المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

المقام الأول :

إن تلك الصفات إن كانت مغايرة للذات ، كانت (١) حقيقة الإله مركبة من ماهيات كثيرة ، وكل مركب ممكن ، فالواجب لذاته ، ممكن لذاته ، وهو محال ، وإن كانت الصفات عين الذات فهو أيضا مشكل لوجهين :

الأول : إن كل واحد من ماهيات هذه الصفات ، قد يعرف مع الذهول عن حقيقة الذات (المخصوصة) (٢) ولو كانت (الذات) (٣) عين الصفة ، لامتنع ذلك.

الثاني : إن لكل واحدة من الصفات ماهية غير ماهية الصفة الأخرى ، فلو كانت الصفات عين الذات الواحدة ، لكان (الشيء) (٤) الواحد لا يكون واحدا ، بل ماهيات مختلفة. وهو محال.

المقام الثاني من المقامين المهيبين :

إن علم الله تعالى لا بد وأن يكون محيطا بما لا نهاية له من الكليات والجزئيات ، وقدرة الله تعالى لا بد وأن تكون نافذة في كل الممكنات ، وإحاطة الصفة الواحدة بأمور لا نهاية لها على سبيل التفصيل مع أنه لا يشغله شأن عن شأن أمر ما وجدناه من نفوسنا وعقولنا ، فكان تصور إدراك هذه المعاني صعبا على العقول البشرية.

وأما معرفة الأفعال : ففيه موقف حارت فيه العقول وضلت الأفهام ، وهو أن إسناد الأثر المعين إلى مؤثر لا يتعين البتة ، (كيف يعقل؟) (٥) فإنه ما لم يحدث

__________________

(١) كانت معان مركبة من ماهيات كثيرة (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

٦١

له إرادة (أو تغير وقت) (١) أو حدوث مصلحة أو زوال عائق فإنه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن كذلك. وأما القائلون بحدوث العالم :

فقد احتاجوا إلى دفع هذه العقدة.

وأما القائلون بقدم العالم :

فقد ظنوا أنهم تخلصوا من هذه العقدة ، وليس الأمر كذلك ، فإنه لا شك في حدوث الصور والأعراض في هذا العالم ، وأن هذه الأحوال قد توجد بعد عدمها وتعدم بعد وجودها ، فإن أسندنا كل حادث إلى حادث آخر من غير استنادها إلى موجود قديم فهو محال ، وإن وجب انتهاؤها واستنادها بالآخرة إلى موجود هو واجب الوجود لذاته ، منزه عن جهات التغير ، فقد عاد الإشكال.

واعلم أن هذه الإشكالات التي نذكرها هاهنا ، الغرض منها : التنبيه على هذه الإشكالات وأما (٢) تقرير كل واحد منها فسيجيء على سبيل التمام والكمال في موضعه من هذا الكتاب (إن شاء الله تعالى) (٣) ، فهذا هو الإشارة إلى معرفة الماضي.

وأما البحث عن الأحوال الحاضرة : فهو أن الإنسان محتاج إلى أن يعرف : أي الاعتقادات ، وأي الأعمال يسوقه إلى الفوز بالسعادة الكبرى والدرجة العظمى ، وأي الاعتقادات والأعمال بالضد من ذلك؟

وأما البحث عن المستقبل : فهو أن يعرف أن له معادا. ثم ذلك المعاد يحتمل أن يكون روحانيا فقط (أو أن يكون جسمانيا فقط) (٤) أو أن يحصل القسمان معا. وأن يعرف أحوال سعادته وشقاوته في ذلك المعاد.

__________________

(١) من (س).

(٢) تعريف (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

٦٢

فهذا ضبط أبواب العلم الإلهي

وعند هذا ، يظهر على سبيل الاستقراء : أن هذا العلم يشتمل على عشرة أقسام :

القسم الأول : تقرير الدلائل (الدالة) (١) على وجود موجود واجب الوجود لذاته.

والقسم الثاني : الكلام في صفاته السلبية وهي صفات الجلال ، ويدخل فيه أنه فرد مطلق (٢) ، مبرأ (٣) عن جميع جهات (٤) الكثرة (وصفاته السلبية) (٥) ، ويلزمه كونه منزها عن الضد والند ويلزمه كونه منزها عن الجسمية والحيز والمكان.

والقسم الثالث : الكلام في صفات الإكرام وهي العلم والقدرة والإرادة والرحمة.

والقسم الرابع : الكلام في أفعاله وهو على ثلاثة أقسام.

أحدها : أنه هل هو دائم في كونه فاعلا وجوادا؟

الثاني : في الكلام في كيفية صدور الأفعال عنه ، ويدخل في هذا الباب.

ضبط مذاهب أهل العالم ، وإيراد ما في كل مذهب من تلك المذاهب من الدلائل القاصرة ، ومن الشبهات الطاعنة.

الثالث : الكلام في القضاء والقدر.

والقسم الخامس : الكلام في شرح كلمته في تخليق العالم الأعلى والأسفل

__________________

(١) من (ز).

(٢) مجرد (س).

(٣) منزه (س).

(٤) علائق (س).

(٥) من (س).

٦٣

بحسب القوة العقلية البشرية ، والتنبيه على أن الوصول الى كنه هذا الباب ، مما لا سبيل للخلق ، إلى معرفته.

ويدخل فيه : بيان أن العالم الجسماني ، هل هو واحد ، أم لا؟

والقسم السادس : الكلام في مراتب الأرواح المقدسة وبيان درجات الملائكة الروحانيين والكروبيين على اختلاف درجاتها.

والقسم السابع : الكلام في حقيقة المكان والزمان وتفصيل القول فيهما.

والقسم الثامن : الكلام في النبوة وشرح حقيقتها. واختلاف مذاهب الناس فيها. وتقرير ما في كل واحد من تلك المذاهب من الوجوه المقوية والوجوه الطاعنة.

والقسم التاسع : (الكلام) (١) في كيفية اكتساب الصفات الفاضلة التي معها تصير النفس من جملة السعداء الأبرار ، لا من زمرة الأشقياء الفجار.

والقسم العاشر : الكلام في المعاد الروحاني والجسماني. وشرح صفات كل واحد من هذين القسمين.

وهاهنا آخر الكلام في العلم الإلهي.

ونسأل الله المعونة والتوفيق في الوصول إلى هذه المطالب العالية ، والمقاصد المقدسة بحسب القوة البشرية ، والطاقة الإنسانية.

وهذا تمام الكلام في المقدمة.

__________________

(١) من (ز) واعلم : أن القسم التاسع هو في علم الأخلاق. والقسم العاشر هو في المعاد الروحاني والجسماني. والمؤلف انتقل إلى رحمة الله تعالى من قبل أن يكتب في الأخلاق وفي المعاد.

٦٤

الجزء الأوّل

في الدّلائل الدّالّة على إثبات الإله لهذا العالم

المحسوس. وإثبات كونه واجب الوجود لذاته.

٦٥
٦٦

تمهيد :

اعلم أن هذا الكتاب مرتب على ثلاثة أقسام (١) :

القسم الأول : في ذكر الدلائل القطعية اليقينية.

والقسم الثاني : في ذكر الدلائل الإقناعية القوية.

[والقسم الثالث : في الكلام في الوجوب والوجود ، والإرادات والتعين والماهية ، وما يشبهها من المطالب والمباحث] (٢).

__________________

(١) قسمين : في الأصل.

(٢) هذا القسم مذكور بعد الفصل الثالث من القسم الثاني.

٦٧
٦٨

القسم الأوّل

من الجزء الأوّل

من علوم هذا الكتاب

في ذكر الدّلائل القطعيّة اليقينيّة

٦٩
٧٠

المقدمة

في

بيان معاقد ضبط هذا الباب

اعلم أنا إذا أردنا إثبات موجود لا تحكم بوجوده حواسنا ، ولا تحكم بوجوده أيضا فطرة (١) نفوسنا وعقولنا ، فهذا مما لا سبيل إليه إلا بطريق واحد ، وهو أن يحكم عقلنا الصريح بأن هذه الموجودات التي نحكم بوجودها بحسب حواسنا ، وعقولنا ، محتاجة إما في وجودها ، أو في وجود صفة من صفاتها إلى وجود موجود غائب عن حواسنا وأوهامنا ، وبهذا الطريق يتمكن العقل من إثبات ذلك الموجود الغائب. إذا عرفت هذا فنقول : منشأ الحاجة إما الإمكان ، وأما الحدوث ، وإما مجموعهما ، فهذه أحوال ثلاثة وهي إما أن تعتبر في الذوات أو في الصفات ، فللمجموع طرق ستة :

أولها : إمكان الذوات.

وثانيها : إمكان الصفات.

وثالثها : حدوث الذوات.

ورابعها : حدوث الصفات.

وخامسها : مجموع الإمكان والحدوث في الذوات.

وسادسها : مجموع الإمكان والحدوث في الصفات.

فهذه هي الطرق التي يمكن الاستدلال بها على إثبات موجود واجب الوجود لذاته وهذا تمام الكلام في هذه المقدمة.

__________________

(١) فطرتنا وعقولنا (س).

٧١

الفصل الأول

في

مراتب مقدمات هذه الدلائل

على الوجه المشهور عند الحكماء

(١) نقول : لا شك في وجود موجود ، وكل موجود فإما أن تكون حقيقته مانعة من قبول العدم ، وإما أن لا تكون. فالأول هو الواجب لذاته. والثاني هو الممكن (لذاته) (٢). فثبت أنه لا بد من الاعتراف بوجود موجود ، وثبت أن كل موجود ، فهو إما واجب لذاته (وإما ممكن لذاته) (٣) ينتج أن في الوجود ، إما موجود واجب الوجود (٤) لذاته ، وإما موجود لذاته ممكن لذاته ، كان الأول فهو المطلوب ، وإن كان الثاني فنقول الممكن لذاته لا يترجح أحد طرفيه على الآخر ، (إلا بمرجح) (٥) وذلك المرجح إن كان واجب لذاته فهو المطلوب.

وإن كان ممكنا لذاته عاد التقسيم الأول فيه ، فإما أن يتسلسل أو يدور ، وهما محالان، وإما أن ينتهي إلى أن ينتهي إلى موجود واجب الوجود لذاته وهو المطلوب.

واعلم أن هذا الدليل مبني على مقدمات : أولها : أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح. وثانيها : بيان (٦) أن هذه الحاجة حاصلة في

__________________

(١) التنظيم على وفق (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) أن يقال (س).

٧٢

حال الحدوث أو في حال البقاء؟. وثالثها : أن ذلك المرجح يجب أن يكون موجودا. ورابعها : [أنه يجب] (١) أن يكون موجودا حال حصول الأثر. وخامسها : أن الدور باطل. وسادسها : أن التسلسل باطل. وعند تمام الكلام في تقرير هذه المقدمات الست يحصل الجزم بأنه لا بد من الاعتراف بوجود [موجود] (٢) واجب الوجود لذاته. [ثم إذا بينا بعد ذلك أن هذا العالم المحسوس يمتنع أن يكون واجب الوجود لذاته] (٣) ، فعند ذلك نعلم أن هذا العالم المحسوس يحتاج في وجوده إلى وجود موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب. فلنفرد لتقرير كل مقدمة واحدة من هذه المقدمات : فصلا.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

٧٣

الفصل الثاني

في

بيان ان الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر

الّا لمرجح

اعلم أن العقلاء لهم في هذا الموقف قولان :

الأول : أن هذه المقدمة بديهية.

والثاني : أنها برهانية.

أما القائلون بالقول الأول فقد احتجوا على صحة مذهبهم بأن قالوا : إنا رأينا جمهور العقلاء مطبقين على أنهم إذا أحسوا بحدوث حادث طلبوا له سببا ، وإذا سمعوا صوت إنسان اضطروا إلى العلم بحضور ذلك الإنسان ، وإذا رأوا حدوث بناء قطعوا بوجود باني ، بل نزيد ونقول : إن هذا العلم حاصل في نفوس الأطفال الذين لم يبلغوا إلى كمال العقل ، وذلك لأن الطفل إذا كان له مكان وموضع يختص هو به بالتصرف فيه ، فإذا وجد فيه طعاما لم يضعه فيه ، أو غاب عنه شيء [وضعه (١)] فيه ، فإنه يصيح ، ويقول : من الذي أخذه؟ ومن الذي وضعه؟ وذلك يدل على أن فطرة ذلك الطفل تشهد بأن الممكن لا بد له من مرجح ، [والحادث لا بد له من محدث (٢)] وإذا كان هذا العلم مركوزا في [غريزة(٣)] نفس ذلك الطفل ، علمنا أنه أقوى العلوم البديهية ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

٧٤

بل نقول : إن هذا النوع من الإدراك مركوز في نفوس البهائم ، وذلك لأن البهيمة إذا سمعت صوت الحية ، فرت. وليس فرارها إلا لأن شعورها بصوت الحية يقتضي شعورها بوجود الحية، فدل هذا على أن انتقال الفطرة والنفس من الأثر إلى المؤثر حاصل في نفوس الأطفال (١) [بل هو أمر (٢)] حاصل في نفوس البهائم.

فإن قيل الكلام على ما ذكرتم من وجوه :

الأول : إن هذه الاعتبارات التي ذكرتم إن صحت ، فإنها إنما تدل على أن العلم بافتقار المحدث إلى المؤثر [علم ضروري (٣)] ولكنها لا تدل على أن العلم بافتقار الممكن إلى المؤثر علم ضروري ، فأين أحد البابين عن الآخر؟

فإن قال قائل : إنا نجد العلم البديهي حاصلا بأن الوجود والعدم لما استويا استحال رجحان أحدهما على الآخر إلا لمرجح ، فعلمنا أن العلم البديهي كما حصل في افتقار المحدث إلى المؤثر (٤) ، فهو أيضا حاصل في افتقار الممكن إلى المرجح.

فنقول في الجواب عن هذا السؤال : إن قولكم الوجود والعدم لما استويا بالنسبة إليه لم يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح ، إنما جزم العقل به ، لأن قولكم يترجح أحد الطرفين على الآخر يوهم حدوث [ذلك (٥)] الرجحان ، وإنه أمر حصل بعد أن لم يكن. فهذا الجزم إنما حصل من تخيّل [معنى (٦)] الحدوث لا من نفس الإمكان المجرد ، والدليل عليه : أنا إذا أزلنا وهم الحدوث بالكلية ، واعتبرنا معنى الإمكان خاليا عن توهم الحدوث ، وذلك في الممكن الباقي في حال بقائه [لا نجد في العقل جزما بافتقار الممكن حال بقائه إلى المؤثر، بل الغالب على الأوهام استغناء الباقي في حال بقائه (٧)] عن المؤثر ،

__________________

(١) الأطفال والبهائم (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) المدير (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

(٧) من (س).

٧٥

وأنه يبقى بذاته إلى وقت طريان المزيل المعدم ، فعلمنا أن ذلك الجزم لا يحصل إلا عند حصول الحدوث ، أو عند تخيل معنى الحدوث ، وأما الإمكان إذا عرى عن خيال (١) الحدوث فإن صريح العقل لا يحكم بكونه سببا لاحتياجه إلى الغير.

السؤال الثاني على أصل الكلام : أن نقول : لا نسلم أن العقلاء يجزمون بافتقار الممكن إلى المرجح ، والذي يدل عليه وجوه :

الأول : إن القائلين (٢) بحدوث العالم أكثر عددا من القائلين بقدمه ، ثم إنهم مع كثرتهم يلتزمون أنه تعالى صار فاعلا للعالم بعد أن لم يكن فاعلا له ، ثم اتفقوا على أن تجدد هذه الفاعلية ليس بسبب ، فهؤلاء قد اتفقوا على حصول معنى الحدوث والتجدد في هذه الصورة لا لسبب ، ولو كان امتناع ذلك معلوما بالضرورة لامتنع إطباق العقلاء عليه.

الثاني : إنهم يقولون : الهارب من السبع إذا عن له طريقان متساويان من كل الوجوه فإنه يختار أحدهما دون الثاني ، لا لمرجح ، [وكذلك من خير بين الشرب من قدحين من الماء متساويين ، فإنه يختار أحدهما دون الثاني لا لمرجح] (٣) وفي أمثلة هذا الباب كثرة مشهورة. فههنا اتفق الأكثرون على أنه يحصل الرجحان لا لمرجح ، ولو كانت هذه المقدمة معلومة الامتناع بالبديهية ، لما ذهب إلى القول بصحتها طائفة عظيمة من العقلاء.

الثالث : إن طائفة عظيمة من المتكلمين ذهبوا إلى أن الذوات متساوية في كونها ذوات [قالوا] (٤) ويدل عليه وجهان :

الأول : إن الذات يمكن تقسيمها إلى الواجب والممكن والمجرد والمادي ، فمورد التقسيم مشترك بين الأقسام.

__________________

(١) حال (س).

(٢) القائل (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

٧٦

الثاني : إنا إذا عقلنا الذوات. فإن عقلنا بعد ذلك : كونه واجبا لذاته ، بقي المعتقد الأول. وإن اعتقدنا كونه ممكنا [لذاته] (١) زال اعتقاد كونه واجبا لذاته ، ولكن لا يزول اعتقاد كونه ذاتا [فثبت أن كونه ذاتا] (٢) قدر مشترك بين الواجب والممكن والمادي (٣) والمجرد ، إذا ثبت هذا فنقول : لا شك أن ذات واجب (٤) الوجود ممتازة عن سائر الذوات بقيد من القيود ، [وكذلك ذات العقل ممتازة عن ذات الجسم بقيد من القيود] (٥) إذ لو لم يحصل أمر من الأمور ، به يحصل الامتياز ، لما حصل الامتياز البتة ، إذا ثبت هذا فنقول : ثبت أن الذوات من حيث إنها ذوات أمور متساوية ، ثم إن كل واحد منها اختص بأمر لأجله امتاز عن غيره ، فاختصاص كل واحد منها بذلك المميز ، إن كان لأمر آخر لزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان ، فوجب أن يكون ذلك الاختصاص حاصلا ، لا لأمر ولا لمرجح ، فثبت بهذا الدليل : وقوع الممكن لا عن مرجح. وأيضا : فهو قول قال به طائفة عظيمة من العقلاء. وكل ذلك يبطل القول بأن افتقار الممكن إلى المرجح مقدمة معلومة بالبديهة.

السؤال الثالث : إنا كما رأينا أن أكثر العقلاء أطبقوا على أن الحادث لا بد له من محدث ، والبناء لا بد له من باني ، فكذلك نراهم مطبقين على مقدمات أخرى ، مع أن المتكلمين يزعمون أنها [غير] (٦) صحيحة.

فالأول : إنهم كما استبعدوا حدوث البناء من غير باني ، فكذلك استبعدوا حدوث البناء من غير مادة سابقة ، مثل أن يحدث البناء من غير سبق تراب ولا حجر ولا خشب ، فلو صار جزم العقلاء بافتقار البناء إلى الفاعل حجة (٧) [في صحة هذه المقدمة ، وجب أن يكون] جزمهم بافتقار البناء إلى مادة سابقة حجة في صحة هذه المقدمة ، إلا أن المتكلمين يزعمون أنه لا يحتاج حدوث الشيء إلى مادة سابقة وذلك يدل على أن إطباق جمهور العقلاء بحكم

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) والمفارق (ز).

(٤) إن ذات واجب (س).

(٥) من (س).

(٦) من (س).

(٧) حجة لصار جزمهم ... الخ (س).

٧٧

الفطرة الأصلية لا يدل على كون ذلك الحكم صحيحا. فإن قالوا إنهم مطبقون بحكم الفطرة الأصلية على افتقار البناء إلى الباني ، وليسوا مطبقين على افتقار البناء إلى المادة السابقة بدليل أن المتكلمين يخالفونهم في صحة هذه المقدمة.

فنقول في الجواب عن هذا السؤال : إنا إذا أردنا تمييز القضايا الفطرية الأصلية (١) عن غيرها ، فالمعتبر في ذلك التمييز حكم الفطر الأصلية (٢) التي لم تتعود المشاغبات والمجادلات ولم تألف التزام المكابرات ، ومن المعلوم أن حكم جمهور الخلق في إحدى القضيتين مثل حكمهم في القضية الأخرى. بقي أن يقال : إن افتقار البناء إلى المادة السابقة يخالف فيه طائفة من المتكلمين.

فيقال : وافتقار البناء إلى الباني يخالف فيه قوم آخرون ، فإن كان ظهور (٣) المخالفة من الجمع القليل قادحا في كون القضية بديهية ، فهذا المعنى حاصل في الطرفين ، وإن كان لا عبرة بموافقة أهل الجدل والشغب وبمخالفتهم ، وإنما العبرة بحكم الفطرة الأصلية والنفوس الخالية عن النقوش الباطلة ، فهذا المعنى حاصل في البابين فظهر أنه لا سبيل إلى الفرق.

والثاني : إنا نرى العقلاء مطبقين على أن الشيء لا يحدث إلا في زمان معين [ومكان معين] (٤) ثم (٥) إن المتكلمين زعموا أن حدوث الشيء لا يتوقف على سبق زمان معين ومكان معين ، وإلّا لزم القول بقدم الزمان والمكان ، وإذا ثبت هذا فنقول : إطباق العقلاء على افتقار الحادث [إلى الفاعل ليس أقوى عند العقل الأول من إطباقهم على افتقار الحادث] (٦) إلى الزمان والمكان ، فإن جاز التكذيب في أحد البابين جاز في الباب الثاني (٧) ، وإن وجب التصديق في أحد البابين ، وجب في الباب [الثاني] (٨) فثبت أن الفرق باطل.

__________________

(١) البديهية (س).

(٢) فإنا نعتبر في ذلك تمييز الفطرة الأصلية (س).

(٣) طريق (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

(٧) الآخر (س).

(٨) من (س).

٧٨

والثالث : وهو أن العقلاء يجزمون بأن البناء المعين في الدار والمدرسة لا يحصل إلا من إنسان يتولى إصلاح حال ذلك البناء [فأما أن يحدث ذلك البناء] (١) من غير أن يتولاه إنسان ، فذلك مستبعد عند الكل ، حتى إن إنسانا لو ادعى أنه غاب بالأمس عن الصحراء المعينة ، ثم عاد إليها في اليوم الثاني ، فوجد الدور والبساتين قد حدثت من غير أن يحضر هناك إنسان يتولى إصلاحها ، فإن جمهور العقلاء يكذبون هذا القول ، فهذا الجزم حاصل في عقول الجمهور ، ثم إن هذا الجزم باطل عند المتكلمين فإنهم يجوزون أن يخلق الله تعالى ذلك البناء ابتداء من غير واسطة إنسان ، ويجوزون أيضا أن ملكا من الملائكة تولى إصلاحه ، أو واحدا من الجن والشياطين تولى إصلاحه ، فثبت بهذا : أن المتكلمين أطبقوا على أنه ليس كل ما يحكم به جمهور الخلق بحسب ما لهم من الفطرة الأصلية والغريزة السليمة ، وجب أن يكون ذلك الحكم حقا ، وإذا ثبت هذا وثبت أنه لا تعويل لكم على صحة قولكم : «إن الحادث لا بد له من محدث» إلا على أن جمهور الخلق يحكمون بصحة هذه المقدمة بمقتضى الفطرة الأصلية ، ثبت أن هذه المقدمة ضعيفة.

السؤال الرابع : أن نقول : إن دل ما ذكرتم على أن العلم بافتقار الممكن والمحدث إلى المؤثر علم ضروري ، فههنا وجوه تدل على أن هذا العلم ليس بضروري وبيانه من وجوه :

الأول : إنا إذا عرضنا على عقولنا : أن الواحد نصف الاثنين ، وعرضنا أيضا على عقولنا : أن الممكن لا بدّ له من مرجح ، وجدنا حكم العقول بالقضية الأولى أظهر من حكمها بالثانية والتفاوت بين الحكمين في القوة يدل على أن احتمال النقيض حاصل في المرجوحية ، وذلك يدل على أن هذه المرجوحية ظنية لا يقينية.

فإن قيل : لا نسلم وقوع التفاوت في جزم العقل بهاتين القضيتين ، فما الدليل عليه؟ سلمنا أنه قد يقع التفاوت بين هذين الحكمين في بعض

__________________

(١) من (س).

٧٩

الأوقات ، إلا أنه قد يحصل التساوي بينهما في القوة في بعض أوقات ، فإن من سمع صوت إنسان ، فإنه يعلم بالضرورة حضور ذلك الإنسان ، ويكون هذا العلم مساويا في القوة للعلم بأن الواحد نصف الاثنين. سلمنا حصول التفاوت مطلقا ولكن لا نسلم أن ذلك التفاوت عائد إلى التصديق ، بل هو عائد إلى التصور وبيانه : وهو أن التصديق يتوقف على تصور طرفي القضية ، وتصور أن قولنا : الواحد نصف الاثنين : تصورات جلية غنية عن التعريف [لأنه ليس فيها إلا تصور الواحد والاثنين والنصف ، وهذه التصورات جلية غنية عن التعريف] (١) بخلاف قولنا : الممكن يفتقر إلى المؤثر ، فإن هذا التصديق يتوقف على تصور ماهية الممكن وعلى تصور ماهية الافتقار ، وعلى تصور [ماهية] (٢) المؤثر ، وهذه الأمور الثلاثة تصوراتها تصورات غامضة خفية ، فالتفاوت الحاصل في عقول الخلق من هذين الحكمين ، إنما وقع بسبب حصول التفاوت بين تصوراتها ، فأما أن يقال ؛ إن ذلك التفاوت وقع في نفس تلك التصديقات ، فهذا ممنوع.

فما الدليل عليه؟ سلمنا حصول التفاوت بين التصديقات. فلم قلتم : إنه لما كان أحد التصديقين أقوى من الثاني لزم كون التصديق المرجوح ظنيا ، ويمتنع كونه يقينيا ، وما الدليل على أن الأمر كذلك؟ والجواب : ـ أما قوله : «لا نسلم وقوع التفاوت بين حكمنا بأن الواحد نصف الاثنين وبين حكمنا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجح».

فنقول : هذا التفاوت معلوم ببديهية العقل ، فإنكاره إنكار للبديهي ، ولو جاز لكم أن تصروا على هذا الإنكار ، على سبيل المكابرة ، جاز لغيركم أيضا أن يقول : إني لا أجد من نفسي ، جزم العقل بأن المحدث ، لا بدّ له من محدث.

وبالجملة : فالأصل المعتبر في الفرق بين البديهيات وبين غيرها : ما يجده

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

٨٠