المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

كل محدث فهو ممكن الوجود (لذاته) (١) وذلك لأن كل ما كان محدثا فهو في الحال موجود ، وقد كان قبل وجوده معدوما. ونقول : لو لم تكن حقيقته قابلة للوجود لما وجد في الحال ، ولو لم تكن الحقيقة قابلة للعدم ، لما كانت معدومة في الماضي. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان محدثا ، فإن ماهيته قابلة للعدم ، وقابلة للوجود ، ولا معنى للممكن إلا ذلك فيثبت : أن كل محدث فإنه ممكن الوجود لذاته وأما بيان أن كل ما كان ممكنا لذاته فلا بد له من المؤثر : فلمّا مرّ تقريره في البرهان الأول. فإن قيل : لا نسلم أن كل محدث فإنه ممكن الوجود لذاته. قوله : «إنه كان معدوما ثم وجد ، وهذا يدل على أن حقيقته قابلة للعدم والوجود» قلنا : لم لا يجوز أن يقال : إنه كان واجب العدم لذاته في الزمان الأول ، ثم انقلب واجب الوجود لذاته في الزمان الثاني؟

والذي يدل على أن الذي ذكرناه محتمل : وجوه :

الأول : إن العرض عند كثير من الناس مستحيل البقاء ، وإذا كان كذلك فوجوده في الوقت الأول جائز ، ثم إن عدمه في الوقت الثاني واجب ، فإذا عقل أن يكون عدمه بعد وجوده عدما واجبا لذاته ، بحيث يستحيل أن لا يصير (معدوما. فلم لا يجوز أن يصير وجوده بعد عدمه واجبا لذاته ، بحيث يستحيل عقلا ، أن لا يصير) (٢) موجودا؟

الثاني : وهو (أن هذا) (٣) الآن الذي هو آخر الماضي ، وأول المستقبل كما وجد ، يمتنع بقاؤه ، لأن الحاضر يمتنع أن يكون غير المستقبل فإذا هذا الآن الحاضر كان معدوما قبل حضوره ، ثم صار واجب الحدوث بعد أن كان معدوما ، وبعد حدوثه يمتنع بقاؤه ، فصار واجب العدم ، بعد أن كان موجودا (٤) فإذا عقل هذا في الآنات ، التي هي آخر الزمان ، فلم لا يعقل مثله في جميع الحوادث؟

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) معدوما من (ز).

٢٠١

الثالث : العالم بشرط كونه مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا ، ممتنع الحصول في الآن (١) ، لأن الجمع بين النقيضين محال ، ثم فيما لا يزال (٢) حدث ذلك الإمكان ، وحدوث ذلك الإمكان ليس بالفاعل ، لأن كل ما بالغير فإنه واجب الارتفاع عند ارتفاع ذلك الغير ، وكون العالم صحيح الوجود فيما لا يزال (٣) ، أمر ثابت لذاته ، لا لأجل (٤) سبب منفصل. فعلمنا : أن هذه الصحة حدثت وتجددت لا لفاعل بل لذاته ، فثبت بما ذكّرنا : أن حدوث الشيء لذاته معقول في الجملة.

سلمنا : أن كل ما ذكرتم يدل على أن كل محدث ممكن ، لكنه معارض بوجوه دالة على أن القول بوجود شيء ممكن الوجود محال :

الحجة الأولى : إنا إما أن نقول : الوجود نفس الماهية ، وإما أن نقول : الوجود غير الماهية. وعلى كل واحد من القولين فالقول بالإمكان باطل. أما على القول بأن الوجود نفس الماهية ، فنقول : الإمكان غير معقول. وذلك لأن الشيء الموصوف بإمكان الوجود والعدم ، هو الذي يكون تارة موصوفا بالوجود ، وأخرى موصوفا بالعدم. والوجود يمتنع بقاؤه حال العدم. فيثبت : أن بتقدير أن تكون الماهية عين (٥) الوجود ، يستحيل الحكم على الماهية بإمكان الوجود والعدم. وأما على القول بأن الوجود غير الماهية ، فنقول : إن على هذا القول (٦) الموصوف بالإمكان. إما أن يكون هو الماهية أو الوجود ، أو كون الماهية موصوفة بالوجود. والكل باطل (٧). أما أنه لا يجوز أن يكون الموصوف بالإمكان هو الماهية. فلأنا إذا قلنا : «السواد يمكن أن يكون سوادا» ـ «يمكن أن لا يكون سوادا» [كان معناها : أن السواد يمكن أن يحكم عليه بأنه غير سواد. وذلك محال. لأنه يقتضي أن يكون حال كونه سوادا ، يمكن أن لا يكون سوادا (٨)] وذلك جمع بين النقيضين. وهو محال. وأما أنه لا يجوز أن

__________________

(١) من الأزل (ز).

(٢) في الآن (س).

(٣) في الأبدال (س).

(٤) لذاته لأجل (س).

(٥) من (س).

(٦) التقدير (س).

(٧) محال (س).

(٨) من (س).

٢٠٢

يكون الموصوف بالإمكان هو الوجود ، فلأنه يرجع حاصله إلى أن الوجود يمكن أن يصير لا وجود. وهذا ظاهر الفساد. وأما أنه لا يجوز أن يكون الموصوف بالإمكان هو موصوفية الماهية بالوجود ، فلأن الذي ذكرناه في الماهية ، وفي الوجود : عائد بعينه في موصوفية الماهية بالوجود. فيثبت : أن القول بإمكان الوجود غير معقول. سواء قلنا : الوجود عين الماهية أو قلنا : إنه [غير الماهية] (١).

الحجة الثانية : لو فرضنا شيئا من الأشياء ممكن الوجود فذلك الإمكان إما أن يكون موجودا أو معدوما. لا جائز أن يكون موجودا لأنه لو كان موجودا ، لكان إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، وهو محال. لأن الإمكان صفة للممكن ومفتقرة إليه [والمفتقر إلى الممكن : إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، وإما أن يكون ممكن الوجود لذاته. وحينئذ يكون الإمكان (٢)] زائدا عليه ويلزم التسلسل. ولا جائز أن يكون الإمكان معدوما. لأنه إذا كان الإمكان معدوما ، فحينئذ لا يكون الإمكان حاصلا. وأيضا : فالإمكان [بتقدير ثبوته يكون واقعا. لأن الامتناع عدم ، ورافع العدم ثبوت. فوجب أن يكون الإمكان (٣)] موجودا. فيثبت : أنه لو فرض شيء من الأشياء ممكن الوجود ، [لذاته] (٤) لكان إمكانه، إما أن يكون وصفا وجوديا ، أو عدميا. والقسمان باطلان ، فكان القول بكون الشيء ممكن الوجود : باطلا.

الحجة الثالثة : الحكم على الشيء بأنه يجوز أن يكون موجودا ، ويجوز أن يكون معدوما : يقتضي بقاء تلك الماهية حال طريان العدم. لأن الشيء الذي يمكن اتصافه بشيء، يجب أن يكون متقررا حال حصول تلك الصفة ، فإذا وصفنا هذا الشيء بأنه ممكن العدم ، فهذا يقتضي [أن لا يمتنع حصول ماهيته حال طريان العدم. وهذا يقتضي] (٥) كون المعدوم شيئا. وأنتم لا تقولون

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

٢٠٣

به. وأيضا : القائلون بأن المعدوم (١) شيء لا يمكنهم القول بالإمكان. وذلك لأن على هذا المذهب ، إما أن يكون وصفا للماهية أو للوجودية ، ولا جائز أن يكون وصفا للماهية (٢) ، لأن الماهيات يستحيل عليها الانقلاب والتغير. فلا نعقل كون الإمكان وصفا لها ، ولا جائز أن يكون وصفا للوجود ، لأن الإمكان حاصل قبل الحدوث. فالموصوف بذلك الإمكان ، يجب أن يكون حاصلا قبل حصول الوجود [والوجود] (٣) يمتنع كونه حاصلا قبل نفسه. وإذا كان كذلك ، امتنع القول بكون الإمكان صفة للوجود.

الحجة الرابعة : إن الإمكان إما أن يحصل بالنسبة ، إلى الماضي أو الحاضر أو المستقبل. والقسمان الأولان ، لأن في هذين القسمين ، أحد الطرفين قد وجد ، وحصل. ومع حصول أحد الطرفين كان الطرف الثاني ممتنع الحصول. وأما المستقبل فنقول : حصول الإمكان بالنسبة إلى المستقبل محال أيضا.

ويدل عليه :

إنا إذا قلنا : «زيد يخرج إلى السوق غدا» ـ «زيد لا يخرج إلى السوق غدا» فإما أن يكونا صادقين معا. وهو محال. لاستحالة الجمع بين النقيضين. وإما أن يكونا كاذبين معا. وهو محال. لامتناع ارتفاع النقيضين معا. ولما بطل هذان القسمان ، بقي (٤) أن يقال : إما أن أحدهما صادق بعينه ، والآخر كاذب بعينه ، وإما أن يكون أحدهم لا على التعيين صادقا ، ويكون الثاني لا على التعيين كاذبا. والقسم الثان باطل. لأن كون القضية (٥) صادقة وكاذبة :

__________________

(١) من العدم (س).

(٢) للماهيات (س).

(٣) من (س).

(٤) بقي أن يقال : أحدهما صادق ، والآخر كاذب. إما أن يكون أحدهما صادقا بعينه ، والآخر كاذبا بعينه. وإما أن يكون أحدهما ، لا على التعيين صادقا ، أو يكون الثاني ، لا على التعيين صادقا ، أو يكون الثاني ، لا على التعيين كاذبا. والقسم الثاني .. الخ (ز). والتصحيح من (س).

(٥) القضيتين (س).

٢٠٤

صفة حقيقية. والصفة الحقيقية الموجودة في الأعيان لا بدّ لها من محل موجود في الأعيان. وكل ما كان موجودا في الأعيان ، فهو متعين في نفسه. فإن كل ما كان موجودا في نفسه ، فهو من حيث إنه هو : متعين [فيثبت : أن كل ما كان موجودا في الأعيان فهو متعين في نفسه فوجب أن يقال أن كل ما لا يكون متعينا] (١) في نفسه فإنه لا يكون موجودا في الأعيان ، وما لا يكون موجودا في الأعيان امتنع كونه محلا ، لصفة موجودا في الأعيان. وقد بينا : أن كون الخبر [في نفسه] (٢) مطابقا [أو كونه غير مطابق] (٣) للمخبر في نفسه : أمر ثابت في نفس الوجود فيثبت بما ذكرنا : أن قول من يقول : إن الصادق أحدهما لا بعينه باطل. ولما بطل هذا ، ثبت : أن أحدهما في نفس الأمر صادق بعينه ، وأن الثاني في نفس الأمر كاذب بعينه. ومتى كان الأمر كذلك ، كان الطرف المطابق للجانب الصادق ، يكون واجب الحصول. والطرف المطابق للجانب الكاذب [يكون] (٤) ممتنع الوقوع. فيثبت : أن الشيء في نفسه لا يكون ممكن الوجود البتة ، بل يكون إما واجب الحصول ، أو ممتنع الحصول. إلا أن العقل لما كان لا يعرف الجانب الواقع ، والجانب الممتنع : بقي متوقفا مترددا. فهذا الإمكان حاصل في الأذهان. فأما في الأعيان ، فإنه ممتنع الحصول.

فهذه جملة الوجوه الدالة على نفي الإمكان. وهو آخر الكلام في السؤال.

والجواب : إن مرادنا من لفظ الإمكان ، هو كون الشيء بحيث يجوز أن يستمر على ما كان عليه قبل ذلك ويجوز أن لا يبقى على ما كان عليه قبل ذلك. وإذا ظهر مرادنا من لفظ الإمكان ، زالت الشبهات المذكورة. لأنا نعلم أن الإنسان الجالس لا يمتنع بقاؤه على الجلوس ، ولا يمتنع زوال ذلك الجلوس. والعلم به ضروري. إذا عرفت هذا فنقول : الذي حدث بعد العدم الأزلي :

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

٢٠٥

فإن العلم الضروري حاصل بأنه كان يجوز بقاؤه على ذلك العدم الأصلي ، وكان يجوز تبدل ذلك العدم بالوجود ، ولما تساوى الأمران ، امتنع رجحان أحدهما على الآخر ، لا لمرجح.

فهذا هو المراد من هذا الدليل. وعند الوقوف عليه يظهر أن السؤالات المذكورة ساقطة.

٢٠٦

الفصل التاسع عشر

في

تقرير طريقة للحدوث لا يحتاج فيها

إلى ضم الامكان

أعلم : أن جمهور المتكلمين اتفقوا على أن مجرد الحدوث يكفي في صحة الاستدلالات به على وجود الفاعل. إلا أن القائلين (١). بهذا القول فريقان :

أحدهما : الذين قالوا : العلم بافتقار المحدث [إلى المحدث] (٢) علم ضروري. وهذا قول «أبي القاسم الكعبي» [من المعتزلة] (٣) وقول طائفة عظيمة من أهل الإسلام.

والثاني : قول من يقول : العلم بافتقار المحدث إلى الفاعل والصانع : علم استدلالي. لا يتم إلا بعد الدليل. وهو قول «أبي علي» و «أبي هاشم» وأصحابهما من المعتزلة. أما «الكعبي» فكان يقول : «إنا نرى العقلاء متى أحسوا بحدوث حادث ، طلبوا له سببا وعلة ، من غير توقف ولا تأمل. فعلمنا : أن العلم بافتقار المحدث إلى المؤثر والمرجح : علم بديهي ، مركوز في عقول العقلاء» ولقائل أن يقول : بديهة العقل تحكم بأن الحادث لا بد له من سبب حادث. ولا يكتفي باستناد حدوث الحادث ، إلى سبب كان موجودا قبل ذلك بشهور وسنين. ألا ترى أن من سمع حدوث صوت ، فإنه يطلب له علة

__________________

(١) القائل (س).

(٢) من (س).

(٣) ليس (س).

٢٠٧

وسببا. فلو قيل : السبب في حدوثه : كون السماء فوقنا ، والأرض تحتنا ، حكم صريح العقل بفساد هذا التعليل. وكل عاقل يقول : إن كون السماء فوقنا ، والأرض تحتنا : كان حاصلا قبل هذا الوقت. فكيف يمكن جعله سببا لحدوث الصوت في هذه الساعة. بل لا بدّ لهذا الصوت [الحادث] (١) من سبب حادث؟

فإن قالوا : أليس أن إنسانا مبغضا لإنسان آخر من قديم [الدهر] (٢) ثم إنه يوقعه في بلاء ومحنة. فإنه يقال : إن وقوعه في هذه المحنة ، ليس لهذا السبب الحادث ، بل إنما كان، لأجل البغض القديم؟ فنقول : لا بدّ وأن يقولوا : إن البغض القديم كان موجب اتصال الآفة إليه. أما وقت القدرة والمكنة ، فإنما حصل في هذه الساعة. فقد اعترفوا هاهنا بحدوث هذا الأثر لهما ، وكان لأن شرائط التأثير إنما حصلت في هذا الوقت فقط.

وإذا عرفت هذه المقدمة. فنقول : إنا إن قلنا (٣) بافتقار الحكم الحادث إلى سبب حادث ، لزمنا الاعتراف باستناد كل حادث إلى [حادث] (٤) آخر قبله. و «الكعبي» لا يرضى بهذا القول البتة. [وإن حكمنا بأن استناد كل حادث إلى مؤثر ، كان موجودا قبله ، من غير أن يحصل لذلك المؤثر ، تغير حال وتبدل البتة] (٥) فهذا مما يستبعده كل العقلاء. فثبت : أن الذي يحكم به [صريح عقل] (٦) جمهور العقلاء ، فالكعبي لا يرتضيه ولا يقول به ، والذي يريده «الكعبي» ويقول به ، فالعقل لا يحكم به.

والسؤال الثاني : إن العقل كما يستبعد الحدوث من غير فاعل ، فكذلك يستبعد الحدوث من غير سبق مادة ومدة. فإنه كما أن حدوث البناء من غير الباني مستبعد ، فكذلك حدوث البناء من غير تقديم الخشب والحجر واللبن مستبعد. وليس أحد الاستبعادين أقوى من الثاني. وأيضا : حدوث الحادث لا

__________________

(١) سقط (س).

(٢) سقط (س).

(٣) حكمنا (س).

(٤) سقط (س).

(٥) من (س).

(٦) من (س).

٢٠٨

في وقت ولا في زمان مخصوص : مستبعد أيضا. فإن كان الاستبعاد في أحد البابين (١) حجة، فليكن في جميع المواضع [حجة] (٢) وإن جاز الإعراض عنه في بعض الصور ، فكذلك في سائر الصور.

فإن قالوا : إن حكم العقل بأن المحدث لا بد له من فاعل ، أقوى من حكمه بأن المحدث لا بد له من مادة ومدة. قلنا : نحن نرى الجمهور الأعظم من العقلاء ، لا يختلف حكم عقولهم في هذه الصورة. أما المتكلمون فإنهم يصححون ذلك الحكم في الحاجة إلى الفاعل ، ويبطلونه في الحاجة إلى المادة والمدة. فنقول : أما أقاويل أرباب الجدل والتعنت فغير معتبرة. فإنهم قد تعودوا إنكار البديهيات. إذا احتاجوا إلى إنكارها ، وتعودوا ادعاء البديهة في غير موضعها ، إذا احتاجوا إليها. فثبت : أنه لا عبرة في هذا الباب بقولهم ، وإنما العبرة بالأحكام الجازمة المذكورة في عقول أهل السلامة. ونرى بحكمهم في هذه الأبواب على السوية. فكان الفرق محض التحكم ..

فهذا ما في هذا المقام من البحث.

__________________

(١) البناءين (ت).

(٢) من (س).

٢٠٩

الفصل العشرون

في

تقرير قول من يقول : الاستدلال بالحدوث

على الفاعل ، لا يتم إلا بدليل منفصل

قد حكينا : أن هذا القول هو مذهب «أبي علي» وأبي هاشم» و «القاضي عبد الجبار بن أحمد» وأصحابهم (١) من المعتزلة. قالوا : نظم هذا الدليل. أن يقال : العالم محدث ، فوجب أن يفتقر إلى الفاعل. قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا في حدوثها. قالوا : وكل قياس فلا بد فيه من أركان (٢) أربعة : الأصل والفرع والعلة والحكم. فالأصل هو كون العبد محدثا لأفعال نفسه ، والفرع هو العالم ، والحكم هو الاحتياج إلى الفاعل ، والعلة هي الحدوث.

فنفتقر إلى إثبات هذه المقامات الأربعة :

أما الأصل فهو قولنا : إن أفعالنا محتاجة في الحدوث إلينا. وهذا المقام لا بد فيه من تقرير أمرين : أحدهما : إثبات الأعراض [أعني] (٣) إثبات أن حركاتنا وسكناتنا : أمور موجودة. الثاني : بيان أن أفعالنا واقعة بنا ، بمعنى أن محدثها نحن لا غير. أما المقام الأول. فقد ذكروا فيه الدلائل الدالة على إثبات الأعراض. وأما المقام الثاني فقد احتجوا عليه بأن هذه الأفعال (٤) ، يجب

__________________

(١) وأصحابه (س).

(٢) أربعة أركان (س).

(٣) من (س).

(٤) أفعالنا (ت).

٢١٠

وقوعها عند دواعينا الخالصة ، ويجب انتفاؤها عند قيام الصوارف. وإذا كان [الأمر (١)] كذلك ، وجب القطع بكونها واقعة بنا لا بغيرنا.

والدليل على وجوب وقوعها عند حصول الدواعي القوية : أن الصائم في الصيف [الصائف] (٢) إذا اشتدت شهوته لشرب الماء والشارع يأمره بالشرب ، والطبيب يأمره بالشرب (٣) ، وعلم هذا الإنسان أنه لا مضرة في هذا الشرب ، لا في دينه ولا في دنياه : فإنه يحصل له عند هذا الشرب أعظم اللذات. فإن عند حضور هذه الاعتقادات في قلبه : يستحيل أن لا يشرب الماء. فثبت : أن الفعل عند توفر الدواعي الخالصة عن الصوارف واجب الوقوع. والدليل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند حصول الصوارف الخالصة : أن من علم ما في دخول النار من الضرر العظيم ، وعلم أنه لا منفعة له في دخولها البتة. لا في الحال ولا في الاستقبال ، ولا يتوسل بذلك الدخول إلى دفع ضرر أعظم [ضررا] (٤) منه فإن عند حضور هذه الاعتقادات في قلبه ، يمتنع منه دخول النار.

فيثبت بهذا البيان : أن عند خلوص الدواعي ، يجب حصول الأفعال ، وعند خلوص الصوارف ، يمتنع حصولها. وإذا ثبت هذا ، فنقول : وجب القطع بأن هذه الأفعال واقعة بنا لا بغيرنا. لأنه لو لم يكن وقوعها بنا ، لكان وقوعها إما أن يكون لا لمؤثر ، أو لمؤثر غيرنا. وعلى التقديرين فكان لا يمتنع أن تقع وإن كرهناها ، ولا أن لا تقع وإن أردناها. كما أن فعل زيد ، لما لم يمكن واقعا بعمرو ، لا جرم ربما وقع وإن كرهه عمرو ، وربما لا يقع وإن أراده عمرو. وذلك يقدح فيما بيناه من أن تلك الأفعال واجبة الوقوع عند توفر الدواعي ، وممتنعة الوقوع عند توفر الصوارف. فيثبت بهذا البيان الذي ذكرناه : أن أفعالنا واقعة بنا. وهذا هو إثبات أصل القياس المذكور.

__________________

(١) من (س).

(٢) سقط (س).

(٣) به (س).

(٤) من (س).

٢١١

وأما إثبات العلة : فهو أنا ندعي أن احتياج أفعالنا إلينا ، إنما كان لأجل حدوثها. والدليل عليه : أن احتياج أفعالنا إلينا. إما أن يكون لقدمها السابق ، أو لحدوثها ، أو لبقائها. والأول باطل. لأن العدم السابق لا تعلق له بالفاعل. والثالث أيضا باطل. لوجهين: الأول : إنه لو احتاج [الباقي] (١) إلى الفاعل ، لكان هذا (٢) تحصيلا للحاصل. وهو محال. والثاني : إن البناء قد يبقى بعد فناء الباني ، والنقش قد يبقى بعد فناء النقاش. ولما بطل هذان القسمان ، علمنا : أن علة الحاجة [هي الحدوث. فثبت : أن أفعالنا محتاجة إلينا ، لأجل حدوثها ، وثبت : أن علة الحاجة هي الحدوث. ولما ثبت أن الأجسام محدثة ، كانت علة الحاجة] (٣) إلى الفاعل حاصلة فيها ، فوجب القطع بافتقارها إلى الفاعل. هذا تمام تقرير هذا الدليل.

والاعتراض عليه من وجوه :

الأول : لا نسلم وقوع أفعالنا بنا. قوله : «الدليل عليه : أنه يجب وقوعها عند دواعينا ، ويجب بقاؤها على العدم عند صوارفنا. وذلك يقتضي وقوعها بنا» قلنا : القول بأن أفعالنا يجب وقوعها عند دواعينا ، ويمتنع وقوعها عند عدم دواعينا : لا يستقيم (٤) على قول المعتزلة. والدليل عليه : أن تلك الأفعال إذا كانت [واجبة] (٥) الوقوع عند حصول هذه الإرادات ، وكانت ممتنعة الحصول عند حصول الكراهات ، فحصول تلك الإرادات والكراهات ، إن كان من العبد ، افتقر العبد في إحداثها إلى إرادات أخرى ، ولزم التسلسل وهو محال. وإن لم يكن حدوثها من العبد ، بل من الله [تعالى ، فعند ما] (٦)

__________________

(١) من (س).

(٢) قيدا (ت).

(٣) من (ت).

(٤) فاسد (س).

(٥) من (س).

(٦) من (س).

٢١٢

يحدث الله تلك الدواعي في العبد : كان الفعل (١) واجب الصدور عنه وعند ما (٢) لا يحدثها فيه ، كان الفعل ممتنع الصدور عنه. وحينئذ لا يكون مستقلا بفعل نفسه. وذلك ضد مذهب المعتزلة.

السؤال الثاني : سلمنا وقوع تصرفاتنا عند دواعينا ، وامتناع وقوعها عند صوارفنا. فلم قلتم : إن ذلك يدل على كونها واقعة بنا؟ قوله : «لو لم تكن واقعة بنا ، لجاز أن تقع حال ما نكره وقوعها ، وأن لا تقع حال ما نريد وقوعها» قلنا : لم لا يجوز أن يقال : إنها تقع عند حصول إرادتنا ، لا لمؤثر ولا لمرجح ، بل لمحض الاتفاق. وتقدير هذا السؤال : أن يقال: إن حدوث الحادث لمحض الاتفاق من غير سبب ومرجح ، إما أن يكون معلوم البطلان بالبديهة ، أو ليس كذلك ، فإن كان الحق هو الأول ، فحينئذ متى علمنا أن العالم محدث ، علمنا بالضرورة افتقاره إلى الفاعل ، كما هو قول «الكعبي» وحينئذ يصير هذا القياس الذي ذكرتموه ضائعا. وإن كان الحق هو الثاني ، وهو أن امتناع حدوث الحادث لا بسبب لا يعلم ، إلا بالدليل. فحينئذ يبقى للسائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن أفعالنا وإن وقعت عند حصول إرادتنا إلا أنها وقعت على سبيل الاتفاق من غير مؤثر أصلا؟ فإن أثبتنا هذه المقدمة بقياس آخر ، لزم التسلسل وهو محال.

فإن قالوا : الدليل على فساد هذا الاحتمال : أنه لو كان وقوع أفعالنا عند حصول إرادتنا ، وقوعا لمحض الاتفاق من غير تأثير مؤثر ولا حصول مرجح أصلا ، وجب أن لا يطرد على نسق واحد. لأن الأحوال الاتفاقية لا تطرد ، بل تختلف أحوالها. فكان يلزم أنه قد (٣) يتفق حدوثها عند كراهاتنا ، وأن لا يتفق حدوثها عند إرادتنا.

فنقول في الجواب عن هذا السؤال : لم لا يجوز أن يقال : أنها وإن حدثت

__________________

(١) العبد (ت ، س).

(٢) وعنده أن ثبوتها (ت).

(٣) لا يتفق (ت).

٢١٣

على سبيل الاتفاق ، إلا أنه اتفق في هذه الصورة الواحدة من الاتفاقيات أنها بقيت دائمة على نسق واحد؟ وذلك لأن بتقدير أن لا يكون الحدوث على سبيل الاتفاق (١) ممتنعا في أول العقل [لم (٢)] يكن كون بعض الاتفاقيات دائما على نسق (واحد] (٣) ممتنعا أيضا في أول العقل. وحينئذ يسقط هذا الدليل. وهذا السؤال واقع على هذا الدليل.

السؤال الثالث : سلمنا أن أفعالنا واقعة بنا. فلم قلتم : إن علة هذه الحاجة هي الحدوث؟ وتقريره : إنا سنقيم الدلائل الكثيرة في مسألة الحدوث والقدم ، على أن الحدوث لا يجوز أن يكون علة للحاجة إلى المؤثر ، ولا جزءا من هذه العلة ، ولا شرطا لها.

السؤال الرابع : سلمنا أن حدوث أفعالنا علة لاحتياج أفعالنا إلينا. فلم قلتم : إنه يلزم منه أن يكون حدوث العالم علة لاحتياج العالم إلى الفاعل؟ وتقريره : إن حدوث أفعالنا عبارة عن حدوث مقيد ، بقيد كونه حاصلا في أفعالنا. ولا يلزم من كون هذا المجموع علة للحاجة ، كون الحدوث فقط علة للحاجة.

فإن قلتم : إنا نعلم بالضرورة : أن ذلك الحدوث ما كان علة لتلك الحاجة لكون ذلك الحدوث الخاص ، بل لمجرد كونه حدوثا. فنقول : فهذا إنما يتم لو ثبت لكم : أن الحدوث من حيث هو حدوث ، علة للحاجة. وإن كان ذلك معلوما بالبديهة ، فقد ضاع سعيكم في تقرير هذا الدليل الطويل. وإن كان ذلك محتاجا إلى الحجة. فأنتم ما ذكرتم إلا هذا القياس. وقد ظهر في هذا السؤال : أن هذا القياس لا يصح ، إلا إذا ثبت أن الحدوث من حيث هو حدوث ، علة للحاجة. وحينئذ يتوقف الدليل على المدلول ، والمدلول على الدليل. فيلزم الدور.

[وهذا تمام الكلام في هذا الموضع. وبالله التوفيق] (٤).

__________________

(١) الانقلاب (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) سقط (س).

٢١٤

الفصل الحادي والعشرون

في

إثبات العلم بالصانع بطريقة حدوث الصفات

اعلم : أنا قبل العلم بإمكان [ذوات] (١) الأجسام وقبل العلم بحدوثها : نشاهد حدوث أحوال وصفات ، لا يقدر البشر عليها. فلا جرم يمكننا أن نستدل بها على وجود الصانع.

فاعلم : أن الأجسام التي هي المحال لهذه الحوادث المشاهدة المحسوسة : إما أن تكون هي الأجسام الفلكية ، أو الأجسام العنصرية. أما الأجسام الفلكية فهي الأفلاك والكواكب. والبحث عنها إما أن يقع في كيفية حركاتها ودورانها وطلوع الكواكب وغروبها (٢). وإما أن تقع بحسب الليل والنهار ، واعتبار أحوال الأضواء والإظلال (٣) وأما تقع بحسب الأحوال المختلفة التي تعرض للكواكب بسبب قربها أو بعدها من سمت الرءوس ، وبسبب المصالح الحاصلة من الفصول الأربعة.

وأما الأجسام العنصرية فهي إما بسائط أو مركبات. أما البسائط فالبحث [عن أحوال العناصر الأربعة] (٤) وتركيباتها وصفاتها وكيفية ما أودع الله تعالى

__________________

(١) من (ت).

(٢) في غروبها (ت).

(٣) والأظلال والظلمات (ت).

(٤) سقط (س).

٢١٥

فيها من العجائب والمنافع. وأما المركبات فهي أربعة : الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان. والإنسان داخل في الحيوان. والبحث عن الإنسان ، إما عن تشريح بدنه [لمعرفة] (١) ما أودع الله فيه من [الأسرار] (٢) والعجائب والغرائب. وإما عن تشريح القوى النفسانية وأحوالها العجيبة من أنواع إدراكاتها وأفعالها.

واعلم : أن هذا النوع من الدلائل أوقع في القلوب وأكثر تأثيرا في العقول ، وأبعد عن جهات الشبهات.

[والسبب فيه. وجوه :

الأول : إن في هذا النوع من الدلائل الحس والخيال معا ضدان العقل فتزول] (٣) الشبهات. والثاني : إنها كثيرة متعارضة بسبب الكثرة ، والتوالي يفيد القوة والجزم (٤) والثالث: إن هذه الأشياء إن كانت دلائل من بعض الوجوه ، فإنها منافع من وجه آخر. والإنسان مجبول على حب المنافع. فكان حبه لها ، وميل طبعه إليها يمنعه من إنكارها ، ومن إلقاء الشبهات فيها. والرابع : إنه لا ينفك في شيء من أحواله عن مشاهدة شيء فيها ، ومباشرة قسم من أقسامها. وكثرة الممارسة تفيد الملكة الراسخة.

وإذا عرفت هذه الوجوه المقتضية لرجحان هذه الطريقة على سائر الطرق. فنقول : لما كان الأمر كذلك ، كانت الكتب الإلهية مملوءة من هذا النوع من الدلائل. لا سيما القرآن العظيم. وكذلك فإنك متى أوردت أنواعا كثيرة من هذه الدلائل ، طابت القلوب ، وخضعت(٥) النفوس ، وأذعنت الأفكار ، للإقرار بوجود الإله الحكيم. ومن أراد الاستقصاء فيه. فكأنه لا يتم

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) سقط (س).

(٤) والحرية (ت).

(٥) وصغيت (ت).

٢١٦

مقصوده إلا بشرح أسرار حكمة الله تعالى في جميع مخلوقاته ، وكل مبدعاته (١) في عالمي الخلق والأمر ، وحشر (٢) الأجساد ، والأرواح. إلا أنا ننبه على معاقد هذه الأجناس [والأنواع] (٣) بحيث يصير الإنسان منها قادرا على التفريع والتفصيل. [ومن الهداية والتوفيق] (٤).

__________________

(١) مدته (ت).

(٢) وحدسي (ت ، س).

(٣) من (س).

(٤) سقط (س).

٢١٧

الفصل الثاني والعشرون

في

الاستدلال على وجود الإله الحكيم الرحيم

بكيفية تولد الانسان من النطفة

وتقرير هذا الدليل أن نقول : نرى أن بنية الأبدان مركبة من أعضاء مختلفة في المقدار والشكل ، والترتيب ، والصلابة ، والرخاوة. ثم إن هذه البنية مع اختلاف أجزاءها في الصفات والأحوال ، نراها متولدة من النطفة.

ثم نقول : هذه النطفة إما أن تكون جسما متشابه الأجزاء في نفس الأمر ، وإما [أن يقال] (١) إنه وإن كان متشابه الأجزاء بحسب الحس ، إلا أنه مختلف الأجزاء في الحقيقة وذلك لأن المني جسم ينفصل من ذوبان الأعضاء ، فينفصل من اللحم جزء [حصلت] (٢) فيه الطبيعة اللحمية (٣) ، ومن العظم جزء حصلت فيه الطبيعة العظيمة ، وكذا القول في جميع الأجزاء والأبعاض.

واعلم أن كثيرا من الطبيعيين ذهبوا إلى هذا القول ، واحتجوا على صحته بوجوه : ـ

الأول : عموم اللذة في جميع الأعضاء عند انفصال النطفة.

والثانية : مشاكلة أعضاء المولود لأعضاء الوالدين في النقصان والزيادة

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) الجسمية (ز).

٢١٨

والكيفية. لأن المني لما انفصل من كل البدن كانت المشابهة حاصلة في كل البدن ، ولو كان المني لا ينفصل إلا من بعض الأعضاء ، وجب أن لا تحصل المشابهة إلا في تلك الأعضاء.

والثالث : إنه لو حصل الخلل في عضو من أعضاء الوالدين ، فقد يحصل مثله في الولد ، وكذا القول في الشامات والعلامات الموجودة في جلد الوالدين ، فإنه يحصل في جلد الولد مثله ، فهذه الأحوال أمارات قوية ، توهم أن المني إنما انفصل من كل البدن ، لا من بعض أجزائه ، وعلى هذا القول فالجزء الذي ينفصل من اللحم ينعقد لحما ، والجزء الذي ينفصل من العظم ينعقد عظما ، وإذا عرفت هذا ظهر أن جرم المني ، وإن كان متشابه الأجزاء بحسب الحس ، إلا أنه مختلف الأجزاء في الحقيقة.

وإذا عرفت هذا ، فاعلم أنا نذكر كيفية الاستدلال بتكون البدن من المني على وجود الصانع الحكيم ، على كل واحد من القولين. أما على القول بأن جسم المني مشابه للأجزاء في الحقيقة [فتقرير الدليل : أن نقول : إن جسم المني متشابه الأجزاء في الحقيقة] (١) ونسبة حرارة الرحم ، والقوة الطبيعية [وتأثيره بالطبائع] (٢) والأنجم والأفلاك إلى جميع أجزاء ذلك المني على السوية. والقابل إذا كان متشابه الأجزاء كانت نسبة تأثير الفاعل إلى جميع تلك الأجزاء على السوية ، فعلى هذا التقدير يجب أن يكون الأثر متشابها [وأن يكون الفعل متساويا] (٣) وكان يجب أن يكون بدن الإنسان جسما متشابه الأجزاء من الطبع والصفة والخاصية ، ومعلوم أنه ليس كذلك.

وأيضا : فمذهب الحكماء أن القوة الواحدة إذا عملت في المادة الواحدة ، وجب أن يكون الشكل الحاصل هو الكرة ، فكان يلزم أن يكون بدن الإنسان من جسم واحد متشابه الأجزاء في الطبيعة ، وأن يكون شكله هو الكرة ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

٢١٩

وحيث لم يكن [الأمر] (١) كذلك علمنا أن المؤثرية في تكوين بدن الإنسان ليس هو القوة الطبيعية ، بل الإله الحكيم الرحيم.

وأما على القول بأن جسم المني جسما مركبا من أجزاء مختلفة الطبائع [فنقول : تقرير هذا الدليل بناء على هذا القول من وجهين :

الأول : كل مركب فإنه ينتهي تحلل تركيبه إلى البسائط ، فإذا كان جسم المني مركبا من أجسام مختلفة الطبائع] (٢) فكل واحد من تلك الأجسام يجب أن يكون [جسما] (٣) بسيطا في نفسه ، والقوة العاملة في تلك المادة البسيطة لا تقبل إلا شكلا متشابها ، وهو الكرة ، وحينئذ يلزم أن يكون جسم الإنسان مشكلا بشكل كرة ، مضموم بعضها إلى البعض ، ولما لم يكن الأمر كذلك ، فقد فسد هذا القول.

والوجه الثاني : إن جسم المني جسم رطب ، والجسم الرطب لا يحفظ وضع الأجزاء وترتيبها ، فالجزء الذي يكون مادة للدماغ جزء مخصوص ، والجزء الذي يكون مادة للقلب جزء آخر. وإذا كان الجسم الرطب لا يحفط الوضع والترتيب ، فلعل الجزء الذي هو مادة للقلب ، يحصل فوق الجزء الذي هو مادة للدماغ ، يحصل في الوسط. وحينئذ يجب أن يتولد ذلك الإنسان بحيث يصير قلبه فوق ، ودماغه في الوسط ، وحيث لم يكن الأمر كذلك [البتة] (٤) علمنا : أن حصول جواهر هذه الأعضاء ، وحصول ما بها من الترتيب ، إنما كان بتخليق إله قدير حكيم عليم ، لا بتأثير الطبائع والأفلاك. فإن من لا يكون عليما حكيما امتنع أن تصدر عنه الأفعال المحكمة المتقنة [الموافقة للمصالح] (٥) وهذا دليل قوي كامل. ولقوة ظهوره ، ذكره الله تعالى في

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

٢٢٠