محمد بن الحسن الحرّ العاملي [ العلامة الشيخ حرّ العاملي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٣
ISBN: 964-5503-30-2
ISBN الدورة:
الصفحات: ٥٥٢
الفائدة الثامنة
[ تفصيل القرائن المعتبرة الدالة على ثبوت الخبر ]
في تفصيل بعض القرائن التي تقترن بالخبر.
قد صرح جمع من المحققين من علمائنا أن القرينة هنا هي : ما ينفكّ عنه الخبر ، وله دخل في ثبوته ، وأما ما لا ينفكّ عنه فليس بقرينة ، ككون المخبر إنسانا أو ناطقا أو نحوهما.
والقرائن المتعبرة أقسام :
بعضها يدل على ثبوت الخبر عنهم عليهمالسلام.
وبعضها على صحة مضمونه ، وإن احتمل كونه موضوعا.
وبعضها على ترجيحه على معارضه.
ونحن نذكر هنا أنواعا :
منها : كون الراوي ثقة ، يؤمن منه الكذب ، عادة.
وذلك قرينة واضحة على صحة الحديث ، بمعنى ثبوته.
وكثيرا ما يحصل العلم بذلك ، حتى لا يبقى شك أصلا ، وإن كان ثقة فاسد المذهب ، كما صرح به الشيخ وغيره.
خصوصا إذا انضم إلى ذلك جلالته في العلم والفضل والصلاح ، وقد صرح بذلك صاحب المدارك ، كما يأتي نقله.
وهذا أمر وجداني يساعده الأحاديث المتواترة في الأمر بالعمل بخبر الثقة ، والنهي عن العمل بالظن.
ومعلوم أن النسبة ـ بين الثقة والعدل ـ العموم والخصوص من وجهٍ ، كما ذكره الشيهد الثاني في بعض مؤلّفاته ، في بحث استبراء الجارية.
والأحاديث المشار إليها عامة مطلقة فيما يرويه الثقة ويحكم بصحته ، سواء رواه مرسلا ، أم مسندا : عن ثقة أو ضعيف ، أو مجهول.
ومنها : كون الحديث موجودا في كتاب من كتب الأصول المجمع عليها ، أو في كتاب أحد الثقات :
لما أشرنا إليه من النصوص المتواترة ، وقد عرفت بعضها في القضاء (١).
ولا يخفى : أن إثبات الحديث في الكتاب يقتضي زيادة الاعتماد.
ومن المعلوم ـ قطعا ـ أن الكتب التي أمروا عليهمالسلام بالعمل بها كان كثير من رواتها ضعفاء ومجاهيل ، وكثير منها مراسيل.
وقد علم بالتتبع والنقل الصريح : أنهم ما كانوا يثبتون حديثا في كتاب معتمد حتى يثبت عندهم صحة نقله ، وقد نصوا على استثناء أحاديث خاصة من بعض الكتب ، وهو قرينة على ما قلنا.
وكون الحديث مأخوذا من الكتب المشار إليها يعلم بالتصريح ، وبقرائن ظاهرة في ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) و ( الفقيه ) وغيرها ، كما عرفت.
ومنها : كون الحديث موجودا في الكتب الأربعة ، ونحوها ، من الكتب المتواترة اتفاقا ، المشهود لها بالصحة.
__________________
(١) كتاب القضاء أبواب صفات القاضي ، الباب (٨) باب وجوب العمل بأحاديث النبي والأئمة ( ع ) المنقولة في الكتاب المعتمدة.
ومنها : كونه منقولا من كتاب أحد من أصحاب الإجماع :
ويعلم ذلك بالتتبع والقرائن وتصريح الشيخ وغيره ، كما مر.
ومنها : كون بعض رواته من أصحاب الإجماع ، وقد صح عنه ، مطلقا ، بمعنى أنه ثبت نقله له أعم من أن يكون مرسلا أو مسندا ، عن ثقة ، أوضعيف ، أو مجهول :
لما تقدم من ذلك الإجماع الشريف ، الذي قد علم دخول المعصوم فيه (١).
ومنها : كونه من روايات بعض الجماعة الذين وثقهم الأئمة عليهمالسلام ، وأمروا بالرجوع إليهم ، والعمل برواياتهم.
ومنها : كونه موافقا للقرآن.
لما عرفت في القضاء من النص المتعدد (٢).
والمراد : الآيات الواضحة الدلالة ، أو المعلوم تفسيرها عنهم عليهمالسلام.
ومنها : كونه موافقا للسنة المعلومة الثابتة :
لما مر أيضا (٣).
ومنها : كونه مكررا في كتب متعددة معتمدة :
وقد عرفت أن وجوده في كتاب واحد معتمد قرينة منصوصة نصا متواترا ، فكيف إذا وجدَ في كتب متعددة؟
وهذه القرينة موجودة في أحاديث هذا الكتاب كثيرا ، كما عرفت.
والذي لم نذكره من تكررها في الكتب أكثر مما ذكرناه ، لأن أكثرها أو كلها مروية في كتب كثيرة جدا ، قد نبهنا على بعضها ، وتركنا الباقي اختصاراً.
__________________
(١) تقدم في الفائدة السابعة ( ص ٢٢١ وما بعدها ).
(٢) كتاب القضاء ، ابواب صفات القاضي ، الباب (١٣).
(٣) كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب ( ١٤ ).
وخصوصا ( تفسير العياشي ) فإن فيه أحاديث كثيرة جدا لاتحصى عدّاً ، قد نقلناها من غيره ، ولم نشر إلى وجودها فيه ، وكذا ( مناقب ) ابن شهرآشوب ، وكذا ( نوادر ) أحمد بن محمد بن عيسى. وكذا ( روضة الواعظين ). وكذا جملة من الكتب المعتمدة.
ومنها : كونها موافقا للضروريات :
لأنه راجع إلى موافقة النص المتواتر ، لما تقدّم (١).
ومنها : عدم وجود معارض :
فإن ذلك قرينة واضحة.
وقد ذكر الشيخ : إنه يكون مجمعا عليه ، لأنّه لولا ذلك لنقلوا له معارضا ، صرح بذلك في مواضع : منها أول ( الاستبصار ) (٢) ، وقد نقله الشهيد في ( الذكرى ) عن الصدوق في ( المقنع ) وارتضاه (٣).
ومنها : عدم احتماله للتقية :
لما تقدم (٤).
ومنها : تعلقه بالاستحباب مع ثبوت المشروعية :
لما عرفت في مقدمة العبادات من أحاديث : « من بلغه شيء من الثواب » (٥).
__________________
(١) تقدم في الحديث ٨٤ من الباب ٨ من أبواب صفات القاضي.
(٢) الاستبصار ، للطوسي ( ج ١ ص ٤ ).
(٣) الذكرى ، للشهيد ( لاحظ ص ٤ ).
(٤) تقدم في الحديث ١ من الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.
(٥) تقدم في الجزء الاول ( ص ٨٠ ـ ٨٢ ) الباب (١٨) من ابواب مقدمة العبادات من كتاب الطهارة.
ومنها : موافقته للاحتياط :
لما عرفت في القضاء من الأحاديث الكثيرة الدالة على الأمر به (١).
ومنها : اجتماع قرينتين فصاعدا مما ذكر.
ومنها : موافقته لدليل عقلي قطعي :
وهو راجع إلى موافقة النص المتواتر ، لأنه لا ينفك منه أصلا.
ومنها : موافقته لإجماع المسلمين.
ومنها : موافقته لإجماع الإمامية.
لما مر من النص (٢).
ومنها : موافقته للمشهور بين الإمامية :
لما مر (٣).
ومنها : موافقته لفتوى جماعة من علمائهم.
ومنها : كون الراوي غير متهم في تلك الرواية ، لعدم موافقتها لاعتقاده أو غير ذلك :
ومن هذا الباب : رواية العامّة للنُصوص على الأئمة عليهمالسلام ، ومعجزاتهم وفضائلهم ، فإنهم بالنسبة إلى تلك الروايات ثقات ، وبالنسبة إلى غيرها ضعفاء.
والقرائن كثيرة غير ذلك ، يعرفها الماهر في هذا الفن.
وإذا تأملت وجدت كل حديث من أحاديث هذا الكتاب محفوفا بقرائن كثيرة ، وبعضها بأكثرها.
والله الموفق.
__________________
(١) تقدم في كتاب القضاء أبواب صفات القاضي ، الباب ـ (١٢) باب وجوب التوقف والاحتياط.
(٢) مر في الاحاديث ١ ، ١٩ ، ٤٣ من الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.
(٣) مر في الحديث ١ من الباب ٩ من ابواب صفات القاضي.
الفائدة التاسعة
في ذكر الأدلة على صحة أحاديث الكتب المعتمدة ،
تفصيلا
في ذكر الاستدلال على صحة أحاديث الكتب التي نقلنا منها هذا الكتاب وأمثالها ، تفصيلا ، ووجُوب العمل بها فقد عرفت الدليل على ذلك إجمالا (١).
ويظهر من ذلك ضعف الاصطلاح الجديد على تقسيم الحديث إلى صحيح ، وحسن ، وموثق ، وضعيف ، الذي تجدد في زمن العلامة ، وشيخه أحمد ابن طاووس.
__________________
(١) عقد المؤلف ( الفائدة السادسة ) لذكر كلمات العلماء الدالة على التزامهم بصحة الكتب المعتمدة في هذا الكتاب ، وعقد هذه الفائدة التاسعة لجمع الأدلة المستفادة من كلماتهم مع تفصيل أكثر في البحث ، فلاحظ ما تقدم ١٩١ ـ ٢١٨.
ولابد من التنبيه على أن أكثر ما ذكره المؤلف ، من الوجوه المؤيدة لمرامه قد انتقدها المحققون والعلماء ، بردود حاسمه ، كما أن المؤلف الحر العاملي ، نفسه ، قد أبدى توقفه في بعضها ، في نهاية هذه الفائدة ، نفسها.
وبما أنا لم نقصد هنا إلا لتحقيق النص ، فقد أعرضنا عن التعليق عليه بما يلزم ، ولكن نلفت توجه المراجع إلى بعض المصادر المتكفلة لذلك :
١ ـ رسالة الأخبار والأصول ، للشيخ المجدد الوحيد البهبهاني.
٢ ـ وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة ، للحجة المحقق السيد محسن الأعرجي الكاظمي.
٣ ـ نتيجة المقال في علم الرجال ، للشيخ محمد حسن البار فروشي. وأكثر الكتب الرجالية ، تتعرض في مقدمتها لبيان ذلك ، والله الموفق.
والذي يدل على ذلك وجوه :
الأول :
أنا قد علمنا ـ علما قطعيا ، بالتواتر ، والأخبار المحفوفة بالقرائن ـ : أنه قد كان دأب قدمائنا ، وأئمّتنا عليهمالسلام ، في مدة تزيد على ثلاثمائة سنة ، ضبط الأحاديث ، وتدوينها في مجالس الأئمة ، وغيرها.
وكانت همة علمائنا مصروفة ، في تلك المدة الطويلة ، في تأليف ما يحتاج إليه من أحكام الدين ، لتعمل بها الشيعة.
وقد بذلوا أعمارهم في تصحيحها ، وضبطها ، وعرضها على أهل العصمة.
واستمر ذلك إلى زمان الأئمة الثلاثة ، أصحاب الكتب الأربعة ، وبقيت تلك المؤلفات بعدهم ـ أيضاً ـ مدة.
وأنهم نقلوا كتبهم من تلك الكتب ، المعلومة ، المجمع على ثبوتها.
وكثير من تلك الكتب وصلت إلينا.
وقد اعترف بهذا جمع من الأصوليين ، أيضا.
الثاني :
أنا قد علمنا بوجود أصول ، صحيحة ، ثابتة ، كانت مرجع الطائفة المحقة ، يعملون بها ، بأمر الأئمّة.
وأن أصحاب الكتب الأربعة ، وأمثالها ، كانو متمكنين من تمييز الصحيح من غيره ، غاية التمكن.
وأنها كانت متميزة ، غير مشتبهة.
وأنهم كانوا يعلمون : أنه مع التمكن من تحصيل الأحكام الشرعية بالقطع واليقين ـ لايجوز العمل بغيره.
وقد علمنا : أنهم لم يقصروا في ذلك ، ولو قصروا لم يشهدوا بصحه تلك الأحاديث ، بل المعلوم ، من حال أرباب السير ، والتواريخ : أنهم لا ينقلون من كتاب غير معتمد مع تمكنهم من النقل من كتاب معتمد ، فما الظن برئيس المحدثين ، وثقة الإسلام ، ورئيس الطائفة المحقة؟؟؟
ثم لو نقلوا من غيرالكتب المعتمدة ، كيف يجوز ـ عادة ـ أن يشهدوا بصحة تلك الأحاديث؟ ويقولوا : إنها حجة بينهم وبين الله؟ ومع ذلك يكون شهاداتهم باطلة ، ولا ينافي ذلك ثقتهم وجلالتهم؟؟
هذا عجيب ممن يظنه بهم.
الثالث :
أن مقتضى الحكمة الربانية ، وشفقة الرسول والأئمة عليهمالسلام بالشيعة أن لا يضيع من في أصلاب الرجال منهم ، وأن تمهد لهم أصول معتمدة يعملون بها زمن الغيبة.
ومصداق ذلك هو ثبوت الكتب المشار إليها ، وجواز العمل بها.
الرابع :
الأحاديث ، الكثيرة ، الدالة على أنهم أمروا أصحابهم بكتابة ما يسمعونه منهم ، وتأليفه ، والعمل به ، في زمان الحضور والغيبة.
وأنه : « سيأتي زمان لايأنسون فيه إلا بكتبهم ».
وما قد علم ـ بما تقدم ـ من نقل ما في تلك الكتب إلى هذه الكتب المشهورة.
مع أن كثيراً من الكتب التي ألفها ثقات الإمامية ، في زمان الأئمة عليهمالسلام موجودة الآن ، موافقة لما ألفوه في زمان الغيبة.
الخامس :
الأحاديثُ ، الكثيرة ، الدالة على صحة تلك الكتب ، والأمر بالعمل بها.
وما تضمن من أنها عرضت على الأئمة عليهمالسلام ، وسألوا عن حالها ، عموما ، وخصوصا.
وقد تقدم بعضها.
وقد صرح المحقّق ـ فيما تقدم (١) ـ أن كتاب يونس بن عبد الرحمن ، وكتاب الفضل بن شاذان ؛ كانا عنده ، ونقل منهما الأحاديث.
وقد ذكر المحدّثون ، وعلماء الرجال : أنهما عرضا على الأئمة عليهمالسلام ، كما مر.
فما الظن بالأئمة الثلاثة ، أصحاب الكتب الأربعة؟
وقد صرح الصدوق ـ في مواضع ـ : أن كتاب محمد بن الحسن ؛ الصفار ـ المشتمل على مسائله ، وجوابات العسكري عليهالسلام ـ كان عنده ، بخط المعصوم (٢).
وكذلك كتاب عبيد الله بن علي ؛ الحلبيّ ، المعروض على الصادق عليهالسلام.
وغير ذلك.
ثم إنك تراهم ، كثيرا ما يرجحون حديثا مرويا في غير الكتاب المعروض على الحديث المروي فيه! وهل لذلك وجه ، غير جزمهم بثبوت أحاديث الكتابين؟ وأنهما من الأصول المعتمدة؟
__________________
(١) مر في الفائدة السادسة ( ص ٢٠٩ ).
(٢) لاحظ الفقيه ٤ : ١٥١ ب ٩٩ ح ١.
والحاصل : الأحاديثُ المتواترة دالة على وجوب العمل بأحاديث الكتب ، المعتمدة ، ووجوب العمل بأحاديث الثقات.
فإن قلت : هذه الأحاديث من جملة أحاديث الكتب المعتمدة ، ومن جملة روايات الثقات.
فالاستدلال دوري.
قلت : هذه الأحاديث موصوفة بصفات :
منها : كونها موجودةً في الكتب المعتمدة.
ومنها : كونها من روايات الثقات.
ومنها : كونها متواترة.
ومنها : كونها محفوفة بالقرائن القطعية.
ومنها : كونها مفيدة للعلم بقول المعصوم.
إلى غير ذلك.
فيمكن الاستدلال ـ بها باعتبار كل صفة من هذه الصفات ـ على حجية الأقسام الباقية ، فاندفع الدوْر ، لاختلاف الحيثيّات ، والاعتبارات.
أو نستدل بأحاديث كل كتاب على حجية ماسواه من الكتب ، وبرواية كل ثقة على حجية رواية غيره من الثقات.
كما أنا نستدل بنص كل إمام على غيره من الأئمة ، وبإعجاز كل إمام على إمامة نفسه.
وما أجابوا به ـ هناك ـ أجبنا به ، أوبما هو أقوى منه ـ هنا ـ.
مع وجود أدلة أخرى ـ هنا ـ ومقدمات أخرى قطعية.
ثم يقال للمعترض : إنك تستدل بالدليل العقلي على مطالب كثيرة ، منها : حجية الدليل السمعي ، فإن استدللت ـ على حجية الدليل العقلي ـ
بدليل عقلي أو سمعي ؛ لزم الدور.
وما اجبت به ، فهو جوابنا ، وهو ما مر.
السادس :
إن أكثر أحاديثنا كان موجودا في كتب الجماعة ، الذين أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم ، وتصديقهم ، وأمر الأئمة عليهمالسلام بالرجوع إليهم ، والعمل بحديثهم ، ونصوا على توثيقهم ، كما مر.
والقرائن على ذلك كثيرة ، ظاهرة ، يعرفها المحدث ، الماهر.
السابع :
أنه لو لم تكن أحاديث كتبنا مأخوذة من الأصول ، المجمع على صحتها ، والكتب التي أمر الأئمة عليهمالسلام بالعمل بها ، لزم أن يكون أكثر أحاديثنا غير صالح للاعتماد عليها.
والعادة قاضية ببطلانه ، وأن الأئمة عليهمالسلام ، وعلماء الفرقة الناجية لم يتسامحوا ، ولم يتساهلوا في الدين إلى هذه الغاية ، ولم يرضوا بضلال الشيعة إلى يوم القيامة.
الثامن :
أن رئيس الطائفة في كتابي الأخبار ، وغيره من علمائنا ، إلى وقت حدوث الاصطلاح الجديد ، بل بعده ، كثيرا ما يطرحون الأحاديث الصحيحة عند المتأخرين ، ويعملون بأحاديث ضعيفة على اصطلاحهم.
فلولا ما ذكرناه ، لما صدر ذلك منهم ، عادة.
وكثيرا مايعتمدون على طرق ضعيفة ، مع تمكنهم من طرق اخرى صحيحة ، كما صرح به صاحب المنتقى ، وغيره.
وذلك ظاهر في صحة تلك الأحاديث ، بوجوه اُخر من غيراعتبار الأسانيد ، ودال على خلاف الاصطلاح الجديد ، لما يأتي تحقيقه.
وقد قال السيد محمد في ( المدراك ) ـ في بحث الاعتماد على أذان الثقة ـ : نعم ، لو فرض إفادته العلم بدخول الوقت ـ كما قد يتفق كثيرا في أذان الثقه ، الضابط ، الذي يعلم منه الاستظهار في الوقت ، إذا لم يكن هناك مانع من العلم ـ جاز التعويل عليه ، قطعا.
انتهى (١).
وصرح بمثله كثير من علمائنا ، في مواضع كثيرة.
التاسع :
ما تقدم من شهادة الشيخ ، والصدوق ؛ والكليني ، وغيرهم من علمائنا ، بصحة هذه الكتب والأحاديث ، وبكونها منقولة من الأصول ، والكتب المعتمدة.
ونحن نقطع ـ قطعا ، عاديا ، لا شك فيه ـ : أنهم لم يكذبوا ، وانعقاد الإجماع على ذلك إلى زمان العلامة.
والعجب أن هؤلاء المتقدمين ، بل من تأخر عنهم ، كالمحقّق ، والعلامة ، والشهيدين ، وغيرهم : إذا نقل واحد منهم قولا ، عن أبي حنيفة ، أو غيره من علماء العامة ، أو الخاصة ، أو نقل كلاما من كتاب معين ، ورجعنا إلى وجداننا ، نرى أنه قد حصل لنا العلم بصدق دعواه ، وصحة نقله ، لا الظن ، وذلك علم عادي ـ كما نعلم أن الجبل لم ينقلب ذهبا ، والبحر لم ينقلب دما ـ فكيف يحصل العلم من نقله عن غير المعصوم ، ولا يحصل من نقله عن المعصوم غير الظن؟
__________________
(١) المدارك ، للعاملي ( ج ٣ ص ٩٨ ).
مع أنه لا يتسامَحُ ولا يتساهل من له أدنى ورع وصلاح ، في القسم الثاني ، وربما يتساهل في الأول؟
والطرق إلى العلم واليقين كانت كثيرة ، بل بقي منها طرق متعددة ، كما عرفت.
وكل ذلك واضح ، لولا الشبهة والتقليد؟!.
فكيف إذا نقل جماعة كثيرة ، واتفقت شهادتهم على النقل ، والثبوت ، والصحة؟
وقد وجدت هذا المضمون في بعض تحقيقات الشيخ محمد ابن الشيخ حسن ابن الشهيْد الثاني ، بخطه ، قدسسره.
العاشر :
أنا كثيرا ما نقطع ـ في حق كثير من الرواة ـ : أنهم لم يرضوا بالافتراء في رواية الحديث.
والذي لم يعلم ذلك منه ، يعلم أنه طريق إلى رواية أصل الثقة الذي نقل الحديث منه ، والفائدة في ذكره مجرد التبرك باتصال سلسلة المخاطبة اللسانيّة ، ودفع تعيير العامة الشيعة بأن أحاديثهم غير معنعنة ، بل منقولة من أصول قدمائهم!.
الحادي عشر :
أن طريقة القدماء موجبة للعلم مأخوذة عن أهل العصمة لأنهم قد أمروا باتباعها ، وقرروا العمل بها ، فلم ينكروه ، وعمل بها الإمامية في مدة تقارب سبعمائة سنة ، منها ـ في زمان ظهور الأئمة عليهمالسلام ـ قريب من ثلاثمائة سنة.
واصطلاح الجديد ليس كذلك قطعا ، فتعين العمل بطريقة القدماء.
الثاني عشر :
أن طريقة المتقدمين مباينة لطريقة العامة ، والاصطلاح الجديد موافق لاعتقاد العامة ، واصطلاحهم ، بل هو مأخوذ من كتبهم كما هو ظاهر بالتتبع ، وكما يفهم من كلام الشيخ حسن ، وغيره.
وقد أمرنا الأئمة عليهمالسلام باجتناب طريقة العامة.
وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك ، في القضاء في أحاديث ترجيح الحديثين المختلفين ، وغيرها (١).
الثالث عشر :
أن الاصطلاح الجديد يستلزم تخطئة جميع الطائفة المحقّة ، في زمن الأئمة ، وفي زمن الغيبة ، كما ذكره المحقق ، في أصوله ، حيث قال :
أفرط قوم في العمل بخبر الواحد.
إلى أن قال : واقتصر بعض عن هذا الإفراط ، فقالوا : كل سليم السند يعمل به.
وما علم أن الكاذب قد يصدق ، ولم يتفطن أن ذلك طعن في علماء الشيعة ، وقدح في المذهب ، إذ لا مصنّف إلا وهو يعمل بخبر المجروح ، كما يعمل بخبر العدل.
انتهى (٢).
ونحوه كلام الشيخ وغيره في عدة مواضع.
الرابع عشر :
أنه يستلزم ضعف أكثر الأحاديث ، التي قد علم نقلها من الأصول
__________________
(١) تقدم في كتاب القضاء أبواب صفات القاضي الباب (٩).
(٢) المعتبر ( ج ١ ص ٢٩ ).
المجمع عليها ، لأجل ضعف بعض رواتها ، أو جهالتهم ، أو عدم توثيقهم ، فيكون تدوينها عبثا ، بل محرّما ، وشهادتهم بصحتها زورا وكذبا.
ويلزم بطلان الإجماع ، الذي علم دخول المعصوم فيه ـ أيضاً ـ كما تقدم.
واللوازم باطلة ، وكذا الملزوم.
بل يستلزم ضعف الأحاديث كلها ، عند التحقيق ، لأن الصحيح ـ عندهم ـ : « ما رواه العدل ، الإماميّ ، الضابط ، في جميع الطبقات ».
ولم ينصوا على عدالة أحد من الرواة ، إلا نادراً ، وإنما نصوا على التوثيق ، وهو لايستلزم العدالة ، قطعا ، بل بينهما عموم من وجه ، كما صرح به الشهيد الثاني ، وغيره.
ودعوى بعض المتأخرين : أن « الثقة » بمعنى « العدل ، الضابط ».
ممنوعة ، وهو مطالب بدليلها.
وكيف؟ وهم مصرحون بخلافها ، حيث يوثقون من يعتقدون فسقه ، وكفره ، وفساد مذهبه؟!
وإنما المراد بالثقة : من يوثق بخبره ، ويؤمن منه الكذب عادة ، والتتبع شاهد به ، وقد صرح بذلك جماعة من المتقدمين ، والمتأخرين.
ومن معلوم ـ الذي لاريب فيه ، عند منصف ـ : أن الثقة تجامع الفسق ، بل الكفر.
وأصحاب الاصطلاح الجديد قد اشترطوا ـ في الراوي ـ العدالة فيلزم من ذلك ضعف جميع أحاديثنا ، لعدم العلم بعدالة أحد منهم ؛ إلا نادرا.
ففي إحداث هذا الاصطلاح غفلة ، من جهات متعددة ، كما ترى.
وكذلك كون الراوي ضعيفا في الحديث لا يستلزم الفسق ، بل يجتمع