المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

الأثر ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه ، كان باطلا فوجب أن يكون القول بأن تأثير المؤثر في الأثر [نفس] (١) ذلك الأثر : قولا باطلا.

والوجه الثالث في إبطال هذا الكلام : إما أن نفسر إيجاد الله تعالى للعالم بنفس العالم، وإما أن نفسره لا بنفس العالم ، بل بصدور العالم من قدرة الله تعالى ، والأول باطل ، لأن بتقدير أن يوجد العالم لذاته ، أو يوجد بإيجاد موجود آخر غير الله ، لم يصح القول بأن العالم حصل بإيجاد الله تعالى ، فثبت أن إيجاد الله تعالى [للعالم] (٢) لا يمكن تفسيره بنفس العالم ، وإنما يمكن تفسيره بوقوع العالم من قدرة الله [تعالى ، وعند هذا نقول : ظهر أن كون العالم من قدرة الله تعالى ، مغاير لذات العالم ، ولذات القدرة] (٣) فوجب أن يكون مفهوما ثالثا ، فثبت أن تأثير المؤثر في الأثر ، لا يجوز أن يكون نفس ذات المؤثر ، ولا يجوز أن يكون نفس ذات الأثر ، فوجب أن يكون أمرا مغايرا لهما.

والوجه الرابع (٤) في بيان أن تأثير الشيء في الشيء ، يمتنع أن يكون عين ذات المؤثر وعين الأثر : هو أن كون المؤثر مؤثرا في الأثر ، وكون الأثر أثرا للمؤثر من مقولة المضاف ، وأما ذات المؤثر وذات الأثر فليسا كذلك. لأنا إذا قلنا : إن الله تعالى خلق العالم ، فذات المؤثر هي ذات واجب الوجود ، وذات الأثر هو ذات العالم.

فثبت بهذه البراهين الأربعة (٥) : أنه لو أثر شيء في شيء ، لكانت مؤثرية أحدهما في الآخر ليست عين ذات المؤثر ، ولا عين ذات الأثر ، بل كانت مفهوما ثالثا مغايرا لهما.

وأما القسم الثاني وهو أن يقال المفهوم من المؤثرية مفهوم ثالث مغاير لذات المؤثر ولذات الأثر.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) في الأصل : الخامس.

(٥) في الأصل : الخمسة.

١٠١

فنقول : هذا أيضا فاسد ، لأن ذلك المفهوم المغاير إما أن يكون سلبيا أو ثبوتيا ، والقسمان باطلان ، وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون سلبيا لوجهين :

الأول : إن قولنا : إن الشيء الفلاني مؤثر في كذا ، نقيض لقولنا : إنه ليس بمؤثر في كذا ، لكن قولنا : إنه ليس مؤثرا في كذا مفهوم سلبي ، لأنا لا نعقل من قولنا للشيء المعين: إنه لم يؤثر في كذا ، ولم يفعل فعلا ، ولم يوجد أثرا إلا النفي المحض والعدم الصرف ، وإذا ثبت أن المفهوم من قولنا : إنه لم يؤثر في كذا هو العدم المحض ، وجب أن يكون المفهوم من قولنا : إنه أثر في كذا أمرا ثابتا موجودا. ضرورة أن أحد النقيضين لما كان سلبيا ، وجب كون النقيض الآخر ثبوتيا.

الثاني : إنا إذا قلنا المؤثرية مفهوم عدمي ، كان المعنى أنه لا وجود للمؤثرية ، ولا حصول لها ولا معنى لهذا الكلام ، إلا التصريح بنفي المؤثرية والأثر.

وأما الوجه الثاني : وهو أن يقال : إن المؤثرية مفهوم ثبوتي [مغاير لذات المؤثر ، ولذات الأثر. فنقول :

هذا الموجود. إما أن يكون موجودا في الأعيان ، وإما أن يقال : إنه] (١) لا وجود له في الأعيان ، وإنما هو من الاعتبارات الذهنية ، التي لا يكون لها وجود في الأعيان. والقسم الثاني باطل. لأن العقل إذا حكم على الشيء بكونه مؤثرا في شيء آخر. فهذا الحكم [الذهني] (٢) إما أن يكون مطابقا للأعيان ، وإما أن لا يكون. فإن كان هذا الحكم الذهني مطابقا لما في الأعيان ، فحينئذ يكون الشيء في الأعيان : أثرا ، ومؤثرا ، وفاعلا ، ومفعولا. وحينئذ يبطل قولهم بأن هذه المفهومات : اعتبارات حاصلة في الأذهان ، ولا وجود لها في الأعيان.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

١٠٢

يكون هذا الحكم الذهني كذبا وجهلا ، وحينئذ لا يكون الشيء في نفس الأمر أثرا ولا مؤثرا ولا فاعلا ولا مفعولا ، وذلك يوجب القول بنفي التأثير والمؤثر.

وأما القاسم الثاني : وهو أن يقال : كون المؤثر مؤثرا ، أو كون الأثر أثرا : مفهومان مغايران للذات ، وهي أمور ثابتة في الأعيان. فنقول : هذا القسم أيضا باطل ، وذلك لأن ذلك الأمر الوجودي ، إما أن يكون جوهرا قائما بنفسه ، وإما أن يكون صفة عارضة لذات المؤثر ولذات الأثر ، والأول باطل لوجوه :

أحدها : إن المؤثرية صفة لذات المؤثر ، والجوهر القائم بنفسه لا يكون صفة لذات المؤثر.

وثانيها : إن المؤثر والأثر من مقولة المضاف ، والجوهر القائم بنفسه ليس كذلك.

وثالثها : إن هذا الجوهر القائم بنفسه ، إن لم يكن له أثر في ذلك المفعول كان أجنبيا عنه (١) ، وإن كان له فيه أثر فحينئذ يعود التقسيم المذكور في مؤثرية ذلك الجوهر في ذلك الأثر.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال المؤثرية والأثر صفتان قائمتان بذات المؤثر ، وبذات الأثر. فهذا أيضا محال لأن الصفة القائمة بالغير مفتقرة إلى الغير [والمفتقر إلى الغير] (٢) ممكن لذاته والممكن لذاته لا بد له من مؤثر ، فهذه المؤثرية مفتقرة أيضا إلى مؤثر يؤثر فيه فيكون تأثير ذلك المؤثر في وجود هذه المؤثرية مفهوما زائدا عليها ، ولزم التسلسل وهو باطل لوجهين :

الأول : البراهين الدالة على أن القول بالتسلسل باطل.

والثاني : إن على تقدير أن يكون القول بالتسلسل صحيحا ، فالمحال لازم هاهنا أيضا ، وذلك لأن المعقول من التسلسل أن يستلزم شيء شيئا ،

__________________

(١) بالتعيين. (ز).

(٢) من (س).

١٠٣

ويكون الثاني مستلزما [لثالث ، ويكون الثالث مستلزما] (١) لرابع ، وهكذا إلى غير النهاية. إلا أن (٢) هذا المعنى إنما يتقرر عند وجود أمور متلاصقة ، يكون كل واحد منها متصلا بالآخر إلى غير النهاية ، إلا أنا إذا قلنا : إن مؤثرية الشيء في الشيء صفة زائدة عليهما ، فلا يمكننا أن نشير إلى الشيئين يتصل أحدهما بالآخر إلا ويكون كون أحدهما مستلزما للآخر [أمرا] ثالثا متوسطا بينهما. وهذا يقتضي أن لا يتصل شيء بشيء آخر البتة ، وإذا بطل [هذا ، بطل] (٣) القول بالتسلسل ، فثبت : أن القول بثبوت التسلسل في هذا المقام يفضى ثبوته إلى عدمه ، فوجب أن يكون القول بثبوته باطلا. فقد ظهر من جملة ما قررنا : أنه لو أثر شيء في شيء لكان تأثير ذلك المؤثر في الأثر إما أن يكون عين ذات المؤثر أو ذات الأثر ، وأما أن يكون مفهوما ثالثا لهما ، وثبت أن كلا القسمين باطل فاسد ، فوجب أن يكون القول بثبوت المؤثر والتأثير باطلا.

فإن قال قائل : إن هذا التقسيم الذي ذكرتموه قائم في مواضع قد علم صحتها. ووجودها بالضرورة ، فوجب أن يكون هذا التقسيم فاسدا ، وبيانه من وجهين :

الأول : [أن يقال] (٤) لو حصلت هذه الدار ، وهذا الجدار في هذه الساعة ، لكان حصولهما في هذه الساعة ، إما أن يكون نفس هذا الشيء ، أو نفس هذه الساعة ، أو يكون مفهوما ثالثا مغايرا ، والأقسام الثلاثة باطلة ، فكان القول [بحصول هذا الشيء في هذه الساعة باطلا ، وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون] (٥) حصول هذه الدار وهذا الجدار في هذه الساعة ، غير وجود هذه

__________________

(١) من (ز).

(٢) لأن هذا (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

١٠٤

الدار وهذا الجدار ، لأنه في الساعة [الثانية] (١) لا يبقى حصوله في هذه الساعة ، عين هذه الساعة ، لأنه [لا] (٢) يمكن وجود هذه الساعة في الخارج وفي الذهن ، منفكا عن حصول هذا الشيء في هذه الساعة. وأيضا : فحصول هذا الشيء في هذه الساعة من مقولة المضاف ، وهذه الساعة وهذا الشيء ليسا من مقولة المضاف.

وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون حصول هذا الشيء في هذه الساعة ، مفهوما زائدا ، لأن ذلك الزائد يكون أيضا حاصلا في تلك الساعة ، فيكون حصول ذلك المفهوم المغاير في تلك الساعة أمرا مغايرا له ، ويلزم التسلسل وهو محال.

الوجه الثاني : في بيان أن ما ذكرتموه [من التقسيم] (٣) باطل ، هو أنا نشير إلى جسم حاصل في مكان ، ونقول : إنه ليس حاصلا في هذا المكان ، لأنه لو كان حاصلا فيه فحصوله فيه ، إما أن يكون عين ذاته ، أو زائدا على ذاته ، والأول باطل [لأنه إذا خرج عن ذلك المكان فذاته باقية ، وحصوله في ذلك المكان غير باقي والثاني أيضا باطل] (٤) لأن ذلك الزائد يكون صفة لذلك الجسم ، والصفة حاصلة في الموصوف ، فيلزم أن يكون حصول تلك الصفة في ذات الموصوف زائدا عليه ، وذلك يوجب (٥) التسلسل وهو محال ، فثبت بهذين الوجهين : أن ما ذكرتموه من التقسيم قائم في أمور قد علمنا صحتها ببديهة العقل ، فوجب أن يكون التقسيم الذي ذكرتموه باطلا.

والجواب : أن نقول : إن التقسيم الذي ذكرناه تقسيم دائر بين النفي والإثبات ، والدلائل الدالة على إبطال كل واحد من تلك الأقسام وجوه قطعية يقينية ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : هذا التقسيم الذي ذكرناه ، برهان صحيح

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) ولزم التسلسل (س).

١٠٥

بحسب الصورة وبحسب المادة ، فإن كان البرهان الذي هذا شأنه يحتمل أن يكون فاسدا ، فحينئذ لا يمكنكم القطع (١) بصحة شيء من الدلائل والبينات [فإن الغاية القصوى فيها أن تكون (٢)] صحيحة بحسب الصورة والمادة ، فإذا جوزتم (٣) مع هذين الشرطين أن يكون فاسدا ، فحينئذ لا يبقى الوثوق بشيء من الدلائل ، ويسقط الاعتماد بالكلية عن جميع الدلائل ، ويسقط الاعتماد عن الدليل الذي ذكرتموه في إثبات واجب الوجود. وهذا آخر الكلام في تقرير هذه الشبهة ، وهي أقوى الشبهات في الحقيقة.

الشبهة الثامنة في نفي التأثير والمؤثر : أن نقول : لو كان الإمكان علة لحاجة الأثر إلى المؤثر ، لافتقر المعدوم حال عدمه إلى المؤثر ، وهذا محال فذاك محال ، بيان الشرطية أن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان الخاص لا العام ، لكن الإمكان الخاص تعلقه [بطرف الوجود مثل تعلقه] (٤) بطرف العدم على السوية من غير تفاوت أصلا ، وإذا كانت نسبة هذا الإمكان إلى الطرفين على السوية ، وإن كان علة الحاجة في طرف الوجود ، وجب أن يكون علة للحاجة في طرف العدم ، وإلا لزم رجحان أحد الطرفين المتساويين على الآخر لا لمرجح ، وهو محال ، وبتقدير صحته فذلك يقدح في قولكم : (٥) إن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح. فثبت أنه لو كان الإمكان علة للحاجة ، لكان المعدوم حال عدمه مفتقرا إلى المرجح والمؤثر. وإنما قلنا : إن هذا محال ، لأن العدم المستمر إشارة إلى النفي المحض ، والسلب الصرف ، وكونه باقيا إشارة إلى أن ذلك السلب المحض بقي مستمرا ، أو كل واحد من هذين المفهومين ينافي حصول التأثير. أما أن كونه سلبا محضا ينافي كونه أثرا ، فلأن التأثير (٦)

__________________

(١) الاستدلال (س).

(٢) من (ز).

(٣) حققتم مع حصول هذين (س).

(٤) من (س).

(٥) قولك (س).

(٦) التغاير (س).

١٠٦

يقتضي حدوث حالة وحصول أمر ، والنفي المحض ، والسلب الصرف ليس كذلك ، وأما أن كونه باقيا يمنع من كونه أثرا لمؤثر ، فلما بينا فيما تقدم [أنه يمتنع القول ، بأن الباقي حال بقائه يصير أثرا لمؤثر وفعلا لفاعل ، فثبت (١)] أنه لو كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، لزم افتقار المعدوم حال بقائه إلى المؤثر ، وثبت أن هذا محال ، فيلزم أن لا يكون الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر.

الشبهة التاسعة : لو افتقر الممكن إلى المرجح لما كان الإنسان مختارا في أفعاله ، وهذا باطل ، فذاك باطل ، بيان الشرطية : أن الإنسان حال كونه قادرا [على الفعل ، إما أن يكون قادرا] (٢) على الترك ، أو لا يكون ، فإن لم يقدر على الترك في حال الفعل ، فكذلك لا يقدر على الفعل (٣) ، وحينئذ لا يكون البتة متمكنا من الفعل ومن الترك في شيء من الأحوال ، فوجب أن لا يكون فاعلا مختارا البتة ، وأما إن كان قادرا على الترك ، فترجح الفعل على الترك ، إما أن يتوقف على مرجح أو لا يتوقف ، فإن توقف على مرجح فذلك المرجح إما أن يكون منه أو من غيره ، فإن كان منه عاد التقسيم الأول فيه ، وإن كان من غيره ، فعند حصول ذلك المرجح من ذلك الغير ، إما أن يكون ذلك الفعل واجبا أو ممكنا أو ممتنعا ، فإن كان واجبا لم يكن البتة متمكنا من الفعل والترك ، لأنه قبل حصول ذلك المرجح ، كان صدور الفعل عنه واجبا ، وعلى هذا التقدير لا يكون العبد متمكنا في شيء من الأحوال ، وإذا كان عند حصول ذلك المرجح ، يصير صدور الفعل عنه ممكنا لا واجبا. فذلك باطل لوجوه ستة قطعية يقينية سنذكرها في مسألة القضاء والقدر. فثبت بما ذكرناه : أنه لو توقف رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر على انضمام مرجح إليه ، لامتنع كون الحيوان مختارا في فعله.

وإنما قلنا : إنه لا بدّ من الاعتراف بحصول الفاعل المختار ، وذلك لأنا نعلم تفرقة بديهية كون العبد متحركا باختياره ، تارة يمنة ، وتارة يسرة ، وبين

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) فكذلك لا يقدر حال الترك على الفعل (س).

١٠٧

كون المرتعش متحركا بالاضطرار. وأيضا. : فمن رمى حجرا إلى وجه إنسان ، فإنه يعرف الفرق بين حركة الحجر وبين يد ذلك الرامي ، فإن العقلاء ببدائه عقولهم يعلمون : أنه لا يجوز مدح ذلك الحجر وذمه في تلك الحركة ، وأنه يحسن مدح ذلك الرامي وذمه في تلك الحركة ، ولو لم يكن العبد مختارا في فعله ، لما بقيت هذه التفرقة ، فثبت : أنه لو توقف رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر بلا (١) مرجح ، لزم أن لا يكون العبد مختارا في فعله ، وثبت أنه مختار في فعله ، فوجب أن لا يفتقر الممكن إلى المرجح.

الشهية العاشرة : إن الهارب من السبع إذا ظهر له طريقان متساويان من كل الوجوه ، فإنه يختار أحدهما لا لمرجح ، والعطشان إذا خير بين شرب قدحين متساويين ، والجائع إذا خير بين أكل رغيفين متساويين ، وكذا القول في أشباهها من الأمثلة. ولا يقال : إن ذلك الفاعل لما خصص أحد الجانبين بالترجيح فذلك الترجيح والتخصيص : مرجح ، لأنا نقول : إن ذلك القادر إن لم يصح منه ترجيح الجانب المرجوح على الجانب الراجح ، بدلا عن الترجيح ، فهو موجب لا مختار ، وإن صح منه كل واحد من القسمين بدلا عن الآخر ، فإن توقف ترجيح أحد الجانبين على الآخر على مرجح ، صار موجبا ، وخرج عن كونه مختارا ، وإن لم يتوقف على المرجح فقد حصل رجحان الممكن لا لمرجح.

الشبهة الحادية عشر : القول بافتقار الممكن إلى المؤثر يقدح في كونه ممكنا ، فوجب أن لا يتحقق الافتقار. بيان الشرطية : إن الممكن إن حصل معه وجود السبب ، كان واجب الوقوع ، وإن حصل معه عدم ذلك السبب كان ممتنع الوقوع ، وإذا كان لا واسطة بين حصول السبب وبين عدمه ، كان كل واحد منهما مانعا من الإمكان ، فوجب أن لا يحصل الإمكان أصلا ، فيثبت أن القول بافتقار الممكن إلى السبب ينافي كونه ممكنا ، ومعلوم أن ما أفضى ثبوته إلى نفيه ، كان ثبوته باطلا ، فوجب أن يكون القول بثبوت هذا الافتقار باطلا.

فإن قال قائل : لم لا يجوز أن يقال : إنه ممكن نظرا إلى ذاته وماهيته ،

__________________

(١) من (ز).

١٠٨

بمعني أنه من حيث إنه هو ، مع قطع النظر عن وجود السبب وعن عدمه ، فإنه يقبل الوجود والعدم أو يقول : إنه صار واجب الوجود في الحال لحضور سبب وجوده ، لكنه ممكن الوجود بالنظر إلى الزمان المستقبل.

والجواب : أن نقول : أما الوجه الأول فباطل ، لأن ماهية الشيء إما أن تكون عين وجوده أو غيره ، فإن كان الأول امتنع أن يقال : إنه من حيث إنه هو ممكن الوجود ، لأن على هذا القول لا هوية له سوى الوجود ، لكن الوجود من حيث إنه وجود ينافي العدم ، والمنافي للشيء لا يكون قابلا له ، فوجب أن يمتنع كون تلك الماهية قابلة للعدم.

وأما الاحتمال الثاني : (١) وهو أن تكون الماهية غير الوجود ، فنقول : فعلى هذا التقدير المحكوم عليه بالإمكان ، إما الماهية ، أو الوجود ، أو موصوفية الماهية بالوجود ، ومحال أن يكون المحكوم عليه بالإمكان هو الماهية [لأن الماهية] (٢) من حيث هي هي ، لا تقبل الانتفاء والتبديل ، بل هي واجبة التحقق لعينها ولذاتها فلا تكون ممكنة البتة. ومحال أن يكون المحكوم عليه بالإمكان هو الوجود من حيث إنه وجود ، لأن الوجود من حيث إنه وجود [لا يقبل العدم ، فيمتنع أن يكون الوجود من حيث إنه وجود] (٣) قابلا للعدم ، ومحال أن يكون المحكوم عليه بالإمكان هو موصوفية الماهية بالوجود ، لأن تلك الموصوفية إن لم تكن أمرا وجوديا فقد بطل الحديث ، وإن كان أمرا وجوديا عاد التقسيم الأول. فثبت أن هذا العذر الذي ذكرتموه باطل.

وأما السؤال الثاني : وهو أن الإمكان إنما يتحقق بالنسبة إلى الزمان المستقبل.

فنقول : إما أن يكون المراد منه : أن عند حصول الاستقبال ، يحصل هذا الإمكان [وإما أن يكون المراد منه : أن الإمكان] (٤) حصل [في

__________________

(١) الوجه (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

١٠٩

الحال] (١) بالنسبة إلى الاستقبال ، والأول باطل ، لأن الاستقبال ينقلب حالا عند الحضور، فيعود السؤال المذكور.

والثاني أيضا باطل ، لأن حصول الشيء في الاستقبال مشروط بحصول الاستقبال ، والاستقبال محال الحصول في الحال ، والموقف على المحال محال ، فالشيء بشرط حصوله [في الاستقبال] (٢) مستحيل الحصول في الحال ، وإذا كان هو بهذا الاعتبار ممتنع الحصول ، امتنع أن يقال : إنه بهذا الاعتبار يكون ممكن الحصول ، لأن الإمكان الخاص والامتناع لا يجتمعان في الشيء الواحد بالاعتبار الواحد.

الشبهة الثانية عشر : لو افتقر الحادث الى المؤثر لكان ذلك المؤثر مع كل القيود المعتبرة في تلك المؤثرية ، إما أن يقال : إنه كان موجودا قبل ذلك الأثر ، أو ما كان موجودا قبله ، فإن كان الأول فحينئذ يكون حصول ذلك الأثر في أحد الوقتين دون الثاني ، يكون رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وذلك يقدح في قولنا الممكن يفتقر إلى المؤثر ، اللهم إلا أن يقال : إن حضور هذا الوقت كان شرطا لأن يصدر الأثر عن المؤثر ، لو كان زوال الوقت الأول شرطا ، إلا أن على هذا التقدير يلزم أن يقال : إن المؤثر مع كل ما لا بد منه في المؤثرية ، ما كان موجودا قبل هذا الأثر ، لأن زوال الوقت الأول وحضور الوقت الثاني ، كان أحد الأمور المعتبرة في تلك المؤثرية ، مع أنه ما كان [حاضرا] (٣) قبل ذلك ، مع أنا في هذا التقسيم فرضنا أن كل تلك الأمور كانت حاضرة. هذا خلف. وأما أن قلنا : إن المؤثر مع كل ما لا بد منه في حصول المؤثرية ، ما كان حاصلا قبل ذلك ، وإنما حدث في هذا الوقت كان الكلام في حدوث ذلك المجموع كالكلام في حدوث ذلك الأثر ، فإن حدث لا لمؤثر كان هذا قولا باستغناء الأثر الحادث عن المؤثر ، وإن افتقر إلى مؤثر آخر،

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

١١٠

لزم إما التسلسل أو الدور ، وهما باطلان عندكم.

الشبهة الثالثة عشر : الممكن حين صدر عن الواجب ، إما أن يكون قد صدر مع أنه كان صدوره عنه ممكنا ، أو مع أنه كان صدوره عنه واجبا ، فإن كان الأول ، فقد ترجح الممكن لا لمؤثر ، وإن كان الثاني فحينئذ يصدق أن هذا المعلول من لوازم وجود تلك العلة ، وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ، فيلزم من ارتفاع هذا المعلول ارتفاع علته ، ويلزم من ارتفاع علته ارتفاع علة علته. وهكذا القول في أنه يلزم من ارتفاع كل [معلول ارتفاع علته. حتى ينتهي هذا إلى المبدأ الأول ، فيلزم أن يقال : إنه يلزم من ارتفاع] (١) هذه الممكنات ، وهذه الحوادث ، ارتفاع واجب الوجود لذاته ، وهو محال.

فإن قال قائل : الجواب عنه من وجهين :

الأول : إن ارتفاع الأثر لا يوجب ارتفاع المؤثر ، بل يدل على أن المؤثر ارتفع أولا ، حتى لزم من ارتفاعه ارتفاع هذا الأثر.

الثاني : لم لا يجوز أن يقال : إن ارتفاع المعلول ، دل على أن شرطا من الشرائط المعتبرة في تأثير واجب الوجود لذاته ، في حصول هذا المعلول [قد ارتفع (٢)] وبهذا التقدير لا يلزم من ارتفاع هذا المعلول ارتفاع ذات العلة ، لأنا نقول :

أما الجواب الأول فضعيف لأنه لو كان الأمر كذلك [لكان (٣)] متى ارتفع الأثر فإن المؤثر قد ارتفع أولا ، لكنا نشاهد عدم الصور والأعراض في عالمنا هذا ، فيلزم أن يكون عدمها ، دالا على عدم عللها ، وحينئذ يلزم المحال (٤) المذكور.

وأما الجواب الثاني : فضعيف أيضا ، لأن الكلام في ارتفاع ذلك

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) المحذور (ز).

١١١

الشرط ، كالكلام في ارتفاع ذلك المعلول فإن كان ذلك لارتفاع شرط آخر لزم أن يكون كل حادث لأجل حادث آخر إلى غير النهاية. ثم إن هذه الأسباب والمسببات الغير المتناهية ، لو كانت موجودة معا ، فقد لزم وجود أسباب ومسببات غير متناهية دفعة واحدة [وهو محال] (١) وإن كان بعضها سابقا على البعض ، فحينئذ قد جوزتم استناد الحادث الموجود في الحال إلى سبب كان موجودا قبل ذلك وهو غير موجود في الحال ، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال المقتضى لوجود هذا الشيء الموجود في الحال شيء كان موجودا قبله ، ثم فني عند طريان هذا الحادث ، وهذا عين (٢) ما ذكرتموه في الشرائط المتعاقبة وحينئذ لا يمكنكم الاستدلال بوجود هذه الممكنات على وجود موجود واجب الوجود لذاته.

الشبهة الرابعة عشر : العالم إما أن يكون له مؤثر أو لا يكون ، فإن لم يكن له مؤثر ، مع أن العالم ممكن لذاته ، فقد وقع الممكن لا عن مؤثر. وإن كان له مؤثر فذلك المؤثر ، إما أن يكون واجبا أو مختارا. فإن كان موجبا فاختصاص النقطة المعينة ، بأن تكون قطبا للفلك دون سائر النقط المتساوية لها : رجحان للممكن لا لمرجح ، وكذلك القول في اختصاص كل واحد من الكواكب لجانب معين من الفلك ، دون سائر الجوانب ، وكذا القول في اختصاص بعض جوانب المتمم (٣) بالرقة دون سائر الجوانب وكذا القول في حصول كرة العالم في جانب معين من الخلاء الذي لا نهاية له عند من يقول بذلك الخلاء. وإما إن كان مختارا كان تخصيص إحداث العالم بالوقت المعين دون [سائر] (٤) ما قبله ، وما بعده ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح فثبت : أن القول باستغناء الممكن عن المؤثر لازم على كل التقديرات.

الشبهة الخامسة عشر : لو أثر شيء في شيء لكان تأثير المؤثر في الأثر ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) يقرأ : المحتم.

(٤) من (س).

١١٢

إما أن يكون باعتبار كونه مؤثرا ، أو كان ذلك التأثير حاصلا باعتبار آخر سوى كونه مؤثرا. والقسمان باطلان ، فالقول بالتأثير باطل وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يؤثر فيه باعتبار كونه مؤثرا ، وذلك لأن كون الشيء مؤثرا في غيره نسبة مخصوصة بين ذات المؤثر ، وذات الأثر ، والنسبة الحاصلة بين الشيئين متأخرة بالرتبة عن الذاتين (١) ، فيلزم من هذا أن يقال : إن كون المؤثر مؤثرا في ذات الأثر نسبة متأخرة بالرتبة عن ذات الأثر ، فلو حكمنا بأن ذات الأثر إنما وجد (٢) بسبب تلك المؤثرية ، لزم أن تكون هذه المؤثرية متقدمة بالرتبة على ذات الأثر ، وحينئذ يلزم تقدم كل واحد منهما على الآخر ، أعني (٣) المؤثرية ، وذات الأثر وذلك محال ، وأما بيان فساد القسم الثاني ، وهو أن يؤثر المؤثر في الأثر لا باعتبار كونه مؤثرا فيه [فهذا أيضا باطل ، لأنه لو أثر فيه لا باعتبار كونه مؤثرا فيه] (٤) فحينئذ يصير ذلك لا باعتبار المؤثرية ، وحينئذ يلزم الجمع بين النقيضين وهو محال.

الشبهة السادسة عشر : الأثر ما لم يجب وجوده عن المؤثر ، امتنع دخوله في الوجود ، فإن قيل (٥) إن [مؤثر الأثر واجب الصدور عن المؤثر فيكون ممكن الصدور عنه ، وما دام يكون الشيء باقيا على إمكانه] امتنع دخوله [في الوجود] ، فيثبت أن الأثر ما لم يصر واجب الصدور عن المؤثر امتنع دخوله في الوجود ، وإذا ثبت هذا لزم أن يقال : إن صيرورة واجب الصدور عن المؤثر متقدم بالرتبة على دخوله في الوجود ، لكن وجوب صدوره عن المؤثر صفة من صفات وجوده ، والصفة متأخرة بالرتبة عن الموصوف ، فهذا يقتضي تقدم كل واحد من هذين الاعتبارين على الآخر ، وتأخره عنه ، وذلك محال.

الشبهة السابعة عشر : المؤثر يمتنع كونه مؤثرا في الشيء ، إلا إذا كان

__________________

(١) الذات (س).

(٢) وجد (س).

(٣) على (س).

(٤) من (ز).

(٥) عبارة (س) : فإن قيل : أن يعتبر الأثر : ويصير واجبا ، امتنع دخوله في الوجود. فثبت : أن الأثر .. الخ.

١١٣

ذلك الشيء في نفسه ممكن الوجود محتاجا إلى الغير ، فثبت أن عند عدم الإمكان والحاجة يمتنع كون الشيء مؤثرا فيه فلو صار (١) مؤثرا فيه عند حصول الإمكان والحاجة لزم أن يكون هذا الإمكان ، وهذه الحاجة علّة لكون ذلك المباين (٢) علة لوجوده ، وهذا محال لوجهين :

الأول : إنه يلزم أن يحصل لغير واجب الوجود لذاته تأثيرا [في ذات واجب الوجود لذاته (٣)] وهو محال.

الثاني : إنا قد دللنا على أن هذا الإمكان وهذه الحاجة أمران (٤) عدميان ، ولو جعلناهما علة لكون العلة الفاعلة [مؤثرة في وجود الأثر لكانت العلة الأولى (٥)] لهذه الموجودات أمرا عدميا (٦) وحينئذ يلزم كون العدم علة الوجود [و] هذا محال (٧).

الشبهة الثامنة عشر : إن المؤثر ما كان مؤثرا بالفعل قبل دخول (٨) الأثر ، فإذا صار مؤثرا بالفعل عند وجود الأثر ، فقد حدثت تلك المؤثرية ، فإن كان حدوثها لأجل هذا الأثر لزم الدور ، وإن كان حدوثها لشيء آخر لزم التسلسل ، وإن حدثت هذه المؤثرية لا لسبب أصلا ، كان ذلك قولا ، بأن المحدث الممكن (٩) غني عن المؤثر والفاعل ، فهذا تمام شبهات القائلين بنفي التأثير والأثر.

__________________

(١) فرضنا (س).

(٢) الممكن (س).

(٣) من (ز).

(٤) قيدان (س).

(٥) من (س).

(٦) امران عدميان (ز).

(٧) هذا خلف (س).

(٨) وجود (س).

(٩) من (ز).

١١٤

الفصل الخامس

في

تقرير الجواب عن هذه الشبهات

الشبهة الأولى : وهي قولهم : «لو كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، لكان الباقي في حال بقائه محتاجا ، إلى المؤثر».

نقول في الجواب عنها : لا نزاع في المقدمة الأولى : لكن لم قلتم : إن الباقي غير مفتقر إلى المؤثر؟ قوله : «لأنه يلزم منه تحصيل الحاصل وهو محال» قلنا : إن عنيتم بهذا الكلام (أنه يلزم أن يحصل للحاصل حصول آخر ، فهذا غير لازم ، لأن على هذا التقدير يكون هذا الحصول الثاني حصولا جديدا ، فيكون تأثير المؤثر في الحادث لا في الثاني ، وكلا منا فيما إذا كان المؤثر في نفس الثاني ، وإن عنيتم بهذا الكلام) (١) أن يكون عين (٢) ذلك الحصول واقعا بتأثير ذلك المؤثر ، وتكوينه من غير توهم أن يحصل لذلك الحاصل حصول ثان ، فهذا حق ، وصدق عندنا ، فلم قلتم : إن الأمر ليس كذلك؟

والجواب عن الشبهة الثانية : وهي قولهم (٣) : «تأثير المؤثر ، إما أن يكون حال وجود الأثر أو حال عدمه» قلنا : بل حال وجوده. قوله : «فيلزم إيجاد الموجود ، وهو محال» قلنا : إن عنيت بإيجاز الموجود جعله موجودا من

__________________

(١) من (ز).

(٢) غير (س).

(٣) قوله (س).

١١٥

شيئين (١) ، فهذا غير لازم ، وإن عنيت أن هذا الوجود الحاصل (إنما حصل) (٢) بتأثير هذا المؤثر فيه ، فهذا مذهبنا الذي لا حق إلا هو ، فلم قلتم إنه محال؟

والجواب عن الشبهة الثالثة : وهي قولهم : (٣) «افتقار الأثر إلى المؤثر ، إما أن يكون وصفا ثبوتيا أو عدميا» قلنا : لم لا يجوز أن يكون مفهوما عدميا؟ قوله : «كونه مفتقرا نقيض لقولنا : إنه غير مفتقر».

قلنا : هذا الكلام يوجب عليكم (٤) كون العدم وجودا ، وذلك لأن كون العدم مناقضا للوجود ومقابلا له وصف وجودي ، بدليل أن كونه غير مناقض له ، وغير مقابل له ، وصف عدمي وإذا كان اللامناقض واللامقابل وصفا عدميا ، وجب أن يكون كونه مناقضا ومقابلا وصفا وجوديا ، وإذا كان لهذا الوصف وصفا وجوديا (وهو محمول العدم ، لأنه لا نزاع أن العدم مناقض للوجود) (٥) ومقابل له ، فيلزم أن يكون العدم موصوفا بصفة موجودة، والموصوف بالصفة الموجودة موجود ، فيلزم كون العدم موجودا ، وهو محال. وكل ما ذكروه في الجواب عن هذا الكلام ، فهو عين جوابنا عن هذه الشبهة المذكورة.

والجواب عن الشبهة الرابعة : وهي قولكم : (٦) «الحكم على الشيء بالافتقار يقتضي أن يكون المحكوم عليه بالافتقار مقدما على ذلك الافتقار ومتأخرا عنه» قلنا : هب أن الافتقار إلى الشيء معنى وقع في محل الشك والشبهة ، إلا أن كون الشيء حادثا بعد العدم أمر معلوم بالضرورة ، فإنا نشاهد أن النور يحدث بعد الظلمة ، وأن الحر يحدث بعد البرد ، ونقول : ما ذكرتموه في تقرير هذه الشبهة ، فهو بعينه قائم في الحدوث ، وذلك لأن ذلك الشيء موصوف بالحدوث ، والموصوف متقدم بالرتبة على الصفة ، ويقتضي أيضا ، أن يكون متأخرا عنه ، لأنه وجد بعد أن لم يكن ، وكما أن هذه الشبهة

__________________

(١) مرتين (ز).

(٢) من (س).

(٣) قوله (س).

(٤) علم (س).

(٥) من (ز).

(٦) قولهم (س).

١١٦

لا تمنع من الإقرار بالحدوث في الجملة (١) ، لكونه معلوم الثبوت بالحس ، فكذلك يجب أن لا تمنع من الإقرار بحصول الحاجة والافتقار.

والجواب عن الشبهة الخامسة : وهي قولهم : «المفتقر إلى المؤثر إما الماهية ، أو الوجود أو اتصاف الماهية بالوجود» فنقول : هذا الإشكال وارد في الحدوث ، فإنه يقال : لو حدث شيء لكان الحادث إما الماهية أو الوجود ، أو موصوفية الماهية بالوجود ، والكل باطل للوجوه التي ذكرتموها في تقرير هذه الشبهة ، وهذا يقتضي أن لا يضيء الجو (٢) بعد أن كان مظلما ، وأن لا يقوم الإنسان بعد أن كان جالسا ، وكما أن هذا باطل فكذلك ما ذكرتم.

والجواب عن الشبهة السادسة : وهي قولهم : (٣) : «المحكوم عليه بالحاجة ، إما أن يكون بسيطا أو مركبا (٤) فنقول : لم لا يجوز أن يكون بسيطا؟ فإن عندنا السواد إنما صار سوادا بالفاعل ، والجوهر إنما صار جوهرا بالفاعل ، قوله : «علة الحاجة هي الإمكان ، والإمكان صفة نسبية ، والنسبة لا يمكن حصولها في المفردات» قلنا المراد عندنا : هو أنه لا يمتنع (بقاؤه ولا يمتنع) (٥) زواله ، ولا نسلم أن الإمكان بهذا التفسير لا يعترض البسائط ، فإن قالوا : قول القائل السواد من حيث إنه (سواد لا) (٦) يمتنع بقاؤه ولا يمتنع زواله : لا يفيد غرضكم. وذلك لأن ما ذكرتم يقتضي الحكم على السواد بإمكان البقاء تارة وبإمكان الفناء أخرى ، والمفهوم من كون السواد سوادا مغايرا للمفهوم من البقاء والفناء ، فما ذكرتم يدل على أن الإمكان يمتنع حصوله في الماهية البسيطة.

قلنا : هذا تمسك بمحض اللفظ ، والمراد من الإمكان كون الشيء في نفسه ، بحيث يصح أن تبقى هويته وأن لا تبقى ، ولا شك أن المحكوم عليه بهذا المفهوم بالإمكان مفرد لا مركب.

__________________

(١) الحكمة (س).

(٢) الهواء (س).

(٣) قوله (س).

(٤) شرطا (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

١١٧

والجواب عن الشبهة السابعة : وهي قولهم : «القول بثبوت شيء ، يؤثر في شيء آخر ، يقتضي كون ذلك التأثير مغايرا لذات المؤثر ، ولذات الأثر ، وهو يوجب التسلسل».

فنقول (١) في الجواب : قد ذكرنا أن مثل ذلك التقسيم الذي ذكرتم قائم فيما علم وجوده بالضرورة فيكون باطلا. قوله : «فإذا سلمتم وجود كلام صحيح الشكل ، صحيح المادة ، مع أن نتيجته تكون باطلة ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بشيء من الدلائل على صحة شيء من المطالب» قلنا : نحن لا نسلم صحة الوجوه المذكورة في ذلك التقسيم ، بل نحن إنما أوردنا (٢) هذه المعارضات لتدل على اشتمال التقسيم الذي ذكرتم على مقدمات فاسدة.

والجواب عن الشبهة الثامنة : وهي قولهم : «لو كان الإمكان علة للحاجة لافتقر المعدوم حال عدمه إلى المؤثر» فنقول : لم لا يجوز أن يقال : الإمكان علة لاحتياج وجود الممكن إلى المؤثر ، وإذا كان كذلك. لم يلزم من هذا الكلام احتياج عدم الممكن إلى المؤثر؟ سلمنا : أن الإمكان علة للحاجة في الطرفين (٣) ، فلم لا يجوز أن يقال علته عدم العلة؟ (٤) قوله «العلية صفة ثبوتية» قلنا : لا نسلم قوله لأنها مناقضة للمفهوم من قولنا : إنه ليس بعلة ، قلنا : ينتقض هذا بقولنا : العدم مناقض للوجود ، ومقابل له. فإن ما ذكرتموه إن دل على قولكم لزم أن يقال : إن كون العدم مناقضا للوجود صفة موجودة ، فيكون العدم موصوفا بصفة موجودة ، وما كان كذلك كان موجودا ، فيلزم كون العدم محض الوجود ، وهو محال.

والجواب عن الشبهة التاسعة : وهي قولهم : «لو افتقر الممكن إلى المؤثر لم يكن الإنسان مختارا في فعله» فنقول : لم لا يجوز أن يقال إنه مضطر في ذلك الاختيار ، وتفسيره: أن الله تعالى يخلق ذلك الاختيار فيه ، ثم يكون ذلك

__________________

(١) قلنا (س).

(٢) ذكرنا (س).

(٣) في الظن (س).

(٤) علة العدم العلة (ز).

١١٨

الاختيار موجبا لذلك الفعل أو جزءا من الموجب ، أو شرطا للموجب.

قوله : «فعلى هذا التقدير يلزم الجبر ، ويلزم بطلان الأمر والنهي ، والثواب والعقاب» قلنا : لا نسلم أنه يلزم ما ذكرتم ، فإن الثواب والعقاب عند الحكماء أحوال لازمة، من حصول الأعمال السابقة على ما سيأتي في تحقيق (هذا) (١) الكلام في أبواب المعاد.

والجواب عن الشبهة العاشرة : وهي قولهم : الهارب من السبع يختار أحد الطريقين لا لمرجح.

فنقول : لا نسلم أنه لم يحصل المرجح هنا ، وبيانه من وجهين :

أحدهما : حركته في أحد المكانين دون الثاني ، والسبب الثاني : إرادته لإحدى الحركتين دون الثانية ، ثم لا نقول إن تلك الإرادة حصلت لإرادة اخرى من قبله ، وإلا لزم التسلسل ، بل إنما حدثت تلك الإرادة في قلبه لأسباب علوية لا اطلاع لنا على تفاصيلها.

والجواب عن الشبهة الحادية عشر : وهي قولهم : إن [القول] (٢) بافتقار الممكن إلى المؤثر يقدح في كونه ممكنا. فنقول : إن الكلام الذي ذكرتم يقدح في وجود الممكن ، سواء قلنا : بافتقاره إلى المؤثر أو لم نقل به ، وبيانه : وهو أن المحكوم عليه بالإمكان ، إما أن يكون موجودا أو معدوما ، فإن كان موجودا كان وجوده منافيا لعدمه ، وكان منافيا لإمكان عدمه ، وكذلك القول في جانب العدم ، فكل ما يصلح عذرا (عن هذا يصلح عذرا) (٣) عما ذكرتم.

والجواب عن الشبهة الثانية عشر : «المؤثر في كل ما لا بد منه في حصول المؤثرية إما أن يقال إنه كان حاصلا قبل حدوث ، هذا الحادث أو ما كان حاصلا» فنقول : لم لا يجوز أن يقال : ذات المؤثر كانت حاصلة ، إلا أن انقضاء الموجود ، الذي كان حاصلا قبل، كان شرطا لفيضان هذا الحادث

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

١١٩

عنه؟ وهكذا يكون فيضان كل حادث مشروطا بانقضاء الحادث الذي كان موجودا قبله ، كما هو قول الحكماء.

والجواب عن الشبهة الثالثة عشر : وهي قولهم : «إنه يلزم من عدم الأثر عدم المؤثر، فيلزم أن يكون المبدأ الأول ممكنا لذاته».

فنقول : حق إنه يلزم عدم عند عدم الأثر ، (عدم المؤثر) (١) أما ما ليس بحق : فهو : أن عدم المؤثر إنما حصل من عدم الأثر ، لأن الأثر تابع ، والتابع لا يصير متبوعا ، لا في جانب الوجود ، ولا في جانب العدم ، قوله «هب أن الأمر كذلك ، إلا أن هذا الكلام يقتضي أنه كلما ارتفع الأثر فقد ارتفع المؤثر أولا ، وذلك يقتضي كون المؤثر قابلا للارتفاع» قلنا : ارتفاع الأثر قد يكون لارتفاع المؤثر ، وقد يكون لارتفاع حالة من أحوال ذلك المؤثر ، كانت تلك الحالة شرطا لصدور الأثر عن المؤثر. وعند الحكماء : إن صدور كل (أثر) (٢) حادث عن المؤثر القديم مشروط بانقضاء حادث آخر وجد قبله ، وهكذا لا إلى أول.

والجواب عن الشبهة الرابعة عشر : وهي قولهم «اختصاص النقطة المعينة بالقطبية عند الحكيم ، واختصاص الوقت المعين بحدوث العالم فيه عند المتكلم ، يوجب رجحان أحد طرفي الممكن لا لمرجح» فنقول : إن تعين النقطة المعينة للقطبية تابع للحركة المعينة ، وأما حصول تلك الحركة بعينها ، فيحتمل أن يكون السبب فيه أن المادة الفلكية المعينة لا تقبل إلا ذلك النوع المعين من الحركة. هذا على قول الحكيم.

والجواب عن الشبهة الخامسة عشر : وهي قولهم : «لو أثر شيء في شيء ، لكان المؤثر في ذلك الأثر باعتبار كونه مؤثرا فيه (أولا باعتبار كونه مؤثرا فيه» فنقول : الحق أنه يؤثر لا باعتبار كونه مؤثرا فيه) (٣) بل يؤثر

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

١٢٠