نفحات القرآن - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-8139-91-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٨٤

ويقول في الفائدة الخامسة والأخيرة : (وَعَلَيْهَا وَعَلى الْفُلْكِ تُحْمَلُوْنَ).

ولتعبير «حَمْل» مفهوم غير «الركوب» ويبدو أنَّ المقصود منه هو المحامل والهوادج التي توضعُ على ظهور الأَنعام ويجلس فيها النساء والأطفال الذين لا طاقة لهم على الركوب ، كما يستفاد منها للمر ضى والعَجَزَةِ والضعفاء.

إنَّ ذكرَ «تُحمَلُون» بصيغة «الفعل المجهول» ، وجعلها إلى جانبِ الفُلك حيث يوضحُ تشابههما مع بعضهما (الفلك في البحر والانعام على الأرض) يعتبر من القرائن أيضاً على التفسير أعلاه ، وبهذا يتضح اختلاف هذه العبارات الثلاث : (لِتَركَبُوا ـ وَلِتَبْلُغُوا ـ وعليها وعلى الفُلك تُحمَلونَ) ، وطالما وقع بعضُ المفسِّرين في معضلات تفسيرها ، وقد فسَّروها بمعنىً واحدٍ!

ومع أنَّ بعضهم يعتقد أنَّ الانعام في هذه الآية تعني الابل فقط ، ولكن نظراً لسعة مفهوم «الانعام» وعدم وجودِ قيدٍ في الآية فلا دليل لحصرها ، لا سيما أنَّ تكرار «منها» (علماً إنَ «مِنْ» في مثل هذه الموارد تُفيد التبعيض) يبرهنُ على أنَّ بعض الانعام يفيد في الركوب ، وبعضها يُفيد في الأكل ، بينما لو كان المقصود هو الأبل فإنَّها تُفيدُ في جميع هذه الجوانب.

واللطيف أنَّه يقول في الآية الآتية باستنتاج عامٍ : (وَيُريكُم آياتِهِ فأيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُوْنَ).

إشارة إلى أنَّ كُلاً من هذه الامور يعتبر آيةً من آياتِ الله بالنسبة للمتفكرين والعقلاء ، آية بيِّنة ولا يمكنُ انكارها ، والمنكرون يستحقون كلَّ اشكال اللَّوم والتوبيخ.

وهكذا نرى أننا نواجه في كلِّ خطوةٍ نخطوها في هذا الجانب آية من آياتهِ في عالم الاحياء والحيوانات خصوصاً الأنعام ، ونواجه برهاناً من براهين علمه وقدرته وحكمته ولطفهِ ورحمتِهِ ، وكلٌّ يحكي بلا لسان ويُعطينا درساً في التوحيد ومعرفة الله ، ويُثيرُ فينا دافعَ الشكرِ الذي يدعونا إلى معرفته.

* * *

٣٤١

توضيحات

١ ـ عجائب عالم الحيوانات

إنَّ كتابَ الخلقِ العظيم كتابٌ تكمنُ في كل جملةٍ ـ بل في كلِّ كلمةٍ وكلِّ حرفٍ منه ـ نكاتٌ ، بنحوٍ لا يَشعُر الإنسان بالتعبِ من مطالعتها ، فلو طالعَ أحد جمل هذا الكتاب العظيم مائة مرّة فسيَنكشفُ له في كلِّ مرّةٍ مفهومٌ جديدٌ واسرارٌ جديدة. فعالمُ «الحيوانات والانعام» الذي يُمثِّلُ جانباً من هذا الكتاب العظيم مليىء بالأسرار والعجائب ، نكتفي ببعضٍ منها ويجب أن نوكلَ الامعان في التفصيل إلى الكتب المدَوَّنة في هذا المجال.

٢ ـ ترويض الحيوانات

إنَّ استعداد الحيوانات للترويض مسألةٌ مهمةٌ للغاية.

ومن أجل إدراك أهميّة كلِّ نعمةٍ ، لابدّ من تصوُّر الحالةِ التي تتحوَّل فيها الحيوانات الاليفة إلى حيوانات وحشية ، «فالجملُ» يشنُّ هجماتهِ كالفهد ويمزِّقُ الإنسان بفكيّه القويتين ، ويستخدمُ «البقرُ» قرنَهُ ، وتضرب الخيلُ بحوافرها مَنْ يقترب منها ، حينها لا يمكن اعتبار هذا القطيع من الأغنام والابل والبقر أساسيَ الوجود فحسب ، بل وسنستعين بأية آلة قاتلةٍ من أجل الخلاص من شرِّها والقضاء عليها ، وفي الوقت الحاضر أيضاً تغضب هذه الحيوانات الاليفة أحياناً فتشكلُ خطورةً بالغة ، فمثلاً تُلَقِّنُ الفيلةُ الهنودَ دروساً ، وتَشنُّ الجمالُ الغاضبة هجماتها على أصحابها ، ومن الممكن أن تنتهي بالقضاء عليهم إذا ما غفلوا ، وكأن الله تعالى يريد أنْ يُبرهنَ على أنْ لو اردتُ سلبها أمرَ الطاعة والتسليم والخضوع فستَرَونَ بايِّ صورةٍ تظهر!

وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بتعابير مختلفة ، فيقول أحياناً : (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُم). (يس / ٧٢)

وحيناً يقول : (سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنينَ). (الزخرف / ١٣)

٣٤٢

وقد أشار الإمام الصادق عليه‌السلام إلى هذه المسألة في توحيد المفضّل ، فيقول بعد بيان خلق الأنعام : ... «ثُمَّ مُنِعَت الذِّهنَ والعَقلَ لِتَذِلَّ للانسانِ فلا تَمْتَنِعَ عَلَيْهِ إذا كَدَّها الكَدَّ الشّديدَ وحَمَّلَها الحِمْلَ الثَّقيلَ» (١).

وبالطبع أنَّ عدم امتلاكها للعقل جزءٌ من الدليل على تآلفها ، علاوة على هذا أنَّ الله تعالى خَلَقها بشكلٍ تأتلفُ فيه بسرعةٍ وتبقى على هذا الحال إلى الأبد ، بينما نجد أنَّ بعضَ الحيوانات التي تماثلها في الذكاء والعقل (كالذئاب والّنمور) إذا ما ألفت فبمشقّةٍ تكون مؤقتة ، ومع ذلك يجب الحذر منها ، وأحياناً تفترسُ اصحابها إذا ما غفلوا عنها.

٣ ـ ذكاء الحيوانات

لعلَّ اختيار هذا العنوان بعد الذي قيل في البحث السابق يبدو عجباً ومتناقضاً ، والحال أنّه ليس كذلك ، مع أنّ الحيوانات تبدو بلا عقلٍ أو قليلة العقل ، ونحنُ نشبّهُ البُلداء بالبهائم ، إلّا أنّها تبدي ذكاءً ووعياً في بعض المسائل بحيث تبعث على الدهشة.

فقد شاهدَ اغلبُنا قطيعَ الأغنامِ عندما يعود من الصحراء ، فهنالك عدد من الغنم والماعز تعود إلى عائلةٍ ما وبمجرد اقترابها من القريةِ يسلك كلٌّ منها فروع وازقةَ القرية ويتجه نحو بيت صاحبهِ بدونِ أيِّ اختلاف.

كما شاهدنا أنَّ النعجةَ لا تسمح أبداً لغير وليدها أن يرتضع من ثديها ، وعندما تُطلقُ الصغار في ظلمةِ الليل وتدخلُ في القطيع يذهبُ كلٌ منها إلى امه ، فتعرفه وتستعد لإضاعه ، وهذه المعرفة تحصل عن طريق «الشَّم» فقط ، وهذا يعني أنَّ عددَ روائح الأغنام تضاهي عددها ، وكلُّ نعجةٍ تشخصُ رائحةَ صغيرها من بين هذه الروائح!

يقول «غرسي موريسن» في كتاب «سرُّ خلق الإنسان» : (إنَّ اغلبَ الحيوانات تُشخصُ طريقها في الليالي المظلمة ، وتسير بيُسر ، وإذا كانت لاتبصر في الظلمة الحالكة فهي تعرفه من تفاوت الهواء المحيط بالطريق ، ويؤثر النورُ الضعيف جدّاً للأشعة مافوق الحمراء الذي

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٩١ ، توحيد المفضل.

٣٤٣

يشع من سطح الطريق على عيونها).

إنَّ طراز بناء البيت ، وتربية الصغار ، وكيفية مقاومة العدو ، وحتى معالجة نفسها أثناء المرض من الامور العجيبة في الحيوانات ، وشرحُ كلٍّ منها يحتاج إلى بحثٍ مفصَّلٍ.

ذكر أحدُ علماء البيئة ويُدعى «البروفسور هانر منرو» في كتابه في خصوص استعداد بعض الحيوانات لمعالجةِ أمراضها قائلاً :

«اجريت بعض الكشوفات الطبية على علاجاتها ، فمثلاً هناك نوعٌ من الطيور التي تأكل الأسماك ، تتضرر أرجلها أثناء الطيران الجماعي أو الهبوط على الأرض ، بسبب طولها ، فوجدت أنّها على اطلاعٍ تامٍ بالتجبير وعلاج الكسور ، فتذهب إلى ساحل البحر والمناطق الموحلة التي يمتزج طينها مع النورة الخاصة بالتجبير ، وتغمسُ أرجلها بالنورة الرطبة ، ثم تجلس تحت أشعة الشمس كي تَجفَّ النورة ، وتبقى تراقب أرجلها بهذا الحال حتى يلتحم مكانُ الكسرِ تماماً ...

ومن الصدفة أنَّ النّورة التي يستخدمها الأطباء في المستشفيات من نفس هذا النوع الذي يستخدمه هذا الطائر الذي يأكل السمك لعلاج نفسهِ ، لأنَّه لزجٌ ومتماسكٌ جدّاً» (١).

يعتقد العلماء أنَّ معظمَ الحيواناتِ لديها لغةٌ خاصة بها ، وتتفاهم فيما بينها عن طريقها ، فالنمل يتحدث فيما بينه من خلال اللمس ، أو من خلال اصطدام لوامسها ، وتتبادل الرسائل ، وبعضُها تخابُر أثناء حلول الخطر من خلال ضرب ارجلها على باب الخليّة فترسل برقيات بهذه الطريقة إلى بعضها الآخر.

إنَّ اغلبَ الاحياء علاوة على امتلاكها للغةٍ خاصةٍ فهي تملك لغةً عامةً تستطيع من خلالها فهم لغة بعضها البعض الآخر ، فهذه اللغة التي يصدرها الغراب أثناء حصول الخطر حيث يحذِّرُ بقيةَ الحيوانات بصوتٍ خاصٍ كي تبتعد سريعاً عن منطقة الخطر ، ويعتبر الغراب في الواقع بمنزلة جاسوس من جواسيس الغابة!

لقد توصلَ علماء البيئة في دراساتِهم إلى هذه النتيجة وهي أنّ الحشرات تلي الإنسان

__________________

(١) أفضل طرق معرفة الله ، ص ١٩٧.

٣٤٤

في امتلاك جهاز اتصالاتٍ متكاملٍ ، لا سيما التكلم وجهاز اتصالات النحل ، فهو أكثرها عجباً وندرةً (١).

القى عالمُ احياءٍ سويدي محاضرةً تثير الاهتمام في جامعة «لاند» حول لغة النحل وكانت نتيجة هذا التحقيق والتجربة التي أجراها عالم الأحياء هذا بمساعدة الأجهزة وعن طريق المقايسة ، أنّها لغة يمكن فهمُ معناها (٢).

إنَّ عجائب عالم الحيوانات أكثرُ من أن يُؤدى حقُها في كتابٍ واحدٍ أو عشر كتب. والأفضل أن نكتفي بهذا المقدار ونغلق الملف ونقول بكل خضوعٍ وخشوعٍ أمام الحضرة الإلهيّة المقدّسة : (سُبحانَكَ اللهُمَّ وبحَمدِّكَ لا تُحصىَ عَجائِبُ خِلْقَتِكَ وإِنَّكَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ).

* * *

__________________

(١) مجلة الصيد والطبيعة ، العدد ٧٢.

(٢) تربية النحل ، ص ٦٠.

٣٤٥
٣٤٦

٢٠ ـ آياته في خلق اعضاء جسم الإنسان

تمهيد :

من أجل أن يتمكن الإنسان من إقامةٍ الأواصر مع العالم الخارجي فهو يحتاج إلى ادواتٍ مختلفةٍ ، حيث جَهَزه اللهُ بها ، فقد جهّزَهُ بحاسة البصر لرؤية هيئة ولون وكمية ونوعية الموجودات ، وبحاسة السمع من أجل معرفة أنواع الأصوات كما جهّزه بحواس اخرى من أجل الاحساس بالروائح ، البرد والحر ، الخشونة والنعومة و ...

إنَّ بناء هذه الآلات معقَدٌ ودقيقٌ بالقدر الذي يُمكن أن يكون شرح كلٍّ منها موضوعاً لعلمٍ مستقلٍ ، وقد دوِّنت كتبٌ كثيرة بهذا الخصوص حيث تُعتبر في الحقيقةِ مجموعةً من أسرار التوحيد ، ودروس ، وبلاغات ونغمات لمعرفة الله تُردُدها هذه الأعضاء في مسامع روح الإنسان ، فمن غير الممكن أن يتأملَ المرءُ في بناء هذه الأعضاء ولا يخضع اجلالاً امام قدرة وعظمة خالقها ، سواء اعترف بلسانه أم لا.

بهذا التمهيد نُيممُ وجوهنا صوب القرآن الكريم ونتأمل خاشعين في الآيات التالية :

١ ـ (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ والافْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (النحل / ٧٨)

٢ ـ (وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفئِدةَ قَلِيْلاً مَّا تَشْكُرُونَ). (المؤمنون / ٧٨)

٣ ـ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمْعَ وَالأَبصَارَ .... وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ افَلَا تَتَّقُونَ). (يونس / ٣١)

٣٤٧

٤ ـ (أَلَم نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَاناً وشَفَتَيْنِ). (البلد ٨ و ٩)

٥ ـ (قُلْ أَرأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوْبِكُمْ مَّنْ الهٌ غَيْرُ اللهِ يَأتِيْكُمْ بِهِ أنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُوْنَ). (الانعام / ٤٦)

٦ ـ (سَنُرِيْهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّىَ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ). (فصلت / ٥٣)

* * *

شرح المفردات :

«السَّمْع» : تعني في الأصل قوّة السَّمع ، وقد تطلق على الأذن أيضاً ، وقد وَردَ هذا اللفظ بمعنى الاستماع ، واستجابة الدعوة والقبول والتجسس أيضاً ، وإذا ما استخدمت في ما يخص الباري تعالى فهي تعني علمه واطلاعه على المسموعات ، و «اسماع» جمع «سمع» إلّا أنَّ هذا اللفظ لم يُستخدم في القرآن الكريم اطلاقاً ، ولعلّه بسبب أنّ «السمع» تستعملُ في معنى الجمع أيضاً (١).

«بَصَرْ» : وتعني «العين» وتستخدمُ أيضاً بمعنى «قوة النظر» ، ويُستعمل هذا اللفظ في معنى قوة العقل والفهم أيضاً ، فيقال لها «بصر» و «بصيرة» (جمع بصر ، «ابصار» وجمع بصيرة «بصائر»).

إلّاأنَّ لفظ بصيرة لا يُطلقُ على العين أبداً ، بل يُقال لها «بَصَرْ» والعجيب أنَّ لفظ البصير يُطلقُ أحياناً على المكفوفين ، ولكن يظهرُ أنّ هذا الاستعمال ليس بسبب علاقة التضاد ، بل لأنَّ المكفوفين غالباً ما يتميزون بقوة إدراكٍ فائقة ، ويتلافون فقدانهم لقوة البصر بقوة التفكير والبصيرة (٢).

واعتبر بعضُ أرباب اللغة كمؤلف «المصباح» أنَّ المعنى الأصلي لـ «بَصَر» هو النور

__________________

(١) لسان العرب ، المفردات ، مجمع البحرين ، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.

(٢) مفردات الراغب.

٣٤٨

الذي نتمكن من خلاله من رؤية الموجودات ، وفي «المقاييس» ذُكر لها معنيان : الأول الاطلاق على الشيء ، والثاني ضخامة وسمك الشيء ، ولكن يبدو أنَّ المعنى الأول والذي أوردَهُ الراغب في المفردات أيضاً أكثر صواباً وتناسباً مع موارد هذا اللفظ.

و «افئدة» : جمع «فؤاد» من مادة «فَأد» (على وزن وَعد) وتعني في الأصل «الشوي» ، لذا يُقال «فؤاد» للأفكار والعقول الناضجة ، وقد يأتي هذا اللفظ بمعنى القلب ، أو غلاف القلب أيضاً ، وقال بعضهم أيضاً أنَّ هذا اللفظ يطلق على القلب والعقل حينما يكون متنوراً ومشرقاً ، وقال بعضهم إنَ «فؤاد» تعني مركز القلب يُطلقُ على مجموعهِ.

و «العَيْن» : ذات معانٍ كثيرة والمعروف أنَّ لهذا اللفظ سبعين معنىً في لغة العرب.

إلّا أنَّ المعنى الاصلي لـ «العين» هو العضو الخاص بالنظر ، وقد يأتي أيضاً بمعنى قوة البصر.

ولكن لها معانٍ كنائية ومجازية كثيرة برزت على هيئة معانٍ حقيقية نتيجة لكثرة الاستعمال ، فمثلاً يقال للينبوع «عين» لأنَّه يشبه العين ، ويقال للجاسوس والمكلف بالتجسس والاستطلاع «عين» أيضاً ، كما يُطلقُ هذا اللفظ على ذوي المكانة وعلى الشمس والذهب أيضاً لأنَّ الذهبَ من بين الفلزات كالعين بين الأعضاء ، وكذلك «الشمس» بين النجوم ، وكالمرموقين من بين أبناء قومهم ، كما يُطلقُ هذا اللفظ أيضاً على الثروة والمتاع الذي يمكن الاستفادة منه ، وثقب الحلقة ، والبصيرة والاطلاع على الشيء كلٌّ في محلِّه ، وسُمِّيت الحور العين بهذا الاسم لأنّها ذات عيونٍ جميلةٍ وواسعة.

و «اللسان» : تعني عضو التكلُّم ، ووردت أيضاً بمعنى قوة البيان ، وتُطلقُ أيضاً ككنايةٍ على الأشخاص المتكلمين نيابة عن جماعة ما ، كما يُقال لـ «ألْسِنة» (جمع لسان» أيضاً ، ويُستخدم هذا اللفظ بصيغة المذكَّر والمؤنث إلّاأنّه جاء في القرآن الكريم بصيغة المذكر.

و «شَفَة» : على وزن (سَعَة) وتستخدم بصيغة التثنية «شفتان» (١).

ومفهوم «مشافهة» يعني مقابلة الشخص والاستماع إلى شيءٍ ما من شفتيه ، وورد هذا اللفظ بمعنى شاطيء «النهر» وساحل «البحر» لأنَّه شفة له.

__________________

(١) لقد ذكر بعضهم أنَّ اصَلها «شَفْو» (ناقصة الواو) وبعضٌ «شَفَة» لأنّ مصغَّرها «شفيهة» وجمعها «شفاه».

٣٤٩

جمع الآيات وتفسيرها

الدور الحساس لآلات المعرفة :

يقول في الآية الاولى كتعريفٍ بالذات الإلهيّة المقدّسة وبيانٍ لآياته في خلقِ الإنسان : (وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ امَّهاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً).

إنَّ هذا التعبير يُبيِّنُ بجلاء أنَّ صفحة القلب تخلو من جميع المعارف عند الولادة ، إلّاأنّ بعض المفسِّرين قالوا إنَّ المقصود ليس العلم الحضوري للإنسان بذاته ، أو بتعبير آخر إنّ المقصود هو العلم بالأشياء الخارجية ، وذكروا ذلك كشاهدٍ في قوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لَايَعْلَمَ بَعدَ عِلْمٍ شَيْئاً). (النحل / ٧٠)

والانسان في سنِ الشيخوخة يعلمُ بوجوده إلّاانَّه يُحتملُ جهلِ الوليد بوجوده في بداية الولادة وأول ما يُدركه هو وجوده.

ثم يضيفُ : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلكُمْ تَشْكُرُونَ).

لقد جعلَ الله العينَ والاذنَ كي يُدركا المحسوسات ، والعقل لإدراك المعقولات ، وتَطّلعون على العالم الخارجي من خلال وسائل المعرفة الثلاث هذه ، ثمَّ تقومون بشكر هذه النِّعم وتتوجهون قبل كلِّ شيء لمعرفة ذلك الخالق الذي منحكُم وسائل العلم والمعرفة.

ولإدراك أهميّة العين والاذن والعقل يكفي تصور الحالة التي تتمخض عن فقدان أحدهما (فضلاً عن كليهما) ، فما هو حال مكفوف البصر ، أو الأخرس أو المجنون أو جميعهم؟ وكم ينأى عن مواهب هذا العالم العظيم؟ وقبل كلِّ شيءً يفقد موهبة العلم والاطلاع التي هي أفضل المواهب ومقدمةٌ للتَنعُمِ بالمواهب الاخرى.

وقال بعضهم إنَّ المقصود من «شيئاً» في الآية أعلاه هو حق المنعم ، وقال بعض آخر : إنّ المقصود هو مصالحه ، وفسَّرها قسمٌ منهم على أنّها السعادة والشقاء ، أو الميثاق الإلهي في يوم : «ألستُ بربِّكم» ، إلّاأنّ اطلاقَ الآية ينفي كلَّ اشكال التقييد فتشمل كلَّ شيء.

وهنا لماذا تقدَّمَ «السَّمع» على «الأبصار»؟ فلعل ذلك يرجعُ إلى استخدام الاذن قبل العين ، لأنَّ العينَ لم تكن لديها القابلية على الرؤية في محيط رحم الام الذي يسودُه ظلامٌ

٣٥٠

مطبقٌ ، وتكون حساسة جدّاً ازاء النور إلى حينٍ بعد الولادة ، لذلك فهي غالباً ما تكون مغمضة ، حتى تستعد تدريجاً لمواجهة النور ، إلّاأنَّ الاذن ليست كذلك فباعتقاد بعضهم أنّها تسمعُ الأصوات في عالم الجنين أيضاً ، وتتعرفُ على انغامِ قلب الأُم!.

بالاضافة إلى أنَّ الاذن تعتبرُ وسيلةً لسماع رسالة الوحي الإلهي الذي هو أشرف المسموعات ، وكذلك وسيلة عامة لنقل العلوم من جيلٍ إلى جيلٍ آخر ، بينما ليست العينُ كذلك ، لا شكَّ أنَّ القراءة والكتابة وسيلةً لنقل العلوم إلّاأنّها ليست عامة وشاملة.

وجعلُ (الافئدة) وراءهما واضحُ الدليل أيضاً ، لأنَّ البَشر ينقلون المشاهدات والمسموعات إلى العقل ، ومن ثمَّ يقوم بتحليلها وتفكيكها وينتقي منها معلومات حديثة ويكتشف القوانين العامة للعالم (١).

* * *

وفي الآية الثانية يتابع الحقيقة التي وردت في الآية الآنفة ، وأشار إلى مسألة خلق الاذن والعين والقلب ، من أجل معرفة الله ، مثيراً في الإنسان الشعور بالشكر الذي هو السُلَّم لمعرفة الله تعالى ، مع هذا الاختلاف حيث يُعبَرُ عن خلق هذه الأعضاء بتعبير «انشاء» وفي الختام يوجِّهُ اللومّ والتأنيب لُاولئك الذين قليلاً ما يشكرون الله ، فيقول : (وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيْلاً مَّا تَشْكُروُنَ).

و «الإنشاء» : كما يقول الراغب تعني في الأصل إيجاد الشيء وانمائهِ ، ولهذا يقال «ناشئة» للشباب.

إنَّ التعبير بإنشاء غالباً ما يخص الحيوانات ، بالرغم من استخدامها أحياناً في غير هذا المورد مثل : (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ). (الواقعة / ٧٢)

ومن الممكن أن يكون هذا التعبير في الآية أعلاه إشارة إلى المسيرة التكاملية للعين

__________________

(١) إنَّ «سمع» تُطلقُ على المفرد والجمع ، بالرغم من أنَّهم يجمعونها بصيغة «اسماع» أيضاً.

٣٥١

والاذن والعقل خلال مرحلة الجنين ثم في مرحلة الطفولة ، حيث أَوْجَدَها الباري تعالى ثم يقوم بتربيتها.

* * *

ويقول في الآية الثالثة «كاستفهام تقريري» من المشركين الذين انفصلوا عن الله وضلِّوا في وادي عبودية الأوثان : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَملِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ).

منَ المسلَّم به أنَّ الأرزاق التي يحصل عليها الإنسان إمّا أنْ تكون من السماء (كالامطار والهواء وضوء الشمس) أو من الأرض (كالنباتات والأشجار والمعادن المختلفة) فكذلك العلوم والمعارف فغالباً ما يحصل عليها الإنسان عن طريق العين والاذن ، لأنَّ هاتين الحاستين المهمتين تُعتبران وسيلةَ اتصالِ الإنسان بالعالم الخارجي ، وكلُّ هذه الأرزاق الماديّة والمعنوية من الله تبارك وتعالى.

واللطيف أنّه عبَّر هنا بتعبير المالكية ، وبِما أنَّ المالكية هنا تكوينية فانها لن تنفصل عن مسألة «الخلق» وفي الحقيقة أصبح هذا التعبير من لوازمه ، وكذلك لن تكون منفصلةً عن مسألة «تدبير الامور» لذا يقول مستفسراً في نهاية الآية : (ومَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ) (١).

فيضيف مباشرة : «أنّهم وبالهام من وحي فطرتهم يقولون بسرعةٍ : إنَّ الله هو مالك وخالق ومدِّبرُ هذه الامور» (فَسَيَقُوْلُونَ اللهُ).

(فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ).

أي ترك عبادة الأوثان والتوجه إلى غير الله ، والابتعاد عن الذنوب والظلم.

* * *

__________________

(١) قالَ بعض ارباب اللغة إنّ «ملِك» (بفتح الميم وكسر اللام ، تعني مَنْ يتصرف بعامةِ الناس من خلال أمره ونهيهِ وهذا يستلزم السلطة والاقتدار والتدبير).

٣٥٢

ويقول في الآية الرابعة ضمن إشارته إلى جانب من نِعَمِ اللهِ على الإنسان لتحريك الاحساس بالشكر الذي هو مقدمة لـ «معرفة الله» : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ).

العينان اللتان يتمكن من خلالهما أنْ يرى عالم الوجود ، وأن يشاهد عجائب الخلق ، وأن ينظر إلى الشمس والقمر والنجوم وأنواع النباتات وأنواع الموجودات الحيّة والحيوانات ، وأنْ يتفرجَ على عجائب صُنعِ الله ، وأن يُميزَ الخير من الشر ، ويُشَخصَ الصديقَ من العدو ، وأن ينقذَ نفسَهُ من مخالب الحوادث.

ثم يضيف «(وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ).

اللسان الذي يُمثلُ وسيلةَ اتصالهِ بالآخرين ، اللسان الذي يعتبرُ عاملاً في نقل العلوم والمعارف من جيل إلى آخر ومن قومٍ إلى آخرين ، اللسان الذي يردد ما يحتاجه ، وبه يدعو ويتوسل إلى المعبود جلَّ وعلا ، وهو الذي ينطق عن جميع ذرات وجوده.

وكذلك الشفاه التي تلعبُ دوراً مهماً في النطق ، وتتحمَّلُ مسؤولية تلفظ كثير من مخارج الحروف (١) بالاضافة إلى مساعدتها في شرب الماء واكل الطعام وهضمه والحفاظ على سوائل الفم ، بنحوٍ لو جُدعَ جانبٌ من الشفة فلن تصبح هذه الامور صعبةً بالنسبة للإنسان فحسب ، بل وسيكون منظرهُ وصورته باعثاً على الحسرة.

واللطيف أنّ القرآن يتحدث بعد هاتين الآيتين عن هداية الإنسان إلى الخير و «الشر» ، قائلاً : (وَهَدَيْناهُ النَّجدَيْنِ).

إنَّ هذا التعبير البليغ يشيرُ إلى علاقة العين واللسان والشفاه بمسألة الهداية ومعرفة الخير والشر ، لأنّها تُعتبر آلاتٍ لهذا الهدف العظيم.

* * *

وفي الآية الخامسة يُلفتُ الانتباه إلى الحالة التي تحصل لدى الإنسان بسبب فقدانهِ

__________________

(١) وهذه أربعة حروف بالعربية (ب ـ ف ـ م ـ و) وهي (حروف شفهية) بكثرة وفقدان الشفة يؤدّي إلى أن يفقدالمرء قدرة التكلم إلى حدٍ ما.

٣٥٣

للاذنِ والعين والعقل ، فيقول : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيْكُمْ بِهِ) (١).

ثم يضيف في نهاية الآية : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) (٢).

وفي الحقيقةِ أنَّ القرآن يريد أن يقول : إنَّ آلات المعرفة المهمّة تلك ليست ملكاً لكم لأنّها لو كانت كذلك لما سُلبت منكم فليس بالقليل اولئك الذين فقدوا نعمة السمع والبصر والعقل نتيجة لتأثير عوامل مختلفة ، اذن فهي ملك لخالقٍ آخر ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى ، بما أنَّ الأشياء تعرف باضدادها فانَّ القرآن يريد أن يلفتَ نظرَ الإنسان إلى عظمة الخالق وواهب هذه النعم ، من خلال تذكيره بالوضع المؤلم الذي يطرأ للإنسان بسبب فقدان هذه النِّعم التي لا مثيل لها ، ويرشده عن هذا الطريق ويُحفزهُ إلى الخضوع أمام عظمته تعالى.

ويمكن أن يكون التعبير ب «أخذ» الاذن والعين بمعنى أخذ هذه الاعضاء ، أو أخذ قوة السمع والبصر أو كليهما.

* * *

وفي الآية الأخيرة من البحث التي تعتبر من آيات التوحيد ومعرفة الله يُسلطُ الانظارَ على آياته قاطبةً في عالم الخلق بأسرِه ، فيقول : (سَنُرِيْهِمْ آياتِنَا فِى الآفاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

«آفاق» : جمع «افُق» وتعني الأطراف ، وعليه فانَ «آفاق الأرض» تعني أطراف

__________________

(١) لقد فسَّر المفسِّرون جملة «أرأيتُم» وكذلك «أرأيتُكُم» بمعنى اخبروني أو «هل علمتُم» ولكن باعتقاد بعض المحققين فانَّ هذه الجُمل تتسامح مع المعنى الأصلي فمثلاً جملة (أرأيتم) بمعنى (هل شاهدتم) ، ولكن حيث تكون المشاهدة في مثل هذه الموارد للعلم والأخبار فقد فسِّرت بلازم المعنى ، وعلى ايةِ حالٍ فإنّ الغاية من ذكر هذه الجُمل هو التذكير والتأكيد على دقةِ المخاطب ، ولو أردنا أن نفسِّرها بلازم المعنى فيمكننا القول بانَّ هذا هو مفهومها.

(٢) «نصِّرف» من مادة «تصريف» وتعني التغيير ، وتعني هنا ذكرُ حقيقة ما بلباس وبيان مختلف ، و «يصدفون» من مادة «صَدَف» (على وزن هدف) وتعني هنا الإعراض.

٣٥٤

الأرض ، و «آفاق السماء» تعني أطراف السماء ، وبما أنّها ذُكرت في آية البحث بشكلٍ مطلق ، فهي تشمل كل الأطراف شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.

و «أَنْفُس» : لها هنا معنىً واسع حيث تتضمن الروح والجسم أيضاً ، وجميع اعضاء الجسم التي هي موضوع بحثنا.

وهنا إلى من يعود الضمير في «أَنَّهُ الحَقُّ»؟ قال بعض المفسِّرين : المقصود هو القرآن ، والمقصود من آيات الآفاق الانتصارات التي حققها المسلمون في أطراف العالم ، والمقصود من آيات الانفس ، انتصاراتُهم في بلاد العرب أي اننا نُريهم الانتصارات في أطراف العالم وفي بلاد العرب كي يعلموا أنَّ القرآن حقٌ.

وقال بعضهم : المقصود هو «رسول الله» صلى‌الله‌عليه‌وآله أو دينه ، حيث لا يتفاوت كثيراً مع التفسير الأول.

لكن الظاهر هو (كما فهمهُ عددٌ من المفسِّرين) أنَّ المقصود هو الله ، أي أننا نُريهم آيات الآفاق والأنفس كي يتجلّى لهم أنَّ الله هو الحق.

يُعدّ التعبير بـ «آياتٍ» من جانبٍ ، والتعبير بـ «الآفاق والانفس» من جانبٍ آخر بالإضافة إلى الآية التي تليها والتي تتحدث عن التوحيد شواهد على هذا التفسير ، علماً أنَّ هذه الآية تتوافق مع عدة آيات في القرآن الكريم التي تعرضُ آياتِ الله في عرضِ الخلق ووجود الإنسان ، مثل : (وَفِى الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِيْنَ* وَفِى أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). (الذاريات / ٢٠ ـ ٢١)

وقد ذُكر هذا المعنى أيضاً في تفسير على بن إبراهيم ، على الرغم من أنَّ بعض الروايات ذكرت أنَّ ضمير ، (أنّه) يقصُد به الإمام المهدي «عج» ولكن الظاهر أنّه تفسيرٌ لبطون الآيات (والجمع بين التفاسير ممكن أيضاً) ، على أيةِ حالٍ ... ففي أيٍّ منها تمعنّا نرى من خلاله آثار علمه وقدرته تعالى ، وكلُّ نباتٍ ينبتُ من الأرض ينطق بنفسه ب «لا شريك له» و «قلب كلِّ ذرة نفتحهُ ـ نرى شمسَهُ في وسطهِ».

والتعبير بـ «سنُريهم» (نظراً لأنَّ الفعل المضارع في مثل هذه الموارد يعني الاستمرارية)

٣٥٥

يُعتبر إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي أنَّ كلَّ يومٍ يمُرُّ من عمر الإنسان تنكشفُ له حقائق جديدة عن هذا العالم ، وتتجلى أسرارٌ خافية ، ففي كلِّ يومٍ يتوصل العلماء في مختبراتهم ومكتباتهم إلى اكتشافٍ حديث ، وتتضح آيات جديدة من آيات الله ، ومن المسلَّم به أنَّ هذه المسألة ستستمر حتى لو انقضت ملايين السنين من عمر الخليقةِ ، فكم هو عجيب عالَم الخلق الواسع ، وكم عظيم خالقُه؟

ومِنْ ثمَّ فاننا لا نعلمُ شيئاً عن مليارات السنين السابقة وما تلاها ، وليس لدينا أدنى اطلاع عن هذا الكتاب العتيق الذي فُقد فصلاه (الأول والأخير) وكلُ ما نعلمُه هو نزرٌ يسيرٌ يتعلقُ بجانبٍ من هذا العالم الواسع وفصل من هذا الكتاب الكبير : «العظمة لله الواحد القهار».

نستنتجُ من مجموع ما مضى من الآيات أنَّ كلَّ عضوٍ من اعضاء جسمِ الإنسان ، بل كلَّ جزءٍ منها ، يعتبرُ مرآةً واضحةً للحق تعالى ، وآيةً مستقلةً وجليةً من علم وقدرةِ وحكمة وتدبير خالق الكون.

* * *

توضيحان

١ ـ عجائب أعضاء الجسم

لو لم يكن في كلِّ الكَونِ موجودٌ سوى الإنسان ، ولم يكن في جميع كيان هذا الإنسان شىءٌ سوى عينٍ أو أُذُنٍ واحدة ، لصار ذلك سبباً لمعرفة الذات الإلهيّة المقدّسة وعلمهِ وقدرته ، لأنَّ بناءها دقيق ومعقّدٌ ومحبوكٌ بقدر لا يصدقُ أيُّ عقلٍ أنّها مِنْ صنعِ الصدفةِ أو الطبيعةِ العمياء والصمّاء ، بل نواجه في كلِّ مرحلةٍ من دراستها ، آيةً جديدةً من علم وقدرة ذلك الصانعِ الحكيم.

فمن بين مئات الخصائص ومن خلال الدقّة في حاسة البصر ، أي العين ، يكفينا ذكر المواضع الآتية كي نعرف الغرابة المذهلة في هذا العضو :

٣٥٦

١ ـ العدسة المتغيِّرة : من المعروف أنَّ العينَ تُشبَّهُ بآلة التصوير ، بينما لا تصل أحدث آلات التصوير في العالم انْ تكون كأُلعوبةٍ أمام عين الإنسان ، لأنّها تحتوي على عدسة ثابتةٍ ، حيث يجب أنْ تُنظَّمَ وتُدارَ مِنْ قبل مصورٍ باستمرار من أجل التقاط الصور من عدة جهات ، إلّاأنَّ عدسةَ العينِ الواقعة خلف إنسان العين مباشرة ، تتغير دائماً بشكلٍ آلي ، فقد يتقلص قطرها أحياناً فيبلغ ٥ / ١ ملميتر وأحياناً يتّسع حيث يبلغ ٨ ملمترات فيسمح لها بالتقاط الصور من مناظر بعيدة وقريبةٍ جدّاً.

٢ ـ طبقات العين السبع : إنَّ العينَ تتألفَ أساساً من سبعةِ حجُب أو سبع طبقات وتُسمى «الصلبية» و «العِنَبية» و «المشيمية» و «الجليدية» و «الزُلالية» و «الزُّجاجية» و «الشَبكيّة» ، حيث لكل منها بناؤها الخاص بها وواجبها الذي تتحمله ، وشرحها يجرُّنا إلى الاطالة ، فيكفينا أن نعلمَ أنَّ اقَلَّ اختلاف فيها يؤدّي إلى اختلال النظر ، طبعاً تكمنُ خلف «الشبكية» أعصاب بصرية تنقل الصور التي تقع على الشبكية إلى الدماغ.

٣ ـ الحساسية ازاء الضوء : إنَّ تنظيم النور بالنسبة للمصورين يعتبر عملاً شاقاً ، وكثيراً ما تُكلَّفُ مجموعةٌ متخصصة بهذا العمل ، بينما تستطيع العين من خلال تغيير حساسيتها ازاء شدة الضوء أن تلتقط الصورَ من مناظر مختلفةٍ وفي نورٍ ضعيفٍ أو قويٍّ جدّاً.

٤ ـ الحركة المستمرة : إنَّ المصوّرين يديرون اجهزتهم باستمرار نحو اليمين واليسار وإلى الأعلى والأسفل ، ويستخدمون مختلف الآلات لهذا العمل ، بينما نجد أنَّ العضلات التي تحيط بكرة العين تُدير هذا الجهاز بحركةٍ خاطفة إلى الجهات الأربع بشكلٍ كاملٍ ، وتضاعف قدرة المناورة لديها للتصوير في جميع الجهات.

٥ ـ المركبات البسيطة والدقيقة : فمن أجل إعداد أجهزة التصوير يستفادُ من أقوى العدسات والفلزات ، بينما تم صنعُ العين من مواد لطيفةٍ وفي نفس الوقت قد تستمر في العمل مائة عامٍ لأنّها جهاز حي يستطيع بناء نفسه وتجديد قواه باستمرار ، بينما تعتبر الأجهزة التي يصنعها البشر اجهزةً ميتة!

٦ ـ اعداد شريط التصوير : يعتبر اعداد شريط التصوير بالنسبة لاجهزة التصوير عملاً

٣٥٧

صعباً ويجب استعمال حلقاتٍ متباينة باستمرار من أجل التصوير ، بينما تصوِّرُ شبكيةُ العين ذاتياً على الدوام ، وبعد انتقاله وحفظِه في الدماغ يُمحا وتستعد لتصوير منظرٍ آخر ، ويُنجزُ هذا العمل بسرعةٍ عجيبةٍ ومدهشةٍ للغاية ، علماً أنَّ مسألة اخراج شريط التصوير التي تعتبر عملاً شاقاً ومستهلكاً للوقت لم تُطرح هنا.

٧ ـ الأجهزة الجانبية : من أجل أنْ تقومَ العين بانجاز واجباتها فقد جُهزت بالكثير من اللوازم التي يعتبر كلٌ منها مدهشاً أيضاً.

إنَّ وجودَ الغدد «الفوّارة» التي تَصبُّ السائل الخاص والشفّاف بشكلٍ دائمٍ في العين ، ويَسمح للاجفان أن تتحرك فوق فص العين بدونِ أقَّل تماسٍ خشنٍ ، وتسوق فضلات الماء الموجودة في أسفلها إلى الخارج ، فينحدر إلى بؤبؤ العين ، وللأجفان ردود فعل سريعةمقابل الحوادث المختلفة حيث تحافظ على العين من الصدمات ، وهجوم التراب والغبار ، أو الضوء الشديد ، وبناء «الأهداب» التي هي بمنزلة ستائر تسمح للعين بالاستنارة قليلاً مع كون العين مفتوحة وتحفظها من دخول الغبار والتراب ، واستقرار العين في صندوقٍ عظمي قويٍّ جدّاً كالقلعةِ المنيعة ، ووضع هذا الصندوق في مكانٍ مرتفعٍ من الجسم حيث يسمح لها أن ترى جوانبها كالراصد الذي يتمركز في المرصد ، ووجود الحواجب التي تُمثلُ درعاً لحمايتها ، وامور جمَّة اخرى حيث لكلٍّ منها قصةٌ لطيفةٌ ومدهشةٌ وغنية بالمعاني.

لو جمعنا كلَّ هذه الامور وتمعّنا فيها قليلاً فمن المسلَّم به اننا سنذعنُ أنَّ صانعَ العين كانَ مطلعاً على جميع الأنظمة المتعلقة بالعدسات ، وانعكاس الضوء ، ومسائل اخرى معقّدة من هذا القبيل ، وخلقَ مثل هذا الموجود العجيب بعلمه وقدرته الأزلية.

* * *

٢ ـ اللسان ، هذا العضو المحترف!

إنّ من بين الأعضاء التي تمت الإشارة إليها في الآيات المذكورة هو اللسان ، الذي يعتبر بحقٍ من عجائب خلق الله ، ولو كان لهذا اللسان لسانُ ينطقُ عنه ، لشَرحَ لنا ما فيه من

٣٥٨

عجائب ، حينها يتضح لنا لماذا استند إليه القرآن الكريم.

لو القينا نظرةً قصيرةً على واجبات ومسؤوليات اللسان ، لاظهرت لنا جانباً من هذه الحقائق ، وإجمالاً فلّلسان ستة واجبات أساسية هي :

١ ـ دور اللسان في هضم الطعام : لولا اللسان لما تمت عملية هضم الغذاء بشكل كامل ، ولبقي قسم من الغذاء غير مهضوم ، وسوف نضطر إلى تحريك الأكل باصابعنا لتتم عملية مضغه بواسطة الأسنان فاللسان يُقلب الطعام باستمرار من ثلاث جهات بين الأسنان بحركاته السريعة الماهرة ، دون أنْ يبقى في وسطها! أجل قد يصيبُهُ التعبُ والعجزُ أحياناً فتَقتنصه الأسنان فيُصاب بشدّة ، وكأنَّ الله يريد أنّ يثبت لنا بأنّ اللسان لو لم يمنح تلك المهارة الفائقة لتكرر هذا المشهد يومياً ولتعرض اللسان للجرح دائماً.

٢ ـ خلط الطعام بلعاب الفم : اللعاب هو ذلك السائل اللزج الذي يعمل على ترقيق وانزلاق الطعام وإعداده للبلع ، من جهة ، ومن جهة اخرى يجري عليه تفاعلات كيميائية خاصة ، ويُعدّه للبلع والهضم ، فاللسان هو الذي يتكفل بمسؤولية مزجه بهذا السائل الحيوي.

٣ ـ المساعدة في ابتلاع الطعام والماء : إنَّ اللسانَ يلعبُ دوراً أساسياً في نفوذ الطعام والماء ، فبالتجمُّع والالتصاق بسقف الفم والضغط على الماء والطعام يدفعه سريعاً نحو البلعوم ، ولو اصيب بشلل ليومٍ واحدٍ على سبيل المثال لتعسَّر ابتلاعُ لقمةٍ واحدةٍ ولعله يصبح مستحيلاً.

٤ ـ السيطرة على المواد الغذائية : يستطيع اللسان ـ وبسبب قوة التذوق الشديدة فيه ـ أن يشخص الكثير من المواد الضارة والسامة للجسم ، ويقذفها خارجاً ، ولولا دور اللسان في السيطرة الماهرة على باب الدخول إلى الجسم لأُصيبَ الإنسان بالأمراض بسرعة نتيجة لأكلهِ الأطعمة المضرّة ، ولأصبح عرضة للأخطار ، فالطعام المُر والمالح ، أو المتَبَّل ، أو الفاسد والمتعفن يميزه اللسانُ أولاً ، فيمنَعه من الورود إلى الجسم ، أجل ـ هذا الحارس الغذائي مكلَّفٌ بالسيطرة على جميع المأكولات والمشروبات ليلاً ونهاراً.

٣٥٩

٥ ـ تنظيف الفم : لابدّ أنّكم قد تفحصتم يوماً أنَّ الفم واللسان ينشغلانِ بالحركة بعد الانتهاء من الطعام ، فهذه الحركة هي لتحريك وإزالة بقايا الطعام حيث تُجمع في فضاء الفم ثمَّ تُرسَلُ إلى القناة الهضمية ، وهذا العمل يتحملُه اللسان بشكلٍ أساسي وحتى انَّهُ ينظفُ الأسنان إلى حدٍ ما ، وخلاصة الأمر : يعتبر اللسان منظفاً ماهراً للفم.

٦ ـ النُطق : وأخيراً فانَّ أهمَّ وادقَّ واجبٍ للّسان هو البيان الذي استند إليه القرآن لا سيما فى بداية سورة الرحمن لتعريف الله قائلاً : (الرَّحمَنُ عَلَّمَ الْقُرآنَ خَلَقَ الانْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ). ومع أنَّ النطق يعتبر أمراً بسيطاً بسبب كثرة ممارسته ، إلّاأنّه يعتبر في الحقيقة من أكثر الأعمال تعقيداً حيث ينجزه الإنسان بـ «لسانه» و «عقله».

فيجب أن يختار أولاً الكلمة المناسبة من بين عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من الكلمات وأحياناً أكثر من هذا العدد ، ثم يصدر الأوامر إلى اللسان أن يتحرك على مقاطع الحروف بحركاته الملتوية السريعة الماهرة ، وأن يُركِّبَ الحروف المطلوبة بمساعدة الرئة والحنجرة والأوتار الصوتية ويربطها فيما بينها وأن يكوِّنَ كلمةً واحدة ، ثم يختار الكلمة الثانية بنفس السرعة ، ويولدُ أصواتاً معينة ، ويستمر هكذا حتى تكتمل الجملة ، ولو اخطأ الذهنُ قليلاً في اختيار الكلمات فانّه يقصر عن استيعاب المعنى ولو حدث أدنى خطأ في حركات اللسان السريعة في فضاء الفم لما كانت هناك جملة واحدة مفيدة.

تأمّلوا الآن متكلماً يتحدث باتزانٍ وفصاحة وبلاغة ساعة كاملة ، لقد أدار لسانه في أطراف الفم آلاف المرّات واستند إلى مقاطع الحروف تماماً وذلك في محيط صغيرٍ تتقلص إمكانية المناورة فيه كثيراً فأيُّ عملٍ عجيبٍ واعجازيٍّ يؤدّيه؟ وهذا ليسَ إلّاعرضٌ لقدرة الخالق العظيم.

ومن المسلم به أنّ الشفاه تُكمِّلُ عمل اللسان ، وتقوم بتكوين بعض الحروف ، وهذا التنسيق بين هذين العضوين يمثل عملاً لطيفاً ومدهشاً وأهم منهُ العمل الفكري الذي يلازمه.

* * *

٣٦٠