المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

باعتبار ذاته المخصوصة ، فذات الأثر توجب حصول الأثر ، ثم عند حصول ذات الأثر تحصل الإضافتان العارضتان للذات أعني : كون أحدهما مؤثرا في الآخر ، وكون الآخر أثرا للأول.

والجواب عن الشبهة السادسة عشر : وهي قولهم : «الممكن ما لم يصر واجب الصدور عن المؤثر لم يوجد» فنقول : هذا حق : إلا أن ذلك الوجوب يكون صفة لذات المؤثر لا لذات الأثر ، وتفسير هذا الكلام : أنه ما لم يصر المؤثر بحيث يجب تأثيره في ذلك الأثر (١) لم يصدر عنه ذلك الأثر ، وبهذا التفسير يسقط ما ذكروه من الشبهة.

والجواب عن الشبهة السابعة عشر : أن نقول كون الأثر ممكن الوجود ومحتاجا ، شرط لتأثير المؤثرية فيه ، والفرق بين الشرط وبين العلة معلوم.

والجواب عن الشبهة الثامنة عشر : وهي قولهم : «المؤثر إذا صار مؤثرا في الأثر فتلك المؤثرية حكم حادث» فنقول : لو كان المؤثر صفة زائدة للزم التسلسل ، وهو محال ، فظهر أنها ليست صفة موجودة في الأعيان. فهذا جملة الكلام (في الجواب) (٢) عن هذه الشبهات (والله ولى الإرشاد والهداية والعصمة بفضله) (٣).

__________________

(١) أن يصدر ذلك (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

١٢١

الفصل السادس

في

إيراد نوعين آخرين من السؤال على قولنا :

الممكن لا بدّ له من مرجح

أما تقرير السؤال الأول : فهو أن نقول : الممكن هو الذي يقبل الوجود ، ويقبل العدم ، إلا أنا نقول : الذي يكون كذلك على قسمين :

أحدهما : أن يكون قبول الماهية للوجود والعدم على السوية من غير تفاوت (أصلا) (١).

والثاني : أن يكون قابلا (لهما) (٢) ، إلا أن أحد الطرفين يكون أولى بتلك الماهية من الطرف الآخر ، إذا عرفت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إن هذه الممكنات وأن كانت موصوفة بالإمكان ، بمعنى أن صفاتها قابلة للعدم وللوجود ، إلا أنها غنية عن السبب وعن المؤثر ، وذلك لأجل أن الوجود أولى بها من العدم ، فهذه الماهيات لأجل كونها قابلة للوجود وللعدم ، تكون من جملة الممكنات ، إلا أنها لأجل أن الوجود أولى بها من العدم تكون غنية عن السبب ، فما لم تقيموا البرهان على فساد هذا الاحتمال ، لم يتم ما ذكرتموه من الحجة والبرهان ، ثم نقول : الذي يدل على أن حصول هذه الأولوية معقول جملة وجوه:

الأول : الموجودات السيالة ، كالزمان والحركة والصوت ، لا شك أن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

١٢٢

العدم أولى بها ، والمراد من كونها سيالة أنها توجد وتنقضي ، ويمتنع بقاؤها بأعيانها.

فنقول : الدليل على أن الأمر كذلك ، أن هذا الآن (١) الحاضر ، وهذا الجزء الحاضر من الصوت لا شك أنه قابل للوجود ، إذ لو لم يكن قابلا للوجود ، لما دخل (٢) في الوجود ، ولا شك (٣) أن العدم أولى بها ، إذ لو لم تحصل هذه الأولوية لما كان واجب الانقراض والانقضاء ، فثبت في هذه الأشياء أنها قابلة للوجود ، وقابلة للعدم ، ثم إن العدم أولى بها من الوجود ، فإذا عقلنا حصول هذه الأولوية في جانب العدم ، فلم لا نعقل حصولها في جانب الوجود؟

الوجه الثاني : في تقرير هذا الكلام : أنه قد تكون العلة المؤثرة في حصول الأثر بحيث يتوقف تأثيرها في ذلك الأثر على حصول شرط مخصوص ، مثل الثقل ، فإنه إنما يوجب النزول بشرط عدم المانع ، إذا عرفت هذا فنقول : لا شك أن الأولى بالثقل ، اقتضاء (٤) النزول (٥) والسقوط (إلا أن) (٦) عند فوات ذلك (الشرط ، قد يتخلف عند ذلك) الأثر. فهذا يدل على أن الأولوية قد تحصل في جانب الوجود مع أنها لا تنتهي إلى حد الوجوب.

الثالث : إن الفلاسفة اتفقوا على أن الممكنات على ثلاثة أقسام : منها أكثرية ومنها أقلية ومنها متساوية ، ولا معنى للأكثري إلّا ما يكون الوجود أولى به ، مع أنه لا يمتنع أن يبقى على العدم ، ولا معنى للأقلي ، إلا ما يكون العدم أولى به ، مع أنه لا يمتنع أن يصير موجودا ، وإذا كان هذا حكما متفقا عليه بين الفلاسفة كان كافيا في تقرير ذلك السؤال ، ألا ترى أنهم قالوا : طبيعة الأرض تقتضي الحصول في الوسط على سبيل الأكثرية ، لا على سبيل الدوام ، لأنها قد تصير ممنوعة عن إيجاد ذلك ، على سبيل القسر ، مثل المدرة المرمية إلى فوق.

الرابع : إن الماهيات الممكنة لا شك أنها قابلة للوجود والعدم ، فهذه

__________________

(١) الأول (س).

(٢) حصل (س).

(٣) وأن العدم (س).

(٤) الزوال (ز) افتقار (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

١٢٣

الماهيات إما أن لا تكون مقتضية لحصول (هذين الأمرين ، وإما أن تكون مقتضية لحصول أحدهما لا بعينه ، وإما أن تكون [مقتضية (١)] لحصول أحدهما بعينه (٢) ، والأول باطل ، وإلا لزم خلو هذه الماهيات عن الوجود والعدم معا وهو محال ، والثاني أيضا باطل لأن أحدهما لا بعينه يمتنع دخوله (٣) في الوجود ، لأن من المحال أن يحصل في الوجود شيء ، مع أنه في نفسه لا يكون شيئا معينا ، بل يكون هو في نفسه إما هذا وإما ذاك ، وما يكون ممتنع الوجود في نفسه ، يمتنع أن يكون وجوده معلولا لوجود غيره ، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن هذه الماهيات الممكنة تقتضي إما الوجود بعينه ، وإما العدم بعينه ، مع أن الطرف الثاني يكون غير ممتنع الحصول فثبت بهذا البرهان : أنه لا بدّ من الاعتراف بحصول هذه الأولوية (ولما ثبت بهذه الوجوه الأربعة أنه لا بد من الاعتراف بحصول هذه الأولوية (٤) في الجملة فنقول : هذا الذي يكون الوجود أولى به من العدم ، وجب أن يكون غنيا في وجوده عن السبب المؤثر والفاعل الموجد ، والدليل عليه : أن عند (فرض) (٥) عدم المؤثر المنفصل، إما أن يحصل أولا يحصل. فإن حصل الرجحان فقد كفت ماهيته في حصول هذا الرجحان ، وما حصل بالذات امتنع استناده إلى الغير ، وإن لم يحصل الرجحان فحينئذ لا تكون ذاته مقتضية لحصول أولوية الوجود ، مع أنا فرضناه ، كذلك. هذا خلف. فثبت بما ذكرنا : أن القول بحصول أولوية الوجود معقول ، وثابت أن بتقدير حصول هذه الأولوية ، فإنه يجب حصول الاستغناء عن العلة ، فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الشبهة.

وأما السؤال الثاني : على قولكم (٦) «الممكن مفتقر إلى المؤثر» فهو أن نقول هذه الأجرام العلوية والسفلية بتقدير أن يقوم البرهان على كونها ممكنة الوجود في أنفسها. قابلة للوجود وللعدم ، إلا أن بتقدير كونها دائمة أزلية (٧)

__________________

(١) من (س).

(٢) مكررة في (س).

(٣) حصوله (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) قولهم (س).

(٧) الأثر (س).

١٢٤

باقية ، فإنه يمتنع الحكم عليها بالافتقار إلى المؤثر ، لأنه ثبت أن الباقي في حال بقائه يمتنع افتقاره إلى المؤثر والفاعل ، فعلى هذا (التقدير) (١) ما لم تقيموا الدلالة على كونها محدثة ، امتنع الحكم عليها بالاحتياج إلى المؤثر ، إلا أنكم لو أثبتم حدوثها ، فحينئذ يسقط هذا الدليل بالكلية ، ويصير هذا الدليل (هو الدليل الذي) (٢) يعول المتكلمون عليه في إثبات العلم بالصانع ، فإنهم يقيمون الدليل على أن العالم محدث ، ثم يقولون : وكل محدث فله محدث ، فحينئذ يحصل لهم العلم بافتقار هذا العالم إلى الصانع ، فيفتقر في تقرير هذا السؤال إلى (بيان أن) (٣) الباقي حال بقائه يفتقر (٤) إلى المؤثر. والذي يدل عليه وجوه :

الأول : إنه لو افتقر الباقي حال بقائه إلى المؤثر لزم إيجاد الموجود ، وهو محال.

الثاني : إنه لو كان الأمر كذلك لزم افتقار البناء حال بنائه إلى الباني ، وأيضا من خضب يده بالحناء فإنه يبقى اللون بعد زوال الحناء ، ومن رمى الحجر ، فحركة الحجر باقية بعد زوال مدافعة الرامي.

الثالث : إنه يلزم افتقار العدم الباقي حال استمراره إلى المؤثر.

الرابع : إن كل عقل سليم يشهد بأن الشيء إذا حصل على وصفه وحاله ، فإنه يبقى على تلك الصفة والحالة إلى وقت طريان المبطل المزيل ، وكذلك فإنا إذا خرجنا من الدار ، كان ظن بقاء تلك الأشياء التي رأيناها أقوى من ظن زوالها ، ولهذا السبب فإنا نقصد للعود إليها ، ولا نقصد العود إلى الدار التي يجوز حدوثها ، وإذا غبنا عن بلد فإنا نكتب الكتب إلى أصحاب تلك البلدة لأجل ما حصل في عقولنا ، من أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان ،

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) لا يفتقر (ز).

١٢٥

فهذا تمام الكلام في تقرير هذين السؤالين.

واعلم أن الجواب على السؤال الأول : إنما يظهر إذا أقمنا (١) البرهان القاطع على أن الماهية ، إذا كانت قابلة للعدم والوجود ، فإنه يجب أن تكون نسبة كل واحد منهما إلى تلك الماهية (على السوية) (٢) وأنه يمتنع أن يكون أحد الطرفين أولى بها ، والذي يدل على أن الأمر كما ذكرناه (٣) وجوه : ـ

الأول : إنا نقول الماهية إذا اعتبرناها مع جميع الأمور المعتبرة في حصول تلك الأولوية، فإما أن يكون العدم عليها حال حصول تلك الأولوية صحيحا ، أو لا يكون العدم عليها ، حال حصول تلك الأولوية صحيحا ، فإن لم يصح العدم مع حصول تلك الأولوية الذاتية ، كان ذلك واجبا لذاته لا ممكنا لذاته ، وإن صح طريان العدم عليها ، فطريان العدم عليها حال حصول تلك الأمور المعتبرة في حصول تلك الأولوية ، إما أن يتوقف على حصول (٤) السبب المعدم المبطل ، أو لا يتوقف على حصوله (٥) فإن توقف عليه فحينئذ لا تحصل أولوية الوجود إلا مع عدم ذلك السبب المعدم ، وعلى هذا التقدير فالحاصل قبل هذا القيد ما كان كافيا في حصول تلك الأولوية ، وقد فرضنا أن الأمر كذلك. هذا خلف.

وأما القسم الثاني : وهو أن لا يتوقف عدم ذلك الشيء على حصول (٦) السبب المعدم المبطل ، فعلى هذا التقدير تكون تلك الأولوية حاصلة تارة مع الوجود ، وأخرى مع العدم ، فنسبة تلك الأولوية إلى الوقتين على السوية ، واختصاص أحد ذينك الوقتين بالوجود والآخر بالعدم ، يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر من غير مرجح ، وهو محال.

الحجة الثانية : على فساد القول بهذه الأولوية : إنا قد دللنا على أن الممكن المتساوي، يمتنع رجحان أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح ، إذا

__________________

(١) اقيم (ز).

(٢) من (ز).

(٣) كذلك (س).

(٤) حضور (س).

(٥) حضور (س).

(٦) حضور (س).

١٢٦

ثبت هذا. فنقول : بتقدير أن يكون أحد الطرفين راجحا كان الطرف الثاني مرجوحا ، ولما كان حصول الرجحان حال الاستواء ممتنعا ، كان (حصوله) (١) حال حصول المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا كان الطرف المرجوح حال كونه مرجوحا (٢) ممتنع الحصول ، كان الطرف الراجح واجب الحصول ، ضرورة أنه لا خروج عن طرف النقيض ، ولما أقمنا البرهان القاطع على فساد الاحتمال الذي ذكرتموه ، فلنذكر الجواب على الوجوه التي عولوا عليها :

الجواب عن الشبهة الأولى : وهي قولهم : «إن من الأعراض ما يكون ممتنع البقاء».

فنقول : من الناس من قال كل عرض فإنه يجوز بقاؤه ، قال : لأن تلك الماهية قابلة للوجود ، وإنها لو لم تكن قابلة للوجود لما وجدت تلك القابلية من لوازم الماهية ، ولازم الماهية يكون واجب الدوام بدوام الماهية ، فتلك القابلية باقية أبدا ، فكان ذلك الشيء ممكن البقاء والدوام ، وعلى هذا المذهب فالإشكال زائل وأما الذين سلموا : أن من الأعراض ما يمتنع بقاؤه.

فنقول : جواب هذه الشبهة عندهم : أن كونه باقيا كيفية حادثة ، فالممتنع هو حصول تلك الكيفية ، وهي غير قابلة للوجود أصلا (٣).

والجواب عن الشبهة الثانية : وهي قولهم : «العلة إذا كان تأثيرها في معلولها موقوفا على شرط فقبل حصول ذلك الشرط يكون التأثير بها أولى ، مع أنه لم ينته إلى حد الوجوب».

فنقول : لا نسلم أن التأثير بها أولى ، فإن العلة مهما اختل قيد من القيود المعتبرة في كونها علة ، امتنع كونها مؤثرة ، ومهما حصل كل القيود المعتبرة في العلية ، وجب كونها مؤثرة.

__________________

(١) من (س).

(٢) موجودا (س).

(٣) أبدا (س).

١٢٧

والجواب عن الشبهة الثالثة : وهي قولهم : «اتفق الحكماء على أن الممكن قد يكون أكثريا ، وقد يكون أقليا» فنقول : المراد من الأكثري هو الذي يكون سبب وجوده في أكثر الأحوال موجودا ، وإذا فسرنا الأكثرية بهذا الوجه سقط كلامكم.

والجواب عن الشبهة الرابعة : إن قولكم : «الماهية تقتضي أحد الطرفين بعينه مع أن طريان النقيض على ذلك الطرف ممكن».

فنقول : الماهية تقتضي أن تكون إما موجودة ، وإما (أن تكون ((١) معدومة ، قوله: «هذا المعنى أمر مبهم ، والمبهم لا وجود له في الأعيان ، وما لا وجود له في الأعيان امتنع جعله معلولا (٢) ، لما لا يكون (٣) موجودا في الأعيان» ، قلنا : مقتضى الماهية عدم الخلو عن الوجود والعدم معا ، وعدم الخلو عنهما أمر معين ، فهذا تمام الكلام في السؤال الأول.

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «افتقار الممكن إلى المؤثر مشروط بكون ذلك الممكن محدثا» فنقول : هذا الشرط غير معتبر (٤) ، بل ندعي إن مجرد ذلك الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر ، ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا بينا أن الممكن هو الذي تكون نسبة الوجود والعدم إليه على السوية ، وكل ما كان كذلك ، قضى العقل بأنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح ، فعلمنا أن هذا القدر كاف في تحقق الحاجة إلى المؤثر ، فيبقى قيد الحاجة (٥) ، محذوفا عن درجة الاعتبار.

الثاني : إن الحدوث لا يجوز أن يكون علة للحاجة ، ولا جزءا من العلة ولا شرطا لها ، والدليل عليه أن الحدوث كيفية في الوجود ، فهي متوقفة على الوجود ، المتوقف على تأثير المؤثر فيه ، المتوقف (٦) على احتياج الأثر إلى

__________________

(١) من (ز).

(٢) مجعولا (س).

(٣) لما يكون (س).

(٤) معين (س).

(٥) الحدوث (س).

(٦) من (س).

١٢٨

المؤثر ، المتوقف على علّة تلك الحاجة ، وعلى جزء تلك العلة ، وعلى شرط تلك العلة ، فلو كان الحدوث نفس العلة أو جزءها أو شرطها ، لزم تأخر الشيء الواحد عن نفسه بمراتب وهو محال ، فيثبت مما ذكرنا : أن الممكن مفتقر إلى المؤثر سواء كان ذلك الممكن حادثا أو باقيا. ولنذكر (١) الآن الجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في إثبات أن الباقي لا يحتاج إلى المؤثر :

فالجواب عن الشبهة الأولى : وهي قولهم : «لو افتقر الباقي حال بقائه إلى المؤثر لزم إيجاد الموجود» فنقول : الجواب (٢) عنه قد تقدم في الفصول السالفة ، وكذا الجواب عن قوله : «يلزم (٣) افتقار العدم حال بقائه الى المؤثر».

والجواب عن الشبهة الثانية : وهي قولهم : «يلزم افتقار البناء حال بنائه إلى البناء» فنقول : انتقال تلك الأجسام إلى تلك الأحياز غير ، وبقاء تلك الأحياز غير ، فالمفتقر إلى البناء هو انتقالها إلى تلك الأحياز ، فلا جرم (٤) لم يبق ذلك الانتقال بعد مفارقة البناء ، أما استقرارها في تلك الأحياز ، فليس معلول تحرك البناء بل معلول طبائع تلك الأجرام.

والجواب عن الشبهة الثالثة : وهي قولهم : «العلم بوجوده (في الحال) (٥) يوجب ظن بقائه في المستقبل ، وذلك يقتضي استغناء الباقي عن المؤثر».

فنقول : لا نزاع في أن هذا الظن حاصل ، لكن لا نسلم أن هذا الظن إنما حصل لأجل أن الباقي حال بقائه غني عن المؤثر ، فما الدليل على أن الأمر كذلك؟ فهذا جملة الكلام المعلوم (٦) في هذا الموضوع [وبالله التوفيق] (٧).

__________________

(١) من (ز).

(٢) أما الجواب (س).

(٣) فيلزم (س).

(٤) من (ز).

(٥) عن الحال (س).

(٦) الكلمات المعلومة (س).

(٧) من (ز).

١٢٩

الفصل السابع

في

بيان أن هذا البرهان المذكور في إثبات معرفة واجب الوجود

لا يتم على أصول الحكماء إلا بعد إقامة الدلالة على

أن العلة واجبة الحصول حال حصول المعلول.

أعلم أنه لو لم يجب كون العلة المؤثرة موجودة حال وجود المعلول ، لم يمتنع [أن يكون(١)] هذا الممكن إنما وجد لأجل شيء كان موجودا قبله ، ولم يبق معه ، ولو جاز ذلك ، لجاز أن يقال : إن كل ممكن فإنه مستند إلى ممكن آخر قبله ، لا إلى أول ، والتسلسل على هذا الوجه ليس باطلا عند الحكماء ، بل هو حق. لأن مذهبهم ، أن كل دورة فإنها مسبوقة بدورة أخرى ، لا إلى أول ، وإذا كان التسلسل على هذا الوجه ليس ممتنعا عند القوم ، فحينئذ لا يمكنهم [بيان (٢)] انتهاء الممكنات إلى موجود واجب الوجود ، أما إذا ثبت أن العلة المؤثرة يجب كونها موجودة حال وجود المعلول ، فعند هذا نقول : لو استند كل ممكن إلى ممكن آخر ، إلى غير النهاية ، لحصل أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة ، وحينئذ [لا (٣)] يتمكن الفيلسوف من إثبات واجب الوجود لذاته ، فظهر أنه لو لا صحة هذه المقدمة ، لم يقدر أحد من الفلاسفة على إثبات واجب الوجود لذاته ، [ولأجل هذه الدقيقة فإن الشيخ الرئيس لما شرع في كتاب النجاة في إثبات واجب الوجود لذاته] (٤) اشتغل باقامة الدلالة على أن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

١٣٠

العلة المؤثرة يجب أن تكون موجودة ، حال وجود المعلول ، أما في [كتاب الإشارات وسائر الكتب ، فلم يذكر هذه المقدمة ، والحق ما ذكره (١) في] كتاب النجاة بالبيان الذي ذكرناه.

وإذا عرفت هذا فنقول : لو لم تكن العلة واجبة الحصول حال حصول المعلول ، لكانت إما أن تكون علة لهذا المعلول ، حال ما كانت تلك العلة موجودة ، أو بعد (٢) أن صارت معدومة ، والأول [باطل (٣)] لأن في تلك الحالة المتقدمة لم يصدر (٤) عنها شيء أصلا ، فامتنع كونها علة ومؤثرة. والثاني باطل ، لأنها في الزمان الثاني قد صارت معدومة ، والمعدوم لا يكون علة للموجود. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : العلة حال وجودها أوجبت وجود المعلول في الزمان الثاني منه؟ فنقول : هذا باطل ، لأن في الزمان الثاني (٥) إن لم يصدر عنه أثر البتة ، لم يكن في ذلك الزمان علة ولا مؤثرا [البتة. وإذا لم يكن في ذلك الزمان علة ولا مؤثرا (٦)] فلو صار علة في الزمان الثاني ، مع أنه في الزمان الثاني صار معدوما ، لزم كون المعدوم علة للموجود ، وهو محال ، وإن لم يصر علة أيضا في الزمان الثاني ، كان هذا تصريحا بأنه ليس علة ولا مؤثرا البتة ، وأما إن قلنا : إنه في الزمان الأول قد صدر عنه أثر ، وكان هذا الأثر حاصلا في ذلك الزمان ، فحينئذ يكون المؤثر موجودا حال حصول الأثر ، وذلك عين (٧) المطلوب. واحتج من خالف في وجود هذه المعية بأمور :

الأول : إن هذه المعية لو كانت معتبرة ، لكانت إما أن تكون عبارة عن المعية بالذات، أو عن المعية بالزمان ، والأول باطل ، باتفاق العقلاء على أن العلة لا تكون مع المعلول بالذات ، والثاني باطل لأن المعية الزمانية لا تصدق إلا على ما كان زمانيا ، وكل زماني فهو متحرك متغير ، وما لا يكون كذلك كانت المعية الزمانية ممتنعة ، في حقه.

__________________

(١) من (ز).

(٢) حال (س).

(٣) من (س).

(٤) لا يغنى (س).

(٥) الأول (ز).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

١٣١

الثاني : إن العلة لو أثرت في المعلول حال كون المعلول حاضرا ، كان ذلك إيجادا للموجود وهو محال ، فوجب أن يقال : العلة متقدمة على المعلول ، حتى يعقل كونها مؤثرة في نقل ذلك المعلول ، من العدم إلى الوجود.

الثالث : إنا إذا رمينا السهم فلا يزال [يكون (١)] كل واحد من المدافعات السابقة علة لاندفاع آخر ، يحصل بعده على الترتيب والولاء ، ولو لا ذلك ، لوجب سقوط السهم عند انفصاله عن اليد.

الرابع : إن الفكر يوجب العلم بالمطلوب ، مع أن الفكر يجب تقدمه على العلم بالنتيجة ، لأن الفكر في الشيء حال حصول العلم به محال.

الخامس : إن الثقيل النازل يكون كل جزء من أجزاء حركته علّة لحصول الجزء الذي يليه إما بأن يكون علة مؤثرة كما هو عند بعض المعتزلة ، أو يكون علة معدة ، كما هو عند الفلاسفة.

السادس : إنا نعلم بالضرورة أن المؤثر ما لم يوجد بتمامه ، استحال أن يصدر عنه الأثر ، وتمام وجود المؤثر متقدم على وجود الأثر ، فالمؤثر التام يجب أن يكون متقدما على الأثر.

السابع : إنه يقال حركت (٢) يدي فتحرك المفتاح ، أو ثم تحرك المفتاح ، وصريح العقل شاهد بحصول هذا الترتيب ، وذلك يدل على أن العلة يجب تقدمها على المعلول.

والجواب عن الشبهة الأولى : وهي قولهم : (٣) «إن هذه المعية ، إما أن تكون معتبرة بالذات أو بالزمان» فنقول : هذا بناء على قولكم : إن المدة من لواحق الحركة والتغير ، وهذا عندنا باطل ، بل نقول : الدليل القاطع على بطلانه : أنا نعلم بالضرورة أن الله تعالى في هذا الوقت موجود ، مع حدوث كل حادث ، وذلك يبطل قولكم.

__________________

(١) من (س).

(٢) شيء (س).

(٣) قوله (س).

١٣٢

والجواب عن الشبهة الثانية : وهي قولهم : «لو كانت العلة موجودة مع المعلول لزم إيجاد الموجود» فنقول : إن كنت تريد بهذا الكلام إيجاد الموجود مرة أخرى ، فهذا باطل ، وإن كنت تريد كونه موجدا لذلك الموجود بمعنى أنه لو لا ذلك الإيجاد ، لما حصل ذلك الموجود ، فهذا حق عندنا ، فلم قلتم : إنه محال؟

والجواب عن الشبهة الثالثة : إن الرامي يفعل في السهم قوة باقية هي الموجبة لتلك الحركات ، إلا أن إيجابها لكل جزء من أجزاء الحركة ، مشروط بانقضاء الجزء المتقدم. وهذا هو الجواب عن نزول الثقيل. وأما قوله : «الفكر يوجب العلم بالمطلوب ، مع أن الفكر يجب حصوله قبل حصول العلم بالنتيجة» [فنقول : الفكر عبارة عن مجموع العلم بالمقدمتين ، وهما حاصلان مع العلم بالنتيجة] (١).

أما قوله : «المؤثر ما لم يوجد بتمامه ، لم يصدر عنه الأثر».

فنقول : إن كان المراد من قوله «وجدت العلة بتمامها» : التقدم الزماني ، فهذا هو عين المطلوب ، وإن كان المراد به التقدم بالذات ، فهو مسلم لكنه لا يقدح في غرضنا. وأما التمسك بما يقال في العرف : حركت يدي فتحرك الكم ، [أو ثم تحرك الكم] (٢) فنقول : هذا تمسك في المضائق العقلية بالألفاظ ، وهو ضعف ، ثم بتقدير الصحة فإنا نحمله على التقدم بالذات والعلية [والله ولي التوفيق] (٣).

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

١٣٣

الفصل الثامن

في

إيراد هذا البرهان على وجه آخر. ويظن أن

إيراده على ذلك الوجه ، يوجب سقوط أكثر هذه

الأسئلة عنه. وبيان أن ذلك الظن : خطأ من الناس

من الناس من قال : إن هذه الأسئلة إنما توجهت ، وهذه المضائق إنما لزمت. لأنا في أول الكلام فسرنا واجب الوجود بذاته ، بأنه : الموجود الذي تكون حقيقته غير قابلة للعدم البتة. وفسرنا ممكن الوجود لذاته ، بأنه : الموجود الذي تكون حقيقته قابلة للعدم. ولما فسرنا الواجب والممكن بهذين التفسيرين ، جاءت هذه السؤالات ، وتوجّهت هذه المباحث. فعظم الخطب ، وضاق البحث.

وهاهنا طريق آخر ، أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخبط مما تقدم ، وهو أن تفسير الواجب لذاته ، بأنه الذي يكون غنيا في وجوده عن السبب ، وتفسير الممكن لذاته بأنه الذي يكون محتاجا في وجوده إلى السبب ، على هذا التفسير بكون (١) القول بإثبات واجب الوجود لذاته من أظهر المطالب ، ومن أوضح المقاصد ، ولا يتوجه عليه شيء من السؤالات المذكورة ، فإنا نقول : لا شك أن في الوجود موجود ، فذلك الموجود ، إما أن يكون غنيا في وجوده عن السبب ، وإما أن يكون محتاجا [في وجوده] (٢) إلى السبب ، فإن كان الأول فقد ثبت القول بوجود موجود واجب الوجود لذاته ، وإن كان الثاني فلا بد له

__________________

(١) يصير القول (س).

(٢) من (ز).

١٣٤

من سبب ، لأن التقدير هو تقدير كونه محتاجا إلى السبب ، ثم يعود التقسيم الأول في سببه، والدور والتسلسل محالان ، فوجب الانتهاء (١) بالآخرة إلى وجود موجود غني عن السبب ، وذلك هو الموجود الواجب لذاته ، وهو المطلوب فظهر بهذا الكلام : أنا إذا فسرنا الواجب والممكن بهذا التفسير ، سقطت عنا تلك السؤالات ، وصار الكلام في غاية الاختصار ، وكان إيراد الحجة على هذا الوجه أولى. ولقائل أن يقول : إن المباحث العقلية ، لا تختلف باختلاف الألفاظ والعبارات.

فنقول : هب أنكم فسرتم الواجب لذاته بما يكون غنيا في وجوده عن السبب المنفصل، إلا أنه يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن هذا الوجود الغني في وجوده عن السبب تكون ماهيته وحقيقته قابلة للعدم وللوجود قبولا على التساوي ، إلا أنه ترجح وجوده على عدمه ، لا لمرجح أصلا لا لذاته ولا لغيره؟ وأيضا : لم لا يجوز أن يقال : إن تلك الحقيقة ، وإن كانت قابلة للعدم إلا أن الوجود بها أولى ، فلأجل حصول هذه الأولوية يستغنى عن المؤثر المنفصل؟ فيثبت بما ذكرنا : أنه لا يمكن الجزم بوجود موجود لا تقبل حقيقته العدم البتة إلا بتقدير تلك المقدمات.

واعلم أن المباحث اللفظية لا تدفع الحقائق العقلية ، وإنما يكون تأثيرها في انتقال البحث من مقام إلى مقام آخر ، وذلك قليل الفائدة.

__________________

(١) لذاتها بالآخر (س).

١٣٥

الفصل التاسع

في

إقامة البرهان على أن القول بالدور باطل

احتجوا على فساد القول بالدور ، بأن قالوا : ثبت أن العلة متقدمة على المعلول ، فلو كان كل واحد منهما علة للآخر لكان كل واحد منهما متقدما على الآخر ، وإذا كان هذا متقدما على ذاك ، وكان ذاك متقدما على هذا ، لزم في هذا ، كونه متقدما على المتقدم على نفسه ، والمتقدم على المتقدم على الشيء يجب كونه متقدما على ذلك الشيء ، فيلزم كون الشيء الواحد متقدما على نفسه. وهو محال.

فإن قيل : ما المراد بقولكم : «العلة متقدمة على المعلول»؟ إن أردتم به التقدم الزماني ، فهذا باطل ، لأنا بينا : أن هذا التقدم محال. وأيضا فقد بينا أنه لو صح القول بالتقدم الزماني ، فإنه يسقط هذا الدليل ، وأما إن أردتم به التقدم بالذات والعلية.

فنقول : القول بإثبات التقدم بالذات والعلية وكلام وقع في ألسنة الفلاسفة ، فيجب البحث عنه.

فنقول : مرادكم من التقدم بالعلية : كون هذا مؤثرا في ذاك وعلة له وموجبا ، أو تريدون به أمرا آخر غير هذا التأثير؟ فإن كان المراد هو الأول كان قولكم : «العلة متقدمة على المعلول» معناه : أن العلة علة للمعلول ، وحينئذ لا يبقى [لهذا التقدم مفهوم سوى العلية ، وعلى هذا التقدير فقولكم : لو كان

١٣٦

كل واحد منهما علة للآخر ، لكان كل واحد منهما علة للآخر ، وحينئذ لا يبقى] (١) بين مقدمة هذه الشرطية ، وبين تاليها فرق البتة فيكون كلاما فاسدا ، وأما إن عنيتم بالتقدم مفهوما آخر سوى العلية والمؤثرية ، فلا بد من بيانه ، فإنه غير معقول. فإن قالوا : «التقدم بالعلية له مفهوم مغاير للتقدم الزماني ولنفس العلية» أما أنه مغاير للتقدم بالزمان ، فلأنك حين حركت إصبعك فقد تحرك الخاتم ،. ويمتنع أن تكون حركة الإصبع متقدمة بالزمان على حركة الخاتم ، وإلا لزم تداخل الجسمين ، وهو محال ، فههنا قد حصل التقدم بالعلية ، ولم يحصل التقدم بالزمان ، فقد ظهر التغاير ، وأما بيان أن التقدم بالعلية مفهوم مغاير لنفس العلية.

فنقول : العقل قاطع بأنه ما لم يتم وجود العلة في نفسها ، فإنه يستحيل أن يصدر عنها المعلول. ومعلوم : أن حصول العلة بتمامها أمر مغاير لكونها علة لذلك المعلول ، وهذا يدل على أن التقدم بالعلية أمر مغاير لنفس تلك العلية.

فنقول : في الجواب عن هذا السؤال : لا نزاع في أن حركة الإصبع وحركة الخاتم. ، وجدتا معا ، ولا نزاع في أن العقل يقضي بترتيب أحدهما على الآخر ، إلا أنا نقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك الترتيب هو نفس العلية والتأثير؟ فإن العقل حكم بأن حركة [الإصبع مؤثرة في حركة الخاتم ، وأن حركة الخاتم] (٢) حاصلة عن حركة الإصبع ، إلا أن هذا المعنى الذي ذكرناه ليس إلا لنفس العلية والافتقار والتأثير ، وليس هاهنا مفهوم سوى ذلك. فظهر بهذا البيان الذي لخصناه : أنه لا يحصل عند العقل من التقدم بالعلية إلا نفس تلك العلية ، وإذا ثبت هذا ، [فنقول] (٣) قولكم : لو كان كل واحد منهما علة لوجود الآخر ، لكان كل واحد منهما علة للآخر (٤) ، فيصير معناه : لو كان كل

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) متقدما على الآخر (ز).

١٣٧

واحد منهما علة للآخر ، لكان كل واحد منهما علة للآخر ، فيصير هذا إلزاما للشيء على نفسه ، وهو فاسد. وأيضا : فلأن القول بكون كل واحد منهما علة للآخر ، إن كان معلوم الامتناع بالبديهة. فحينئذ لا حاجة إلى ذكر هذا الدليل ، وإن كان محتاجا إلى الإثبات [بالحجة] (١) والبينة لم يكن الكلام الذي ذكروه مفيدا فائدة ، لأنه لم يحصل فيه إلا تبديل اللفظ باللفظ ، ومعلوم أنه لا يسمن ولا يغني من جوع.

الحجة الثانية على فساد الدور : قالوا (٢) : «لو كان كل واحد منهما علة للآخر ، لكان كل واحد منهما علة لعلة نفسه ، وعلة العلة علة ، فيلزم كون كل واحد منهما علة لنفسه ، وذلك محال» ولقائل أن يقول : مدار هذه الحجة على قولهم : «إن علة علة الشيء علة لذلك الشيء» [وهذا كلام مبهم يجب البحث عنه.

فيقال : إن أردتم بقولكم : «علة علة الشيء ، يجب كونها علة لذلك الشيء] (٣) ويجب كونها مؤثرة في ذلك الشيء ، وموجدة له» فهذا باطل قطعا ، لأن على هذا التقدير تكون علة العلة علة قريبة للشيء ، وكونها علة قريبة (٤) لذلك الشيء [يمنع من كونها علة للعلة ، فقولكم : علة علة الشيء يجب كونها علة قريبة لذلك الشيء] (٥) كلام متناقض ، وإن أردتم به أنها علة لعلة الشيء ، فهذا مسلم ، إلا أنه يرجع حاصل الكلام فيه ، إلى أن علة علة الشيء يجب كونها علة لعلة ذلك الشيء ، ومعلوم أن هذا الكلام عبث ولا فائدة فيه.

الحجة الثانية : وهي الأقوى ، أن يقال : لو كان كل واحد منهما علة للآخر ، لكان كل واحد منهما مفتقرا إلى الآخر ، والمفتقر إلى المفتقر إلى

__________________

(١) إنه (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) مرتبة (س).

(٥) من (ز).

١٣٨

الشيء ، يجب كونه مفتقرا إلى ذلك الشيء فيلزم كون كل واحد منهما مفتقرا إلى نفسه ، وذلك محال لوجهين» (١) :

الأول : إن المفتقر إلى الشيء محتاج إليه ، والمفتقر إليه غير محتاج إلى المفتقر ، فلو كان الشيء الواحد مفتقرا إلى نفسه ، لزم كون الشيء الواحد بالنسبة الواحدة ، محتاجا وغنيا ، وذلك جمع بين النقيضين ، وهو محال.

الثاني : وهو أن الافتقار إلى الشيء نسبة مخصوصة ، بين المفتقر والمفتقر إليه ، والنسبة لا يمكن حصولها إلا بين أمرين (٢) ، فالأمر الواحد بالاعتبار الواحد ، يمتنع حصول النسبة فيه. واحتج من قال : الدور غير ممتنع بوجوه :

الأول : إن الهيولي والصورة كل واحد منهما محتاج إلى الآخر ، وهو دور ، والجوهر والعرض يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر ، وهو دور.

الثاني : إن المضافين يتوقف كل واحد منهما على الآخر وهو دور ، ولا يقال : إن وجوب مقارنتهما لأجل أن العلة الواحدة [موجبة] (٣) لهما معا ، لأنا نقول : هذا لا يصح على قول الفلاسفة ، لأن عندهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

الثالث : إن العلية والمعلولية من باب المضاف ، والمضافان يوجدان [معا] (٤) ، فالعلية والمعلولية يوجبان المعية [والمعية] (٥) ، تنافى حصول التقدم ، فوجب أن يمتنع حصول (٦) التقدم بين العلة وبين المعلول. والجواب عن الأول : إنا لا نقول بالهيولى والصورة. أما الجسم فإنه مستلزم للحصول في الحيز ، إلا أن ذات الجسم توجب الحصول في الحيز المطلق ، وعلى هذا التقدير فالملازمة [بينهما] (٧) إنما حصلت [بينهما] (٨) لأن ذات الجسم توجب الحصول في الحيز المطلق.

__________________

(١) من وجوه (س).

(٢) إلا من آخرين (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) أن يحصل (س).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

١٣٩

والجواب عن الثاني : إن المضافين يجب حصولهما معا ، وكون كل واحد منهما مفتقرا إلى الآخر أمر محال.

والجواب عن الثالث : إن ذات العلة وذات المعلول شيء ، وكون هذا علة لذاك ، وكون ذاك معلولا لهذا ، شيء آخر ،. ، فالتضايف والمعية إنما حصلت بينهما باعتبار كونهما علة ومعلولا ، إما إذا اعتبرنا الحقيقة المخصوصة التي لكل واحد منهما ، فبهذا الاعتبار يحصل التقدم والتأخر (١) [والله ولي التوفيق] (٢).

__________________

(١) والتأثير (ز).

(٢) من (ز).

١٤٠