المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

الفصل العاشر

في

إبطال التسلسل

اعلم أنه حصل في هذه المسألة أنواع من الدلائل :

البرهان الأول : إنا لو فرضنا كون كل ممكن ، معلولا لممكن آخر ، [لا (١)] إلى نهاية ، لزم كون تلك الأسباب والمسببات موجودة [دفعة واحدة بأسرها ، بناء على المقدمة التي بيناها ، وهي أن السبب لا بد وأن يكون موجودا] (٢) حال وجود المسبب ، وإن ثبت هذا ، فنقول : مجموع تلك الأسباب والمسببات : ممكن الوجود ، والدليل عليه : إن ذلك المجموع مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من تلك الآحاد [وكل واحد من تلك الآحاد] (٣) ممكن ، فالمجموع مفتقر إلى الأسباب (٤) الممكنة ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ، فثبت أن ذلك المجموع ممكن الوجود لذاته ، وكل ممكن فله مؤثر ، فذلك المجموع له مؤثر.

فنقول : المؤثر في ذلك المجموع ، إما يكون نفس ذلك المجموع ، أو أمرا داخلا فيه ، أو أمرا خارجا عنه ، فهذه أقسام ثلاثة لا مزيد عليها.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) الأشياء (س).

١٤١

[أما القسم (١) الأول] : وهو أن يقال إن ذلك المجموع علة لنفسه ، فهذا باطل من وجوه :

الأول : إنه لا معنى لقولنا إنه علة لوجود نفسه ، إلا أنه غير محتاج إلى الغير ، وقد دللنا على أن ذلك المجموع ممكن لذاته ، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى أن الممكن غني عن السبب ، فيكون هذا رجوعا إلى المقدمات السالفة ، من أن الممكنات ، هل تتوقف على السبب أم لا؟ ونحن إنما نتكلم في هذا المقام بعد إثبات أن الممكن لا بد له من سبب.

الثاني : إن المحتاج إلى الشيء ممكن بالنسبة إلى المحتاج إليه ، والمحتاج إليه غني بالنسبة إلى المحتاج فلو كان [الشيء] (٢) الواحد علة لنفسه لزم كون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد محتاجا وغنيا ، وذلك يوجب الجمع بين النقيضين.

الثالث : إن المعلول مفتقر إلى العلة ، فلو كان الشيء الواحد علة لنفسه لزم كونه مفتقرا إلى نفسه. والافتقار إلى الشيء نسبة ، والنسبة لا تحصل إلّا بين الأمرين ، فأما الشيء الواحد بالاعتبار الواحد ، فيمتنع كونه منسوبا إلى نفسه.

[وأما القسم الثاني] (٣) وهو أن يقال : علة ذلك المجموع فرد من أفراد ذلك المجموع، فهذا أيضا باطل ، لأن كل ما كان علة للمجموع ، وجب كونه علة لجميع آحاد ذلك المجموع ، ولا شك أن [أحد] (٤)] آحاد ذلك المجموع هو ذلك الواحد ، الذي فرض كونه علة لذلك المجموع ، فحينئذ يلزم في ذلك الواحد كونه علة لنفسه ، وقد بينا أن ذلك محال ، ويلزم منه أيضا أن يكون علة [لعلة] (٥) نفسه وذلك يوجب الدور ، وقد بينا أنه محال ، فثبت أن هذا القسم

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

١٤٢

أيضا باطل ، ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أن علة ذلك المجموع يجب أن يكون أمرا خارجا عن ذلك المجموع ، والخارج عن مجموع الممكنات لا يكون ممكنا ، والموجود الذي لا يكون ممكنا لذاته يكون واجبا لذاته. ، فثبت بهذا البرهان [وجوب] (١) انتهاء جميع الممكنات في سلسلة الحاجة إلى موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب ، هذا تمام تقرير هذا (٢) البرهان. فإن قيل : السؤال على هذا الدليل من وجوه :

الأول : إن هذا الدليل الذي ذكرتموه في إبطال التسلسل منقوض بأشياء : أحدها : إن عند الحكماء كل دورة مسبوقة بدورة أخرى ، لا إلى أول ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون كل سبب مسبوقا بسبب آخر ، لا إلى أول.

وثانيهما : إن النفوس الناطقة [الباقية] (٣) غير متناهية. وإذا جاز [وجود] (٤) ما لا نهاية له من النفوس [فلم لا يجوز وجود ما لا نهاية له] (٥) من الأسباب والمسببات؟

وثالثها : إن المتكلمين (٦) يثبتون حوادث لا آخر (٧) لها في أحوال أهل القيامة ، والفلاسفة [يقولون بذلك في أدوار هذا العالم]. (٨)

ورابعها : [المتكلمون يقولون معلومات الله لا نهاية لها ، وإن مقدورات الله لا نهاية لها فلم لا يجوز مثله في الأسباب والمسببات؟

وخامسها] (٩) وهو وارد على الفلاسفة والمتكلمين معا ، وهو إن صحة حدوث الحوادث لا أول لها ، إذ لو حصلت لتلك الصحة أول ، لكان قبل ذلك المبدأ ممتنعا لعينه ، ثم انقلب ممكنا لعينه ، وهو محال ، فثبت أنه لا أول للإمكان

__________________

(١) من (ز).

(٢) هذان (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) المتكلم بثبوت (س).

(٧) لا أثر (ز).

(٨) من (ز).

(٩) من (ز).

١٤٣

والصحة ، وكان التسلسل حاصلا في ثبوت هذا الإمكان.

وسادسها (١) : وهو أن مراتب الأعداد لا نهاية لها ، فكان التسلسل حاصلا فيها.

وسابعها (٢) : إنه تعالى (٣) عالم بالشيء ، وكل من علم شيئا أمكنه أن يعلم كونه عالما به ، وإذا ثبت هذا الإمكان ، وجب أن يكون حاصلا بالفعل في حق الله تعالى ، لكونه منزها عن طبيعة القوة والإمكان ، وعلى هذا التقدير فهو سبحانه وتعالى عالم بالشيء، وعالم بكونه عالما به ، وهكذا في المرتبة الرابعة ، والخامسة إلى ما لا نهاية له ، فقد حصلت هناك [مراتب غير متناهية ، وكل مرتبة أخيرة منها فإنها متفرعة على المرتبة التي قبلها ، فقد حصلت هناك (٤)] أمور غير متناهية ، وهي مرتبة بالطبع ، وهي بأسرها موجودة دفعة واحدة ، فهذا نقض قوي على قولكم : التسلسل في الأسباب والمسببات محال. لا يقال هذا السؤال ، لا يتوجه إلى الحكماء ، لأنهم يقولون : إنه تعالى عقل وعاقل ومعقول ، والكل واحد ، ولا يتوجه أيضا عن المتكلمين ، لأنهم يقولون : العلم بالعلم بالشيء نفس العلم بالشيء ، لأنا نقول : أما الكلام الذي حكيتم عن الفلاسفة فهو محض الطامات ، وذلك لأن العلم بالسواد مثلا عندهم صورة متساوية لذات السواد في الماهية ، وذات الله تعالى مخالفة للسواد في الماهية ، فلزم القطع بأن علمه تعالى بالسواد مغاير لذاته المخصوصة ، وكذلك القول في جميع المعلومات ، وأيضا فقد دللنا بالبراهين القاطعة في أول هذا الكتاب على أن العلم حالة نسبية [إضافية] (٥) وإذا كان كذلك ، فنقول : علم الله تعالى بالسواد عبارة عن نسبة مخصوصة ، بين ذاته وبين السواد. وعلمه بكونه عالما بالسواد نسبة مخصوصة بين ذاته وبين النسبة الأولى ، والنسبة إلى أحد الشيئين

__________________

(١) وخامسها (س).

(٢) وسادسها (س).

(٣) سبحانه (س).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

١٤٤

مغايرة للنسبة إلى الشيء الآخر ، فيثبت : أن العلم بالعلم بالشيء مغاير للعلم بذلك الشيء ، وأيضا : لو كان العلم بالشيء نفس العلم بالشيء ، لكان العالم بالشيء عالما بتلك المراتب التي لا نهاية لها على التفصيل ، ومعلوم أنه باطل ، وأيضا : فإنه يمكننا أن نعتقد كون الرجل الفلاني عالما بالعلم (١) الفلاني ، مع أنا نشك في كونه عالما بذلك العلم ، وأيضا فإنا ندرك تفرقة بديهية بين قولنا : إن زيدا عالم بالسواد ، وبين قولنا : إنه عالم بكونه عالما بالسواد ، ولو كان أحد العلمين نفس الثاني ، لما بقيت هذه التفرقة ، فهذا تمام الكلام في توجيه هذا النقض.

وثانيها : وهو النقض بالنسب ، فإن كل مقدار فإنه يقبل التنصيف ، ثم إذا نصّف كل واحد من نصفيه فإنه يقبل التربيع ، ولما كان المقدار قابلا للتنصيف إلى غير النهاية ، فحينئذ حصلت هناك نسب غير متناهية ، وكل مرتبة آخرة فإنها متفرعة على النسب الحاصلة قبلها ، فهذا تمام الكلام في تقرير هذه النقوض.

السؤال الثاني : على البرهان الذي ذكرتم : أن نقول قولكم تلك الجملة المركبة غير تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها ، إما أن تكون واجبة ، أو ممكنة ، إنما يصح ويظهر إذا صح وصف تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها ، بكونها جملة ومجموعا ، فلم قلتم إن ذلك صحيح؟ وتقريره : وهو أن وصف الشيء بكونه جملة ومجموعا مشعر بامتياز ذلك المجموع عن غيره ، وامتيازه عن غيره مشروط بكونه متناهيا ، فثبت أنه لا يمكن وصفه بكونه مجموعا وجملة [إلا بعد أن ثبت كونه متناهيا ، وأنتم أثبتم كونه متناهيا على وصفه بكونه كلا وجملة] (٢) وحينئذ يلزم الدور.

السؤال الثالث : هب أنه يصح وصفها بكونها كلا وجملة ومجموعا ، فلم قلتم إنه يجب انتهاؤها إلى واجب الوجود لذاته ، أما قوله : «إن ذلك المجموع

__________________

(١) المعلوم (ز).

(٢) من (ز).

١٤٥

[لما كان] (١) ممكنا فله سبب ، وسببه إما أن يكو هو هو ، أو ما يكون داخلا فيه أو ما يكون خارجا عنه» قلنا : لم لا يجوز أن يكون شيئا داخلا فيه؟ قوله : «يلزم كون ذلك الواحد علة لنفسه ، وعلة لعلة نفسه» قلنا : هذا إنما يلزم لو عللنا تلك الجملة ، بواحد من تلك الجملة ، أما لو عللنا تلك الجملة بكون كل واحد منها مستندا إلى واحد آخر بغير نهاية ، لم يلزم ما ذكرتم من المحال ، والحاصل : أنهم أبطلوا كون تلك الجملة معللة بنفسها ، وأبطلوا كونها معللة بواحد من تلك الجملة ، وعند هذا قالوا : يجب كونها معللة بشيء خارج [عن مجموع الممكنات ، وللسائل أن يقول : هاهنا قسم رابع ، وهو كون تلك الجملة معللة بكون كل واحد من آحادها معللا بواحد آخر لا إلى نهاية ، فمن المعلوم بالضرورة أن هذا القسم قسم مغاير للأقسام الثلاثة التي ذكرتموها ، فإن هذا القسم مغاير لكون تلك الجملة معللة بنفسها ، ومغاير لكون تلك الجملة معللة بواحد معين متناه ، ومغاير لكون تلك الجملة معللة بشيء خارج] (٢) عنها ، فثبت أن هذا القسم مغاير للأقسام [الثلاثة] (٣) التي ذكرتم فأنتم اشتغلتم بتلك الأقسام ، التي هي خارجة عن المقصود ، وأما هذا القسم الرابع فهو القسم الذي وقع الشك فيه ، وإنما شرعتم في هذا البحث لأجل إبطاله ، ثم تركتموه وأهملتموه ، وما تعرضتم له.

فالحاصل : أن الدليل الذي ذكرتموه : ذكرتموه في إبطال أقسام ، لا حاجة لها. وإبطال القسم الذي تعلقت الحاجة به [أهملتموه (٤) فكان هذا من باب التمويه.

فإن قالوا : التقسيم الذي ذكرناه صحيح ، فإنا قلنا : علة تلك الحاجة ، إما نفسها [أو شيء داخل فيها] (٥) أو شيء خارج عنها ، ومعلوم أنه لا مزيد

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

١٤٦

على هذه الأقسام الثلاثة ، فلما تكلمنا على كل واحد منها كان القسم الذي ذكرتموه داخلا فيها ، وعلى هذا التقدير فلا حاجة بنا إلى أن نتكلم على ذلك القسم بعينه ، وأيضا : فتعليل الجملة بكون كل واحد منها معللا بواحد آخر لا إلى نهاية ليرجع حاصله إلى تعليل تلك الجملة بنفسها ، وقد بينا أن ذلك محال. فنقول في الجواب عن هذا السؤال : أما قولكم إن القسم الذي ذكرناه داخل [في تلك] (١) الأقسام الثلاثة ، فنقول : إن صريح العقل يدل على أن هذا القسم الذي ذكرناه قسم معتبر (٢) بلى المقصود من [ذكر] (٣) هذا الدليل ليس إلا إبطاله ، فإذا بينا أن الأقسام الثلاثة التي ذكرتموها مغايرة لهذا القسم ، فحينئذ يظهر أن الدليل الذي ذكرتم لا يفيد المطلوب ، أما قوله : «إن تعليل كل واحد منها بالآخر يقتضي تعليل الجملة بنفسها» فنقول : هذا [أيضا] (٤) باطل ، لأن [كون] (٥) حال المجموع من حيث إنه ذلك المجموع غير ، وحال كل واحد من آحاد [ذلك المجموع بالنسبة إلى واحد آخر غير ، وبالجملة فالفرق بين الكل من حيث هو كل وبين كل كل واحد من آحاد] (٦) الكل معلوم في المنطق. وصريح العقل أيضا يدل عليه ، فالقول بأن الجملة إنما وجدت لأنها تلك الجملة غير ، والقول بأن تلك الجملة وجدت (٧) لكون كل واحد من آحادها معلل بواحد [آخر (٨)] منها إلى غير النهاية غير. فأين أحد البابين من الآخر؟ والحاصل : أنكم أبطلتم تعليل تلك الجملة بنفسها ، وأبطلتم تعليلها بواحد من آحاد تلك الجملة ، وبقي هاهنا [احتمال (٩)] آخر ، وهو كون تلك الجملة معللة بكون كل واحد منها معللا بواحد آخر لا إلى غير (١٠) النهاية ، وهذا القسم مغاير للقسمين الأولين ، والمقصود من هذا البحث ليس إلا (١١) إبطال هذين القسمين ، فكان الاشتغال بذكر القسمين

__________________

(١) من (س).

(٢) معين (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

(٧) وجبت (س).

(٨) من (ز).

(٩) من (س).

(١٠) لا إلى نهاية (س).

(١١) ليس إبطال (س).

١٤٧

الأولين واهمال هذا القسم ، الذي هو المطلوب غفلة عظيمة [والله الهادي (١)].

والجواب عن هذه السؤالات : أن نقول أما النقض الأول : فجوابه : إن كل واحد منها مسبوق بآخر لا إلى أول ، فلم يحصل بمجموعها وجود في شيء من الأوقات ، بل ما كان ذلك المجموع معدوما أزلا وأبدا ، والمعدوم يمتنع الحكم عليه بأنه لا بد له من مؤثر ، بخلاف هذه العلل ، فإنا بينا أن العلة لا بد وأن تكون موجودة مع المعلول ، فلو تسلسلت الأسباب والمسببات لوجدت بأسرها معا ، فيكون المجموع موجودا ، فحينئذ يصح الحكم عليه بالافتقار والحاجة إلى المؤثر ، فظهر الفرق ، ولأجل هذا الفرق ذكرنا أن هذا البرهان لا يتم إلا إذا بينا العلة يجب أن تكون موجودة حال وجود المعلول.

وأما النقض الثاني : وهو النفوس الناطقة.

فالجواب : أن ذلك المجموع وإن كان موجودا معا ، ولكن ليس شيء منها علة للآخر، بخلاف ما نحن فيه.

وأما النقض الثالث : وهو الحوادث التي لا آخر لها ، والمعلومات والمقدورات. فنقول: الفرق أن مجموع تلك الأعداد غير موجودة ، فيكون الفرق ما تقدم.

وكذا الجواب عن مراتب الأعداد ، ومراتب صحة حدوث الحوادث ، وأما المراتب التي لا نهاية لها ، فنقول : هب أنه لا آخر لها ، ولكن لها أول ، فإن أول تلك المراتب هو العلم بالشيء ، ثم يترتب عليه المرتبة الثانية ، وهو العلم بذلك العلم ، ثم يترتب على [المرتبة الثانية] (٢) والمرتبة الثالثة وهلم جرا إلى ما لا نهاية (٣) فههنا لا آخر لهذه المراتب ، إلا (٤) أن لها أول ، ونحن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) ما لا آخر له (س).

(٤) ولكن لها (س).

١٤٨

إنما ادعينا أنه لا بد للأسباب والمسببات من أول ، وما ادعينا أنه لا بد لها من آخر. فظهر الفرق.

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «تلك الأسباب والمسببات ، إنما يعقل وصفها بكونها مجموعا وجملة وكلّا ، لو ثبت كونها متناهية».

فالجواب : لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم ، والدليل عليه وجهان :

الأول : إنا حيث قلنا : الأسباب والمسببات لا نهاية لها ، فقد جعلنا اللانهاية محمولا ، ومعلوم أنه [ليس (١)] موضوع هذا المحمول كل واحد من تلك الأسباب ، بل ليس إلا المجموع ، فثبت أنه يمكن وصفه بكونه مجموعا وجملة ، سواء فرضناه متناهيا أو غير متناه.

الثاني : إنا إذا قلنا ما لا نهاية له موجود ، فقد حكمنا على تلك الأمور التي لا نهاية لها بأنها موجودة ، ونحن لا نريد بالكل والجملة والمجموع إلا تلك الموجودات بأسرها.

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «لم لا يجوز أن يقال إن تلك الجملة إنما وجدت لأجل أن كل واحد من آحادها استند إلى واحد آخر ، إلى غير النهاية».

فالجواب : عنه : أن نقول : هذا أيضا باطل لأنا إذا قلنا : الجملة إنما وجدت لاستناد كل واحد من آحاد تلك الجملة إلى واحد آخر ، فقد حصل هاهنا مفهومان : ـ

أحدهما : مجموع ذوات تلك الآحاد.

الثاني : كون كل واحد منها مستندا إلى الآخر ، ولا شك في تغاير هذين المفهومين ، إذا عرفت هذا ، فنقول : هذا الذي جعلتموه علة لتلك الجملة ، إما أن يكون هو تلك الآحاد أو تلك الاستنادات العارضة لتلك الآحاد ،

__________________

(١) من (س).

١٤٩

والأول باطل لأن مجموع تلك (الآحاد) (١) هو عين ذلك المجموع ، فتعليل ذلك المجموع بتلك الآحاد يقتضي تعليل الشيء بنفسه ، وهو محال. والثاني أيضا باطل ، لأن تلك الاستنادات أحوال عارضة لتلك الآحاد ، ولو جعلنا هذه الاستنادات علل لتلك الآحاد ، لزم جعل العوارض عللا للمعروضات ، وذلك محال ، لأن المعروض متقدم بالرتبة على العارض ، فلو جعلنا العارض علة للمعروض ، لزم تقدم كل (واحد) (٢) منهما على الآخر وهو محال ، فيثبت سقوط هذا السؤال ، وهاهنا آخر الكلام في تقرير هذا البرهان (والله ولي الرحمة والغفران) (٣).

البرهان الثاني في إبطال التسلسل : اعلم أنه يمكن ذكر البرهان الذي قدمنا ذكره بحيث يصير أشد اختصارا مما سبق ذكره.

فنقول : لو تسلسلت الأسباب والمسببات إلى غير النهاية ، لكانت تلك الجملة (من حيث إنها جملة) (٤) ممكنة ، ولكان (٥) كل واحد من آحاد تلك الجملة أيضا ممكنا (وكل ممكن) (٦) ، فلا بد له من سبب مغاير له ، فلهذه الجملة سبب مغاير لها من حيث إنها تلك الجملة ، ومغاير لكل واحد من آحاد تلك الجملة ، وكل ما كان مغايرا لجملة الممكنات ، وكان مغايرا لكل واحد من آحاد الممكنات ، فهو ليس بممكن ، وكل موجود (ليس ممكنا ، فهو) (٧) واجب لذاته (وهو المطلوب) (٨) ، فثبت. بهذا الطريق : وجوب انتهاء جملة الممكنات إلى موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب ، ويظهر من هذا البيان : أنه يمكن ذكر هذا البرهان من غير أن يحتاج فيه إلى تلك التقسيمات الكثيرة التي ذكرناها (٩).

البرهان الثالث : إذا فرضنا الأسباب والمسببات متسلسلة ، إلى غير

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) بحسب كونها تلك الجملة (س).

(٥) وبحسب كل (س).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

(٩) ذكروها (ز).

١٥٠

النهاية ، فالموجود هناك ليس إلّا آحاد تلك الذوات ، وإلّا كون بعضها متعلقا بالبعض ، أما آحاد الذوات ، فهي بأسرها ممكنة الوجود ، فلو دخلت في الوجود من غير مؤثر يؤثر فيها ، كان هذا قولا بوقوع الممكن (لا) (١) لمؤثر ، وهو محال ، وأما تعلق بعضها بالبعض فهي أحوال اعتبارية عارضة لتلك الذوات ، والعارض للشيء مفتقر إلى المعروض ، ومعروضات هذه الأحوال ليست إلا تلك الآحاد ، وهي بأسرها ممكنة ، فهذه الأحوال الاعتبارية والإضافية مفتقرة إلى أمور هي ممكنة الوجود ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالامكان ، فهذه الأحوال الاعتبارية بأسرها ممكنة الوجود ، إذا عرفت هذا فنقول : إن تلك الآحاد بأسرها ممكنة الوجود لذواتها ، واستناد بعضها إلى بعض أحوال اعتبارية عارضة لتلك الآحاد ، وهي بأسرها أيضا ممكنة (الوجود) (٢) فجملة هذه الموجودات ممكنة الوجود في ذواتها ، وممكنة الوجود في جميع اعتباراتها ، والممكن لا بدّ له من مؤثر (يؤثر فيه ، ويجب كون ذلك المؤثر مغايرا لها ، على ما ثبت أن كل ممكن فلا بد له من مؤثر) (٣) فيثبت أن جملة هذه الممكنات مفتقرة إلى مؤثر (مغاير لها ، والمغاير لكل الممكنات لا يكون ممكنا ، فثبت افتقار جملة الممكنات إلى) (٤) موجود يؤثر فيها ويكون (٥) ذلك مغايرا لمجموعها ، ولكل واحد من آحادها ، وذلك هو الموجود الواجب لذاته ، وهو المطلوب.

البرهان الرابع : إنا إذا اعتبرنا هذا المعلول الآخر (ثم اعتبرنا علته) (٦) ثم اعتبرنا علة علته إلى ما لا نهاية له ، فهذه جملة. فإذا حذفنا من هذا الجانب المتناهي عشر مراتب ، واعتبرناها بعد حذف هذه العشرة عنها ، كانت جملة أخرى. ثم طبقنا في الوهم كل واحد من آحاد إحدى الجملتين ، على واحدة

__________________

(١) الممكن المؤثر (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

١٥١

من آحاد الجملة الأخرى ، بحسب مراتب التطبيق. والمراد من قولنا بحسب مراتب التطبيق : أن الأخير من هذه الجملة بتقابل بالأخير من الجملة الثانية ، والثاني من هذه الجملة ، يتقابل بالثاني من تلك الجملة ، والثالث من هذه بالثالث من هذه ، وقس على هذا الترتيب فنقول: إما أن يظهر التفاوت بين الجملتين أو لا يظهر (فإن لم يظهر) (١) ، لزم كون الزائد مساويا للناقص ، وهو محال. وإن ظهر التفاوت فذلك التفاوت ، إما أن يظهر من الجانب الذي يلينا ، وهو محال. لأنا فرضنا التطبيق بحسب مراتب الأعداد حاصلا من هذا الجانب ، فوجب أن يظهر التفاوت من الجانب الآخر ، وذلك يوجب التناهي من الطرف الآخر. وذلك يمنع من القول بكونها أمورا غير متناهية ، فإن قالوا : هذا الدليل يوجب على الفلاسفة أن يحكموا بتناهي الحوادث ، وأن يحكموا بتناهي (أعداد النفوس الناطقة ، مع أنهم لا يقولون بها. فنقول : الفرق بين هذه المسألة ، وبين) (٢) هاتين الصورتين قد ذكرناه في باب تناهي الأبعاد.

البرهان الخامس : إذا فرضنا موجودا واحدا من الممكنات ، فهو مع جملة علله أعداد غير متناهية ، ثم إذا اعتبرنا واحدا آخر فهو أيضا مع جملة علله أعداد أخرى غير متناهية ، وإذا كان كذلك فعدد الجملتين أكثر لا محالة من عدد الجملة الواحدة ، وكل ما كان أقل من غيره ، فهو متناه فعدد الجملة الواحدة متناه ، وقد فرضناه غير متناه. هذا خلف.

البرهان السادس : إن المعلول الآخر له علة ، ولعلته علة ، فالمعلول الآخر خاصيته أنه معلول ، وليس بعلة ، والعلة الأولى لو حصلت ، لكان خاصيتها أنها علة ، وليست بمعلولة، وأما المتوسطات فهي مشتركة في صفة واحدة ، وهي كون كل واحدة منها علة لما تحتها ، ومعلولا لما فوقها. إذا ثبت هذا ، فنقول : لو فرضنا ذهاب العلل (والمعلولات) (٣) إلى غير النهاية ، لكان الكل في حكم الوسط ، ولم يحصل لشيء منها خاصية الطرق البتة ، ثم نقول:

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

١٥٢

هذا الوسط إن استند إلى شيء ليس له خاصية الوسط ، فذاك هو المطلوب ، وإن لم يستند إلى شيء بهذه الصفة ، كان الوسط غنيا عن الاستناد إلى الطرف ، وما لم يستند إلى غيره فهو طرف وليس بوسط ، فالوسط ليس بوسط ، وإذا كان كذلك فعلّة المعلول الآخر وجب أن لا تستند إلى غيرها ، لأن التقدير (تقدير) (١) الوسط لا يجب استناده إلى غيره ، وإذا كانت هذه العلة غنية عن الاستناد إلى شيء ثالث ، كانت ظرفا ، فكانت واجبة الوجود لذاتها ، فيثبت أن نفي الطرف يوجب إثباته ، فوجب أن (يكون) (٢) هذا النفي باطلا ، وأن يكون إثبات طرف الممكنات أمرا واجبا ، وهو المطلوب.

البرهان السابع : أن نقول : إنا قد بينا في باب خواص الواجب والممكن أن الممكن لذاته ، ما لم يصر واجب الوجود عن سببه ، امتنع أن يدخل في الوجود ، وإذا كان كذلك كانت ضرورة الممكن لذاته أمرا واجبا لا يحصل له أمر إلّا بتبعية الغير ، إذا عرفت هذا فنقول : لو فرضنا أسبابا ومسببات لا نهاية لها ، لكان وجوب كل واحد منها تابعا ، لا أصليا ، إذ لو فرضنا واحدا منها يكون أصليا في الوجود ، لكان ذلك الواحد واجبا لذاته ، وقد فرضنا أنه ليس كذلك ، وإذا كانت وجوباتها بأسرها تابعة لوجوب شيء آخر ، فلا بد من متبوع ، لأن حصول التابع من حيث هو تابع بدون المتبوع محال ، فيثبت أنه لا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون واجب الوجود ، على سبيل الأصالة ، لا على سبيل التبعية (للغير) (٣) وكل ما كان كذلك فهو واجب الوجود لذاته ، فيثبت أنه لا بد في الموجودات من موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب. فهذه جملة البراهين المعتبرة في إبطال التسلسل (وبالله التوفيق) (٤).

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

١٥٣

الفصل الحادي عشر

في

إبطال التسلسل سوى ما تقرر ذكره

اعلم أنا في الفصل المتقدم إنما افتقرنا إلى إبطال التسلسل ، لأنا جوزنا أن تكون علة وجود الممكن ممكنا آخر ، فلما جوزنا هذا في الجملة افتقرنا إلى إبطال التسلسل ، ومن الناس من يقول : إن ما كان ممكن الوجود لذاته ، فإنه لا يصلح للعلية والتأثير ، واحتجوا على صحة هذه المقدمة بوجوه : ـ

الحجة الأولى : إن الممكن هو الذي ماهيته مقتضية لقبول الوجود والعدم ، وثبت أن ماهية الممكن علة لهذه القابلية ، فلو كانت مؤثرة في وجود شيء آخر ، لكانت الماهية الواحدة مقتضية للقبول وللتأثير ، فيكون الواحد صدر عنه أكثر من الواحد ، وذلك باطل للوجوه التي يذكرها الفلاسفة ، في أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد (فإن) (١) ، قالوا : لم لا يجوز أن يقال (إن ذلك) (٢) الممكن المؤثر (٣) في وجود الغير تكون ماهيته مركبة ، وهو بأحد الجزءين يقتضي القبول ، وبالجزء الثاني (٤) يقتضي التأثير؟ فنقول : فعلى هذا

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) المعتبر (س).

(٤) الآخر (س).

١٥٤

التقدير الجزء الذي يقتضي القابلية ليس بمؤثر ، والجزء الذي يقتضي التأثير ليس بممكن ، فالذي هو ليس (١) بممكن ليس بمؤثر ، والذي هو مؤثر ليس بممكن ، وهو المطلوب.

الحجة الثانية : إن الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر ، فإما أن يكون علة الحاجة إلى مؤثر مبهم لا بعينه ، وإما أن يكون علة الحاجة إلى مؤثر متعين في نفسه ، والأول باطل ، لأن غير المعين من حيث إنه غير معين لا وجود له في الخارج ، لأن كل ما كان موجودا في الخارج فهو معين ، فما لا يكون معينا يمتنع أن يكون موجودا في الخارج ، وكل ما لا يكون موجودا في الخارج امتنع تحقق الحاجة إليه في الخارج ، ولما بطل هذا القسم ، ثبت أن ماهية الإمكان ، علة للحاجة إلى شيء معين ، وماهية الإمكان واحدة ، من حيث إنها ماهية الإمكان ، فوجب احتياج الممكنات إلى ذلك المعين ، لأن التساوي في العلة ، يوجب التساوي في المعلول. إذا ثبت هذا ، فنقول : لو كان ذلك الشيء المعين ممكنا في نفسه ، لزم كونه محتاجا إلى نفسه ، وكونه علة لنفسه. وذلك محال. فثبت أن جميع الممكنات محتاجة إلى شيء واحد بعينه وثبت أن ذلك الشيء (٢) المعين يمتنع كونه ممكنا في نفسه ، والموجود الذي لا يكون ممكن الوجود لذاته ، يكون واجب الوجود لذاته. فثبت أن جميع الممكنات مستندة إلى موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : الإمكان علة للحاجة إلى السبب من حيث (إنه سبب ، والأسباب الكثيرة إذا أخذت من حيث) (٣) إنها أسباب ، كان المفهوم من مجرد كونها أسبابا مفهوما واحدا. والإمكان ، وإن كان مفهوما واحدا إلا أنه يحوج إلى السبب من حيث إنه سبب (٤) ، فلم يلزم إسناد كل الممكنات إلى سبب واحد؟ قلنا : السبب إما أن تعتبر ذاته المخصوصة ، أو يعتبر مجرد كونه سببا ومؤثرا في الغير ، أما الاعتبار الثاني (فمن

__________________

(١) فالذي هو ممكن (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) حيث انتهت.

١٥٥

المستحيل) (١) أن يكون الإمكان سببا للحاجة إليه (٢) ، ويدل عليه وجهان : ـ

الأول : إن المفهوم من السبب حالة ، نسبية إضافية. والأحوال النسبية تكون من اللواحق والعوارض (وكل ما كان من اللواحق والعوارض) (٣) فهو معلول ، وكونه سببا ومؤثرا ، معلول فيعود الإلزام فيه.

الثاني : إنا (قد دللنا على أن السبب لا يوجب المعلول من حيث إنه سبب ومؤثر ، لأن السببية والمؤثرية) (٤) من مقولة المضاف والمضافات معا ، فالسببية والمؤثرية متأخرة بالرتبة عن ذات الأثر ، فيمتنع كونها مؤثرة في ذات الأثر ، بل المؤثر في ذات المعلول إنما هو الذات المخصوصة التي للسبب ، وإذا كان كذلك كان الإمكان علة للحاجة إلى تلك الذات المخصوصة ، وعلة للاستناد إلى تلك الذات المخصوصة ، وحينئذ يجب أن يكون كل ممكن مستندا إليه. وهذا برهان حسن في إثبات واجب الوجود.

الحجة الثالثة : إن كل ممكن فهو مركب ، ولا شيء من المركب بمؤثر ، ينتج لا شيء من الممكن بمؤثر. إنما قلنا : إن كل ممكن مركب ، فلأن كل ممكن ، فإنه لا بد وأن يصح الوجود والعدم على ماهيته ، وكل ما كان كذلك فإن وجوده عين ماهيته ، فالموجود الممكن يجب كونه مركبا من الماهية والوجود ، وإنما قلنا : إن المركب لا يكون مؤثرا ، وذلك لأنه لو كان مؤثرا. كان إما أن يكون كل واحد من جزئيه مستقلا بالتأثير ، أو يكون أحدهما مستقلا بالتأثير دون الآخر ، أو لا يكون واحد منهما مستقلا بالتأثير ، فإن كان الأول لزم اجتماع العلتين المستقلتين ، على الأثر الواحد ، وهو محال ، وإن كان الثاني كانت العلة ليست إلا الجزء الواحد ، فلم تكن العلة مركبة ، وإن كان الثالث ، فنقول : لما

__________________

(١) من (ز).

(٢) سبب البتة (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

١٥٦

كان كل واحد من الجزءين ليس له أثر أصلا ، فهذه الأجزاء عند اجتماعها ، إما أن يقال : إنها بقيت كما كانت قبل الاجتماع ، أو ما بقيت كذلك ، بل حدث بسبب الاجتماع حالة زائدة ، فإن كان الأول يجب أن يبقى المجموع عند الاجتماع غير مؤثر (١) ، كما أنها كانت قبل الاجتماع غير مؤثرة ، وإن كان الثاني وهو أنه حدث عند الاجتماع أمر زائد ، فنقول : المقتضى حدوث هذه الحالة الزائدة. إن كان كل واحد من تلك الأجزاء ، فحينئذ يعود ما ذكرنا من اجتماع المؤثرات المستقلة على الأثر الواحد ، وإن كان المقتضى لها أحد تلك الأجزاء بعينه ، فحينئذ يكون الموجب والمؤثر هو ذلك المفرد فقط ، وإن كان المقتضى لحدوث تلك الحالة الزائدة هو المجموع عاد التقسيم الأول فيه ، وهو أنه هل حدث عند الاجتماع حالة زائدة ولو إلى غير نهاية؟ وهو محال ، وقد لا يظن توجيه النقوض على هذه الحجة ، إلا أن التأمل التام يدل على أنها ليست صحيحة (وبالله الهداية والإرشاد) (٢).

__________________

(١) عند الاجتماع مؤثر (س).

(٢) من (ز).

١٥٧

الفصل الثاني عشر

في

إيراد سؤال على القائل المذكور في إثبات

واجب الوجود لذاته ، وتحقق الجواب

الحق عنه

اعلم أن الدليل الذي ذكرناه هو أنا قلنا : لا شك في وجود موجود. وذلك الموجود ، إن كان واجبا لذاته ، فهو المطلوب ، وإن كان ممكنا لذاته ، افتقر إلى مرجح (وذلك المرجح) (١) يجب أن يكون موجودا معه ، ثم ذلك الموجود الآخر إن كان ممكنا ، عاد الكلام فيه ، والدور والتسلسل باطلان ، فلا بد من الانتهاء إلى موجود (واجب الوجود) (٢) لذاته، وهو المطلوب. إذا عرفت هذا ظهر أن هذا الدليل لا يتم إلا عند صحة مقدمات خمسة : ـ

أحدها : أن الممكن لا بد له من مرجح. وثانيها : أن العلة المؤثرة لا بد وأن تكون موجودة حال وجود المعلول. وثالثها : أن علة الموجود يجب أن تكون شيئا موجودا. رابعها : أن الدور باطل (وخامسها : أن التسلسل باطل. وعند صحة هذه المقدمات يجب الاعتراف) (٣) بوجود موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب ، إذا عرفت هذا فنقول : لسائل أن يسأل فيقول : هذا الدليل منقوض بالحوادث اليومية ، وتقريره : أن هذه الحوادث اليومية إما أن تكون مفتقرة إلى المقتضى ، أو لا تكون مفتقرة ، فإن كان الحق

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

١٥٨

هو الثاني فقد حصل الممكن المحدث لا عن مؤثر ، وذلك يبطل قولكم : إن الممكن المحدث لا بدّ له من مرجح ، وإن كان الحق هو الأول ، وهو أن هذه الحوادث مفتقرة إلى المؤثر ، فنقول : ذلك المؤثر ، إما أن يكون محدثا أو قديما ، فإن كان محدثا ، فإما أن يقال : إن ذلك المحدث كان موجودا قبله ، بمعنى أن كل جزء من أجزاء هذه الحوادث ، فإنه معلول للجزء السابق عليه ، وإما أن يقال : إن ذلك المؤثر المحدث يكون موجودا مع هذا الأثر (أو لا يكون ((١) فإن كان الحق هو القسم الأول ، فقد جوزتم أن يكون المؤثر في وجود هذا الحادث شيئا كان موجودا قبل هذا الحادث ولم يبق معه ، وإذا جوزتم ذلك ، فجوزوا استناد كل ممكن إلى موجود آخر كان (موجودا) (٢) قبله ، ولم يبق معه ، لا إلى أول ، وعلى هذا التقدير فلا يمكنكم إثبات واجب الوجود لذاته ، ولا يمكنكم أن تقولوا : إن إثبات حوادث لا أول لها محال ، لأن هذا صريح قول الفلاسفة ، فكيف يمكنهم (٣) إنكاره؟ وإن كان الحق هو الثاني ، وهو أن علة وجود هذا الحادث شيء آخر حدث معه ، فنقول : علة وجود هذا الحادث ، إما أن يكون هو الحادث الذي هو معلوله ، وإما أن يكون حادثا آخر ، والأول يوجب الدور ، والآخر (٤) يوجب التسلسل ، فثبت أنا إذا أسندنا هذه الحوادث إلى علل حادثة ، لزمنا هدم مقدمة من المقدمات المذكورة في أصل الدليل ، وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : المقتضى لحدوث الحوادث اليومية (٥) قديم أزلي ، فنقول : ذلك القديم إما أن يقال: إنه كان تاما في الأزل في جميع الأمور المعتبرة في تأثيره في هذا الحادث اليومي ، أو ما كان كذلك ، فإن كان الأول فنقول : فذلك المؤثر التام كان موجودا (قبل حدوث هذا الحادث مع أن هذا الحادث ما كان موجودا) (٦) وقد وجد الآن مع وجود هذا الحادث ، فاختصاص حدوث هذا الحادث بهذا الوقت ، مع أن نسبة ذلك المؤثر التام إلى الوقتين على السوية ، يكون (ذلك) (٧) رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ،

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) يمكنكم (س).

(٤) والثاني (س).

(٥) الحادث اليومي (ز).

(٦) من (ز).

(٧) من (س).

١٥٩

وأما إذا قلنا : إن ذلك المؤثر ما كان تاما في جميع الأمور المعتبرة في كونه مؤثرا في هذا الحادث ، ثم حدث مجموع تلك الأمور بحدوث ذلك المجموع. إن كان لا سبب. فقد وقع الممكن لا عن مرجح ، وإن كان عن سبب عاد التقسيم الأول فيه ، فيقتضي إما إلى إسناد المعلول الحاضر إلى علة سابقة ، وإما إلى وقوع الدور ، وإما إلى وقوع التسلسل ، فثبت أن حدوث هذه الحوادث اليومية ، يقتضي إفساد مقدمة واحدة من المقدمات المذكورة في ذلك الدليل. واعلم أن الفلاسفة أجابوا عن هذا السؤال بجواب يناسب مذهبهم ، والمتكلمون أجابوا عنه بجواب آخر يناسب مذهبهم.

أما الفلاسفة فقد قالوا : هذا إشكال قاهر قوي ، ولا جواب عنه إلا بحرف واحد ، وذلك الحرف إنما يستقيم على قولنا : إن كل حادث مسبوق بحادث آخر ، لا إلى أول ، وتقريره ، أن يقال : المؤثر في وجود هذه الحوادث موجود قديم أزلي ، إلا أن شرط فيضان هذا الحادث. عند زوال ذلك الحادث السابق. فكل حادث مسبوق بحادث آخر ، فإن انقضاء الحادث (المتقدم) (١) شرط في كون ذلك الموجود القديم علة لحدوث الحادث المتأخر. وعلى هذا الطريق قيل : كل حادث حادث لا إلى أول.

وأما المتكلمون فقالوا : هذا السؤال (إنما) (٢) صعب على الفلاسفة لأنهم جوزوا حدوث حادث قبل حادث ، لا إلى أول ، وأما نحن فلا نقول به ، وهو عندنا من المحالات ، وإذا كان كذلك وجب انتهاء الحوادث كلها إلى مؤثر قديم.

قال السائل الأول :

أما جواب الفلاسفة فضعيف. وبيانه من وجوه :

الأول : إن التقسيم الذي ذكرناه في السؤال لا يندفع بهذا الكلام ، لأنا قلنا : إن ذلك المؤثر القديم ، إما أن يقال : إنه كان تاما في الأمور المعتبرة في

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

١٦٠