المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

يمكن تعقله وحده بدون الماهية ، ثم ثبت أن طبيعة الوجود من حيث إنه هو وجود أمر واحد، في الواجب والممكن ، فكيف تعقل طبيعة الوجود من حيث إنها وجود ، طبيعة واحدة في الواجب وفي الممكن؟ ثم إنه بلغ في القوة في جانب الواجب إلى حيث كان غنيا عن كل سواه ، وكان كل ما سواه محتاجا إليه ، وبلغ في الضعف والحاجة في جانب الممكن إلى حيث كان محتاجا إلى الماهية في الخارج وفي الذهن ، حتى إن العقل لا يمكنه أن يتصوره وحده ، بل ما لم يجعله تابعا لغيره ، فإنه لا يمكنه إدراكه وتصوره. وكل من أنصف علم أن هذا الكلام معلوم البطلان ببديهة العقل.

الحجة السابعة : اتفق الحكماء على أن تصور الوجود تصور بديهي جلي ، غني عن كل التعريفات ، واتفقوا أيضا على أن الحقيقة المخصوصة لواجب الوجود غير معلومة للبشر [وعبروا عن هذا المعنى بهذه العبارة وهي قولهم : كنه ذات الله تعالى غير معلوم للبشر] (١) ، ولما كان الوجود أولى بالتصديق (٢) ، وكانت الحقيقة المخصوصة غير متصورة ، فضلا عن أن تكون أولية التصور ، كان هذا برهانا قاطعا في أن حقيقة الله تعالى ، غير (٣) وجوده.

[وقال الداعي إلى الله رحمه‌الله] (٤) حقا. إني لكثير التعجب من هؤلاء الأفاضل كيف جمعوا بين هذين المذهبين؟ فإن قيل : مرادهم بقولهم : إن كنه حقيقة الله تعالى غير معلوم] (٥) ومتصور للبشر : هو أن البشر ما أحاط عقلهم بكنه صفات الله تعالى؟ قلنا : هذا بعيد جدا ، لأن معرفة الصفات غير ، ومعرفة الذات غير. والقوم قالوا : كنه الذات غير معلوم ، فكيف يجوز صرف هذا الكلام إلى الصفات؟ وأيضا : فالقوم حصروا صفات الله تعالى في: السلوب وفي الإضافات ، وهذان القسمان معلومان ، فكيف يقال : المراد أن

__________________

(١) من (ز).

(٢) التصور (ز).

(٣) عين (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

٣٠١

الصفات غير معلومة؟ وأيضا : فهب أن القوم لم يسلموا بأن الوجود بديهي التصور ، ولم يسلموا أن كنه ذات الله تعالى غير معلوم للبشر ، لكن هاتان المقدمتان قد صحتا بالبراهين اليقينية. أما الأول ففي كتاب الوجود. وأما الثاني ففي المسألة المشتملة على أن [كنه حقيقة] (١) الله تعالى غير معلوم (٢) للبشر ، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب على أظهر الوجوه.

الحجة الثامنة : قد ثبت في المنطق أن الوجوب (٣) والإمكان والامتناع جهات. وفسر أهل المنطق هذا المعنى بأن قالوا : كل قضية فلها موضوع ومحمول ، ولا بد وأن يحصل بين الموضوع وبين المحمول نسبة مخصوصة ، وتلك النسبة معناها كون ذلك الموضوع موصوفا بذلك المحمول. وكل قضية فلا بد فيها من حصول هذه الثلاثة. ثم إن موصوفية الموضوع [بالمحمول] (٤) تارة تكون على نعت الوجوب ، وتارة على نعت الإمكان ، وتارة على نعت الامتناع. وهذا الكلام لخصوه في المنطق [وهو كلام حق معلوم] (٥) تشهد فطرة العقل بصحته. إذا ثبت هذا فنقول : إذا قلنا : الله واجب الوجود. فهذه قضية لا بد فيها من موضوع ، ومن محمول ، ومن رابطة ، ومن جهة. أما الموضوع فهو قولنا : الله. أما المحمول فهو قولنا : موجود. وأما الرابطة فمحذوفة في اللفظ ولكنها معتبرة في المعنى ، والتقدير : الله هو موجود. وأما الجهة فهي الوجوب.

إذا عرفت هذا فنقول : المحكوم عليه بأنه موجود ، إما أن يكون هو كونه موجودا وإما أن يكون حقيقة غير الوجود ، وتلك الحقيقة هي الموضوع للوجود [ويكون الوجود] (٦) محمولا على تلك الحقيقة ، والأول باطل ، وإلا لصار تقدير هذه القضية : الوجود يجب أن يكون محكوما عليه بكونه موجودا. ومعلوم أن ذلك باطل. والثاني حق إلا أنه تصريح بأن الوجود محمول ، وأن موضوع هذا المحمول ماهية مخصوصة ، وحقيقة مخصوصة هو المحكوم عليها لهذا

__________________

(١) على أن صفات الله ... الخ (س).

(٢) غير معلوما (س).

(٣) الوجود (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س) س.

(٦) من (س).

٣٠٢

الوجود ، وإذا قلنا [ذلك فقد قلنا] (١) إن ماهية الله تعالى يجب أن تكون غير (٢) وجوده ، وذلك هو المطلوب.

الحجة التاسعة : إن الحكماء استدلوا على أن وجود الممكنات زائد على ماهياتها. فإن قالوا : يمكننا أن نتصور الماهية مع الشك في الوجود ، والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم ، فالماهية غير الوجود ، فنقول : هذا البرهان بعينه قائم في وجود واجب الوجود ، وذلك لأنا إذا تصورنا من واجب الوجود ، أنه الذي يستغني في وجوده عن الغير ، وأنه الذي يستحق الوجود من ذاته. فمن المعلوم بالضرورة أن هذا القدر من التصور لا يوجب الجزم بوجود هذا الموجود ، بل بعد حصول هذا التصور يبقى العقل شاكا في أن هذه الحقيقة ، هل هي موجودة أم لا؟ فثبت أن في هذا الموضع يمكن تصور الماهية مع الشك في الوجود ، وهذا يقتضي كون الماهية مغايرة للوجود ، فإن لم يلزم من هذا المعنى حصول التغاير [في هذا الموضع ، لم يلزم أيضا حصول التغاير في] (٣) الممكنات. فإن قالوا : الفرق أن ممكن الوجود يمكن [انفكاكه عن الوجود ، فلا جرم أمكن] (٤) تعقله [مع الشك في الوجود. أما واجب الوجود فإنه لا يمكن تعقله] (٥) من حيث إنه واجب الوجود إلا مع تعقل الوجود ، لأنه من المستحيل أن يقال : إنه مع كونه واجب الوجود ، لا يكون موجودا.

فنقول : فعلى ما ذكرتم يلزم في كل من تصور أن واجب الوجود لذاته ، ما هو؟ أن يجزم بأن واجب الوجود موجود ، ولما كان هذا باطلا [فاسدا] (٦) في بديهة العقل ، علمنا أنه يمكن حصول تصور واجب الوجود مع الشك في وجوده. وإذا كان [الأمر] (٧) كذلك وجب أن يكون وجوده زائدا على ماهيته.

الحجة العاشرة : لا شك أن قولنا : الله واجب الوجود ، كلام حق وصدق. فقولنا : الله موضوع ، وقولنا : موجود محمول ، وقولنا : واجب صفة

__________________

(١) من (ز).

(٢) عين (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

(٧) من (ز).

٣٠٣

لانتساب الموضوع إلى المحمول ، ونقول : المراد بالموضوع وهو قولنا الله ، إما أن يكون هو الوجود ، أو أمرا مغايرا للوجود ، والأول باطل لوجوه : أحدها : أن على هذا التقدير يصير معنى الكلام أن الوجود واجب الوجود. ولكن هذا باطل ، لأن الوجود الذي جعل موضوعا ، إما أن يكون هو الوجود الذي جعل محمولا أو غيره ، والأول باطل لأن جعل الشيء موضوعا لنفسه ومحمولا لنفسه ، كلام فاسد ، عار عن الفائدة. فإن من قال : الجدار : جدار. والمثلث : مثلث. كلامه كلام فاسد ، وإن كان الثاني لزم أن يكون الوجود الذي جعل موضوعا ، مغايرا للوجود الذي جعل محمولا ، فحينئذ يلزم من كونه موجودا : خبرين(١) وأيضا : فلما كانت طبيعة الوجود واحدة ، كان الوجود الذي هو الموضوع مساويا في تمام الماهية للوجود الذي هو المحمول ، وحينئذ لم يكن أحدهما بأن يكون موصوفا والآخر بأن يكون صفة ، أولى من العكس. فيثبت بهذا البرهان : أنا إذا قلنا : الله يجب أن يكون موجودا ، لم يكن المشار إليه بقولنا (٢) نفس الوجودية ، بل حقيقة أخرى سوى الوجودية ، وقد صدق حكم العقل عليها بوجوب اتصافها بالموجودية ، وذلك يدل على أن وجود الله تعالى ليس أمرا قائما بنفسه بل هو صفة لماهية أخرى. وذلك هو المطلوب.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من قولنا : الله ، حقيقة لا ندري ماهيتها ولا تعينها ولكنا نعرف في الجملة كونها موجودة؟ فنقول : هب أنا لا نعرف أن تلك الحقيقة ما هي؟ إلا أنا نعرف منها أنها إما أن تكون هي الوجود ، أو حقيقة مغايرة للوجود [فإن كانت هي الوجود ، لزمت المحالات. وإن كانت حقيقة مغايرة للوجود] (٣) لزم كون وجود الله تعالى صفة لتلك الحقيقة. وذلك هو المطلوب. ولما كان هذا الكلام الذي يفيد مقصودنا متقرر ، سواء عقلنا خصوصية تلك الحقيقة ، أو لم نعقلها ، لم يكن عدم علمنا بتلك

__________________

(١) مرتين (ز).

(٢) بقوله (س).

(٣) من (ز).

٣٠٤

الحقيقة المخصوصة من حيث إنها هي ، قادحا في مطلوبنا.

الحجة الحادية عشر في إثبات هذا المطلوب : أن نقول : لا شك أن الحق تعالى ذات متعينة ممتازة بتعينها عن كل ما سواه من الذوات المعينة ، ولا شك أن الوجود من حيث إنه وجود حقيقة يشترك فيها الواجب والممكن والجوهر والعرض ، فنقول : ذاته المخصوصة إما أن يكون هو هذا المفهوم المشترك فيه بين كل الموجودات ، وإما أن يكون هو هذا المفهوم ، مع قيد زائد يقتضي تخصصه وتعينه. والأول باطل ، لأن هذا المفهوم المشترك يصدق عليه كونه مشتركا بين الكل ، وذاته المخصوصة لا يصدق عليها هذا المعنى. فبطل القول بأن ذاته المخصوصة هو هذا المفهوم المشترك.

بقي أن يقال : إنه هو هذا المفهوم مع قيد زائد. فنقول : ذلك [القيد] (١) الزائد إما أن يكون سلبيا أو ثبوتيا ، والأول باطل ، لأنه سبحانه من حيث إنه هو ذلك المعين موجود ، وما لأجله التعين جزءا من المعين ، فلو كان ما لأجله حصل التعين قيدا سلبيا ، لزم أن يكون القيد السلبي جزءا من الماهية الثابتة ، وهو محال. وأما إن كان القيد الذي لأجله حصل التعين أمرا ثابتا ، فإما أن يكون ذلك الأمر المخصوص موضوعا والوجود المشترك فيه محمولا ، وإما أن يكون الأمر بالعكس منه. والأول هو المقصود. لأن على هذا التقدير تكون تلك الهوية المخصوصة المعينة موصوفة بالوجود ، فيكون ذلك الوجود عارضا لماهيته ، والثاني باطل لوجهين : أحدهما : أنه ثبت في المنطق أن الأخص بالموضوعية والأعم أولى بالمحمولية. والثاني : وهو أنا لو جعلنا الوجود المطلق موضوعا ، وجعلنا تلك الخصوصية محمولة له ، لزم أن يقال : الوجود المشترك فيه هو تلك الخصوصية ، وحمل تلك الخصوصية عليه ، يمنع من كونه مشتركا فيه بينه وبين غيره ، فلزم أن يقال : الأمر المشترك فيه غير مشترك فيه ، وذلك محال. فثبت : أن القول بأن حقيقته وجود مجرد ، يفضي إلى أقسام باطلة فيكون القول به باطلا.

__________________

(١) من (س).

٣٠٥

الحجة الثانية عشر : أجمع العقلاء على أن أفراد النوع الواحد يجب تساويها في اللوازم، وصريح العقل شاهد بصحة هذه المقدمة.

وإذا ثبت هذا فنقول : الوجود في حق واجب الوجود ، والوجود في حق ممكن الوجود: طبيعة نوعية واحدة. فوجب أن يصح على كل واحد منهما ، ما يصح على الآخر. ولما كان ذلك باطلا ، علمنا أن الحقيقة المخصوصة لواجب الوجود لذاته حقيقة ، تخالف سائر الحقائق. وأيضا : فقد اتفقت الحكماء على أن الطبيعة النوعية إنما بعرض لها التعدد (١) بسبب القوابل [والماهية الموصوفة بالوجدان ، جارية مجرى القوابل بتلك الوجودات. فثبت أنه لو لا] (٢) الماهيات [المختلفة] (٣) لامتنع وقوع التعدد في طبيعة الوجود ، وحيث وقع التعدد فيه ، علمنا أن وقوع التعدد فيها ، إنما كان بسبب الماهيات المختلفة.

فهذه البراهين التي ذكرناها ولخصناها : وجوه ظاهرة جلية قطعية في إفساد هذا المذهب.

واحتج الشيخ الرئيس : [أبو علي] (٤) في بيان أن وجود الله تعالى يمتنع كونه عارضا [لشيء] (٥) من الماهيات بوجه واحد ذكره في كتاب الإشارات. وأنا أذكر ذلك الوجه ، وأضم إليه تقريرات قوية ، وبيانات كاملة. فنقول : وجود الله تعالى إما أن يكون مستقلا بنفسه (٦) قائما بذاته ، من غير أن يكون تحققه محتاجا إلى تحقق غيره ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون تحققه محتاجا إلى تحقق غيره. فإن كان الحق هو الأول ، كان ذلك الوجود قائما بذاته مستقلا بنفسه ، فلا يكون عارضا لشيء من الماهيات. وإن كان الحق هو الثاني ، وهو كون ذلك الوجود غير مستقل بنفسه بل يكون مفتقرا إلى غيره ، فنقول : فذلك الوجود مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، فذلك الوجود

__________________

(١) التفرد (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) مستقلا بنفسه ، قائما بنفسه (ز).

٣٠٦

ممكن لذاته. وكل ممكن لذاته فلا بد له من سبب ، وذلك السبب إما تلك الماهية أو غيرها. ولا جائز أن يكون سبب ذلك الوجود هو تلك الماهية ، لأن كون تلك الماهية مقتضية لذلك الوجود ، إما أن يكون مشروطا بكونها موجودة [أو لا يكون] (١) مشروطا بهذا الشرط. ولا جائز أن يكون اقتضاء تلك الماهية لذلك الوجود ، مشروطا بكونها موجودة ، لأن الوجود الذي هو شرط الاقتضاء ، إن كان هو غير (٢) الوجود الذي هو الأثر (٣) ، لزم كون الشيء الواحد شرطا لنفسه ، وهو محال ، وإن كان غيره لزم أن يكون الشيء الواحد موجودا مرتين ، وهو محال. ولأن الكلام في الوجود الثاني كالكلام في الأول ، يلزم إما التسلسل ، وإما الدور وهما محالان. هذا كله إذا قلنا : إن اقتضاء تلك الماهية لذلك الوجود ، مشروط بكون تلك الماهية موجودة. أما إن قلنا : إن هذا الشرط غير معتبر ، فحينئذ يكون هذا قولا بأن ما ليس بموجود ، يكون مقتضيا للوجود ، وذلك محال في بديهة العقل ، لأن الشيء ما لم يكن موجودا في نفسه ، يمتنع كونه علة في وجود غيره. وهذا كله إذا قلنا : العلة المقتضية لذلك الوجود هي تلك الماهية. أما إذا قلنا : العلة المقتضية لذلك [الوجود] (٤) شيء آخر سوى تلك الماهية ، فحينئذ يكون وجود واجب الوجود لذاته ، مستفادا من سبب منفصل ، فيكون واجب الوجود لذاته [واجب الوجود بغيره ، وذلك محال. فثبت أن القول بأن وجود واجب الوجود لذاته] (٥) عارض لماهيته : يفضي إلى هذه المحالات ، فوجب أن يكون القول به محالا. فثبت أنه لا حقيقة له إلا الوجود المجرد عن جميع الماهيات. وهذا هو تقرير هذه الحجة على أقوى الوجوه.

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : إن ذلك الوجود غني عن تلك الماهية؟

__________________

(١) من (ز).

(٢) عين (س).

(٣) الله (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

٣٠٧

قوله : «لو كان غنيا عنها لكان قائما بنفسه ، ولم يكن صفة لتلك الماهية» قلنا : ألستم تقولون : إن الصورة علة لوجود المادة (١) ، مع أن الصورة حالة في المادة ، وما يكون علة لوجود الشيء ، يكون غنيا عن ذلك المعلول في وجوده ، فالصورة غنية في وجودها عن المادة، مع أن الصورة حالة في المادة؟ فلم لا يجوز أن يقال : إن ذلك الوجود غني عن تلك الماهية ، ومع كونه غنيا عنها ، فإنه يكون حالا فيها؟ وتقرير الكلام من وجهين :

الأول : أن يقال : الوجود وإن كان غنيا في نفسه عن تلك الماهية ، إلا أنه علة لكونه حالا في تلك الماهية ، وعلى هذا التقدير فالوجود مع كونه غنيا عن تلك الماهية ، يكون حالا فيها. أو يقال : تلك الماهية توجب كون [ذلك] (٢) الوجود حالا في تلك الماهية ، فهذان الاحتمالان قائمان ، وكل واحد منهما لا يقدح في كون الوجود حالا في الماهية مع كون الوجود غنيا عن الماهية. وبهذين الطريقين جوزنا كون الصورة علة لوجود المادة، مع كون الصورة حالة في المادة. هاهنا.

الوجه الثاني في الجواب : سلمنا أن بتقدير أنه يجب حصول ذلك الوجود [في تلك الماهية ، فإنه يلزم كون الوجود] (٣) مفتقرا إلى تلك الماهية ، ويلزم من كون الوجود مفتقرا إلى الماهية كون الوجود ممكنا ، إلا أنا نقول : هاهنا دليل يمنع كون الوجود موصوفا بالإمكان. وتقريره : وهو أن ممكن الوجود هو الذي لا يمتنع كون حقيقته حاصلة مع الوجود تارة ، ومع العدم أخرى. وهذا المعنى لا يعقل في حق الوجود ، لأنا لو قلنا : إن ماهية الوجود تارة تحصل مع الوجود ، وأخرى مع العدم ، لزم كون الوجود على أحد التقديرين موصوفا بوجود آخر ، وعلى التقدير الثاني يكون موصوفا بالعدم. وكل ذلك [محال] (٤) أما الأول فلأنه يلزم اجتماع الوجودين للشيء الواحد. وأيضا : فلا يكن أحدهما

__________________

(١) الماهية (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

٣٠٨

بالموصوفية والآخر بكونه صفة للأول أولى من العكس. وأما الثاني فلأنه يلزم الجمع بين الوجود وبين العدم ، وهو محال. فيثبت : أن وصف الوجود بكونه ممكن الوجود والعدم محال. فيثبت : أن [الدليل] (١) الذي ذكرتم ، وإن اقتضى كون الوجود موصوفا بالإمكان ، إلا أن الدليل الذي ذكرناه يمنع منه.

الوجه الثاني في الجواب (٢) : وهو الجواب المعتمد أن نقول : لم لا يجوز أن يقال : المقتضى لذلك الوجود هو الماهية؟ قوله : «اقتضاء تلك الماهية لذلك الوجود إما أن يكون مشروطا بكون تلك الماهية موجودة ، وإما أن لا يكون مشروطا بذلك» قلنا : المختار أن الماهية من حيث هي هي ، كافية في اقتضاء ذلك الوجود.

والذي يدل على أن هذا الذي ذكرناه غير مستبعد ، وجوه :

الأول : لا نزاع أن ماهيات الممكنات مغايرة لوجوداتها ، وأن تلك الماهيات قابلة لتلك الوجودات. [فنقول : إن كان الشرط في كون تلك الماهيات قابلة لتلك الوجودات] (٣) كونها موجودات في نفسها ، ألزمت المحالات التي ذكرتموها ، وإن لم يكن كون الماهية قابلة للوجود مشروطا بكونها موجودة ، بل الماهية من حيث إنها هي ، تكون قابلة ، فلم لا يجوز أن يقال : المؤثر في ذلك الوجود هو تلك الماهية من حيث إنها هي؟ وبالجملة فكل ما تذكرونه في جانب القبول ، لم لا يجوز مثله في جانب التأثير؟

الثاني : إن الماهية الممكنة مقتضية للإمكان لما هي هي ، وأما الوجود فإنما يحصل من السبب المنفصل ، وما بالذات قبل ما بالغير ، فاقتضاء الماهية الممكنة للإمكان سابق على اتصافها بالوجود ، فيثبت : أن اقتضاء الماهية للوازمها ، سابق على اتصافها بالوجود ، فيثبت : أن اقتضاء الماهية للوازمها لا يتوقف على كون تلك الماهية موجودة. وإذا عقل ذلك في الجملة ، فلم لا يعقل مثله في

__________________

(١) من (س).

(٢) في الأصل : الثالث.

(٣) من (ز).

٣٠٩

اقتضاء الماهية لوجود نفسها؟.

الثالث : إن الماهية الموجودة قابلة للوجود. وقابلية الوجود [سابقة على حصول الوجود. ثم نقول : قابلية الوجود صفة خارجة عن الماهية ، لأن قابلية الوجود] (١) نسبة مخصوصة بين الماهية وبين الوجود ، والنسبة بين الأمرين مغايرة لذات كل واحد منهما ، فقابلية الماهية للوجود صفة خارجة عن الماهية لازمة لها ، فتكون [معلولة الماهية لقابلية الوجود لا تكون مشروطة بالوجود ، لأن الوجود متأخر بالرتبة عن قابلية الوجود ، والمتأخر] (٢) لا يكون شرطا للمتقدم. فيثبت : أن اقتضاء الماهية لهذا الحكم ، غير مشروط بالوجود ، وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : إن اقتضاء الماهية للوجود لا يكون مشروطا بوجود آخر؟ وحينئذ يندفع ما ذكرتموه.

فإن قالوا : فالماهية إذا لم يكن اقتضاؤها للوجود ، مشروطا بكونها موجودة. فحينئذ يجوز كونها مقتضية للوجود حال عدمها. فحينئذ يلزم كون المعدوم علة للموجود ، وذلك محال. فنقول : لا شك أن قبول الماهية للوجود غير مشروط بكونها موجودة ، ثم مع هذا لا يلزم أن يقال : المعدوم موصوف بالوجود. وإذا لم يلزم هذا في جانب القبول ، فكذلك مثله في جانب التأثير. وتحقيق القول فيه : أن الماهية من حيث إنها هي ، مغايرة لكونها موجودة أو معدومة. وإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الحجة التي عولوا عليها من جميع الوجوه.

__________________

(١) من (ز).

(٢) في (س) : فتكون معلولة لها ، باقتضاء الماهية لقابلية الوجود ، لا يكون مشروطا للمتقدم ... الخ.

٣١٠

المسألة الرابعة

في

تحقيق القول في بيان أن المبدأ الأول.

هل هو تلك الحقيقة المخصوصة؟

اعلم. أن هذا البحث يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة. وهي : أنا نقول : أنا إذا قلنا : الماهية الفلانية من حيث هي هي ، لا موجودة ولا معدومة (١) فهذا الكلام يحتمل وجهين :

أحدهما (٢) : أن يكون المراد : أن الماهية الفلانية من حيث (٣) إنها هي ، عبارة مغايرة لكونها موجودة أو معدومة.

الثاني : أن يكون المراد أن الماهية الفلانية خالية عن الوجود وعن العدم [والمفهوم الأول حق] (٤) والمفهوم الثاني باطل. لأنا إذا اعتبرنا المثلث من حيث إنه مثلث ، فهذا الاعتبار من حيث إنه هو ، مغاير لكونه موجودا ، أو لكونه معدوما. والدليل : أن المفهوم من لفظ الموجود ومن لفظ المعدوم مغاير للمفهوم من لفظ المثلث. بدليل : أنه يصح تعقل الموجود وتعقل المعدوم حال الذهول عن تعقل معنى المثلث ، وكذلك يحصل أيضا تعقل المثلث من حيث إنه مثلث مع الذهول عن كونه موجودا أو عن كونه معدوما. فظهر بهذا أن كونه مثلثا (٥) [غير (٦)] وموجودا أو معدوما غير. وأما الاحتمال الثاني وهو

__________________

(١) موجودة (ز).

(٢) الأول (س).

(٣) من حيث هي هي ، لا موجودة ولا معدومة (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) زيادة.

٣١١

أن يقال : إن كونه مثلثا ينفك عن الموجود وعن المعدوم ، فهذا محال لأن الشيء إما أن يكون له حصول في الأعيان ، وإما أن لا يكون له حصول في الأعيان ، وكونه خاليا عنهما أمر محال في العقل. فالحاصل : أن كونه مثلثا مغاير لكونه موجودا أو معدوما ، ولكنه يمتنع أن ينفك عنهما معا. وإذا عرفت هذا فنقول : إذا فرضنا أن حقيقة من الحقائق ، وماهية من الماهيات كانت علة لوجود نفسها ، فعلة الوجود هي تلك الماهية من حيث هي هي لا كونها موجودة ولا كونها معدومة ، وحينئذ يصدق أن يقال : مبدأ ذلك الوجود لا موجود ولا معدوم ، ويصدق أيضا أن يقال : المبدأ موجود وهو أحق الموجودات بكونه موجودا.

أما الأول : فإنما يصدق لما بينا أن مبدأ ذلك الوجود هو تلك الماهية ، وبينا أن تلك الماهية من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة. وأما الثاني : فإنما يصدق لأن تلك الماهية لما كانت علة لذلك الموجود لعينها ولذاتها ، فحينئذ يمتنع عقلا خلو تلك الماهية عن الوجود ، فكانت لا محالة موجودة ، وكانت أحق الموجودات بصفة الوجود.

إذا عرفت هذا فنقول : عقل من بعض الناس أنهم قالوا : المبدأ الأول لا موجود ولا معدوم ، بل هو هو فقط ، وأنه هوية لا يمكن التعبير عنها بالوجود والعدم.

وأما الجمهور فإنهم اتفقوا على أن المبدأ الأول موجود ، بل هو أحق الموجودات بصفة الموجودية ، وطالت المنازعات بين الفريقين في هذا الباب ، وإذا تأملت في الكلام الذي بحثناه وشرحناه علمت أن النزاع واقع في اللفظ المحض [وبالله التوفيق] (١).

__________________

(١) من (ز).

٣١٢

المسألة الخامسة

في

بيان أنّه ـ سبحانه ـ يخالف جملة الممكنات ، لذاته

المخصوصة ، لا لصفة زائدة على الذات

اعلم. أن جمهور المتكلمين يقولون : الذوات متساوية في كونها ذوات ، وإنما يمتاز بعضها عن بعض بصفات قائمة بها ولما اعتقدوا ذلك ، قالوا : إنه سبحانه وتعالى ذات ، وإن الجسم أيضا ذات ، وامتياز ذاته عن ذوات الأجسام ، لا بد وأن يكون لأجل صفة اختص بها ذات الله تعالى ، ولأجل تلك الصفة امتازت ذاته عن سائر الذوات. والذي نقول به : أن ذاته سبحانه وتعالى ذات مفردة منزهة عن جميع جهات التركيب [وأن تلك الذات لعينها ولذاتها ، مخالفة لسائر الذوات ، وقبل الخوض في الدليل لا بد من تقديم مقدمة وهي في بيان أن الشيء قد يخالف غيره لعينه ولذاته ، من غير حاجة إلى صفة زائدة] (١) والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه :

الأول : إنا لو فرضنا كون الذوات متساوية في الذاتية ، وفرضنا أنه إنما يخالف بعضها بعضا لأجل الصفات القائمة بها ، فتلك الصفات إما أن يكون بعضها مخالف للبعض ، أو لا يكون. والثاني باطل لأن تلك الصفات إذا لم تكن متخالفة ، استحال ضرورة أن تكون تلك الذوات متخالفة لأجلها ، وإن كانت تلك الصفات متخالفة فاختلافها إما أن يكون لصفات أخرى ، وحينئذ يلزم منه التسلسل ، وهو محال. وإن كان اختلافها لأنفسها ولأعيانها ، فحينئذ

__________________

(١) من (ز).

٣١٣

تكون تلك الصفات متخالفة لأنفسها من غير اعتبار صفة أخرى ، وذلك يدل على أنه لا يمتنع كون تلك الأشياء مختلفة لأنفسها ولأعيانها.

الحجة الثانية في صحة هذا المطلوب : أن نقول : الذات والصفة (١) لا بد وأن يكون كل واحدة منهما مخالفة للأخرى ، إذ لو كانتا متساويتين في تمام الماهية ، فحينئذ لم يكن كون إحداهما ذاتا والأخرى صفة أولى من العكس. فثبت أن الذات والصفة يجب كون كل واحدة منهما مخالفة للأخرى. فنقول : تلك المخالفة الحاصلة بينهما إما أن تكون لأجل صفة أو لا لأجل صفة؟ والأول باطل. لأنا بينا أن كون الذات موصوفة بالصفة مشروط بكون كل واحد منهما مخالفا للآخر. فلو عللنا كون كل واحدة منهما مخالفة للأخرى بقيام الصفة بها ، لزم الدور وهو محال. فثبت : أن كون الذات والصفة مختلفين ليس معللا لشيء من الصفات ، بل هو لعين حقيقتهما ، ولنفس ماهيتهما. وذلك هو المطلوب.

الحجة الثالثة في صحة هذا المطلوب : إنا إذا قلنا : إن هذا الشيء يماثل ذلك الشيء من بعض الوجوه ويخالفه من سائر الوجوه.

فهذا كلام مجازي. وذلك لأن الوجه الذي لأجله حصلت المشاركة مغاير للوجه الذي لأجله حصلت المخالفة ، وإلا لزم اجتماع النقيضين في الشيء الواحد وهو محال. بل الحق أن كل واحد من هذين الشيئين مركب من جزءين. وأحد الجزءين من أحد الجانبين يماثل الجزء الآخر من الجانب الثاني مماثلة في حقيقتهما [ومساواة في ماهيتهما] (٢) والجزء الثاني من الجانب الأول يخالف الجزء الثاني من الجانب الثاني مخالفة تامة ، لنفس الحقيقتين. وإذا عرفت هذا فقد ظهر أن الشيئين اللذين [تماثلا فإنما] (٣) يتماثلان لتمام حقيقتهما ولنفس ماهيتهما ، لا لصفة زائدة ، وأن الشيئين اللذين يختلفان [فإنما يختلفان] (٤) لتمام

__________________

(١) الذوات والصفات (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

٣١٤

حقيقتهما [ولنفس ماهيتهما] (١) لا لصفة [زائدة] (٢) فظهر بما ذكرنا : أن التماثل أو الاختلاف لا يعقل أن يكون معللا بأمر زائد ، بل لا يحصلان إلا لنفس الماهية والحقيقة. وإذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ندعي أن ماهية الله تعالى مخالفة لماهيات جميع الممكنات لنفسها ولعينها من غير أن تكون تلك المخالفة لأجل صفة أو حالة. والذي يدل على صحة ما ذكرناه : أن الحقيقة المخصوصة في حق الله تعالى ، إما أن تكون مساوية لحقائق الممكنات من حيث إنها هي ، وإما أن لا تكون مساوية لها من حيث هي هي ، فإن كان الحق هو القسم الثاني فحينئذ يظهر أنه يمتنع تعليل تلك المخالفة بشيء من الصفات ، لأن كل حكم حصل لذات الشيء ، ولماهيته ، فإنه يمتنع حصوله لغيره ، لأن الشيء الواحد لا يكون واجب الوجود لذاته أو لغيره معا. وأما إن كان الحق هو القسم الأول فنقول : لما كانت الذوات بأسرها متساوية في مجرد كونها ذوات ، فاختصاصات ذات الله تعالى بالصفة التي لأجلها امتازت ذاته عن سائر الذوات ، إما أن يكون لا لأمر ، أو يكون لأمر. والأول باطل لأن الذوات لما كانت متساوية في تمام الذاتية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ، فلو اختصت ذات معينة بصفة معينة دون سائر الذوات ودون سائر الصفات لا لمرجح ولا لمؤثر ، كان ذلك رجوحا (٣) للممكن من غير سبب ، وذلك محال. وأما الثاني وهو أن يقال : إن تلك الذات المعينة اختصت بتلك الصفة لأمر آخر ، فحينئذ يعود الكلام في اختصاص تلك الذات بذلك المرجح ، فيكون لمرجح [آخر] (٤) وحينئذ يلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان. فثبت أن القول بأن ذات الله سبحانه مساوية لسائر الذوات في الذاتية ، وأن امتياز ذاته عن سائر الذوات إنما كان لأجل اختصاص ذاته بصفة ، لأجلها حصل الامتياز : قول يفضي إلى أقسام باطلة ، فوجب أن يكون هذا القول باطلا ، فيثبت : أن حقيقته سبحانه تخالف سائر الحقائق والماهيات لنفسها ولعينها. وذلك هو المطلوب.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) وقوعا (س).

(٤) من (س).

٣١٥

واحتج المخالف على صحة قوله. بوجوه :

الأول : إن الذوات بأسرها متساوية في كونها ذوات ، فامتياز بعضها عن البعض لا بد وأن يكون لصفة. بيان المقام الأول : أنا نقول : الذات ما يكون مستقلا بنفسه ، والصفة (١) لا تكون إلا بالغير. فيعقل من الذات هذا المفهوم الواحد ، وذلك يدل على أن الذوات متساوية في كونها ذوات.

وبيان المقام الثاني : أنه لما وقع الاستواء في المفهوم من كونها [ذوات] (٢) وجب أن يحصل الامتياز بمفهوم غير ذلك المفهوم ، ضرورة أن جهة المساواة غير جهة المخالفة ..

والثاني : أن نقول : إن حقيقة ذات الله تعالى إما أن تكون هو أنه ذات فقط ، أو تكون حقيقته أنه ذات ما معينة مخصوصة.

فإن كان الأول لزم أن يكون كل ما يصدق عليه [أنه ذات ، يصدق عليه أنّه] (٣) هو الله سبحانه ، وإن كان الثاني فحينئذ يكون المفهوم من ذلك التعين وتلك الخصوصية أمرا زائدا على المفهوم من كونه ذاتا. وذلك يدل على أن امتياز ذاته تعالى عن سائر الذوات ، لا بدّ وأن يكون بصفة.

والثالث : أن نقول : نحن [نعلم] (٤) بالضرورة أنه لا يمكننا تعريف ذات من الذوات المخالفة لسائر الذوات ، إلا بأنه المختص بالصفة الفلانية ، أو الموصوف بالأمر الفلاني ، ولأجل اختصاصها بتلك الصفة ، أو بذلك الأمر ، وقع الامتياز. وذلك يدل على مخالفة بعض الذوات لبعض ، معللة بالصفات.

والجواب عن الأول : إنا لا ننازع في أن الذوات متساوية في المفهوم من كونها ذوات. لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك المفهوم مفهوما سلبيا ، ويكون معناه أنه أمر ما ليس تابعا (٥) لغيره في الحصول والتحقق؟ وقد عرفت في كتب

__________________

(١) والصفة ما يكون تابعا لغيره ، فتعقل والذات (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) مانعا (س).

٣١٦

المنطق : أن الاستواء في المفهوم (١) ، لا يوجب الاستواء في الماهية ، وعلى هذا التقدير لا يبعد استواء الذوات في هذا المفهوم السلبي ، مع أنه يكون كل واحد منهما ممتازا عن الآخر بتمام حقيقته.

والذي يقوي هذا الذي ذكرناه : أن الدليل الذي ذكرتم في كون الذوات متساوية في المفهوم من كونها ذوات ، فهو أيضا بعينه يدل على أن الصفات متساوية في المفهوم من كونها صفات. وإذا كان كذلك وجب أن لا يحصل الاختلاف البتة ، لأن الاختلاف لو حصل لحصل إما في الذوات ، وإما في الصفات ، وعلى التقديرين فالاختلاف مفقود (٢) ، فوجب أن لا يحصل الاختلاف البتة ، وحيث حصل ، علمنا أن ما ذكرتم من الدليل ساقط.

والجواب عن الثاني : إنا بينا بالدلائل الثلاثة في مقدمة هذه المسألة : أنه لا يلزم من كون الشيء مخالفا لشيء آخر ، أن تكون تلك المخالفة واقعة لأجل صفة زائدة ، وإذا تقررت هذه المقدمة سقطت تلك الشبهة. وهذا هو الجواب بعينه عن الشبهة الثالثة.

واعلم أن حاصل الكلام في هذه المسألة أنا نقول : كل واحدة من الذوات تخالف غيرها ، في كونها تلك الحقيقة المخصوصة ، إلا أن هذه الحقائق المختلفة ، يلزمها لازم واحد سلبي ، وهو كونها ذوات. والأشياء المختلفة لا يمتنع اشتراكها في لازم سلبي (٣). أما الخصوم فإنهم يقولون : الذوات متساوية في كونها ذوات إلا أن كل واحدة منها يلزمها صفة معينة لأجلها تمتاز عن غيرها وذلك محال. لأن الأشياء المتساوية يمتنع أن يلزمها لوازم مختلفة. فهذا تمام هذا الكلام في هذا الباب [وبالله التوفيق] (٤).

__________________

(١) السكوت (س).

(٢) مقصود (ز).

(٣) واحد (س).

(٤) من (ز).

٣١٧

المسألة السادسة

في

بيان كونه ـ تعالى ـ قديما أزليا

اعلم. أن كل ما كان واجب الوجود لذاته ، فإنه يجب كونه قديما أزليا. لكن ليس كل ما كان قديما أزليا ، فإنه يجب كونه واجب الوجود لذاته.

أما بيان الأول فهو أن كل ما كان واجب الوجود لذاته كانت حقيقته غير قابلة للعدم، وكل ما كان كذلك ، فإنه يجب أن يكون موجودا أزلا وأبدا. إذ لو كان معدوما [في الأزل أو سيصير معدوما] (١) في الأبد ، فحينئذ تكون حقيقته قابلة للعدم ، وقد فرضنا أنه ليس كذلك. فثبت أن كل ما كان واجب الوجود لذاته ، فإنه يجب أن يكون قديما أزليا باقيا سرمديا.

وأما بيان الثاني : وهو أنه لا يلزم من كونه قديما أزليا باقيا سرمديا : كونه واجب الوجود لذاته [فهو أنه لا يمتنع في أول العقل : كون شيء معلول شيء آخر واجب الوجود لذاته] (٢) والمعلول يجب دوامه بدوام علته [فهذا المعلول يكون قديما باقيا أزليا سرمديا ، مع أنه لا يكون واجب الوجود لذاته. فثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان واجب الوجود لذاته ، فإنه يجب أن يكون قديما أزليا سرمديا ، وقد يكون أزليا سرمديا] (٣) ولا يكون واجب الوجود لذاته.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

٣١٨

إذا عرفت هذا فنقول : إنا لما بينا بالبرهان القاطع كونه تعالى واجب الوجود لذاته ، فحينئذ يلزم كونه قديما أزليا باقيا سرمديا. إلا أنا نريد أن نذكر مذاهب الناس في هذا الباب ، وطرقهم. ليكون هذا الكتاب حاويا لكل ما قيل في هذا الباب. فنقول : للمتكلمين في هذا الباب طريق ، وللفلاسفة طريق آخر. أما المتكلمون فإنهم لما أقاموا الدلالة على حدوث هذا العالم الجسماني قالوا : العالم محدث ، وكل محدث فله محدث. فالعالم له محدث ثم قالوا : ذاك المحدث إن كان محدثا كانت [علة] (١) الافتقار إلى المحدث حاصلة فيه ، وحينئذ يلزم افتقاره إلى محدث ، والكلام فيه كما في الأول ، فيلزم إما الدور وإما التسلسل ، وهما باطلان.

فيثبت أن القول بأن صانع العالم محدث يفضي إلى الأقسام الباطلة (٢) فيكون القول بحدوث الصانع باطلا ، فوجب الجزم بكونه أزليا قديما. ثم يقيمون الدليل على أن ما ثبت قدمه ، امتنع عدمه وعند هذا يحكمون بأنه تعالى كما أنه قديم أزلي ، فكذلك يجب أن يكون باقيا سرمديا.

فهذا تقرير كلامهم.

ولقائل أن يقول : إن هذا الذي ذكرتم لا يدل البتة على أن خالق هذا العالم يجب أن يكون قديما وبيانه من وجوه :

أحدها : أنه يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن الإله الذي هو واجب الوجود لذاته خلق موجودا آخر ، وخلق فيه القدرة على إيجاد الأجسام. وذلك الشيء الآخر هو الذي خلق هذا العالم الجسماني ، وبهذا التقدير فإنه لا يكون خالق هذا العالم الجسماني قديما أزليا. بل يكون محدثا مخلوقا ، وخالقه يكون قديما أزليا ، وبهذا التقدير فالدور والتسلسل لا يلزمان البتة.

__________________

(١) من (س).

(٢) الثلاثة (س).

٣١٩

وثانيا : أن يقال [لم لا يجوز أن يقال : إن] (١) الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته أوجب لذاته موجودا ليس بجسم ولا بجسماني ، وذلك الموجود موصوف بالعلم والقدرة [والحكمة] (٢) وهو الذي خلق هذا العالم وأوجده ، وعلى هذا التقدير فخالق هذا العالم قديم أزلي موصوف بالعلم والقدرة ، إلا أنه لا يكون واجب الوجود لذاته ، بل هو معلول علة قديمة واجبة الوجود لذاتها.

فالسؤال الأول : يتفرع على أن الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته يكون قادرا مختارا.

والسؤال الثاني : يتفرع على كونه موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار (٣). فيثبت على كلا التقديرين (٤) أن هذا السؤال لازم. وأيضا : فعلى تفريع قول من يقول : إن الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته موجب بالذات لا فاعل مختار ، يصح أن يقال : إن خالق هذا العالم لا يكون قديما ، بل يكون محدثا. وتقريره : أن [على تقدير أن] (٥) يكون الواجب لذاته موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار ، فإنه لا يمكن إسناد هذه الحوادث اليومية إليه ، إلا بأن يقال : بأن تأثيره في وجود كل حادث ، مسبوق بحصول حادث آخر قبله ، لا إلى أول ، وإذا جاز هذا ، جاز أيضا أن يقال : إنه حصل في الأزل جوهر ليس بجسم ولا بجسماني. مثل : عقل ، أو نفس. ويكون ذلك الموجود محلا لإدراكات جزئية متعاقبة ، ولتصورات جزئية متلاحقة. ولما انتهت تلك التصورات إلى تصور خاص [وذلك التصور الخاص بسبب الفيضان ـ موجود قادر عالم لذاته ـ عن المبدأ الأول ، ثم إن ذلك الشيء] (٦) صار خالقا لهذا العالم الجسماني.

فيثبت أن على تقدير القول بأن واجب الوجود لذاته موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فإن هذا الاحتمال باق. وإذا وقفت على هذه المباحث ،

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) ومختارا (س).

(٤) الطريقين (س).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

٣٢٠