المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

المسألة الأولى

في

البحث عن معنى قولنا : إنه واجب الوجود لذاته

اعلم. أنه يمكن تفسيره بأمور ثلاثة : أحدها : أنه الذي يستحق الوجود من ذاته. وثانيها : أنه الذي لا يقبل العدم ، أو أنه الذي لا يصح عليه العدم. وثالثها : أنه الذي لا يتوقف وجوده على سبب منفصل فهذه وجوه ثلاثة مغايرة.

ولنذكر الفرق بين هذه المفهومات الثلاثة :

أما قولنا : إنه الذي يستحق الوجود من ذاته. فهذا مفهوم ثبوتي. وهو يفيد كون ذاته علة لوجود نفسه. وأما الوجهان الآخران. وهما قولنا : إنه لا يقبل العدم ، أو إنه الذي يستغني عن السبب. فمفهومان سلبيان (١).

ثم نقول : قولنا : واجب الوجود لذاته هو الذي لا يقبل العدم [من حيث هو هو. فيه بحث. وذلك لأن الوجود من حيث إنه وجود ، لا يقبل العدم] (٢) البتة ، مع أن مسمى الوجود ، ليس واجبا لذاته.

وأما قولنا : إن واجب الوجود لذاته ، هو الذي لا يكون وجوده معللا بسبب منفصل ، فهذا أيضا فيه نظر. لأن أقسام الموجودات ، بحسب التقسيم

__________________

(١) متباينات (ز).

(٢) سقط (ط ، س).

٢٨١

العقلي ، ثلاثة : الذي يكون موجودا لذاته ، والذي يكون موجودا لغيره ، والذي يكون موجودا ، لا لذاته ولا لغيره.

وهذا القسم الثالث. معناه : أنه تحصيل الوجود للشيء من غير سبب أصلا ، لا من ذاته ، ولا من غيره [ويصح أيضا طريان العدم عليه ، من غير سبب أصلا. لا من ذاته ، ولا من غيره] (١) وهذا القسم ، وإن كان باطلا ، إلا أنه قسم من الأقسام المعتبرة ، بحسب التقسيم العقلي الأولي.

إذا ثبت هذا ، فما لم يظهر فساد هذا القسم ، إما بحسب بديهة العقل ، أو بحسب الدليل المنفصل ، لم يلزم من كون الشيء غنيا في وجوده عن السبب المنفصل ، كونه واجب الوجود لذاته ، لأن على تقدير كون [هذا القسم صحيحا ، يكون] (٢) الشيء غنيا في وجوده عن السبب المنفصل ، مع أنه يكون في نفسه قابلا للعدم وللوجود. إذا عرفت هذا فنقول : من الناس من لم يعرف هذه التفاصيل ، [وقال] (٣) إما أن يكون الموجود غنيا في وجوده عن السبب ، وإما أن لا يكون كذلك ، فإن كان غنيا في وجوده عن السبب [المنفصل] (٤) كان واجب الوجود [لذاته ، وهو المطلوب. وإن لم يكن غنيا في وجوده عن السبب] (٥) كان متحاجا إلى السبب ، فوجوده يدل على وجود السبب. فيثبت أن الاعتراف بوجود موجود [غني عن السبب] (٦) يوجب الاعتراف بوجود موجود واجب الوجود لذاته. ولقائل أن يقول : إن هذا القدر لا يفيد المقصود ، لأنه يقال : لم لا يجوز أن يقال : إنه وجد ، لا لذاته ولا لغيره ، بل حصل لا لأمر أصلا مع أن ذاته وماهيته قابلة للعدم فهو لأجل أنه حصل لا لسبب أصلا ، كان غنيا عن السبب ، ولأجل أن حقيقته قابلة للعدم ، لم يكن واجب الوجود لذاته ، فما لم تبطلوا هذا القسم ، لا يحصل مطلوبكم.

__________________

(١) سقط (ط ، س).

(٢) سقط (ط ، س).

(٣) من (ط).

(٤) سقط (ط).

(٥) سقط (ط).

(٦) سقط (ط).

٢٨٢

المسألة الثانية

في

أن وجوب الوجود. هل هو مفهوم ثبوتي أم لا؟

من الناس من قال : هذا المفهوم : مفهوم وجودي محصل.

ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا بينا أن المراد من الوجوب الذاتي كون تلك الماهية مقتضية لوجود [نفسها(١) وكونها مستحقة للوجود من ذاتها ، وهذا الاستحقاق ليس حصوله بسبب فرض العقل [واعتبار الذهن فقط] (٢) لأن هذا المعنى حاصل سواء اعتبره [العقل] (٣) أو لم يعتبره ، ولو جاز أن لا يكون اقتضاء الوجود وصفا وجوديا مع أنه في نفسه نسبة متحققة محصلة ، لجاز أن يقال : إن نسبة الجسم إلى الحيز بالحصول في نفسه ، ليس أمرا ثبوتيا ، بل أمرا عدميا. وعند هذا يظهر للمنصف : أن الاشتباه الواقع في أن الوجوب هل هو أمر ثبوتي أم [لا؟ كان] (٤) بسبب عدم التمييز بين المفهومات التي بحثناها (٥) وميزنا بين كل واحد منهما وبين الآخر. فتارة يسبق الذهن من الوجود إلى العدم توقفه على الغير ، فيحكم بكونه عدميا ، وتارة إلى كونه عبارة عن استحقاق الوجود ، فيحكم

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) لخصناها (س).

٢٨٣

بكونه ثبوتيا. فإن اقتضاء الثبوت وإيجابه (١) كيف لا يكون ثبوتيا؟ لكن [لعدم] (٢) التمييز بين المعنيين ، ربما يتحير الذهن.

والوجه الثاني : في بيان أن الوجوب مفهوم ثبوتي : أن الوجوب ماهية مركبة من قيدين ، أحدهما : أنه لا يمتنع وجوده. والثاني : أنه يمتنع عدمه. أما القيد الأول [وهو قولنا] (٣) إنه لا يمتنع وجوده ، فهذا مفهوم ثابت. لأن الامتناع قيد عدمي ، إذ لو كان موجودا ، لكان الموصوف به أولى أن يكون موجودا. ضرورة أن العدم المحض يمتنع كونه موصوفا بالصفة الموجودة ، وإذا ثبت أن الامتناع قيد عدمي ، كان نفيه نفيا للعدم ، ونفي النفي ثبوت ، فكان نفي الامتناع صفة موجودة ، وهذا يدل على أن هذا القيد مفهوم ثبوتي. وأما [القيد] (٤) الثاني ، وهو قولنا : إنه يمتنع عدمه ، فلا يتعلق غرضنا ببيان كونه وجوديا أو عدميا ، لأن البحث الأول يكفي في إفادة المقصود.

والوجه الثالث : في تقرير هذا المطلوب : أن [كثرة الوجوب] (٥) تؤكد الوجود فلو كان الوجود عدما ، لكان الشيء متأكدا بما عرف (٦) نقيضا له ومنافيا له ، وذلك محال.

والوجه الرابع : إن استحقاق الوجود في مقابلة اللااستحقاق الوجود. لكن اللااستحقاق الوجود [يصدق على أمرين : أحدهما : الممتنع ، وهو واجب العدم. والآخر : الممكن ، وهو جائز العدم. فإذن اللااستحقاق الوجود] (٧) صادق على المعدوم ، والصادق على المعدوم يمتنع أن يكون صفة موجودة ، فإذن اللااستحقاق الوجود ، وصف سلبي ، فيجب أن يكون استحقاق الوجود وصفا ثبوتيا. ضرورة أن النقيضين يجب أن يختلفا بالسلب والإيجاب.

فإن قيل : قولكم : اللااستحقاق. محمول على الممتنع وعلى الممكن

__________________

(١) والجائز (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) يكون (س).

(٧) من (ز).

٢٨٤

الخاص ، وهما معدومان. فنقول : هذا الكلام مغالطة ، ذلك لأن الممتنع إما أن يكون له تخصص وتميز في نفسه ، أو لا يكون ، فإن كان الأول فحينئذ يمكن (١) أن يكون موصوفا بالامتناع ، سواء كان الامتناع وصفا ثبوتيا أو لم يكن. وإن كان الثاني فحينئذ لا يكون للممتنع في نفسه تخصص ولا تميز ، فلا يمكن أن يكون هو في نفسه موصوفا بالامتناع ، لأن ما لا يكون ممتازا عن غيره في نفسه ، كيف يعقل أن يختص بحكم معين؟ وإذا كان كذلك ، فحينئذ لا يمكن [الحكم] (٢) بالامتناع على الممتنع ، إلا من حيث أن الذهن يستحضر ماهيته ، ثم يحكم عليها بامتناع حصول الوجود الخارجي لها ، وعلى هذا التقدير فالمحكوم عليه بهذا الحكم هو تلك الماهية المحصلة في الذهن ، والحكم هو امتناع الحصول (٣) الخارجي لها. وإذا كان كذلك فحينئذ (٤) لا يكون المحكوم عليه بالامتناع وصفا وجوديا ويندفع كلامكم.

والجواب : أن نقول : المحكوم عليه بالامتناع ليس تلك الماهية الحاضرة في الذهن [من حيث إنها حاضرة في الذهن] (٥) وإنما الممتنع هو وجودها في الخارج [لكن وجودها في الخارج] (٦) ليس بحاصل البتة. فثبت : أن المحكوم. عليه بالامتناع ليس له ثبوت وحصول أصلا [البتة] (٧) فسقط السؤال.

واحتج القائلون بأن الوجوب يمتنع أن يكون وصفا وجوديا. بوجوه :

الأول : إنه لو كان أمرا وجوديا لكان مساويا في [الوجوب] (٨) لسائر الموجودات، ومخالفا في ماهيته لها ، فيلزم أن يكون وجوب الوجوب زائدا على ماهيته وتلك الماهية تكون موصوفة بذلك الوجوب ، وذلك الاتصاف إما أن

__________________

(١) لا يمكن (س).

(٢) من (س).

(٣) الحضور ، وإذا ... الخ (س).

(٤) فحينئذ يجوز أن يكون الامتناع وصفا وجوديا ، ويندفع كلامكم (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

(٨) يمكن أن تنطق الباء : دالا.

٢٨٥

يكون على سبيل [الوجوب أو على سبيل] (١) الإمكان ، والثاني باطل ، وإلا لكان الوجوب بالذات ممكن الوجوب ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته [ممكنا لذاته] (٢) وذلك محال. فبقي الأول [فنقول : فعلى هذا التقدير يكون وجوب الوجوب زائدا عليه ، ثم الكلام في الثاني كما في الأول] (٣) وذلك يوجب التسلسل وهو محال.

الثاني : لو كان الوجوب أمرا ثابتا ، لكان إما أن يكون تمام ماهية الواجب ، أو جزءا من تلك الماهية ، أو أمرا خارجا عنها والكل باطل. أما أنه يمتنع أن يكون تمام الماهية فلوجوه:

الأول : إنا إذا قلنا : الجسم واجب الوجود لذاته ، كان الكلام مفيدا [ولو قلنا : واجب الوجوب. واجب الوجوب لم يكن الكلام مفيدا] (٤) فظهر الفرق.

الثاني : إن ماهية واجب الوجود لذاته غير معلومة وكونه واجب الوجود لذاته معلوم ، فوجب التغاير.

الثالث : إن وجوب الوجود كيفية لانتساب الموضوع إلى المحمول.

ولذلك قال أهل المنطق (٥) : الجهات الثلاثة : الوجوب. والإمكان. والامتناع. وإذا كذلك امتنع أن يكون الوجوب تمام الماهية. أما أنه يمتنع أن يكون الوجوب جزءا من الماهية. فلأن كل ما كان كذلك كان مركبا ، وكل مركب فهو ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فإنما يجب بإيجاب غيره ، فيلزم أن يكون الوجوب الذاتي ممكنا لذاته ، واجبا بغيره ، وهو محال. وأما أنه يمتنع أن يكون الوجوب خارجا عن الماهية ، فلأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، لم يكن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) قالوا (س).

٢٨٦

جوهرا قائما بنفسه (١) ، مباينا (٢) عن الذات الواجبة ، بل يكون صفة لتلك الذات ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف. والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، واجب بغيره فيجب (٣) أن يحصل قبل هذا الوجوب وجوب آخر ، حتى يكون ذلك الوجوب السابق علة لوجوب هذا الوجوب (٤) اللاحق ، فيلزم وقوع التسلسل ، ويلزم أن يحصل للذات الواحدة أعدادا من الوجوب. وكل ذلك محال.

الوجه الثالث : في بيان أن الوجوب بالذات يمتنع أن يكون وصفا موجودا : وذلك لأن الوجوب بالذات ماهية مركبة. فهي ممكنة لذاتها. ينتج أن الوجوب لذاته [ممكن لذاته] (٥) ، وهو محال. إنما قلنا : إن الوجوب بالذات ماهية مركبة فلأن الوجوب بالذات والوجوب بالغير متشاركان في المفهوم من كونه وجوبيا (٦) ويمتاز عن الآخر بكونه [وجوبيا بالذات ، وكون الآخر] (٧) وجوبيا (٨) بالغير وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فيلزم أن يكون الوجوب بالذات مركبا من هذين القيدين. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : الوجوب بالذات ، ممتاز عن الوجوب بالغير بقيد سلبي. وهو أنه لا يحصل معه القيد الزائد الحاصل في جانب الوجوب (٩) بالغير؟ قلنا : لأن الوجوب الذاتي ، وهو القدر (١٠) المشترك بين الصورتين إما أن يكون واجبا لذاته وإما أن يكون ممكنا لذاته. فإن كان الأول (١١) امتنع أن يصير جزءا من ماهية الوجوب بالغير ، لأن ماهية الوجوب بالغير صفة عارضة لماهيات الممكنات ، والعارض للشيء يكون عارضا لذلك الشيء بجميع أجزائه فلو كان أحد أجزائه هو الوجوب الذي هو واجب الوجود لذاته ، لزم أن يكون الواجب لذاته مفتقرا إلى غيره وهو محال. وأما إن قلنا : إن مسمى الوجوب الذي هو القدر (١٢) المشترك بين الصورتين

__________________

(١) بذاته (س).

(٢) منافيا (س).

(٣) فيلزم (س).

(٤) الوجود (س).

(٥) من (س).

(٦) وجوديا (س).

(٧) من (س).

(٨) وجودا بالغير (س).

(٩) الوجود (س).

(١٠) القيد (س).

(١١) كان واجبا لذاته (س).

(١٢) القيد (س).

٢٨٧

أمر ممكن لذاته ، ثم إنه جزء من قوام ماهية الوجوب الذاتي ، لزم أن يكون الواجب لذاته متقوما بالممكن لذاته ، وهو محال. فثبت بما ذكرنا : أنه لو كان الوجوب بالذات مفهوما ثبوتيا ، للزم كون هذه الماهية مركبة ولما ثبت أن هذا محال ، كان القول بكونه مفهوما ثبوتيا محال.

الوجه الرابع : في بيان أن الوجوب الذاتي يمتنع أن يكون مفهوما ثبوتيا (١) : هو أن مسمى الوجوب محمول على العدم [المحض ، والمحمول على العدم عدم. فالوجوب عدم. وإنما قلنا : إن الوجوب محمول على العدم] (٢) لأن الشيء الذي يصدق عليه [أنه يمتنع أن يوجد يصدق عليه] (٣) لا محالة أنه واجب أن [لا] (٤) يوجد. فههنا المفهوم من الوجوب محمول على اللاوجود. فثبت أن الوجوب محمول على العدم. وأما إن المحمول على العدم : عدم ، فلأنه لو كان وجودا لزم أن يكون العدم المحض (٥) موصوفا بالصفة الموجودة ، وأنه محال. فثبت أن مسمى الوجوب ، لا يمكن أن يكون صفة موجودة.

الوجه الخامس : في بيان أن الوجوب يمتنع أن يكون صفة موجودة : [وذلك لأن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فوجوبه متقدم على وجوده ، فلو كان الوجوب صفة موجودة] (٦) لزم أن يكون حصول تلك الصفة الموجودة للماهية سابقا على وجود تلك الماهية في نفسها. وهذا محال. لأن وجود الشيء في نفسه [متقدم بالرتبة على وجود غيره له. فأما أن يقال : إن وجود غيره له ، متقدم بالرتبة على وجوده في نفسه. فهذا] (٧) محال لا يقبله العقل.

الوجه السادس : إذا قلنا في شيء : إنه واجب الوجود لذاته ، فهذا التصديق لا يحصل منه في العقل أمر [محصل] (٨) إلا إذا فرضنا حقيقة ، ثم فرضناها موصوفة بالوجود ، ثم فرضنا أن موصوفية تلك الحقيقة بذلك الوجود

__________________

(١) ذاتيا (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

٢٨٨

موصوفية منعوتة بنعت الوجوب واللزوم.

وإذا كان كذلك ، فهذا الوجوب صفة من صفات النسبة الحاصلة بين الموضوع وبين المحمول ، وتلك النسبة صفة من صفات ذلك الموضوع. وصفة الشيء مفتقرة [إلى الموصوف ، والمفتقر إلى الشيء ، أولى بالافتقار ، فيثبت أن الوجوب مفتقر] (١) إلى الغير ، والمفتقر [إلى الغير] (٢) ممكن لذاته. فالوجوب بالذات [ممكن بالذات ، وذلك متناقض وباطل. فثبت أن الوجوب بالذات] (٣) لا يمكن أن يكون وصفا موجودا.

فهذا جملة ما يذكر في هذا الباب.

والجواب : أن نقول : لا شك أن في الوجود [موجودا] (٤) ولا شك أن ذلك الموجود إما أن يكون واجبا لذاته ، وإما أن يكون ممكنا لذاته ، وهذه الشكوك التي ذكرتموها في الطعن في الوجوب بالذات ، معارضة بالشكوك المذكورة في الطعن في الإمكان الذاتي. ولما تعارضت هذه الشكوك ، بقي ما ذكرناه من الدلائل الدالة على أن الوجوب بالذات أمر حاصل متحقق سليما عن الطعن [وبالله التوفيق] (٥).

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

٢٨٩

المسألة الثالثة

في

أن وجود الله ـ تعالى ـ نفس ماهيته

أو صفة زائدة على ماهيته؟

إنه من المعلوم بالضرورة أنا نصف واجب الوجود لذاته بأنه موجود ، ونصف أيضا ممكن الوجود لذاته بأنه موجود. فنقول : إما أن يكون وقوع لفظ الوجود على هذين القسمين بحسب مفهوم مشترك بين هذين القسمين ، وإما أن لا يكون كذلك [بل يكون ذلك] (١). بحسب الاشتراك اللفظي فقط ، فإذا كان الحق هو القسم الأول. فنقول : هذا القسم ينقسم إلى قسمين آخرين ، وذلك لأن ذلك المفهوم المسمى بالوجود ، إما أن يقال : إنه في حق واجب الوجود مقارن لماهية أخرى ، ويكون هذا الوجود صفة لتلك الماهية ولاحقا من لواحقها ، وإما أن يقال : إنه [أمر] (٢) قائم بنفسه مستقل بذاته [من غير أن يكون صفة لشيء من الماهيات] (٣) ومن غير أن يكون عارضا لشيء من الحقائق.

فيثبت : أن القول في وجود الله تعالى لا يمكن أن يخرج عن هذه الاقسام الثلاثة. فالأول قول من يقول : لفظ الموجود الواقع على الواجب لذاته ، وعلى الممكن لذاته ، لا يفيد مفهوما واحدا مشتركا فيه بين القسمين ، بل هو بحسب

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

٢٩٠

الاشتراك اللفظي فقط. والثاني قول من يقول : لفظ الموجود يفيد مفهوما واحدا ، إلا أنه في حق واجب الوجود لذاته ، وجودا مجردا ، أعني أنه وجود بشرط كونه غير عارض لشيء من الماهيات ، بل يكون وجودا قائما بنفسه ، وبهذا التقدير يكون وجود الله تعالى نفس حقيقته. والثالث : قول من يقول : إن الوجود صفة من صفات حقيقة الله تعالى ، ونعت من نعوت ماهيته ، وبهذا التقدير فوجود الله غير ماهيته. وهذه الأقوال الثلاثة قد ذهب إلى كل واحد منها عالم من الناس. فالأول : قول طائفة عظيمة من المتكلمين كأبي الحسن الأشعري ، وأبي الحسين البصري. والثاني : هو القول الذي اختاره أبو علي بن سينا في جميع [كتبه] (١) والثالث : قول طائفة عظيمة من المتكلمين ، وهو الذي نصرناه في أكثر كتبنا. ويجب على العاقل أن يتأمل في هذا التقسيم الذي ذكرناه حتى يعلم يقينا أن هذه الأقوال الثلاثة لا مزيد عليها البتة. ونقول : أما القول الأول وهو أن لفظ الموجود واقع على الواجب لذاته ، وعلى الممكن لذاته ، لا بحسب مفهوم واحد ، بل بحسب الاشتراك اللفظي فقط. فنقول : إنا قد دللنا في مسائل الوجود على فساده ، ولا بأس بإعادة بعض تلك الوجوه في هذا المقام ، فنقول : الذي يدل على فساده وجوه :

الأول : إن بديهة العقل حاكمة بأن الوجود لا يقابله إلا العدم ، وإن العدم لا يقابله إلا الوجود ، فوجب أن يكون الوجود مفهوما واحدا ، كما أن العدم مفهوم واحد ، حتى يصح ذلك التقابل بينهما.

الثاني : إن الوجود يصح تقسيمه إلى الواجب ، وإلى الممكن والجوهر والعرض ، ومورد التقسيم مشترك بين كل الأقسام.

الثالث : إن اعتقاد كونه موجودا ، لا ينافيه اعتقاد كونه واجبا أو ممكنا أو جوهرا أو عرضا ، فوجب أن يكون المفهوم من كونه موجودا فيه قدر مشترك بين الكل.

__________________

(١) من (س).

٢٩١

الرابع : إن بديهة العقل حاكمة بأن المراد من كونه (١) موجودا ، كونه محصلا في الاعتبار ، محققا في الأعيان ، وهذا المفهوم لا يختلف بأن يكون ذلك المحصل [المحقق] (٢) واجبا أو ممكنا. أو سوادا أو بياضا ، كما أنه لما كان المعقول من الحجمية : التحيز والامتداد في الجهات ، لم يختلف ذلك باختلاف كونه لطيفا أو كثيفا أو حارا أو باردا ، وكما أن بديهة العقل حاكمة بأن المفهوم من الحجمية أمر واحد ، فكذلك حاكمة بأن المفهوم من الحصول والتحقق أمر واحد لا يختلف باختلاف الحقائق.

الخامس : إن واحدا من الشعراء لو ذكر شعرا وجعل قافية أبياته الوجود أو الثبوت أو الحصول ، يقضي عقل جميع العقلاء بأن تلك القافية مكررة. ولو أنه ذكر شعرا وجعل قافية أبياته لفظ العين إلا أنه أراد بهذا اللفظ في كل بيت معنى غير المعنى الذي أراده في البيت الآخر يقضي عقل كل عاقل بأن القافية غير مكررة في المعنى ، وذلك يدل على أن صريح عقول العقلاء قاضية بأن معنى الحصول والوجود والتحقق معنى واحد في الكل.

السادس : إنا إذا رجعنا إلى عقولنا ، وجدنا معنى الحصول والوجود معنى معلوما من فطرة العقل ، ومن بديهته ، وإنا لا نجد [البتة] (٣) شيئا آخر أعرف من معنى الحصول ، يعرّف معنى الحصول به ، وهذا إنما يكون لو كان معنى الحصول معنى واحدا في الكل ، أما لو كان معنى الحصول [معنى] (٤) يختلف باختلاف المواضع ، وليس بين تلك الحصولاتمعنى واحد مشترك [فحينئذ] (٥) وجب أن لا يقدر (٦) على تصور معنى الحصول [المطلق] (٧) وأن يفتقر في تصور كل واحد من المعاني المسماة بالحصول والوجود ، إلى تعريف خاص ، وبيان

__________________

(١) كيفية (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) وجب أن الفقد لا معنى تصور ... الخ (س).

(٧) من (ز).

٢٩٢

خاص ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن معنى الحصول ، والوجود [معنى] (١) واحد في الكل.

السابع : [نحن] (٢) إذا عقلنا معنى السواد [ومعنى] (٣) البياض ، قضى العقل بامتياز معنى السواد عن معنى البياض بنفسه من غير أن يحتاج فيه إلى إلحاق قيد آخر ، بهما يوجب الامتياز. فلو كان وجود الواجب ، حقيقة مخالفة لوجود الممكن ، لكنا إذا تصورنا هذين الوجودين ، وجب أن تحكم بديهة العقل بامتياز أحدهما عن الآخر ، لكن من المعلوم بالضرورة أنه ليس كذلك ، فإنا ما لم نصف أحد الموجودين (٤) إلى الواجب ، والموجود الآخر إلى الممكن ، لم يحصل في العقل امتياز أحد الموجودين عن الآخر.

فعلمنا أن الموجودات (٥) في أنفسها ليست متمايزة من حيث إنها وجودات ، بل الوجود من حيث إنه وجود ، مفهوم واحد ، وأنه إنما يمتاز بعضها عن بعض بسبب خارج(٦) عن ماهيتها.

الثامن : إنا إذا أقمنا الدليل على أن العالم محدث ، قضى العقل بافتقاره إلى موجود يوجده ، ثم بعد ذلك يقع البحث في أن ذلك الموجود الذي أوجد العالم ، هل هو قديم أو محدث؟

وبتقدير أن يكون قديما ، فهل هو واجب لذاته ، أو واجب بسبب وجوب علته؟ وهل هو جسم أو حال في الجسم [أو لا جسم ولا حال في الجسم] (٧)؟ وعلى جميع التقديرات فإن اعتقاد أن العالم لا بد له من موجد يوجده ، ومن كائن يكونه ، باقي ثابت غير متغير ، وكل ذلك يدل على أن المعقول من كونه موجودا متحققا في الأعيان : أمر واحد مشترك فيه بين كل الأقسام.

التاسع : إن بديهة العقل شاهدة بأن المعقول من كونه واجب الوجود

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) الوجودين (س).

(٥) الوجودات (س).

(٦) خالص (س).

(٧) من (س).

٢٩٣

لذاته ينافي المعقول من كونه ممكن الوجود لذاته [وبالعكس. وأيضا] (١) المعقول من كونه حجما متحيزا ، ينافي المعقول من كونه [موجودا] (٢) مجردا ، فجميع هذه الاعتبارات متناقضة متغايرة ، وصريح العقل شاهد بأن المعقول من كونه موجودا محصلا في الأعيان ، لا يناقض شيئا من هذه الاعتبارات ولا ينافيها. وذلك يدل على أن كونه موجودا ، مفهوم مغاير لهذه الاعتبارات المخصوصة باقي مع كل واحد منها. وذلك يدل على أن المفهوم من كونه موجودا [مفهوما] (٣) واحدا لا يختلف باختلاف هذه [الصور] (٤).

العاشر : إنا إذا قلنا : الوجود غير مشترك فيه بين جميع الموجودات. فهذا الحكم إنما يتناول جميع الموجودات ، لو كان المفهوم من الوجود من حيث إنه وجود ، مفهوما واحدا. إذ لو كان الوجود له مفهومات كثيرة ، فلعل هذا المفهوم ، وإن كان غير مشترك فيه بين الموجودات ، فالمفهوم الآخر يكون مشتركا فيه بين كل الموجودات. فيثبت أن قولنا : الوجود غير مشترك فيه ، إنما يعم هذا الحكم ، وثبت في كل موجود ، ولو ثبت أن الوجود مشترك [فيه] (٥) يثبت : أن قولنا : الوجود غير مشترك فيه : كلام ، يفضي [ثبوته] (٦) إلى نفيه. فيكون باطلا.

واعلم أنا قد استقصينا هذه المسألة في أول كتاب الوجود وأحكامه. إلا أنا إنما أعدناه مع زوائد كثيرة في هذا الموضع ، حتى يكون الكلام في هذه المسألة مجموعا في موضع واحد.

وثبت بهذه البراهين : أن لفظ الوجود (٧) الواقع على الواجب [لذاته] (٨) وعلى الممكن لذاته ليس بحسب الاشتراك اللفظي فقط ، بل بحسب أنه يفيد معنى واحدا مشتركا فيه بين الضدين (٩) وإذا ثبت هذا

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

(٧) الموجود (س).

(٨) من (ز).

(٩) الصورتين (ز).

٢٩٤

فنقول : بقي لنا في المسألة قولان :

أحدهما : قول من يقول : [تمام حقيقة الله تعالى هو هذا الوجود ، بشرط كونه غير عارض بشيء من الماهيات.

والثاني : قول من يقول] (١) إن وجود الله تعالى صفة عارضة لماهيته. فنقول : القول الأول باطل ، والذي يدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : أن نقول : الوجود من حيث إنه وجود إما أن يقتضي أن يكون قائما بنفسه ، مستقلا بذاته ، غنيا عن كل ما سواه. أو لا يقتضي ذلك. فإن كان الأول وجب أن يكون كل وجود كذلك ، فجميع الموجودات تكون قائمة بأنفسها ، مستقلة بحقائقها ، واجبة التفرد (٢) بما هي هي ، وهذا ظاهر البطلان ، وإلا لزام أن لا يكون شيء من الممكنات موجودا أصلا ، وإن كان الثاني فحينئذ الوجود من حيث إنه وجود [لا يكون] (٣) قائما بنفسه [ولا مستقلا بحقيقته ، فوجب أن لا يكون في الوجود موجود قائم بنفسه] (٤) مستقل بحقيقته [وذلك مناقض لقول من يقول : إن وجود الله تعالى قائم بنفسه ، مستقل بحقيقته] (٥) من حيث إنه هو. وهذا الكلام بلغ في الجلاء والوضوح إلى حيث تشهد فطرة العقلاء (٦) وغريزتهم بأنه لا يقبل السؤال والاعتراض البتة.

الحجة الثانية : وهي قريبة مما تقدم. أن نقول : الوجود من حيث إنه وجود إما أن يقتضي أن يكون عارضا [لماهية من] (٧) الماهيات ، أو يقتضي [أن يكون] (٨) غير عارض لشيء من الماهيات ، أو لا يقتضي ، لا العروض ولا التجرد. فإن كان الحق هو الأول ، فكل وجود فهو عارض لماهية من الماهيات ، ووجود واجب الوجود كذلك. وإن كان الحق هو الثاني ، فكل

__________________

(١) من (ز).

(٢) التقرير (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

(٦) العقل (ز).

(٧) من (ز).

(٨) من (ز).

٢٩٥

وجود فهو مجرد غير عارض لشيء من الماهيات ، فيلزم أن يقال : هذه الممكنات ليست موجودة أصلا ، وإن كانت موجودة كانت موجودة بوجودات هي أعيانها. فحينئذ يلزم أن يكون لفظ الوجود (١) واقعا على الوجودات بالاشتراك اللفظي ، وهو محال. وإن كان الحق هو الثالث ، فحينئذ يمتنع أن يصير الوجود متقيدا بقيد كونه عارضا تارة ، وبقيد كونه لا عارضا أخرى ، إلا بسبب منفصل ، فيكون [وجود] (٢) واجب الوجود لذاته متعلقا بسبب منفصل ، فيكون واجب الوجود [لذاته ، واجب الوجود] (٣) بغيره. وهو محال.

الحجة الثالثة : وهي أيضا قريبة مما تقدم : إذا قلنا : إن وجود (٤) واجب الوجود [مجردا عن كونه عارضا بشيء من الماهيات ، فالمقتضى لهذا التجرد ، ولهذا الاستغناء] (٥) إما طبيعة الوجود من حيث إنه وجود وإما أن (٦) يكون حالا فيه ، وإما أن لا يكون حالا فيه ولا محلا له ، والكل باطل ، أما بيان بطلان القسم الأول فلأنه يلزم أن يكون كل وجود كذلك ، لأن لازم الماهية مشترك فيه بين جميع أفراد تلك الماهية ، وأما بيان بطلان القسم الثاني : فلأن تلك الصفة الحالة في ذلك الوجود ، إما أن تكون لازمة لذلك الوجود ، أو لا تكون لازمة له ، والأول باطل ، لأنه [يعود (٧) إلى] التقسيم في أن المقتضى لذلك اللزوم إما نفس طبيعة الوجود ، وإما أن يكون حالا فيها [أو محلا لها] (٨) أو ما لا يكون حالا فيها ولا محلا لها. فإن كان ذلك بسبب حال آخر. لزم التسلسل وهو محال ، وأما إن كانت تلك الصفة الحالة في ذلك الوجود ليست لازمة لذلك الوجود ، فحينئذ يكون ممكن الزوال ، وبتقدير زواله فإنه يجب زوال ذلك الاستغناء ، ويجب زوال ذلك الاستقلال ، فحينئذ يصير الواجب لذاته ، ممكنا لذاته وهو محال. وأما بيان بطلان القسم الثالث وهو أن يكون المقتضى لذلك التجرد ، ولذلك الاستغناء شيء يكون محلا لذلك

__________________

(١) الموجود (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) وجوب (س).

(٥) من (ز).

(٦) ما (س).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

٢٩٦

الوجود ، فنقول : هذا باطل. لأن على هذا التقدير يكون الوجود عارضا لذلك الشيء ، وتكون ماهية ذلك الشيء موصوفة بالوجود ، فحينئذ يكون وجود الله تعالى صفة قائمة بماهيته ، مع أن الفرض والتقدير هو أن وجود الله تعالى ليس عارضا لشيء من الماهيات. هذا خلف.

وأما بيان بطلان القسم الرابع : وهو أن كون ذلك الوجود مستقلا بنفسه ، قائما بذاته ، معلل بسبب منفصل ، مغاير لذلك الوجود ، ولا يكون حالا فيه ، ولا يكون محلا له. فنقول : فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون واجب الوجود لذاته ، واجب الوجود لغيره ، وذلك محال. لأن بتقدير فرض عدم ذلك الغير إن لم يبق ذلك الشيء ، قدح ذلك في كونه واجب الوجود لذاته ، وإن بقي قدح ذلك في كونه واجب الوجود لغيره ، ويثبت أن هذا الاجتماع باطل ، فوجب القطع بأن هذا القسم محال. فيثبت بما ذكرنا : أنه لو كان وجود الله تعالى وجودا قائما بنفسه ، لكان الحق هو أحد هذه الأقسام الأربعة ويثبت أن كل واحد منها باطل ، فيثبت أن ذلك الكلام باطل.

الحجة الرابعة : إنا قد دللنا على أن لفظ الموجود واقع على الواجب وعلى الممكن ، بحسب مفهوم واحد. وإذا ثبت هذا فنقول : إما أن يكون المعقول من كونه تعالى موجودا ، والمعقول من كونه تعالى واجبا لذاته : أمر واحد من غير تغاير البتة ، وإما أن يكون المعقول من كل واحد منهما مغايرا للمعقول من الآخر. والأول باطل ، لأنه لما كان كونه واجبا لذاته غير مشترك فيه وبينه وبين الممكنات ، وجب أن لا يكون كونه موجودا أمرا مشتركا فيه بينه وبين الممكنات والوجوب الذاتي غير مشترك فيه بينه وبين الممكنات ، فوجب القطع بأن كونه موجودا مغايرا لكونه واجبا ، وإذا ثبت هذا التغاير فنقول : إما أن يقال : الوجوب بالذات إما أن يستلزم [الوجود] (١) أو يقال بالعكس منه وهو أن الوجود يستلزم الوجوب بالذات ، أو يقال لا هذا يستلزم ذاك ولا بالعكس ، ولكن حصلت ماهية ثالثة. وتلك الماهية تكون مستلزمة لهذين القيدين ، وإما

__________________

(١) من (ز).

٢٩٧

أن يقال : لا هذا يستلزم ذاك ولا ذاك يستلزم هذا ، وليس هناك ماهية ثالثة [تستلزمهما معا. فهذه أقسام أربعة لا مزيد عليها.

أما القسم الأول : وهو أن يقال : الوجوب بالذات] (١) يستلزم الوجود. فعلى هذا التقدير ، يكون الوجود عارضا للوجوب بالذات. وقد فرضنا ذلك الوجود ، غير عارض بشيء من الماهيات. هذا خلف.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الوجود يستلزم الوجوب بالذات ، فهذا فاسد لأن مسمى الوجود هو القدر المشترك بينه وبين الممكنات ، وما به المشاركة يمتنع أن يستلزم ما به الممايزة ، لأن الأشياء المتساوية في النوع ، يمتنع أن تلزمها لوازم مختلفة بالنوع.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : حصل هناك مفهوم ثالث ، يستلزم هذين القيدين. فنقول : فعلى هذا التقدير يكون الوجوب بالذات ويكون الوجود عارضين (٢) لتلك الماهية. وقد فرضنا أنه ليس كذلك. هذا خلف.

وأما القسم الرابع : وهو أن لا يكون واحدا منهما مستلزما للآخر ، وليس هناك ثالث يستلزمهما. فنقول : فعلى هذا التقدير لا يكون ذلك الوجود مستلزما للوجوب الذاتي، بل يكون [ذلك الوجود عارضا مفارقا لذلك الوجود ، فحينئذ لا يكون الواجب لذاته ، واجبا لذاته ، بل] (٣) ممكنا لذاته ، وذلك باطل (٤). فثبت بهذا البرهان : أن القول بأن واجب الوجود لذاته لا حقيقة له إلا الوجود المجرد. كلام باطل فاسد.

الحجة الخامسة : لا شك أنه تعالى مبدءا لوجود الممكنات ، وكونه مبدءا لها : إما أن يكون لنفس كونه وجودا ، أو لنفس كونه وجودا مع قيد سلبي ، أو لنفس كونه وجودا مع قيد وجودي ، والأول باطل. وإلا لوجب أن يكون كل

__________________

(١) من (ز).

(٢) عارض (ز).

(٣) من (ز).

(٤) محال (س).

٢٩٨

موجود جنس (١) المبدأ لجميع الآثار الصادرة عن واجب الوجود ، وذلك لا يقوله عاقل ، والثاني باطل لوجهين :

الأول : إن على هذا التقدير يصير القيد العدمي ، جزءا من ماهية المبدأ الأول من حيث إنه مبدأ لغيره ، وذلك محال ، لأن العدم لا يكون علة للوجود ، ولا جزءا من علة الوجود.

والثاني : وهو أن المقتضى لذلك السبب إن كان هو طبيعة الوجود ، لزم حصوله في كل الموجودات ، وحينئذ يلزم أن يكون كل وجود متساويا بالذات للمبدإ الأول في اقتضاء كل الآثار. وذلك باطل. وإن كان قيدا آخر سلبيا عاد التقسيم [الأول] (٢) فيه.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : إن كون ذلك الوجود مبدأ لوجود الممكنات ، ليس لكونه وجودا فقط ، بل لكونه وجودا مع قيد ثبوتي. فنقول : ذلك القيد الثبوتي إما أن يكون معروضا لذلك الوجود أو عارضا له ، أو لا معروضا له ولا عارضا له. فإن كان معروضا لذلك الوجود ، كان ذلك الوجود عارضا لماهية أخرى ، وقد فرضنا أنه ليس كذلك. هذا خلف. وإن كان عارضا لذلك الوجود [فكل عارض] (٣) فهو محتاج ، فالمقتضى لذلك العارض إن كان هو الوجود فقط ، أو الوجود بقيد سلبي ، عادت المحالات المذكورة ، وإن كان المقتضي لذلك العارض هو الوجود بقيد [عارض] (٤) آخر ، كان الكلام فيه كما في الأول ، ولزم التسلسل وهو محال. وبتقدير أن لا يكون التسلسل محالا ، لكنا نقول : هل هاهنا شيء يستلزم [شيئا] (٥) أو لم يحصل ذلك؟ فإن كان الأول كان ذلك الاستلزام إما لنفس الوجود ، أو لنفس الوجود مع قيد سلبي ، أو لنفس الوجود مع قيد ثبوتي ، وإن كان الثاني كان ذلك

__________________

(١) خسيس (ز) جنس (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

٢٩٩

[نفيا] (١) للاستلزام ، وحينئذ لا يجب في المبدأ الأول كونه مبدأ لغيره ، ولا يجب في غيره كونه محتاجا إليه ، بل ربما انقلب فيصير الواجب ممكنا ، والممكن واجبا. وكل ذلك باطل محال. فثبت أن القول بأن حقيقة واجب الوجود وجود مجرد يفضي إلى هذه الأباطيل ، فكان القول به باطلا.

الحجة السادسة : إن صريح العقل يشهد بأن فرض شيء لا حقيقة له إلا مجرد الحصول في الأعيان يكون محالا ، بل لا بد وأن يفرض العقل ماهية وحقيقة ، ثم يحكم عليها بأنها حاصلة في الأعيان. فأما فرض موجود لا ماهية له ، ولا حقيقة له إلا مجرد الحصول في الأعيان ، فهذا لا يقبله العقل البتة.

والذي يزيد هذا الكلام تقريرا : ذلك لأن الحكماء ذكروا في باب الوجود مسألة ، وهي أن قالوا : الموجود هو نفس الكون في الأعيان ، لا ما به يحصل الكون في الأعيان ، وأطنبوا في تقرير هذا المعنى وفي إيضاحه ، وإذا ثبت أن الوجود ليس له حقيقة إلا مجرد الحصول في الأعيان ، فالحصول في الأعيان [يمتنع] (٢) تقرره في العقل إلا إذا فرض العقل ماهية يحكم عليها بأنها حصلت في الأعيان ، وإذا كان كذلك ، كان هذا اعترافا بأن الوجود بدون الماهية لا يتقرر البتة ، بل بديهة العقل حاكمة بأنه متى حصل معنى الحصول في الأعيان ، فقد حصلت هناك ماهية هي المحكوم عليها بأنها حصلت في الأعيان ، وذلك يفيد الجزم [بأن الوجود] (٣) بدون الماهية لا يعقل البتة ، ومما يقوي ذلك : أن الحكماء اتفقوا على أن طبيعة الوجود لا يمكن تعقلها وحدها ، بل ما لم يفرض العقل أمرا من الأمور يحكم عليه بأنه حصل في الأعيان ، استحال منه إدراك معنى الحصول في الأعيان.

فإذا كان معنى الوجود أمرا بلغ في الضعف والحاجة إلى حيث [لا] (٤)

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) حيث يمكن (س).

٣٠٠