث يعود الضمير في «عَلِمَ» إلى «الله» أو إلى «كلّ» هنالك جدالٌ بين المفسِّرين ، ولكن ما يناسب وضع الآية هو أن يعود الضمير إلى «كل» فيعني : «كل واحد» أي أنَّ كلَّ واحدٍ من موجودات الأرض والسماء والطيور يعرف صلاته وتسبيحه جيداً.

٢٩٩

ويقول في نهاية الآية : (وَاللهُ عَلِيْمٌ بِمَا يَفْعَلُوْنَ).

فهو يعلم كل أعمالهم ونواياهم وجميع حاجاتهم ، وهنا لماذا استند في هذه الآية إلى بسط أجنحة الطيور فقط «صافات»؟ لعلَّ السبب هو هذا الوضع العجيب والمدهش حيث تستطيع أن تتحرك في جو السماء بسرعة بدون تحريك اجنحتها كما أشرنا إلى ذلك سابقاً.

والاحتمال الوارد أيضاً هو أنّ الطيور تتحرك في السماء بشكلٍ جماعي بنحوٍ يبعث على الحيرة ، حركة هندسية منظّمة ، متناسقة تماماً ، وبلا قيادةٍ ظاهرةٍ.

* * *

وأشار في الآية الرابعة والأخيرة من البحث إلى مسألةٍ جديدةٍ اخرى من عجائب عالم الطيور فقال : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلَا طائِرٍ يَطِيْرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا امَمٌ أَمْثالُكُم).

والتعبير بـ «امَمْ» جمع «امهّ» يدللُ على أنَّ لها عقلاً واحساساً في عالمها ، والتعبير بـ «أمثالكم» يؤكد هذا المعنى أيضاً ، لأنّها تشابه الإنسان في مسألة الإدراك والفهم والشعور ، وهذا تأكيد مجدد للتفسير الذي ورد في الآية السابقة ، بأنَّ لها تسبيحاً ودعاءً عن وعيٍ في عالمها الخاص بها (١).

إنَّ القرائن المتوفرة لدى الطيور ، وباقي الحيوانات ، تؤيد بأنّها ذات ذكاءٍ وشعور.

لأنَّ : أولاً : الكثير من الحيوانات تعمل بمهارةٍ ودقةٍ في بناءِ بيوتها وجمع غذائها وتربية فراخها ، ورعايتها ، وسعيها لسد حاجات حياتها الاخرى بدقة ومهارة لا يُصدق معها ، صدور هذا العمل عن غير عقلٍ وشعور؟.

وهي تبدي ردود فعلٍ مناسبة ازاء الاحداث التي لا تمتلك تجربةً سابقةً حيالها ، فمثلاً نرى أنَّ الخروف الذي لم يَرَ ذئباً طيلة حياته له وعيٌ كاملٌ عن خطر هذا العدو ويدافع عن نفسهِ بكلِّ وسيلةٍ يستطيعها.

__________________

(١) لقد اعطى المفسرون احتمالات كثيرة في تفسير تشبيهها بالإنسان حيث يبدو أنَّ ما اوردناه أعلاه أكثر تناسباً بالرغم من عدم وجود تعارضٍ بين هذه الاحتمالات. يراجع تفسير المنار ، ج ٧ ، ص ٣٩٢ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٤ ، ص ٢٤١٧.

٣٠٠