المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

كونه مؤثرا في وجود ذلك الحادث ، أو ما كان كذلك ، فإن كان الحق هو الأول ، فنقول : إن ذلك المؤثر التام كان حاصلا في الأزل ، وما ما كان هذا الحادث موجودا ، ثم حدث هذا الحادث بعد ذلك ، مع أنه لم يتغير أمر من الأمور المعتبرة (في حدوث هذا الحادث) (١) البتة ، فحينئذ يلزم رجحان الممكن لا لمرجح ، وأما القسم الثاني : وهو أن كل الأمور المعتبرة في كون ذلك القديم علة لهذا الحادث (ما) (٢) كان موجودا في الأزل ، ثم إنه حدث ذلك المجموع ، فحدوث ذلك المجموع ، إما أن يكون لا لسبب أو يكون لسبب سابق ، أو يكون عليّة معلول ، وهو الدور ، أو يكون عليّة حادث آخر ، وهو التسلسل فيثبت أنه لا بد في الجواب من التزام أحد هذه الوجوه الأربعة ، وعلى كل التقديرات فإنه يفسد مقدمة من المقدمات المعتبرة في أصل ذلك الدليل.

والوجه الثاني في بيان ضعف هذا الجواب : إن تلك العلة القديمة حال ما كان الحادث المتقدم موجودا. إما كانت مؤثرة في وجود الحادث المتأخر ، ثم بعد انقضاء الحادث المتقدم ، صار مؤثرا في وجود الحادث المتأخر؟ فيكون ذلك الموجود القديم ، ثمّ مؤثرا في وجود هذا الحادث المتأخر حكم حادث ، فإن لم يفتقر إلى المؤثر ، فقد فسد قولكم : الحادث لا بد له من مؤثر ، وإن افتقر إلى المؤثر فالمؤثر فيه ، إن كان هو وجود الحادث المتقدم ، فقد أسندتم المتأخر : إلى (عدم) (٣) المتقدم ، وإن أسندتموه إلى معلوله لزم الدور، وإن أسندتموه إلى حادث آخر ، لزم التسلسل ، والكل يهدم دليلكم.

الوجه الثالث في بيان ضعف هذا الجواب : أن نقول الحادث المتقدم ، إما أن يكون فناؤه وانقضاؤه لذاته أو لغيره ، فإن كان الأول كان ممتنع الوجود لذاته ، فوجب أن لا يوجد البتة ، وإن كان الثاني فليس هاهنا سبب يزيله ويوجب عدمه ، إلا طريان (الحادث المتأخر فعلى هذا يكون زوال المتقدم موقوفا

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

١٦١

على طريان) (١) هذا الحادث المتقدم ، (وأنتم جعلتم فيضان هذا الحادث المتأخر عن العلة القديمة مشروطا باقتضاء الحادث) (٢) وذلك يوجب الدور ، فيثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن الجواب الذي عوّل الفلاسفة عليه في دفع هذا الإشكال ضعيف.

وأما جواب المتكلمين. فهو أيضا ضعيف لوجوه :

الأول : إن صحة حدوث الحوادث ، إما أن يكون لها أول ، (وإما أن لا يكون لها أول) (٣) فإن كان لها أول ، فقد كان قبل حضور ذلك (المبدأ) (٤) ممتنعا لذاته ، ثم انقلب ممكنا لذاته ، وهذا محال ، وبتقدير تسليمه فاختصاص هذا الانقلاب بذلك المبدأ يكون رجحانا للممكن لا لمرجح ، وأما إن قلنا : إنه لا بذاته لصحة حدوث الحوادث ، فحينئذ سقط قولكم : إن حدوث حوادث لا أول لها : محال.

والوجه الثاني في بيان ضعف هذا الجواب : إن المؤثر القديم ، هل كان مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة في كونه مؤثرا في وجود العالم ، أو ما كان كذلك؟ فإن كان الأول فحينئذ مع حصول كل تلك الأمور في الأزل ، ما كان العالم حاصلا في الأزل ، ثم حصل فيما لا يزال ، فقد وقع الممكن ، لا عن مرجح ، وإن كان (الثاني) (٥) فمجموع الأمور المعتبرة في المؤثرية : حكم حادث. ويعود التقسيم فيه.

فهذا جملة الكلام في تقرير هذا السؤال (الهائل) (٦) : والجواب عنه.

أما الفلاسفة فقد أجابوا عنه : بأن غاية هذا السؤال : أن كون المؤثر القديم مؤثرا في وجود هذا الحادث ، حكم حادث فلا بد له من سبب ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

١٦٢

فنقول : مؤثرية المؤثر في الأثر (١) ليس موجودا زائدا ، وإلا لكان ممكنا ، ولكان مفتقرا إلى المؤثر ، فحينئذ يلزم افتقاره إلى مؤثر آخر ، وهو (محال) (٢) ، فيثبت أن المؤثرية ليست موجودا حادثا ، فلم يلزم افتقاره إلى السبب ، وأما جواب المتكلمين فالبحث المستقصى عنه مذكور في مسألة القدم والحدوث (وبالله التوفيق) (٣).

__________________

(١) الأثر في المؤثر (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

١٦٣

الفصل الثالث عشر

في

حكاية شبهات من يقدح في إثبات

واجب الوجود لذاته

الشبهة الأولى : لو حصل في الوجود موجود واجب الوجود لذاته ، لكان ذاتا قائما بالنفس ، وكل ذات فإنه يساوي سائر الذوات في كونه ذاتا ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن الوجود لذاته ، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته. هذا خلف فيفتقر إلى تقرير هذه المقدمات : ـ

أما المقدمة الأولى : فهي أنه لو وجد موجود واجب الوجود لذاته ، لكان ذاتا ، والدليل عليه : أنه لو وجد واجب لذاته ، لكان موجودا مستقلا بنفسه قائما بذاته ، ولا معنى للذات إلا ذاك.

وأما المقدمة الثانية : فهي قولنا : كل ذات فإنها تساوي سائر الذوات ، في كونها ذوات ، والدليل عليه وجهان :

الأول : إن الذات يمكن تقسيمها إلى الواجب ، وإلى الممكن ، والمقارن (١) فمورد التقسيم مشترك بين الأقسام.

والثاني : إنا إذا اعتقدنا ذاتا ، وشككنا بعد ذلك في أن تلك الذات واجبة ، أو ممكنة ، وجسمانية أو مفارقة. فإن شكنا في هذه الأمور ، لا يزيل

__________________

(١) والمقارن (ز).

١٦٤

عنا اعتقاد كونه ذاتا. فعملنا : أن المفهوم من كون الذات ذاتا : مفهوم مشترك بين كل الأقسام.

وأما المقدمة الثالثة : فهي قولنا : الذوات لما تساوت بأسرها في الذاتية ، كانت الذوات بأسرها ممكنة ، والدليل عليه : أن حكم الشيء حكم مثله ، فلما تساوت الذوات (بأسرها) (١) في الذاتية ، وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ، وإذا كان كذلك كان اختصاص ما به حصل الامتياز بينه وبين الممكنات ، أمرا جائزا للزوال ، ومتى كان الأمر كذلك كان ممكنا لذاته لا واجبا لذاته.

الشبهة الثانية : قالوا : لو فرضنا موجودا واجب الوجود لذاته ، لكان ذلك (٢) الوجود إما أن يكون تمام ماهيته (أو جزء ماهيته) (٣) أو مفهوما خارجا عن ماهيته ، والأول محال لوجوه :

الأول : إن المفهوم من الوجوب الذاتي معلوم ، والحقيقة المخصوصة التي لتلك الذوات غير معلومة ، والمعلوم مغاير لغير المعلوم (٤).

الثاني : إنا إذا قلنا : واجب الوجود ، لم يفد شيئا ، وإذا قلنا : إن الذات الفلانية واجبة الوجود ، كان الكلام مفيدا.

الثالث : إن أهل المنطق قالوا : وجوب الوجود جهات ، ومعناه : أنه لا بد في القضية من موضوع ومن محمول ومن رابطة. ومعناه : اتصاف ذلك الموضوع بذلك المحمول ، ثم إن الوجوب والامتناع كيفيات عارضة لهذه الرابطة ، وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : بأن الوجوب تمام تلك الماهية.

__________________

(١) واجب الوجود (ز).

(٢) من (ز).

(٣) المفهوم الذاتي (ز).

(٤) من المعلوم (س).

١٦٥

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الوجوب الذاتي جزء من أجزاء تلك الماهية ، فهذا أيضا باطل ، لأن على هذا التقدير يكون واجب الوجود مركبا (١) ، وكل مركب ممكن، ينتج أن واجب الوجود لذاته ممكن (الوجود) (٢) لذاته ، وهو محال.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : وجوب الوجود صفة خارجة عن الذات فنقول: هذا أيضا باطل ، لأن كل ما كان صفة خارجة عن الذات لاحقة لها فهو مفتقر إلى تلك الماهية ، وكل ما كان مفتقرا إلى غيره (٣) فهو ممكن لذاته ، فالوجوب بالذات ممكن بالذات ، وكل ما كان ممكنا بذاته ، فإنه لا يجب إلا بوجوب علته ، فقبل هذا الوجوب وجوب آخر ، وذلك (يوجب) (٤) الذهاب إلى ما لا نهاية له. فثبت أن هذه الأقسام الثلاثة : (باطلة) (٥).

الشبهة الثالثة : لو وجد موجود واجب الوجود لذاته ، لكان إما أن يكون وجوده نفس ماهيته ، أو مغايرا لها. والأول باطل ، لأنه لو كان وجوده نفس ماهيته ثم إن ماهيته مخالفة لماهية سائر الماهيات ، ولجميع صفات تلك الماهيات ، فيلزم أن يكون لفظ الموجود واقعا عليه وعلى غيره ، لا بحسب مفهوم واحد ، وقد ثبت أن ذلك باطل. والثاني أيضا باطل ، لأن بتقدير أن يكون الوجود صفة قائمة به ، كانت مفتقرة إلى ذلك الموصوف ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا بد له من علة ، ولا علة له إلا تلك الماهية ، فتكون علة ذلك الموجود ، هو تلك الماهية ، لكن كل علة فهي متقدمة على معلولها بوجودها ، فيلزم كون تلك الماهية متقدمة بوجودها على وجودها ، فيلزم أن يكون ذلك الوجود متقدما على نفسه ، وهو محال.

__________________

(١) ممكنا (س).

(٢) من (ز).

(٣) إليه فهو (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

١٦٦

الشبهة الرابعة : لو وجد واجب الوجود (لذاته) (١) لكان مركبا ، وهذا محال فذاك محال. بيان الملازمة : أن واجب الوجود ، يجب أن يكون وجوده (٢) مغايرا لذاته ، بدليل أنه يصح أنه واجب الوجود لذاته ، والوصف مغاير للموصوف ، وإذا كان كذلك ، فواجب الوجود عبارة عن مجموع تلك الذات (مع تلك الصفة) (٣) وكل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته ، وهو محال.

الشبهة الخامسة : لو حصل واجب الوجود لذاته ، لكان مفتقرا في دوام وجوده إلى المدة والزمان ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته.

بيان الأول : أن واجب الوجود لذاته لا بد وأن يكون دائم الوجود ، والمقول من الدائم (٤) ما يكون موجودا فيما مضى وفي الحاضر وفي المستقبل ، ولكن الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل مشروط بوجود الماضي والحاضر والمستقبل ، لأن كون الشيء [مظروفا لشيء] (٥) مشروط بوجود ذلك الظرف ، فيثبت أن دوام (٦) الوجود لا يتقرر إلا مع المدة والزمان ، لا يقال : إنا لا نقول : إن واجب الوجود لذته موجود الآن وفي الماضي والمستقبل. بل نقول : إنه موجود لا يقبل العدم ، ولا نزيد على ذلك. لأنا نقول : لا عبرة في هذا الباب ، بأن يذكر هذا القول باللسان [أو لا يذكر] (٧) وإنما العبرة بالعقل ، ونحن نعقل (٨) بالضرورة أن الشيء الذي يصح حكم العقل عليه بأنه ما كان موجودا في الماضي ، وهو غير موجود في الحال الحاضر ، ولا يكون موجودا في المستقبل ، فإنه يكون معدوما محضا ، ونفيا صرفا.

وإنما قلنا : إن افتقار واجب الوجود لذاته ، إلى المدة والزمان محال لوجهين : ـ

الأول : إن كل مفتقر إلى الغير فهو ممكن لذاته. والثاني : إن الزمان

__________________

(١) من (ز).

(٢) وجوبه (س).

(٣) من (س).

(٤) الدوام (س).

(٥) من (س).

(٦) ذات (س).

(٧) من (ز).

(٨) نعلم (ز).

١٦٧

مركب من أجزاء متعاقبة منقضية ، فيكون ممكنا لذاته ، فالمفتقر في وجوده إليه أولى بالامكان (فهذا تمام الكلام في الشبهات المذكورة في هذا الباب) (١).

والجواب عن الشبهة الأولى : أن نقول : أما قوله (٢) «لو وجب واجب الوجود لذاته ، لكانت ذاته مساوية لسائر الذوات ، في كونه ذاتا» فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إن كونه ذاتا ، معناه أنه مستقل بنفسه ، ومعنى الاستقلال أنه لا حاجة به إلى الغير؟ وهذا المعنى مفهوم سلبي (٣) ، وهو صفة مشتركة (٤) فيما بين الحقائق المختلفة التي هي الذوات المخصوصة ، وتحقيق الكلام : أن الماهيات المختلفة لا يمتنع اشتراكها في لوازم متساوية (وأما الماهيات المتساوية فإنه يمتنع اختلافها في الصفات اللازمة. والذي يحقق ما ذكرناه : أنه) (٥) كما يصح تقسيم الذوات إلى الواجب وإلى الممكن (٦) ، فكذلك يصح تقسيم الصفات إلى الصفات ، التي تكون من الممكنات ، وإلى الصفات التي تكون من الكيفيات ، وغيرها فيلزم أن تكون الصفات كلها متساوية ، وإذا كانت الذوات بأسرها متساوية ، وكانت الصفات كلها بأسرها متساوية ، فمن أين حصل الاختلاف؟

وأما الشبهة الثانية : وهي قوله : «لو حصل واجب الوجود ، لكان وجوده (٧) ، إما أن يكون تمام ذاته ، أو جزء ذاته ، أو خارجا عنه» فنقول : هذا بناء على أن الوجود مفهوم ثبوتي ، وهو ممنوع فلم لا يجوز أن يقال : إنه مفهوم عدمي؟ وبهذا التقدير لا يصح ما ذكرتموه من التقسيم.

أما الشبهة الثالثة : وهي قوله : «وجود واجب الوجود ، إما أن يكون نفس حقيقته، أو مغايرا لحقيقته» فنقول : هذه المسألة ستأتي بعد ذلك على سبيل الاستقصاء.

وأما الشبهة الرابعة : وهي قوله : «لو وجد واجب الوجود لكان مركبا»

__________________

(١) من (ز).

(٢) قولكم (س).

(٣) نسبي (س).

(٤) تشترك في تأير الحقائق (س).

(٥) من (ز).

(٦) في أن الممكن كذلك (س).

(٧) وجوب (ز).

١٦٨

فجوابه : أن هذا إنما يلزم لو كان الوجوب مفهوما ثبوتيا.

وأما الشبهة الخامسة : فجوابها : أنه لو افتقر الوجود (١) الدائم إلى مدة وزمان ، لكان ذلك الزمان دائما ، فكان يلزم افتقاره إلى زمان آخر ، ولزم التسلسل وهو محال (فهذا تمام الشبهات) (٢).

__________________

(١) الوجوب (ز).

(٢) من (ز).

١٦٩

الفصل الرابع عشر

في

بيان أن العالم المحسوس ليس

واجب الوجود لذاته.

اعلم أن الدليل الذي ذكرناه ، أفاد أنه حصل في الوجود موجود واجب الوجود لذاته فقط. فأما إنّ ذلك الواجب (شيء) (١) مغاير لهذا العالم المحسوس ، فذلك لا يحصل من ذلك الدليل ، بل يجب علينا إقامة الدلالة على أن هذا العالم المحسوس ممكن الوجود لذاته ، فحينئذ يحصل لنا بعد ذلك أنه لا بد من موجود آخر ، غير هذا العالم المحسوس ، يكون واجب الوجود لذاته ، ونقول : الذي يدل على أن هذا العالم المحسوس ، ممكن الوجود لذاته وجوه : ـ

(الحجة) (٢) الأولى : (إن كل جسم مركب من الهيولي والصورة ، (وكل مركب ممكن ، ينتج : أن كل جسم ممكن أما قولنا) (٣) كل جسم مركب من الهيولي والصورة (فقد تقدم ذكره في باب الهيولى والصورة) (٤) على سبيل الاستقصاء ، وأما قولنا : كل مركب فهو ممكن لذاته ، فتقريره : أن كل مركب فهو مفتقر (إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره ، وكل مركب ممكن ، فهو مفتقر إلى غيره. فهو ممكن لذاته) (٥) فإن قالوا : لم لا يجوز

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) عبارة (س). هي : فتقريره : إن كل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره ، فهو ممكن لذاته. فإن قالوا ... الخ.

١٧٠

أن يقال الجسم وإن كان ممكنا لذاته ، إلا أنه يجب لوجوب جزئه ، وهو الهيولي والصورة؟ أجاب الحكماء عنه : بأنه ثبت الدليل بأنه يمتنع خلو الهيولي عن الصورة ، ويمتنع خلو الصورة عن الهيولي ، فيثبت كونهما متلازمين (١) ، فنقول : هذا التلازم ، إما أن يكون بين ماهيتهما كما في المضافين أو بين وجوديهما. والأول باطل ، وإلا لامتنع أن نعقل أحدهما مع الذهول عن الآخر ، فكان يجب أن يفتقر في إثبات تلازمهما إلى برهان منفصل ولما بطل هذا ، ثبت أنهما متلازمين في الوجود ، ثم نقول يستحيل كون الهيولى علة للصورة ، لأن الهيولى من حيث هي هي قابلة للصورة ، فلو كانت مؤثرة فيها ، لكان الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا ، وهو محال ، ويستحيل كون الصورة علة للهيولى ، لأن الصورة حالة في الهيولى ، فتكون مفتقرة إليها ، والمفتقر إلى الشيء ، يمتنع كونه علة لوجوده ، فثبت أنه لا الهيولى علة لوجود الصورة ، ولا الصورة علة لوجود الهيولى ، وقد ثبت كونهما متلازمين في الوجود (وكل شيئين متلازمين في الوجود) (٢) لا في الماهية ولا يكون أحدهما علة للآخر ، فلا بد وأن يكونا معلولي علة واحدة ، إذ لو لم يكن كذلك لكان كل واحد منهما غنيا عن صاحبه ، وعن كل ما يفتقر إليه صاحبه (٣) وذلك يمنع من القول (بثبوت الملازمة) (٤) فثبت أن الهيولى والصورة معلولا علة منفصلة ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ، فثبت أن الجسم كما أنه ممكن الوجود بحسب تمام ماهيته ، فهو أيضا ممكن الوجود بحسب كل جزء من أجزاء ماهيته (وذا تمام الكلام في هذا الدليل) (٥).

والاعتراض عليه : أن يقال : أما القول بأن الجسم مركب من الهيولى والصورة ، فقد سبق البحث فيه. (سلمنا ذلك ، لكن لا نسلم كون الهيولى

__________________

(١) كونها متلازمة (س).

(٢) من (س).

(٣) خاصيته (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

١٧١

والصورة متلازمين ، والكلام على دلائلهم في إثبات هذا التلازم قد سبق) (١) سلمنا ذلك ، فلم لا يجوز كون الهيولى علة للصورة؟ قوله : «لأنها قابل والقابل لا يكون فاعلا» قلنا : الكلام في أن الشيء الواحد البسيط ، لا يكون قابلا وفاعلا معا ، سبق بالاستقصاء سلمنا ذلك ، فلم لا يجوز أن تكون الصورة علة للهيولى؟ قوله : «الصورة مفتقرة إلى الهيولى والمفتقر إلى الشيء لا يكون علة له» ، قلنا : قد أجبنا عن هذا الحرف في باب مباحث الهيولى والصورة سلمنا أنه لا يجوز أن يكون واحد منهما علة للآخر ، فلم قلتم بأنه لما كان (الأمر) (٢) كما ذكرتم وجب كونهما معلولي علة منفصلة؟ ولم لا يجوز أن يقال : إن المضافين كما تلازما في الماهية لذاتيهما ، من غير أن يكون لأحدهما تقدم على الآخر (البتة ، فكذلك الهيولى والصورة تلازما في الوجود لذاتيهما ، من غير أن يكون لأحدهما تقدم على الآخر البتة) (٣)؟ ثم نقول : قولكم إنهما تلازما لكونهما معلولي علة واحدة : كلام ضعيف. وبيانه من وجهين : الأول : إن عندكم أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، وعلى هذا التقدير يمتنع كونهما معلولي علة واحدة (دفعة واحدة) (٤) ، بل يجب كون أحدهما واسطة بين العلة وبين الثاني ، وحينئذ يرتفع القول بكون أحدهما علة للثاني من بعض الوجوه.

الثاني : إنكم زعمتم بأن الصورة شريكة للعلة في المؤثرية (٥) ، ولا معنى لهذا الشريك ، إلا ما يكون جزء العلة ، والدليل الذي ذكرتم في إبطال كون الصورة علة للهيولى قائم بعينه في إبطال كون الصورة جزء لعلة الهيولى وهذا تمام القول في هذا الباب.

الحجة الثانية للفلاسفة في إثبات كون الأجسام ممكنة الوجود لذواتها :

قالوا : كل جسم فإن وجوده غير ماهيته وكل ما وجوده غير ماهيته ، فهو ممكن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) للعلة المؤثرة (ز).

١٧٢

الوجود لذاته ، ينتج : فكل جسم ممكن الوجود لذاته. أما الصغرى : وهي قولنا : كل جسم، فإن وجوده غير ماهيته ، فالكلام المستقصى فيه ، قد سبق في باب الوجود وأما الكبرى : وهي أن كل ما وجوده غير ماهيته فهو ممكن الوجود لذاته ، فالدليل عليه أن ذلك الوجود ، إما أن يكون غنيا عن تلك الماهية ، وإما أن يكون محتاجا إليها ، فإن كان الأول لزم أن لا يكون ذلك الوجود عارضا لتلك الماهية (بل يكون وجودا قائما بنفسه ، لا تعلق له بتلك الماهية ، لكنا فرضنا أن ذلك الوجود عارض لتلك الماهية (١) وإن كان الثاني فنقول: كل ما كان محتاجا إلى الغير فهو ممكن لذاته (وكل ممكن لذاته) (٢) لا بد له (من سبب (٣)) ، وذلك السبب إما (تلك) (٤) الماهية أو غيرها ، لا جائز أن يكون السبب هو تلك الماهية ، لأن كل علة فهي متقدمة بوجودها (عل المعلول ، فلو كانت الماهية علة لوجود نفسها ، لكانت تلك الماهية متقدمة بوجودها) (٥) على وجود نفسها ، وذلك محال ، فبقي أن يكون سبب ذلك الوجود شيئا غير تلك الماهية ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن (الوجود) (٦) لذاته (مفتقر في الوجود إلى غيره ، فيثبت أن كل جسم فوجوده غير ماهيته ، وثبت أن كل ما كان كذلك فهو ممكن الوجود لذاته) (٧) ، ينتج أن كل جسم فهو ممكن الوجود لذاته واعلم أن الكلام في أنه هل يعقل أن تكون ماهية الشيء علة لوجود نفسه؟ سيأتي بالاستقصاء (٨) في باب : إن وجود الله ، هل هو نفس ماهيته أم لا؟

الحجة الثالثة في بيان أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها : إن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا ، والأجسام ليست واحدة ، فواجب الوجود لا يمكن أن يكون جسما ، فالجسم لا يمكن أن يكون واجب الوجود (لذاته ، أما بيان أن واجب الوجود يمتنع أن يكون أكثر من واحد ، فالدليل عليه سيأتي في

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

(٨) بالتفصيل (س).

١٧٣

باب إثبات أن واجب الوجود) (١) لذاته واحد ، وأما بيان أن الأجسام ليست واحدة بل كثيرة ، فهذا أمر مشاهد ، فلا حاجة في إثباته إلى الحجة. واعلم أن المباحث على الدليل المذكور ، في أن واجب الوجود يمتنع أن يكون أكثر من واحد كثيرة ، وهي مذكورة في موضعها (اللائق بها) (٢).

الحجة الرابعة في بيان أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها : إن الأجسام متساوية في الجسمية ، ومتباينة في التعين ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، وكل واحد منها مركب من الجسيمة التي بها يشارك سائر الأجسام ، ومن التعين الذي به يمتاز عن سائر الأجسام. إذا ثبت هذا فنقول : إما أن تكون الجسمية مستلزمة لذلك التعيين ، وإما أن يكون ذلك التعين مستلزما للجسمية ، وإما أن لا يكون كل واحد منهما مستلزما للآخر. والأول باطل ، وإلا لزم أن يكون كل جسم موصوفا بذلك التعيين ، فيكون كل جسم ذلك المعين ، هذا خلف. والثاني أيضا باطل ، وذلك لأن تعين ذلك الجسم نعت من نعوته ، وصفة من صفاته ، ونعت الشيء يفتقر إلى ذلك الشيء ، والمفتقر إلى الشيء لا يكون علة له ، فثبت أنه لا الجسمية علة لذلك التعين ، ولا ذلك التعين علة للجسمية ، ولما بطل هذان القسمان وجب أن يكون اجتماع (هذين) (٣) القيدين معلول علة منفصلة ، وإذا كان (كذلك) (٤) وجب أن يكون كل جسم معين معلولا لعلة منفصلة ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته واعلم أن هذه الحجة ، مبينة على أن التعين مفهوم ثبوتي ، والكلام فيه قد تقدم في هذا الباب.

الحجة الخامسة في إثبات أن الأجسام ممكنة لذواتها : أن نقول : إن كل متحيز (٥) منقسم بالدلائل المذكورة في مسألة نفي الجزء الذي لا يتجزأ ، وكل منقسم فهو مركب ، وكل مركب فهو ممكن الوجود لذاته بالدليل الذي سبق

__________________

(١) م (ز).

(٢) من (ز).

(٣) أن يكون (س).

(٤) من (ز).

(٥) متحرك (س).

١٧٤

ذكره مرارا ، ينتج أن كل جسم ممكن (الوجود) (١) لذاته ، وفي كل واحد من هذه المقدمات (الثلاثة) (٢) مباحث عميقة.

الحجة السادسة في (٣) إثبات أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها : أن نقول : لا شك أن ماهيات الأجسام قابلة للصفات والأعراض ، فهذه الماهيات مقتضية لهذا القبول ، فلو كانت مقتضية لوجوب الوجود أيضا ، لزم كون تلك الماهيات مقتضية لأمرين :

أحدهما : قبول الصفات. والثاني : وجوب الوجود. وهذا محال لما ثبت أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، وهذا الدليل مبني على أن القبول صفة وجودية (وعلى أن الوجوب صفة وجودية) (٤) وعلى أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

الحجة السابعة (في بيان أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها : أن تقول) : (٥) كل جسم فإنه يمتنع خلوه عن نقص (٦) في الأعراض ، وهي المقادير ، والحصول في الأحياز ، والمقتضى لحصول هذه الأعراض ليست هي الجسمية ، وإلا لزم مساواة (الجسمية) (٧) للأجسام في هذه الصفات ، فالمقتضى لها غير ذواتها. فنقول : الجسم ممتنع الخلو عن هذه الصفات ، وحصول هذه الصفات متوقف على الغير ، فالجسم ممتنع الخلو عما يفتقر إلى السبب المنفصل ، وما كان كذلك كان مفتقرا إلى سبب منفصل ، فيكون ممكنا لذاته. فهذا مجموع الطرق التي يقدر الفيلسوف على التمسك بها في إثبات أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) في بيان (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) عن بعض الأعراض (س).

(٧) من (س).

١٧٥

الحجة الثامنة وهي طريقة المتكلمين : وذلك أنهم يقيمون الأدلة على أن الأجسام محدثة. ثم يقولون : وكل محدث فإنه ممكن الوجود لذاته. فهذه جملة الوجوه التي يمكن الرجوع إليها في إثبات كون الأجسام ممكنة الوجود لذواتها [وهاهنا آخر الكلام في شرح إثبات العلم بواجب الوجود ، بالاستدلال بإمكان الذوات ، والله ولي التوفيق] (١).

__________________

(١) من (ز).

١٧٦

الفصل الخامس عشر

في

إثبات إله العالم عزوجل بناء على التمسك

بامكان الصفات

اعلم : أن مدار هذا الدليل على إثبات أن الأجسام متساوية في تمام ماهياتها (١) ، وهذا مطلوب صعب الإلزام (٢). فإن لقائل أن يقول : كما أن الصفات متساوية في كونها صفات ، ثم إنها مختلفة بحسب ماهياتها المخصوصة ، مثل كونها سوادا وبياضا وحلاوة وحموضة ، فكذلك لا يبعد كون الأجسام [متساوية] (٣) في عموم الحجمية والتحيز ، ثم إنها تكون مختلفة بحسب ماهياتها المخصوصة ، فجسمية النار مخالفة لجسمية الأرض ، وجسمية كل واحد منهما مخالفة لجسمية الفلك ، وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، فإنه يلزم استواء الأجسام في عموم الجسمية استواؤها في ماهياتها المخصوصة ، والذي يقوي هذا السؤال : أن المقادير من باب الأعراض [عند الفلاسفة] (٤) ، والجسم عبارة عن الذات القابلة لهذه المقادير. وإذا ظهر هذا فنقول : حصل هاهنا أمور ثلاثة : المقبول وهو المقدار ، وكون ذات الجسم قابلة لذلك المقدار ، وهذه القابلية نسبة مخصوصة بين ذات القابل وبين هذا المقدار ، وتلك الذات المحكوم عليها بكونها قابلة لهذا المقدار. فنقول : أما المقادير فلا شك أنها

__________________

(١) الماهية (س).

(٢) المرام (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

١٧٧

ماهيات متساوية ، في كونها مقادير ، وأما كون ذوات الأجسام قابلة لهما. فهذا أيضا معقول مشترك فيها بين الكل ، إلا أنه ثبت في علوم العقل أن الأشياء المختلفة لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم ، فيمتنع كون ذات الأجسام مختلفة بحقائقها المخصوصة ، ومتباينة بماهياتها المعينة ، ومع ذلك فإنها تكون مشتركة في هذه القابلية ، فثبت بهذه [الدلالة] (١) أنه لا يلزم تساوي في الأجسام في القبول الذي هو الحجمية والمقدار ، وفي كونها بأسرها قابلة له ، وكون ذواتها المعينة وحقائقها المخصوصة متساوية. إذا عرفت هذا فنقول : المعلوم عندنا من الجسم أنه شيء يلزمه قبول المقادير الثلاثة ، فأما أن ذلك بحسب [ماهيته المخصوصة] (٢) ما هو؟ فغير معلوم عندنا ، وإن لم يكن معلوما عندنا لم نقدر على أن نحكم بمقتضى الفطرة الأصلية بكونها متماثلة ومختلفة. فيثبت بهذا البيان : ان إثبات كون الجسم متماثل في تمام حقائقه المخصوصة ، أمر في غاية الصعوبة. والذي حصلناه في هذا الباب : أن نقول : لا شك أن الأجسام متساوية في طبيعة الحجمية والمقدار ، وهذا القدر أمر معلوم (٣) بالبديهة ، ثم نقول : هذه الأجسام التي علمنا كونها متساوية في طبيعة الحجمية نعلم أيضا من حالها كون كل واحد منها مغاير للآخر ، ومخالفا له في تعينه الشخصي ، وهذا أيضا معلوم. ثم نقول : هذه الأشياء المتساوية في الحجمية ، المتباينة في التعين والتشخص ، إما أن تكون مختلفة بالماهية ، [أو لا تكون. فإن لم تكن مختلفة بالماهية] (٤) فحينئذ يصح قولنا : إن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها وحقائقها. وذلك هو المطلوب. وأما إن قلنا : إنها مختلفة بالماهية ، فنقول : فعلى هذا التقدير حصل الاستواء. بينهما في الحجمية ، والاختلاف في الحقيقة ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فوجب أن تكون بحجميتها وبحيزها مغايرة لتلك الحقائق المخصوصة التي لأجلها حصل الاختلاف. فنقول : فعلى هذا التقدير ينقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام ، لا مزيد عليها ، لأنه إما أن يقال:

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) مغاير (س).

(٤) من (س).

١٧٨

إن تلك الأمور التي حصل بها الاختلاف : ذوات ، فتكون الحجمية التي بها حصل الاشتراك صفات. وإما أن يقال بالعكس منه ، وهو : أن تكون الحجمية التي بها حصل الاشتراك ذوات ، وتكون الأمور التي بها حصل الاختلاف صفات.

وإما أن يقال : إن كل واحد من هذين الاعتبارين مباين عن الآخر ، لا صفة له ولا

موصوف به. فهذا تقسيم صحيح دائر بين النفي والإثبات. ثم نقول : والقسم الأول باطل ، ولما بطل ذلك بقي الحق : إما الثاني وإما الثالث ، وعلى كلا التقديرين فالمقصود حاصل ، وإنما قلنا : إن القسم الأول باطل ، وذلك لأن الحجمية والمقدار لا شك أنه حاصل في الحيز والجهة ، لأنه لا معنى للمقدار ، إلا الأمر الممتد في الجهات والأحياز ، فهذه الحقيقة تكون لا محالة حاصلة في الأحياز (والجهات) (١) فإذا قلنا : إن هذه الحجمية صفة حالة في تلك الأشياء التي بها حصل الاختلاف. فنقول : تلك الأشياء إما أن تكون حاصلة في الأحياز والجهات ، وإما أن تكون كذلك ، والقسمان باطلان ، أما الأول فلأنه يلزم منه التناقض ، وتقريره : أنا إذا قلنا : الأجسام متساوية في الحجمية وكانت مختلفة باعتبار آخر. فالحجمية التي حصل بها (الاستواء تكون لا محالة مغايرة لتلك الاعتبارات التي حصل بها) (٢) الاختلاف ، وإن كان كذلك فتلك الاعتبارات المتباينة للحجمية ، وتلك الحقائق المغايرة لها ، وجب أن لا يكون لها (٣) في حد ذاتها حجمية ولا تحيز البتة.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : لو حكمنا بكونها حاصلة في الأحياز والجهات ، فحينئذ يكون لها امتدادات في تلك الأحياز ، وفي تلك الجهات ، فيلزم أن يقال : الشيء الذي ليس له في حد ذاته امتداد وحجمية ، يكون له في حد ذاته امتداد وحجمية ، وذلك يوجب الجمع بين النقيضين ، وهو محال. وأما القسم

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) لا يكون لها (س).

١٧٩

الثاني : وهو أن يقال : إن تلك الأشياء مجردة عن الحصول في الحيز والجهة ، مبرأة عن أن تكون بحيث (يمكن أن (١)) يشار إليها بحسب الحس ، فنقول : إن هذا الشيء يمتنع أن تكون الحجمية حالة فيه ، وذلك لأن الحجمية واجبة (٢) الحصول في الحيز المعين وفي الجهة المعينة ، وذلك الشيء ممتنع الحصول في الحيز المعين ، والجهة المعينة ، وحلول الشيء الذي يجب حصوله في الحيز والجهة ، في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة : معلوم الامتناع في بديهة العقل. فيثبت بما ذكرنا : أنه لو كانت الحجمية حالة في تلك الحقائق المخصوصة ، لكانت تلك الحقائق [المخصوصة] (٣) ، إما أن تكون حاصلة في الأحياز والجهات ، وإما أن لا تكون ، وثبت فساد كل واحد من هذين القسمين ، فيلزم القطع بأن القول بأن الحجمية تصير حالة في محل : قول فاسد ، ومذهب باطل.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الحجمية التي بها حصل الاشتراك : ذوات. والأحوال التي بها حصل الاختلاف : صفات. فهذا يفيد مقصودنا ، لأنه إذا كانت الحجمية هي الذات القائمة بالنفس ، وقد ثبت أن الأحجام والمقادير متشاركة في هذه الماهية ، فحينئذ تكون الذوات متساوية في تمام حقائقها ، وإذا كان كذلك ، امتنع كونها مستلزمة للصفات المختلفة والنعوت المتضادة ، لأن الأشياء المتساوية يمتنع أن يلزمها لوازم مختلفة. بل يجب أن يقال : كل صفة صح حصولها لجسم ، فإنه يصح حصولها في سائر الأجسام ، وكل صفة خلا عنها جسم ، فإنه يصح خلو سائر الأجسام عنها ، وإذا كان كذلك فجسم الفلك يصح أن تزول عنه الصفات التي باعتبارها صار الفلك فلكا ، وتحصل فيه الصفة الأرضية ، وجسم الأرض يصح أن تزول عنه الصفة التي باعتبارها كان أرضا ، وتحصل فيه الصفة الفلكية ، وذلك هو المطلوب.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : كل واحد من هذين الاعتبارين مباين عن الآخر ، لا صفة له ولا موصوف به ، فنقول : هذا باطل ، وبتقدير

__________________

(١) من (س).

(٢) وجب لها (ز).

(٣) من (س).

١٨٠