المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

الدرجات بحسب الكمال (١) والنقصان ، ولكنهم بأسرهم مشتركون في كونهم بأسرهم أكمل من جنس الإنس ومعشر البشر في الصفات الثلاث المذكورة ، أعني الاستغناء والعلم والقدرة، فإن الأرواح البشرية [بالنسبة إلى تلك الأرواح كالقطرة بالنسبة إلى البحر ، والشعلة بالنسبة إلى الشمس ، وكما أن الأرواح البشرية] (٢) وإن كانت كثيرة جدا إلا أنه لا بدّ ، وأن يوجد فيهم شخص واحد كالرئيس المطلق لهم في الكمالات الروحانية ، بحيث يكونون محتاجين إليه في الاستكمال ، ويكون هو غنيا عنهم. وكذلك الموجودات الروحانية ، وإن اختلفت درجاتهم وتفاوتت مراتبهم فإنه لا بدّ وأن الموجودات الروحانية ، وإن اختلفت درجاتهم وتفاوتت مراتبهم فإنه لا بد وأن يوجد فيهم موجود هو أكمل من كل الروحانيات في صفة الاستغناء ، والعلم ، والقدرة. ومتى كان الأمر كذلك ، فإنه يكون هو غنيا عن كل الروحانيات ، وكلهم يكونون محتاجين إليه. فقد ثبت أن الجسمانيات محتاجة إلى الروحانيات ، وثبت أن جميع الروحانيات محتاجة إلى ذلك الواحد في جميع الكمالات ، وأنه غنى عنهم في جميع الكمالات ، وعند هذا يظهر أن ذلك الواحد يكون مستوليا على جميع الروحانيات، وعلى جميع الجسمانيات ، وكل من سواه يكون محتاجا إليه في وجوده ، وفي جميع كمالات وجوده. أما هو فإنه يكون غنيا عن كل ما سواه في وجوده ، وفي كل كمالات وجوده. وذلك الموجود هو الله تعالى.

ثم هاهنا يظهر دقيقة شريفة ، وهي أن جميع الأرواح البشرية بالنسبة إلى روح الشخص الذي هو قطب العالم ، كالقطرة بالنسبة إلى البحر ، وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس. ثم ثبت أن أرواح جميع الأقطاب والأولياء والأنبياء بالنسبة إلى الأرواح الملكية القدسية ، كالذرات والهباءات. ثم إن الأرواح الملكية لا تزال متزايدة في الكمال والرفعة والجلال ، حتى تنتهي إلى الأرواح العالية المقدسة.

ثم إن جميع تلك الروحانيات بالنسبة إلى جلال الله ، كالعدم فإنا بينا

__________________

(١) الكمالات والنقصانات (س).

(٢) من (ز).

٢٦١

بالاعتبارات التي نبهنا عليها أنها بأسرها في هذه الصفات ، كما أخبر عنه سبحانه عن هذه الدقيقة. بقوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ ، وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا ، لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ. وَقالَ : صَواباً) (١). وإذا كان الأمر كذلك ، فهذه الأرواح البشرية بالنسبة إلى غنى جلال الله تعالى ، أقل من العدم وأحقر من الذرة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن المحال المحال كونها وافية بمعرفة تليق بكنه صمديته ، وبشكر يليق بأنواع آلائه وكرمه ، وبطاعة تليق بحضرة جلاله ، بل ليس عند البشر إلا الذلة ، والقصور والعجز والمسكنة.

فهذا هو الإشارة إلى هذه الطريقة اللائقة بأصحاب الرياضيات والمكاشفات في معرفة صنوف الروحانيات [والجسمانيات] (٢) ولو خاض الإنسان في شرح هذه التفاصيل لقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ : أَقْلامٌ ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ : سَبْعَةُ أَبْحُرٍ. ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) (٣). وهذا آخر الكلام في تقرير هذه الطريقة ، وهي عند أرباب العقول الصافية من نفائس الأحاديث [وبالله التوفيق] (٤).

واعلم. أن حاصل الكلام من هذه المباحث الطويلة : أن فطر جميع العقلاء شاهدة بوجود الروحانيات وشاهدة بأن الروحانيات أعلى حالا من الجسمانيات وشاهدة بأن الروحانيات مستولية على الجسمانيات ، وشاهدة بأنه كما أن مراتب الجسمانيات متفاوتة بالكمال والنقصان [فكذلك] (٥) مراتب الروحانيات متفاوتة بالكمال والنقصان فيجب أن يحصل في الوجود موجود روحاني هو أعلى وأكمل وأشرف من كل الروحانيات التي هي عالية في الشرف على جميع الجسمانيات (٦). وحينئذ يلزم أن يكون ذلك الموجود أعلى من كل

__________________

(١) النبأ ٣٨.

(٢) من (س).

(٣) لقمان (٢٧).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

٢٦٢

الموجودات وأشرف وأكمل [وبالله التوفيق] (١).

__________________

(١) من (ز).

ونقول هنا :

يتفق المسلمون وأهل الكتاب على أن للعالم إلها حكيما قادرا يعلم ما في السموات وما في الأرض وهو الذي وحده خلق العالم والناس. ويحيي الناس ويميتهم. وهذا الإله ليس كمثله شيء ، ولا يقدر أحد أن يراه من هيبته وجلاله.

١ ـ ففي التوراة يقول الله تعالى في الوصايا العشر : «أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر ، من بيت العبودية ، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» [خروج ٢٠ : ٢ ـ ٣] وفي سفر التثنية : «اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل قوتك» [تثنية ٦ : ٤ ـ ٥].

٢ ـ وفي الإنجيل يصرح عيسى ـ عليه‌السلام ـ بأنه غير ناسخ للتوراة في قوله : «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس» [متى ٥ : ١٧.] وبناء على عدم نسخه للتوراة تكون الوحدانية المنصوص عليها في التوراة ملزمة لأتباعه الزاما تاما.

ويوضح أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ ملتزم بالإله الواحد : هذا النص الذي نذكره من إنجيل مرقس وهو : «فجاء واحد من الكتبة ، وسمعهم يتحاورون. فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله : أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع : إن أول كل الوصايا هي : اسمع يا إسرائيل : الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك. ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها هي تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. فقال له الكاتب : جيدا يا معلم. بالحق قلت. لأنه الله واحد ، وليس آخر سواه» [مرقس ١٢ : ٢٨ ـ ٣٢].

٣ ـ وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص].

والقارئ للتوراة وللإنجيل وللقرآن يجد آيات تدل على صفات أعضاء الله عزوجل ، ويجد آيات تدل على صفات معاني الله عزوجل. ويجد آيات تدل على أن الله تعالى ليس كمثله شيء. والآيات التي تنفي المماثلة هي تنفي أيضا صفات الأعضاء لله عزوجل.

١ ـ ففي التوراة في قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع السحرة. لما لم يستطيعوا إخراج البعوض من أرض مصر : «قال العرافون لفرعون : هذا إصبع الله» [خروج ٨ : ١٩] أي البعوض قد أشتد أذاه بقدرة الله تعالى. وظاهر نص «إصبع الله» يدل على أن الله جسم ، وهو شبيه بالبشر. «وإصبع الله» صفة عضو. فإن الأصابع أعضاء من الجسم. وفي التوراة صفات المعاني اللائقة بجلال الله تعالى ، فيها صفات : القدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والحياة والقدم والبقاء ، وهكذا سائر الصفات التي تدل على أنه ذات مقدسة عن كل نقص ، ومبرأة من كل عيب ، مثل قوله : «الرب إله رحيم ، ورءوف. بطيء الغضب. وكثير الإحسان والوفاء ، حافظ الإحسان إلى ألوف ، غافر الإثم ـ

٢٦٣

__________________

ـ والمعصية والخطية ، ولكنه لن يبرئ إبراء» [خروج ٣٤ : ٦. ٧].

٢ ـ وفي الإنجيل نجد مثل ما في التوراة عن صفات الأعضاء وصفات المعاني. فعن صفات الأعضاء يقول عيسى ـ عليه‌السلام ـ : «لا تحلفوا البتة. لا بالسماء لأنها كرسي الله. ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه» [متى ٥ : ٣٤ ـ ٣٥] فظاهر النص يدل على أن الله تعالى يجلس على كرسي في السماء ، وأن قدميه على الأرض. والجلوس يستلزم الجسمية والقدمان من صفات الأعضاء. وعن صفات المعاني نجد آيات كثيرة تصف الله تعالى كما وصفته التوراة بالقدرة والإرادة .. الخ ومن ذلك قول عيسى ـ عليه‌السلام ـ لله عزوجل أنه أعطاه سلطانا على كل جسد ليعطى حياة أبدية لكل من يريد الله إعطاءه : «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفونك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته أنا مجدتك على الأرض» [يوحنا ١٧ : ٢ ـ ٤] فاعتراف عيسى ـ عليه‌السلام ـ أن الله تعالى قد اعطاه سلطانا يدل على أنه قادر واعترافه بأنه مجد الله وعظمه يدل على أن الله متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص.

٣ ـ وفي القرآن الكريم عن صفات الأعضاء : «يد الله فوق أيديهم» [الفتح ١٠] وعن صفات المعاني : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [النمل ٥١] ففي هذا النص إثبات كامل القدرة وأنه عادل وأنه يعلم ذلك ويشهد على ما حدث منه العالمون بحقائق التاريخ.

والقارئ للتوراة وللإنجيل والقرآن يجد آيات تدل على أن الله تعالى «ليس كمثله شيء» ومعنى أنه «ليس كمثله شيء» أنه ليس جسما. لأن إثبات الجسمية لله تعالى يستلزم الحجم والصورة على حسب التصورات والتخيلات. وإذا تصورنا وتخيلنا على حسب عقولنا سنتصور الله تعالى ونتخيله بما نشاهده في الحياة من مخلوقات خلقها هو. ولأنه تعالى منع من التشبيه إذن لا يكون جسما. وإذا نفينا الجسمية ننفي الأعضاء من اليد والرجل وغيرهما. وكيف ننفي وقد جاء في الكتب آيات يدل ظاهرها على إثبات الأعضاء؟ والإجابة على هذا السؤال :

إن التوراة قد نصت على أنه تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وذلك قوله في الأصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية : «ليس مثل الله» [تث ٣٣ : ٢٦] وكذلك نص القرآن الكريم في قوله تعالى : «ليس كمثله شيء» [الشورى ١١] والعبارات التي تنفي التشبيه هي آيات محكمة ، أي لها تفسير واحد واضح.

وآيات الأعضاء آيات متشابهة أي لها تفسيرين. فاليد تفسير باليد الجارحة وهي تستلزم الجسمية ـ واليد أيضا تفسر بالقدرة ـ والقدرة صفة معنى ـ فأي التفسيرين يتفق مع الحكم؟ هل اليد الجارحة أم صفة القدرة؟ بالتأكيد هي صفة القدرة. لأن اليد الجارحة تشبه وتمثل بأي مخلوق كان ، والنص النافي للتمثيل يمنع من ذلك. وعلى ذلك فمراد الله تعالى من صفات أعضائه هو التأويل إلى صفات معاني ، فاليد تؤول بالقدرة ، والاستواء بالقهر والغلبة وهكذا.

ولما ذا عبر الله تعالى بصفات الأعضاء عن نفسه وهو لا يريدها؟ وهذا سؤال قد أجاب عنه ـ

٢٦٤

__________________

ـ كثيرون من العلماء بقولهم : إن الله تعالى يريد تقريب ذاته إلى عقول البشر ، حتى تقدر العقول أن تدرك الألوهية وتقربها. أما هو عزوجل فإنه أكبر وأجل. ولذلك خاطب البشر على قدر عقولهم ، ووضع للعلماء الآيات المحكمات ليدركوا قصد الله تعالى من محكم كتابه. وإذا قلنا : إن الله تعالى قال في التوراة. فقولنا بحسب المكتوب فيها على طريقة إلزام الخصم بما يعتقد به ، ويسلم به.

* * *

ونصرح نحن المسلمين باستحالة الالتقاء في عقيدة التوحيد بين النصرانية والإسلام وبيان ذلك ما يلي :

أولا : إن المسلمين يعتقدون بأن الله تعالى إله واحد. وهذا الإله الواحد يجب أن ينسب إليه المسلم كل صفات الكمال ، ويجب على المسلم أن ينزه الله تعالى عن كل نقص. فالله تعالى إله واحد ، ومع وحدانيته في الذات والصفات والأفعال يتصف بالقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والحياة والرحمة والعدل والإحسان ، وهكذا سائر الصفات الطيبة التي تليق بذاته المقدسة. ولا يصح لمسلم أن يصف الله بالعجز والقهر والجهل ، وهكذا من الصفات السيئة التي لا تليق بذاته المقدسة.

ومعنى هذا : أن الوحدانية في الإسلام يلزمها التنزيه. أي أن الله واحد ومنزه عن كل نقص. والدليل على ذلك قول الله تعالى : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ ، وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فقد بينت السورة الكريمة سورة الإخلاص أمران : الأول : هو الوحدانية. والثاني : هو التنزيه. والملة النصرانية تقول بالتوحيد لله عزوجل. ولكنه توحيد لا تنزيه فيه. وتقول بالتوحيد قولا ، لا اعتقادا. لأنهم يعتقدون في التثليث. وعلى ذلك : الالتقاء مستحيل بين الوحدانية في الإسلام وبين النصرانية لأن التثليث من عقيدتهم ، والتجسيم من عقيدتهم. وعدم التنزيه من عقيدتهم. أما الإسلام ففيه التوحيد قولا واعتقادا ، وفيه التنزيه. ولنبدأ بشرح عقيدة «التوحيد» عند «الأرثوذكس» فنقول :

يعتقد الأرثوذكس : أن الله تعالى ، حبلت به «مريم» العذراء ، بقوة «الروح القدس» أي بمساعدة «الروح القدس» حبلت مريم بالمسيح. وهذا المسيح هو الله نفسه حل في مريم ، واتخذ جسدا ، وصار مسيحا ، ثم خرج من مريم طفلا رضيعا. ومن يرى هذا الطفل من الناس يعتقد أنه «يسوع المسيح» ولكن في الحقيقة هو الله تجسد في صورة المسيح. ومثل ذلك مثل «جبريل» لما أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة «دحية الكلبي» فالناس اعتقدوا أن الآتي هو «دحية» وفي الحقيقة هو «جبريل» ـ وبهذا يجادل النصارى ـ ثم يقولون : إن المسيح لما كبر بلغ الرسالة إلى بني إسرائيل في سن الثلاثين ، وفي سن الثالثة والثلاثين قتله اليهود وصلبوه ، ثم إنه نزل جهنم ، وتعذب فيها ثلاثة أيام ، ثم خرج من جهنم إلى القبر ، ومنه ارتفع إلى السماء. وجلس كما كان أولا.

هذا هو التوحيد عند نصارى الأرثوذكس. الله صار مسيحا. والله قبل التجسد في البطن ، يلقب بلقب «الأب» ـ وهذا هو الأقنوم الأول ـ وبعد التجسد ، يلقب بلقب «الابن» لأنه في نظر الناس ابن لمريم ، ولأن المزمور الثاني يتحدث عن ابن ـ وهذا هو الأقنوم الثاني ـ وبعد القتل ، يلقب ـ

٢٦٥

__________________

ـ بلقب «الروح القدس» ـ وهذا هو الأقنوم الثالث ـ أي أنهم يقولون بإله واحد متجسد. ذو ثلاثة أقانيم ـ والأقنوم عندهم ، مرحلة من ثلاث مراحل ـ ويقولون إن كل أقنوم متساو مع غيره. ويقولون : إن الجسد هو «الناسوت» ، والروح هو «اللاهوت ، والقتل والصلب وقعا على الناسوت ، واللاهوت لم يتأثر بشيء. وما جرى على المسيح في الدنيا من الآلام ، جرى عليه من جهة ناسوته ، لا من جهة لاهوته. وتعذيبه في جهنم ، كان من أجل خطايا آدم وبنيه. والعذاب وقع على الناسوت ولم يقع على اللاهوت.

فهل عقيدة الأرثوذكس هذه تتفق مع قول الإسلام ب ١ ـ التوحيد ٢ ـ والتنزيه؟ إنهم لا ينزهون الله عن النقائص. فقد قالوا : بتجسده وبقتله وبصلبه. وأي نقيصة من بعد هذا؟ وقد اعترف القرآن بكفرهم في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا : ثَلاثَةٌ) أي ثلاثة مراحل للإله الواحد (انْتَهُوا. خَيْراً لَكُمْ. إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء ١٧١] وفي قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة ٧٢].

ولنثني بشرح عقيدة «التوحيد» عند «الكاثوليك» فنقول :

يعتقد الكاثوليك : أن للكون ثلاثة آلهة : «الأب» وهو الله تعالى. والثاني : «الابن» وهو المسيح بن مريم. والثالث : «الروح القدس» وهو عمل إلهي منتشر في الكون. والثلاثة كانوا معا في بدء الخليقة. وهم على ثلاثة عروش. وكل واحد منهم مستقل بعرشه عن الآخر ، ومستقل بعمله عن الآخر. ويقولون : إن الأب أعظم من الابن. والروح القدس منبثق من الأب والابن. وأن المسيح له طبيعة إنسانية كاملة ، وله طبيعة إلهية كاملة. ومع ذلك الانفصال التام. يقولون بالتوحيد ، أي هم متحدون في الحقيقة الإلهية التي هي «جوهر» الأشياء ومختلفون في بعض الصفات العارضة ، التي تحدث وتزول. ويقولون : إن الثلاثة آلهة ، هم ثلاثة «أقانيم» ومعنى الأقنوم عندهم : «شخص ذو كيان مستقل» وهذا هو معنى الأقنوم في اللغة «السريانية».

ويقول النصارى أجمعون : أن المسيح «ابن الله».

وعقيدة الأرثوذكس تختلف عن عقيدة الكاثوليك والبروتستانت في «بنوة» المسيح لله. فالأرثوذكس يعتقدون أن المسيح «ابن» بحسب ١ ـ ما ورد في نصوص التوراة أن كل يهودي ابن لله بالمعنى المجازي أي حبيب إلى قلب الله ، ومقرب منه. فقد ورد في التوراة أن الله قال لبني إسرائيل : «أنتم أولاد للرب إلهكم» [تثنية ١٤ : ١] والمسيح من بني إسرائيل. ٢ ـ بحسب رؤية الناس له ، ونظرتهم إليه أنه ابن لمريم بدون أب ، وجرت عادتهم أن الذي لا يعرفون له أبا ينسبونه إلى الله ، كما جاء في إنجيل لوقا في الأصحاح الثالث : أن آدم ابن الله. ٣ ـ بحسب نبوءة في مزامير داود ، في المزمور الثاني. يتحدث عن النبي المنتظر الذي وعد به موسى في الأصحاح الثامن عشر من سفر التثنية بلغة بني إسرائيل ولسانهم ، تتحدث عنه بلقب «ابن الله» ولما أرادوا أن يطبقوا عليه أطلقوا عليه لقب «الابن» وقالوا : إنه «مولود من الأب قبل كل الدهور».

٢٦٦

__________________

والكاثوليك يقولون بما يقول به الأرثوذكس. ويضيفون عليه : أن المسيح مولود ولادة طبيعية ، والبنوة طبيعية. وهم لا يصرحون بذلك. لكن يفهم من اقتباسهم عقيدة التثليث من تثليث المصريين القدماء ، والهنود البوذيين ، يفهم من اقتباسهم أن النبوة طبيعية ، لأن التثليث القديم يدل على البنوة الطبيعية.

هذا كلامهم. فهل عقيدة الكاثوليك هذه ـ وهي عقيدة البروتستانت أيضا ـ تتفق مع قول الإسلام ب ١ ـ التوحيد ٢ ـ والتنزيه؟ إنهم يعبدون ثلاثة آلهة ، كل إله منفصل عن غيره. فأين التوحيد؟ وقد اعترف القرآن بكفرهم في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا : ثَلاثَةٌ) أي ثلاثة آلهة متعددون (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ. إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ. سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) [النساء ١٧١] وفي قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة ٧٣].

ثانيا : إن عقيدة المسلمين في التوحيد وفي التنزيه. عليها أدلة من القرآن الكريم ، ومن التوراة ، ومن الإنجيل. وأعني بالإنجيل : الأناجيل الأربعة : متى ، ومرقس ، ولوقا ، ويوحنا.

١ ـ وقد ذكرنا من قبل سورة من القرآن الكريم تدل على التوحيد والتنزيه. وهي سورة الإخلاص.

٢ ـ والتوراة صرحت بوحدانية الله تعالى ، وصرحت بالتنزيه أيضا. وهذه نصوص منها :

(أ) في الاصحاح السادس من سفر التثنية :

«اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ، ومن كل نفسك ، ومن كل قوتك ... الخ» [تث ٦ : ٤ ـ ٥] وهذا النص يدل على التوحيد «الرب إلهنا رب واحد».

(ب) وفي الأصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية : «ليس مثل الله» [تث ٣٣ ـ ٢٦] وهذا النص يدل على التنزيه ، وعدم مشابهة الله للحوادث.

(ج) ودلت التوراة على أن الله تعالى لا يقدر أحد أن يراه ، وموسى عبده وكليمه لم يقدر أن يراه ففي الأصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج أن موسى قال لله : «أرني مجدك» فقال له : «لا تقدر أن ترى وجهي. لأن الإنسان لا يراني ويعيش» [خر ٣٣ : ٢٠].

(د) ودلت التوراة على أن الله تعالى كلم موسى وكلم بني إسرائيل وأنهم سمعوا الصوت ولم يروا ذاته المقدسة. ففي الأصحاح الرابع من التثنية : «فكلمكم الرب من وسط النار ، وأنتم سامعون صوت كلام. ولكن لم تروا صورة بل صوتا» [تث : ٤ : ١٢].

(ه) وتبين التوراة أن الله تعالى فعل هذا ، ليتقوا الله ويخافوه. ففي الأصحاح الرابع من سفر التثنية : «إنك قد رأيت هذا. لتعلم أن الرب هو الإله. ليس آخر سواه» [تث ٤ : ٣٥].

٣ ـ وفي الأناجيل الأربعة المقدسة اليوم لدى النصارى مثل ما في التوراة عن الوحدانية والتنزيه.

٢٦٧

__________________

ـ (أ) ففي الأصحاح الثاني عشر من إنجيل مرقس أن عالما من علماء بني إسرائيل سأل المسيح عن الوصية العظمى في التوراة ، وهي وصية التوحيد الواردة في الأصحاح السادس من سفر التثنية. وأجاب المسيح بأن الوصية العظمى هي أن الله إله واحد. يقول مرقس :

«فجاء واحد من الكتبة. وسمعهم يتحاورون. فلما رأى أنه أجابهم حسنا. سأله : أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع : إن أول كل الوصايا هي. اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى ، وثانية مثلها هي : تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. فقال له الكاتب : جيدا يا معلم بالحق قلت : لأن الله الواحد ، وليس آخر سواه» [مرقس : ١٢ : ٢٨ ـ ٣٢].

لقد أجاب المسيح بأن الله الواحد كما جاء في التوراة. والكاتب ـ أي العالم ـ وافق المسيح على اعترافه بالوحدانية.

(ب) وفي الأصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا : نجد اعترافا صريحا من المسيح بأنه رسول الله. وذلك في قول المسيح لله : «وهذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع المسيح الذي أرسلته. أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» [يوحنا ١٧ : ٣ ـ ٤] ويقول المسيح أيضا : / وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلنى [يو ١٦ : ٥] ويحكي يوحنا عن شفاء المسيح للأكمة فيقول : «وفيما هو مجتاز ـ أي المسيح ـ رأى إنسانا أعمى منذ ولادته. فسأله تلاميذه قائلين : يا معلم من أخطأ؟ هذا أم أبواه؟ حتى ولد أعمى.

أجاب يسوع :

لا هذا أخطأ ولا أبواه ، لكن لتظهر أعمال الله فيه. ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني. ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل .. الخ» [يو ٩ : ١ ـ] ومما حكاه يوحنا يفهم منه أن المسيح «معلم» أي أستاذ كبير في نظر أتباعه وتلاميذه ، ـ وليس هو الله ظهر في الجسد ، وليس هو إله ثان من آلهة ثلاثة ـ ويفهم منه أن المسيح يعمل أعمال الله الذي أرسله.

(ج) ونجد تصريح الأناجيل بأن الله لا يرى ولا يقدر أحد أن يراه. يقول يوحنا في الأصحاح الأول من إنجيله : «الله لم يره أحد قط» وحيث أن الناس قد رأوا المسيح بأعينهم فإنه لا يكون الإله.

في رسائل بولس نفس المعنى. ففي الرسالة الأولى إلى «تيموثاوس» يقول عن الله تعالى : «وملك هو الذي لا يفنى. ولا يرى. الإله الحكيم وحده. له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور» [١ تيمو ١ : ١٧].

ويقول لتيموثاوس أيضا عن الله تعالى : «المبارك العزيز الوحيد ، ملك الملوك ورب الأرباب الذي وحده له عدم الموت ، ساكنا في نور لا يدنى منه الذي لم يره أحد من الناس ، ولا يقدر أحد أن ـ

٢٦٨

النوع الثاني (١) من دلائل أصحاب المكاشفات ، وأرباب المجاهدات : قالوا : قد ثبت أن الموجودات إما روحانية ، وإما جسمانية.

فنقول : أما عالم الأجسام فهي إما نيرة وإما مظلمة. وأما النّيرات فهي أربعة :

الشمس ، والقمر ، والكواكب ، والنار. وأعلى هذه الأربعة وأشرفها هو الشمس ، لأنها ينبوع النور القاهر ، والضوء الظاهر وعند طلوعها تضمحل

__________________

ـ يراه. الذي له الكرامة والقدرة الأبدية» [١ تيمو ٦ : ١٥ ـ ١٦].

ثالثا : لقد ظهر مما تقدم أن عقيدة التوحيد مع التنزيه. صرحت بها التوراة ، وصرح بها الإنجيل ، وصرح بها القرآن الكريم. وإذا كان الأمر كذلك. فلما ذا يقول النصارى بالتجسد وبالتعدد. وليس على التجسد والتعدد دليل من التوراة ، أو دليل من الإنجيل؟ إن التوراة ـ رغم تحريفها ـ تشهد بالتوحيد وبالتنزيه. والأناجيل ـ رغم تحريفها ـ تشهد بالتوحيد وبالتنزيه. فمن أين إذن عقيدة التجسد وعقيدة التعدد؟

والإجابة على ذلك : تدل كتب التواريخ على أن الإمبراطور الروماني «قسطنطين» جمع النصارى في مدينة «نيقية» وهي «تركيا» الآن. في سنة ثلاثمائة وخمسة وعشرين من ميلاد المسيح ، وأراد منهم أن يقولوا بدين فيه عقائد الرومان وفيه عقائد النصارى. أي يوحدوا الديانتين في ديانة واحدة. وكان النصارى يضطهدون من قبل ملوك الرومان لئلا يظهروا أن نبيا بشر به المسيح سيأتي. وسيمتد ملكه إلى أقصى الأرض. وسوف يزيل نفوذ الرومان من العالم. ولقد رضي النصارى القليلو الإيمان بذلك. واتفقوا على «قانون الإيمان» وفيه : الاعتراف بأن الله واحد ، وأن المسيح إله ثان. ثم في مدينة «القسطنطينية» سنة ثلاثمائة وواحد وثمانين اتفقوا على أن «الروح القدس» إله ثالث. وفي مجمع «خليقدونية» على شاطئ «البسفور» في سنة أربعمائة وواحد وخمسين انقسم النصارى إلى أرثوذكس وكاثوليك. وظل الانقسام إلى اليوم. فالكاثوليك قالوا بالآلهة الثلاثة. والأرثوذكس قالوا بإله واحد قد تجسم في صورة المسيح. وهذا الكلام ثابت من كتب تواريخ النصارى أنفسهم ، ولا يشك أحد منهم في صدقه.

ولو أن النصارى اليوم ، وقد خف عنهم عذاب الرومان. رجعوا إلى كتبهم المقدسة التي بين أيديهم رغم تحريفها. لوجدوا فيها كما قلنا : عقيدة التوحيد والتنزيه. وأن المسيح بن مريم رسول من رسل الله ، ونبي من أنبياء الله مثل هارون وإلياس واليسع ـ عليهم‌السلام ـ وعندئذ يتفقون مع اليهود ومع المسلمين في عقيدة التوحيد والتنزيه. وإذا أصروا على عقيدة التجسد ، وعقيدة التعدد. فإنهم لا يتفقوا أبدا مع المسلمين ، ولا مع المسيح نفسه ، ولا مع موسى نبي بني إسرائيل في التوحيد والتنزيه. والله أعلم.

(١) لاحظ أنهم أربعة أنواع.

٢٦٩

الأضواء ، وتبطل الأنوار ، وأما القمر فهو كالوزير له ، ولهذا السبب صار سلطان الليل ، وأما الكواكب فإنها مرتبة على سبع درجات ، فأقواها في القوة وأعظمها في الجثة ما يكون في حد العظم الأول ، ولا يزال يتناقص حتى ينتهي إلى العظم [السابع (١)] فيصير في غاية الصغر ، وأما النار فإنها نير العالم السفلى ونورها ضعيف جدا من وجوه :

أحدهما : أنها وإن قويت وعظمت ، إلا أنها تنطفئ بأدنى سبب.

وثانيها : أنها وإن كانت تفيد الإشراف إلا أنها تفيد الإحراق.

وثالثها : أن نورها ممتزج بالدخان ، وأن استعلاءها قليل ، ويعلوها الدخان والظلمة، والكدورة. قالوا : فهذه مراتب النيرات في عالم الأجسام. وإذا عرفت هذا فنقول : قد ظهر أن عالم الأرواح أصفى وأكمل وأشرف من عالم الأجسام ، فلما حصلت هذه النيرات في عالم الأجسام ، فبأن تحصل النيرات في عالم الأرواح ، كان أولى. وكما أن درجات النيرات في عالم الأجسام متفاوتة في الكمال والنقصان ، وكان أعظم شيء : واحد هو الشمس. فكذلك يجب أن يكون النير الأعظم في عالم الأرواح واحد فقط. وكما أن من صفة النير الأعظم من عالم الأجسام أن عند طلوعه تبطل أنوار سائر النيرات وتبطل الظلمة عن الظلمانيات ، فيصير النير مظلما والمظلم نيرا. فكذلك النير الأعظم في عالم الأرواح (٢) [واحد فقط ، وكما أن من صفة النير الأعظم في عالم الأجسام أن عند طلوعه تبطل أنوار سائر النيرات ، وتبطل الظلمة عن الظلمانيات ، فيصير النير مظلما ، والمظلم نيرا ، فكذلك الأعظم في عالم الروحانيات] (٣) يبطل في نوره كل نور ، ويبطل في إشراقة وجوده كل موجود. فبكمال فضله ورحمته ، يصير كل معدوم كالموجود ، وبقوة قهر جلاله يصير كل موجود كالمعدوم. فهذه أحوال

__________________

(١) من (ز).

(٢) الروحانيات (س).

(٣) من (ز).

٢٧٠

قريبة عند الأذهان السليمة ، والعقول الصافية. ومن خاض في مقام الرياضات (١) ، وكانت نفسه في أصل الفطرة مشرقة علوية [إلهية] (٢) أبصر بعين بصيرته كل ما ذكرناه ، إبصارا لا شك له فيه. والله ولي الإرشاد.

النوع الثالث من دلائل أصحاب الرياضات : أن قالوا : إن أصحاب الشكوك والشبهات ، وإن اجتهدوا في تقرير الخيالات الباطلة ، وتأكيد الشبهات الفاسدة في نفي الإله المدبر ، إلا أنه إذا نزلت بهم حادثة مؤلمة وواقعة مهيبة ، فإنهم يجدون من صريح عقولهم وقلوبهم : التضرع ، وإظهار الخضوع لإله العالم ، والطلب منه أن يخلصهم من تلك البلية ، ويخرجهم من تلك المحنة. ووجدان هذه الحالة كالأمر المعلوم بالضرورة بالاستقراء والاعتبار. ثم بعد الخلاص من تلك البلية ، ربما عادوا إلى تقرير الشبهات ، وإيراد الخيالات. وإليه الاشارة في القرآن بقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٣) وهذا يدل على أن جميع العقول السليمة ، مقرة بوجود الإله الحكيم.

النوع الرابع من دلائل أصحاب الرياضات والمكاشفات : ما يعلمه كل أحد بصحة التجربة والاختبار من إجابة دعاء المضطرين ، وإغاثة الملهوفين ، وإعانة المظلومين على الظالمين ، وكل من كان أصفى نفسا ، وأقوى روحا ، وكان أقوى في الانجذاب إلى الروحانيات ، وأبعد من الالتفات إلى الجسمانيات ، كان في هذا الباب أقوى وأكمل ، وذلك يدل على أن لهذا العالم إلها ، يسمع الدعاء ويجيب النداء ، فهو تعالى منتهى طلب الحاجات ، ومن عنده نيل الطلبات. فالأيدي ترفع إليه ، والأبصار تخشع له ، والرقاب تخضع لقدرته (٤) ، والألسنة متشرفة بذكر جلاله. فيستغنى به ، ولا يستغنى عنه ، ويرغب إليه ، ولا يرغب عنه ، ولا تنقطع عن حضرته حوائج المحتاجين ، ولا

__________________

(١) مقدمات الرياضة (ز).

(٢) من (ز).

(٣) العنكبوت ٦٥.

(٤) تخضع له (س).

٢٧١

يتشوش علمه بكثرة سؤال السائلين. ف (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

[فهذه هي الوجوه التي حصلناها من كلمات أصحاب الرياضات] (٢).

الطائفة الثالثة من طوائف أهل العالم : الذين حصلت لهم عقول كاملة وأفهام صحيحة ، إلا أنهم لم يشتغلوا بطلب العلوم الدقيقة. ولقد سمعت من هذا الجنس [من الناس] (٣) عبارات صحيحة دالة على إثبات الإله لهذا العالم.

فالطريق الأول : قال بعضهم : رعاية الاحتياط في كل شيء ، أولى من إهمال الاحتياط. فنقول : القول بإثبات الإله المختار للمكلف أقرب إلى الاحتياط من القول بنفيه، فكان الذهاب إلى هذا القول أولى. أما بيان أنه أحوط. فتقريره أن نقول : هذا العالم : إما أن يكون له إله ، وإما أن لا يكون. فإن لم يكن ، كان القول بإثباته مضرا ، فثبت أن القول [بإله العالم] (٤) أقرب إلى الاحتياط. ثم نقول : إله العالم إما أن يكون فاعلا مختارا ، أو لا يكون (٥) ، فإن لم يكن فاعلا مختارا كان إثبات الفاعل المختار غير مضر. أما إن كان فاعلا مختارا كان نفيه مضرا. فكان إثبات الفاعل المختار أبعد عن الضرر ، وأقرب إلى الاحتياط.

ثم نقول : هذا الإله الفاعل المختار. إما أن يقال : إنه كلف العباد ، وأمرهم ببعض الأشياء ، ونهاهم عن بعضها ، وإما أن يقال : إنه ليس كذلك ، فإن لم يكن كذلك لم يلزم من القول بكونه آمرا ناهيا ضرر ، وإن كان كذلك كان إنكار كونه آمرا ناهيا أعظم المضار. فثبت بما ذكرنا : أن الاعتراف بأن لهذا العالم إلها ، وأن ذلك الإله فاعل مختار ، وأنه آمر ناهي أبعد عن

__________________

(١) غافر ٦٥.

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) بإثباته (س).

(٥) العبارة مكررة في (س).

٢٧٢

الخوف ، وأقرب إلى الاحتياط ، وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون المصير إلى هذا المذهب والاعتقاد ، أحوط. لأن عند استيلاء الخوف الشديد ، يكون الأخذ بالجانب الأحوط متعينا. [والله ولي التوفيق] (١).

الطريق الثاني : كان بعض العقلاء يقول : إن لطمة واحدة تضرب على وجه صبي ، تظهر أن لهذا العالم إلها وأن هذا الإله أمر بعض عباده بأشياء ، ونهاهم عن أشياء ، وأن ذلك الإله أعد للمطيعين ثوابا ، وللمذنبين عقابا ، وأنه (٢) بعث إلى الخلق رسلا مبشرين ومنذرين. وهذه هي الأصول الأربعة التي هي أشرف المطالب وأعز المقاصد.

أما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الأول وهو إثبات الإله تعالى فنقول : ذلك الصبي إذا أحس بتلك اللطمة ، ففي الحال يصيح ويقول : من الذي ضربني؟ ومن الذي لطم وجهي؟ ولو أن أهل الدنيا يجتمعون عليه ويقولون : إن هذه اللطمة حصلت [بنفسها] (٣) من غير فاعل ، فإنه لا يقبل هذا القول ، ولا يؤثر فيه هذا الكلام ، وهذا يدل على أن صريح العقل [وأول الفطرة ، شاهدة بأن الفعل] (٤) لا بد له من فاعل والحادث لا بد له من محدث ، ومتى ظهرت هذه المقدمة فنقول : إذا كان صريح العقل يستبعد حدوث تلك اللطمة من غير فاعل ، فحدوث جملة الحوادث في عالم الأفلاك ، وعالم العناصر ، كيف يعقل حدوثها بلا محدث وفاعل؟ فصار هذا الاعتبار من أدل الدلائل على دلالة حدوث هذا العالم ، على وجود الصانع المدبر. وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الثاني وهو كون الإله تعالى موصوفا بالأمر والنهي والتكليف.

فنقول : إن ذلك الصبي إذا عرف أن ذلك الذي لطمه هو فلان ، فإنه في الحال يقول : لم ضربتني؟ وبأي سبب آذيتني؟ وهذا يدل على أن صريح عقله حكم بأن الخلق ما تركوا مهملين معطلين ، بل التكاليف عليهم لازمة ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) عزوجل (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

٢٧٣

والمطالبات عليهم متوجهة ، ولما حكم صريح عقل ذلك الصبي بأن تلك اللطمة الواحدة لا يجوز خلوها عن التكليف ، والأمر والنهي ، فأفعال كل الخلائق مع كثرة ما فيها من المصالح والمفاسد ، أولى بأن لا يجوز خلوها من التكاليف. وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الثالث وهو حصول ذات الثواب والعقاب. فنقول : إن ذلك الصبي إذا عرف أن ذلك الإنسان لطمه بغير سبب ، فإنه يطلب منه القصاص. فإن عجز عن استيفائه ، استغاث بمن يعينه على تحصيل ذلك المطلوب ، وهذا يدل على أن صريح عقله حكم [بأنه لا بد للحسنة من ثواب ، ولا بد للسيئة من عقاب ، ولما كان صريح عقله حكم] (١) بأن هذه اللطمة لا يمكن إخلاؤها عن الجزاء أو القصاص ، فكيف يمكن إخلاء أفعال كل الخلق (٢) [عن القصاص (٣)؟ وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الرابع وهو بعثة الأنبياء [عليهم‌السلام] (٤) فهو أن الصبي إذا قرر أنه لا بد من القصاص ، فعند ذلك يطلب إنسانا يبين له ذلك القصاص بحيث يكون خاليا عن الزيادة والنقصان. وهذا يدل على أنه تقرر في عقله أنه لا بد في الخلق من إنسان يبين لهم مقادير المرغبات ، ومقادير الزواجر ، وذلك الإنسان ليس إلا الرسول. فظهر بهذا البيان الذي بحثناه (٥) : أن هذه اللطمة الواحدة ، كافية في إثبات هذه المطالب الأربعة الشريفة العالية [ومن الله التوفيق] (٦)

الطريق الثالث : وهو طريق الباحثين عن حقيقة المدة والزمان. قالوا : إن بديهة العقل حاكمة بأن كل محدث ، فإنه لا بد وأن يكون وجوده متأخرا عن غيره. وهذا العلم علم بديهي لا يشك العاقل فيه. وإذا ثبت هذا فنقول : لما كان هو متأخرا عن غيره [كان غيره](٧) متقدما عليه. وذلك الأمر الموصوف بهذا التقدم والقبلية ، إما أن يكون عدما أو وجودا. والأول باطل. لأن العدم المتقدم يشارك العدم المتأخر في المفهوم من كونه عدما ، ويخالفه في القبلية والبعدية ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فوجب أن يكون المفهوم من

__________________

(١) من (س).

(٢) العباد (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) لخصناه (س).

(٦) من (ز).

(٧) من (س).

٢٧٤

القبلية والبعدية (١) معنى مغايرا للعدم المحض ، فوجب أن يكون صفة موجودة. ولو كان الموصوف بهذا التقدم والقبلية عدما محضا ، لزم منه أن يكون العدم المحض والنفي الصرف موصوفا بالصفة الموجودة وأنه محال. ولما بطل هذا ثبت أن الموصوف بالقبلية والتقدم موجود. وثبت أن كل ما صح عليه أن يوجد بعد عدمه ، أو يعدم بعد وجوده ، فإنه لا بد وأن يكون مسبوقا بموجود آخر [وأن يكون ملحوقا بموجود] (٢) ثم ذلك الموجود ، إن صح عليه العدم والوجود ، افتقر إلى موجود آخر ، فيصير إلى غير النهاية ، وهو محال ، وإن لم يصح العدم عليه أصلا ، فذلك هو الموجود الواجب لذاته ، وهو المطلوب.

الطريق الرابع وهو طريق الباحثين عن أحوال الفلك : فإنهم قالوا : ثبت أنه متحرك بالاستدارة ، وكل ما كان كذلك فحركته نفسانية إرادية ، وكل ما كان كذلك ، فلا بد من جوهر مجرد عن الجسمية يتولى تحريك ذلك الفلك بإرادته ، وهذا المعنى حاصل في الفلك الأقصى ، فلا بد له من وجود يحركه على سبيل الإرادة. ثم نقول : إن كان ذلك الشيء قديما واجب الوجود لذاته فهو المطلوب. وإن كان حادثا افتقر إلى فاعل آخر. والتسلل محال فلا بد من الانتهاء إلى قديم واجب الوجود لذاته.

ولنكتف في هذا الباب بهذه الوجوه ، ومن الله الإرشاد والرحمة والهداية.

__________________

(١) والتقدم (س).

(٢) من (ز).

ونقول هنا :

(أ) الدليل على وجود الله تعالى : ١ ـ دليل نقلي من التوراة والإنجيل والقرآن. والآثار القديمة الموجودة في بلاد العالم التي تدل على أن الناس عبدوا الإله الخالق ، وآمنوا بحياة ثانية بعد موتهم كالكعبة في مكة. والأهرامات في مصر. ٢ ـ ودليل عقلي. والأدلة العقلية تنقسم إلى الأقسام التالية :

١ ـ دليل الفطرة ـ أي الغريزة ـ : ومعناه : أن الله لما كوّن جسم الإنسان : كونه من لحم ودم. وجعل من اللحم والدم غرائز كامنة تظهر عند وجود الداعي إلى ظهورها. فغريزة الجوع كامنة في الجسم. وإنها لتظهر عند وجود الطعام الشهي أو عند الجوع. لا يحس الإنسان بغريزة الجوع. لأنها كامنة مستترة. وحال ظهورها يعرف الإنسان أن غريزة الجوع فيه. وغريزة الميل إلى النساء ، هي غريزة مستترة ، ولا يحس بها الإنسان إلا عند الإثارة. وكذلك غريزة الميل إلى الخضوع للخالق جلّ وعلا. هي غريزة في جسم الإنسان ، مولود بها كسائر الغرائز وتظهر غريزة التدين ، إذا أحس ـ

٢٧٥

__________________

ـ الإنسان بالرهبة وأدركه الخوف. وكل غريزة لها سن عند الإنسان تظهر فيه. أي أن الغرائز لا تظهر دفعة واحدة ، وإن كانت هي مخلوقة دفعة واحدة قبل الولادة. فغريزة الجوع ظهرت من الولادة مباشرة. وغريزة التملك بعد سنة تقريبا ، وغريزة الميل إلى النساء تظهر بعد ثلاث عشرة سنة على وجه التقريب. وغريزة التدين تظهر وقتئذ أيضا. والمحرك لها هو الرغبة أو الرهبة. وهذا أمر يحس به كل إنسان لأنه (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم ٣٠].

٢ ـ دليل السببية : ومعناه : أن الأثر يدل على المؤثر ، والسبب يدل على المسبب. أي أن وجود «الكرسي مثلا» ـ وهو أثر ـ يدل على الإيمان بذات «النجار» ـ أي المؤثر ـ الذي صنعه. وإن كنا لم نره. كما يقول الراعي : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير. فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج. ألا تدل على العليم الخبير. وإذا ما قال قائل : إن الدنيا مخلوقة بالمصادفة. نقول له : إن «الإحكام والإتقان» في الكون يدل على الخالق ، ولا يدل على المصادفة. لأن المصادفة إذا أظهرت الإحكام صدفة في أمر من الأمور ، لا تظهره في كل الأمور. والحال أننا نرى العالم محكما ومتقنا (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل ٨٨].

٣ ـ دليل الآيات الكونية : ومعناه : أن نبي الإسلام محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نطق بآيات قرآنية تدل على أمور علمية ، ما كان أحد يعرفها في زمانه. ونطق بها وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب. ولم يكن دارسا ، ولم يلقنه معلم. فراعي غنم أميّ وتاجر ينطق بهذا الكلام العجيب الشأن يدل على أحد أمرين : إما أن معلما علمه ، وإما أن الله هو الذي علمه. لا جائز أن يكون المعلم. لأن الآيات العلمية لم يعرفها العلماء إلا بعد أربعة عشر قرنا من نزول القرآن. فإذن يكون مرسل الكلام ـ الذي هو القرآن ـ الله عزوجل ـ فإنه يؤمن الناس بوجود الله بدليل صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به.

ولقد رأيت بعض العلماء يفسر الآيات الكونية بأن «كل شيء في هذا الكون هو آية ناطقة بأن الله ربها وخالقها. وقد سلك القرآن هذا السبيل لتقرير ربوبية الله وألوهيته. ولذلك عند ما نقرأ القرآن نراه يأخذنا في جولات وجولات يرتاد بنا آفاق السماء ، ويسير في جنبات الأرض ، ويقف بنا عند زهرات الحقول ، ويصعد بنا إلى النجوم في مداراتها ، وهو في كل ذلك يفتح أبصارنا وبصائرنا ، فيرينا كيف تعمل قدرة الله وتقديره في المخلوقات».

وهذا التفسير لا يصلح دليلا مستقلا عن دليل السببية ـ لأن هو نفسه دليل السببية ـ أي أنه إذا فسرنا الآيات الكونية بتفسيره هذا فمعناه أن الكون كله يدل على المسبب. ولكن إن فسرناها دليلا على نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث نطقه بها في القرآن وهو أمي. فإنها تكون سببا مستقلا ، أي دليلا مستقلا.

٤ ـ دليل الهداية : والفرق بين هذا الدليل ودليل الفطرة : أن الفطرة غريزة كامنة عند الإنسان تظهر حال الاستثارة أو الاستفزاز ويحس بها الإنسان نفسه. وأما الهداية فمعناها : النظر إلى تصرف الإنسان وتصرف الحيوان الأعجم. إن تصرف الإنسان يدل على وجود العقل فيه. فمن الذي هدى العقل إلى أن هذا الفعل مفيد أو غير مفيد؟ إنه الله عزوجل فتصرف الحيوان يدل على أن الله هدى المخلوقات لكي تقوم بالوظائف التي خلقها الله من أجلها ، وقيامها بالوظائف يدل على أن لهذه ـ

٢٧٦

__________________

ـ المخلوقات خالقا. ولذلك قال تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ، ثُمَّ هَدى) [طه ٥٠].

(ب) ويقول الأستاذ عباس محمود العقاد في «الله» :

إن أقرب الأدلة العقلية إلى القبول على وجود الله تعالى هو : برهان الخلق ، وبرهان الغاية ، وبرهان الاستكمال ـ أي المثل العليا ـ وبرهان الأخلاق.

١ ـ أما برهان الخلق : ويعرف في اللغات الأوروبية باسم البرهان الكوني. فهو أقدم هذه البراهين وأبسطها وأقواها في اعتقادنا على الإقناع. وخلاصته : إن الموجودات لا بد لها من موجد. لأننا نرى كل موجود منها يتوقف على غيره ، ونرى غيره هذا يتوقف على موجود آخر ، دون أن نعرف ضرورة توجب وجوده لذاته. ولا يمكن أن يقال : إن الموجودات كلها ناقصة ، وأن الكمال يتحقق في الكون كله. لأن هذا كالقول بأن مجموع النقص : كمال. ومجموع المتناهيات : شيء ليس له انتهاء. ومجموع القصور : قدرة لا يعتبر بها القصور. فإذا كانت الموجودات غير واجبة لذاتها ، فلا بد لها من سبب يوجبها ، ولا يتوقف وجوده على وجود سبب سواه.

ويسمى هذا البرهان ـ في أسلوب من أساليبه المتعددة ـ ببرهان المحرك الذي لا يتحرك ، أو المحرك الذي أنشأ جميع الحركات الكونية على اختلاف معانيها. ومنها الحركة بمعنى الانتقال من حال إلى حال. والحركة بمعنى الانتقال من حيز الإمكان إلى حيز الوجود ، أو من حيز القوة إلى حيز الفعل.

وفحوى البرهان : أن المحرك لا بد له من محرك ، وأن هذا المحرك لا بد وأن يستمد الحركة من غيره. وهكذا إلى أن يقف العقل عند محرك واحد ، لا تجوز عليه الحركة ، لأنه قائم بغير حدود من المكان أو الزمان. وهذا هو «الله».

٢ ـ وأما برهان الغاية : فهو في لبابه نمط موسع من برهان الخلق ، مع تصرف فيه وزيادة عليه. لأنه يتخذ من المخلوقات دليلا على وجود الخلق ، ويزيد على ذلك : أن هذه المخلوقات تدل على قصد في تكوينها ، وحكمة في تسييرها وتدبيرها.

٣ ـ وأما برهان الاستكمال : ويسمى برهان المثل العليا : وفحواه : أن العقل الإنساني كلما تصور شيئا عظيما ، تصور ما هو أعظم منه. لأن الوقوف بالعظمة عند مرتبة قاصرة يحتاج إلى سبب ، وهو ـ أي العقل الإنساني ـ لا يعرف سبب القصور. فما من شيء كامل ، إلّا والعقل الإنساني متطلع إلى أكمل منه ، ثم أكمل منه ، إلى نهاية النهايات ، وهي غاية الكمال المطلق التي لا مزيد عليها ولا نقص فيها. وهذا الموجود الكامل الذي لا مزيد على كماله : موجود لا محالة. لأن وجوده في التصور أقل من وجوده في الحقيقة ، فهو في الحقيقة : موجود. لأن الكمال المطلق ينتفي عنه ، بسبب عدم وجوده ، ولا يبقى له شيء من الكمال ، بل نقص مطلق هو عدم الوجود ، فمجرد تصور هذا الكمال مثبت لوجوده.

٤ ـ وأما برهان الأخلاق : فهو «علامة» في النفس الإنسانية. لا يتأتى وجودها فيها وجود إله. وتلك هي علامة الوازع الأخلاقي ، أو علامة الواجب أو علامة الضمير. فمن أين استوجب ـ

٢٧٧

__________________

ـ الإنسان أن يدين نفسه بالحق كما نعرفه. إن لم يكن في الكون «قسطاس للحق» يغرس في نفسه هذا الوجوب؟ ومن أين تقرر في طبع الإنسان : أن الواجب الكريه لديه ، أولى به من إطاعة الهوى المحبب إليه ، وإن لم يطلع أحد على دخيلة سره؟

(ب) ويذكر الآية القرآنية : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ٢٢] ويقول : لن يقوم على ثبوت الوحدانية برهان أقوى من هذا البرهان. وهو برهان التمانع ، كما يسميه المتكلمون. وأحسن من يشرحه هكذا. لا يخلو إما أن يكون قدرة كل واحد منهما وإرادته كافية في وجود العالم ، أو لا شيء منهما كاف ، أو أحدهما كاف فقط. وعلى الأول يلزم اجتماع المؤثرين التامين على معلول واحد. وهو محال. وعلى الثاني يلزم عجزهما ، لأنهما لا يمكن لهما التأثير إلا باشتراك الآخر. وعلى الثالث ألا يكون الآخر خالقا ، فلا يكون إلها.

وصواب الأمر : إن وجود إلهين سرمديين مستحيل. وإن بلوغ الكمال المطلق في صفة من الصفات يمنع بلوغ كمال مطلق آخر في تلك الصفة. وأن «الاثنينية» لا تتحقق في موجدين كلاهما بلا بداية ولا نهاية ولا حدود ولا فروق. وكلاهما يريد ما يريده الآخر ، ويقدر ما يقدره ، ويعمل ما يعمله في كل حال ، وفي كل صغير وكبير. فهذان وجود واحد وليسا بوجودين. فإذا كانا اثنين لم يكونا إلا متمايزين متغايرين. فلا ينتظم على هذا التمايز والتغاير نظام واحد. وإذا كانا هما كاملين. فالمخلوقات ناقصة ، ولا يكون تدبير المخلوق الناقص على وجه واحد ، بل على وجوه.

٢٧٨

القسم الثالث

من الجزء الأوّل

من علوم هذا الكتاب

في الكلام في الوجوب والوجود والإرادات

والتّعين والماهيّة. وما يشبهها من المطالب

والمباحث

٢٧٩
٢٨٠