المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

فعند هذا تنفتح أبواب كثيرة من الاحتمالات :

أحدها : أن يقال : إن خالق هذا العالم الجسماني موجود واحد ، وهو إما مخلوق المبدأ الأول ، أو معلول له.

وثانيها : أن يقال : إن خالق الذوات شيء من معلولات المبدأ الأول ، وخالق الصفات شيء آخر.

[وثالثها : أن يقال : خالق بعض الصفات والذوات شيء ، وخالق نوع آخر من الصفات والذوات شيء آخر] (١).

وبالجملة : فعلى جميع التقديرات ، ثبت : أن الدليل الذي ذكروه لا يفيد البتة تقرير أن خالق هذا العالم الجسماني قديم أزلي واجب الوجود لذاته.

واعلم. أنه حصل هاهنا مقامان : أحدهما : طريقة القائلين بأنه لا سبيل إلى تحصيل المعارف الإلهية إلا بالتمسك بطريقة الأولى والأخلق.

والثاني : طريقة القائلين بأنه لا بد من الدلائل اليقينة.

أما الطريق الأول : فتقريره : أن يقال : إنه لما ثبت أن العالم محدث ، وجب افتقاره إلى فاعل ، فذلك الفاعل إن كان محدثا ، افتقر إلى فاعل آخر. فإما أن يتسلسل ، أو يدور، أو ينتهي بالآخر إلى فاعل قديم واجب الوجود لذاته. أما الدور والتسلسل فهما باطلان(٢) وأما إثبات الوسائط مع الانتهاء إلى موجود واجب الوجود لذاته [فنقول : لما دلت الدلائل على أنه لا بد من الاعتراف بوجود واجب الوجود لذاته] (٣) ولم تدل الدلائل على وجود هذه الوسائط ، وجب إسقاط هذه الوسائط من البين ، والاكتفاء بالموجود الذي هو واجب الوجود لذاته. فهذه طريقة القائلين بالأولى والأخلق.

__________________

(١) من (ز).

(٢) محالان (س).

(٣) من (ز).

٣٢١

وأما إقامة الدلالة على [نفي] (١) هذه الوسائط.

فاعلم أن المتكلمين ذكروا في هذا الباب طرقا واهية ونحن نذكرها وننبه على ضعفها.

الحجة الأولى : قالوا : ليس القول بحدوث بعض تلك المراتب وقدم بعضها أولى من العكس. فإما أن نحكم بحدوث الكل ، وحينئذ يلزم ، إما التسلسل أو الدور ، أو نحكم بقدم هذا العالم وهو المطلوب. ولقائل أن يقول : ما المراد من قولكم : ليس البعض بأولى من البعض؟ إن أردتم [عدم] (٢) الأولوية في نفس الأمر فهذا ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال : إن بعض تلك المراتب أولى بالحدوث ، والمرتبة المغايرة للمرتبة الأولى أولى بالقدم؟ وإن كنا لا نعرف سبب تلك الأولوية ، فإن عقولنا ضعيفة ، وأفهامنا قاصرة ، وليس كل ما لا نعرفه ، وجب أن لا يكون موجودا.

وإن أردتم به عدم الأولوية في أذهاننا وعقولنا ، فهذا لا يفيد إلا وجوب التوقف وعدم الجزم بقسم واحد من هذه الأقسام المحتملة فإما أن نجزم بنفي البعض وثبوت الباقي. وذلك باطل قطعا.

الثانية : قالوا : لا يجوز أن يكون شيء من الذوات علة لذات أخرى. لأنا بينا في المسألة المتقدمة : أن الذوات بأسرها متساوية في الذاتية ، وأن الاختلاف ليس إلا بالصفات، فلو كانت ذات علة لذات ، لكان كل ذات علة لكل ذات. فيلزم كون الذات المعينة علة لنفسها. ويلزم كون الذات المعلولة عامة للذات التي فرض كونها علة [وكل] (٣) ذلك محال. فيثبت أنه لا يجوز أن يكون شيء من الذوات علة لشيء منها.

ولقائل أن يقول : هذا بناء على أن الذوات متساوية في كونها ذوات ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

٣٢٢

ونحن قد بينا بالبرهان اليقيني أن ذلك باطل ، إذ لو كان الأمر كذلك ، لزم أن تكون الأشياء المتساوية ، يلزمها لوازم مختلفة. وذلك محال في العقول.

أما لو قلنا : إنها في أنفسها مختلفة إلا أنها مع اختلافها في حقائقها متشاركة في كونها ذوات ، بمعنى أنها أمور غير تابعة في وجودها لغيرها ، فعلى هذا التقدير فقد حصلت أشياء مختلفة في الماهية ، مع أنها تكون مشتركة في بعض اللوازم. فثبت : أن الحق ما ذكرناه. وإذا كان الأمر كذلك فقط سقط كلامكم.

وأيضا : فمدار هذه الحجة على مقدمتين :

إحداهما : أن الذوات بأسرها متساوية في الذاتية.

والثانية : أن الأشياء المتساوية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر. فنقول : إن كان الأمر كذلك كما ذكرتم ، فحينئذ يلزمكم جواز أن ينقلب الخالق مخلوقا والمخلوق خالقا [والممكن واجبا] (١) والواجب ممكنا ، وحينئذ يبطل عليكم كل ما ذكرتموه [ولما لم يلزم هذا ، فكذا] (٢) هاهنا.

الحجة الثالثة : إن فاعل العالم بتقدير كونه محدثا ، فإنه يجب أن يكون الإله الأكبر [الذي هو الخالق لخالق هذا العالم قادرا على خلقه وإيجاده ، وإذا ثبت ذلك فوجب أن يكون] (٣) قادرا على كل الممكنات ، وإذا ثبت ذلك فوجب أن يكون قادرا على خلق هذا العالم ، وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا شيئا آخر يقدر على خلق هذا العالم ، لزم حصول مقدور واحد لقادرين وهو محال. فوجب أن يكون هذا الفرض محالا.

واعلم : أن هذه الحجة لا تتم إلا إذا قلنا : إنه لا يؤثر شيء في وجود [شيء] (٤) إلا قدرة الله تعالى ، وأكثر أهل العالم ينازعون في هذا الباب ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

٣٢٣

وستأتي [هذه المسألة بالاستقصاء] (١) في باب قادرية الله تعالى.

فهذا تمام الكلام في حكاية كلام المتكلمين في إثبات كونه تعالى قديما أزليا.

وأما الوجه الذي تمسكوا به في إثبات كونه باقيا أبديا. فهو أنهم قالوا : ثبت بما ذكرنا كونه تعالى قديما أزليا. فنقول : ما ثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه. واحتجوا على صحة هذه المقدمة بوجوه :

الحجة الأولى : وهي الحجة التي عليها تعويل الأشعرية. أن قالوا : هذا القديم لو عدم بعد وجوده ، فإما أن يكون عدمه لإعدام معدم أو لطريان ضد ، أو لانتفاء شرط ، والأقسام الثلاثة باطلة. فالقول بعدم القديم باطل. فيفتقر هاهنا إلى بيان أمرين : أحدهما : بيان حصر الأقسام ، والثاني : إفساد كل واحد منها. أما بيان الحصر فهو أنا نقول : كل شيء عدم بعد وجوده ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العدم جائزا. إذ لو كان ذلك العدم واجبا لذاته ، لكان ذلك العدم دائما ، ولو كان العدم دائما ، لما كان (٢) الوجود أزليا ، وإذا كان ذلك العدم أمرا جائزا ، وجب أن يكون له مرجح ، وذلك المرجح إما أن يكون عدميا أو وجوديا ، فإن كان عدميا فهو أن يقال : إنه إنما عدم لأجل أنه عدم شيء. كان ذلك الشيء محتاجا في وجوده إليه ، وهذا هو الذي قلنا : إنه ينعدم لانتفاء شرط ، وإما إن كان المقتضى لذلك العدم أمرا وجوديا فتأثيره في ذلك الإعدام ، وأما أن يكون على سبيل الاختيار (٣) وهو الذي سميناه الإعدام بالفاعل ، أو على سبيل الإيجاب ، وهو الذي سميناه بالعدم لأجل طريان الضد ، فيثبت بما ذكرنا : بيان حصر هذه الأقسام [الثلاثة] (٤) وأما بيان فساد كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة فهو أن نقول : إنما قلنا : إنه يستحيل أن يصير معدوما لأجل أن معدما أعدمه لوجهين :

__________________

(١) من (س).

(٢) لكان (س).

(٣) الإعدام (ز).

(٤) من (س).

٣٢٤

الأول : إن وقوع الإعدام بالفاعل محال غير مقبول ، لأن الفاعل لا بدّ له من فعل ، والقادر لا بدّ له من أثر ، والعدم نفي محض وسلب صرف ، فالقول بأن العدم وقع بالفاعل محال.

والثاني : وهو أن ذلك الفاعل الذي يعدمه إما أن يكون قديما [أو حادثا. لا جائز أن يكون قديما] (١) لأنه ليس أحد القديمين بأن يقدر على إعدام الثاني ، أولى من العكس. ولا جائز أن يكون حادثا. لأن القديم أقوى وجودا من الحادث ، فيمتنع كون الحادث قادرا على إعدام القديم. وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يصير معدوما لطريان ضده لوجوه :

الأول : إن المضادة حاصلة بين الضدين ، وإذا كان كذلك كان طريان الضد الحادث مشروطا بانتفاء الضد الثاني ، فلو جعلنا انتفاء الضد الثاني معللا بطريان الضد الحادث ، لزم الدور وهو محال.

والثاني : وهو أن المضادة حاصلة من الجانبين ، فليس انتفاء الباقي لأجل طريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لأجل الباقي. بل هذا الجانب (٢) أولى ، لأن الدفع أسهل من الرفع.

الثالث : وهو أن ذلك الضد إن كان [حادثا] (٣) قديما ، فحينئذ قد كان الضدان موجودين في الأزل وذلك محال. وإن كان حادثا ، كان الأصل الحادث أضعف وجودا من القديم ، والأضعف لا يقوى على إعدام الأقوى. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يقال : إن ذلك القديم ، عدم لانتفاء شرط ، لأن ذلك الشرط ، إن كان قديما كان الكلام في كيفية عدمه ، كالكلام في عدم القديم الأول ، وإن كان حادثا فهو محال. لأن القديم متقدم في وجوده على الحادث ، والمتقدم على الشيء يمتنع كونه مشروطا به. فيثبت بما ذكرنا : أن القديم لو عدم بعد وجوده ، لكان عدمه ، إما أن يكون لإعدام معدم ، أو لطريان ضد ،

__________________

(١) من (س).

(٢) الحادث (س).

(٣) من (س).

٣٢٥

أو لانتفاء شرط. وثبت أن الكل محال ، فكان القول بعدم القديم محالا.

الحجة الثانية : وهي التي استنبطها للمتكلمين (١) في إثبات أن العدم على القديم محال: أن نقول هذا القديم إن كان واجب الوجود لذاته كان العدم عليه محالا وإن كان ممكن الوجود لذاته كان وجوده لمرجح ، وذلك المرجح يلزم إما أن يكون فاعلا مختارا ، أو علة موجبة ، والأول باطل لأن الفاعل المختار إنما يفعل بواسطة القصد [والاختيار ، والقصد] (٢) إلى تكوين الشيء ، إنما يكون قبل حدوثه ، أو حالة حدوثه.

والعلم به بديهي ، فإن كل ما يقع بواسطة القصد والاختيار ، فهو حادث ، وكل ما ليس بحادث امتنع وقوعه بإيقاع الفاعل المختار ، ولما بطل هذا القسم ، ثبت : أن القديم لو كان ممكن الوجود لذاته ، لكان وجوده معللا بمؤثر موجب بالذات ، وذلك الموجب (٣) إن كان ممكنا عاد التقسيم الأول ، فبقي أنه كان واجب الوجود لذاته. ونقول : تأثيره في إيجاد ذلك المعلول القديم ، إن كان موقوفا على شرط ممكن الوجود ، عاد التقسيم في كيفية وجود ذلك الشرط ، وإن كان موقوفا على شرط واجب الوجود أو ما كان موقوفا على شرط أصلا ، فحينئذ يلزم من دوام وجوب تلك العلة الواجبة لذاتها ، أو دوام شرط التأثير الذي هو موجود واجب الوجود لذاته : دوام ذلك الأثر. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان قديما فهو إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، وإما أن يكون معلولا لعلة واجب الوجود لذاتها ، ويثبت أن على كلا التقديرين أن يكون العدم عليه محالا. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما يثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه.

الحجة الثالثة : أن كل ما كان قديما فإنه يكون واجب الوجود لذاته. [وما كان كذلك] (٤) فإن العدم عليه ممتنع. بيان المقام الأول :

__________________

(١) استنبطها المتكلمون (ز).

(٢) من (س).

(٣) الممكن (ز).

(٤) زيادة.

٣٢٦

أن القديم لو لم يكن واجب الوجود لذاته ، لكان ممكن الوجود لذاته ، وهو يحتاج إلى المؤثر. إلا أن ذلك محال (١) ، لأن القديم ليس له حال عدم ، ولا حال حدوث البتة ، بل هو أبدا كان موجودا ، فلو احتاج إلى المؤثر ، لكان إنما احتاج إلى المؤثر ، حال وجوده. فيلزم أن يكون ذلك المؤثر مؤثرا في حال وجوده ، فيلزم تحصيل الحاصل ، وتكوين الكائن ، وذلك محال. فيثبت بما ذكرنا : أن كل قديم فإنه واجب الوجود لذاته.

وبيان المقام الثاني وهو أن كل واجب الوجود لذاته ، فإنه لا يقبل العدم : هو أن نقول : واجب [الوجود] (٢) لذاته هو الذي لا تكون حقيقته قابلة للعدم ، وما كان كذلك امتنع طريان العدم عليه. فيثبت بما ذكرنا : أن كل قديم فإنه واجب الوجود لذاته ، ويثبت أن كل واجب الوجود لذاته ، فإنه يمتنع العدم عليه ، ينتج : أن كل ما يثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه. هذه الحجة لخصناها للمتكلمين [وهذا جملة ما يليق بأصول الكلام في هذا الباب](٣).

وأما الطرق اللائقة بالأصول الفلسفية في إثبات كونه تعالى أزليا أبديا. أن نقول :

الوجه الأول (٤) : لو صح عليه العدم بعد وجوده ، لكان عدمه بعد وجوده لا بد وأن يكون لسبب ، إما وجودي ، وإما عدمي. وحينئذ يكون وجوده موقوفا على عدم ذلك المعدم ، وما يكون وجوده موقوفا على اعتبار حال الغير ، كان ممكنا لذاته. فواجب الوجود لذاته [ممكن الوجود لذاته] (٥) هذا خلف.

__________________

(١) عبارة (س) :

فإنه يكون واجب الوجود لذاته ، وكل ما كان غير واجب الوجود لذاته ، كان ممكن الوجود لذاته ، وكل ممكن الوجود لذاته ، فهو محتاج إلى المؤثر. ينتج : أن ذلك القديم محتاج إلى المؤثر ، إلا أن ذلك محال ... الخ.

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) زيادة.

(٥) من (س).

٣٢٧

والوجه الثاني في بيان امتناع هذا المعنى : أن حقيقة ماهيته ، إن لم تكن قابلة للعدم البتة ، فقد حصل المطلوب ، وإن كانت قابلة [للعدم] (١) فإما أن يكون قبولها للوجود والعدم على سبيل السوية ، وإما أن يقال : إن جانب الوجودية أولى من جانب [العدم] (٢) فإن كان الأول لزم افتقاره إلى المرجح ، لما ثبت أن الممكن المتساوي [لا] (٣) يعقل رجحان أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح ، وحينئذ يكون الواجب لذاته ، واجبا بغيره. وهو محال. [وإن كان الثاني وهو أن يقال : إن حقيقته قابلة للعدم وللوجود ، إلا أن الوجود أولى بها من العدم. فنقول : هذا محال] (٤) لأنا بينا : أن الجمع بين أصل الإمكان مع حصول الأولوية محال باطل. فيثبت بما ذكرنا : أن واجب الوجود لذاته ، يجب كونه أزليا وأبديا.

الوجه الثالث في بيان وجوب كونه أزليا وأبديا : أنه حين كان موجودا. إما أن يقال : إنه كان ممكن الوجود لذاته ، أو كان واجب الوجود لذاته.

فإن قلنا : إنه ممكن الوجود لذاته ، وكل ممكن الوجود لذاته فإنه لا يوجد إلا بسبب. فالمغني عن السبب مفتقر إلى السبب. هذا خلف. وإن قلنا : إنه كان واجب الوجود لذاته فلو فرضنا أنه عدم في وقت من الأوقات ، فحينئذ انتقل من الوجوب الذاتي ، إما إلى الإمكان الذاتي ، أو إلى الامتناع الذاتي. وكل ذلك محال. لأن على هذا التقدير ، يكون ذلك الوجوب الذاتي قابلا للتغير ، وكل ما كان قابلا للتغير فإنه لا يكون وجوبا بالذات ، ينتج : أن الوجوب بالذات ليس وجوبا بالذات. هذا خلف. فيثبت بمجموع ما لخصناه : أن واجب الوجود لذاته ، يجب أن يكون أزليا وأبديا. وهذا تمام المقصود من هذا الباب. وبالله التوفيق.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من س.

٣٢٨

المسألة السابعة

في

استقصاء الكلام في حقيقة الأزل والأبد

اعلم أن هاتين اللفظتين مختصرتان ، ولأجل اختصار هما لا يقف العقل على تمام المعنى المقصود من لفظ الأزل والأبد. والعلماء ذكروا أمثلة كثيرة كاشفة عن حقيقة هذا المعنى.

فالمثال الأول : قالوا : لو فرضنا أن داخل الفلك الأعظم كان مملوءا من حبات الجاورس (١) ، وفرضنا أن في كل ألف ألف سنة تفنى حبة واحدة من تلك الحبات ، ثم فرضنا اجتماع هذه الحبات بأسرها على كثرتها ، وامتناع وقوف العقل على جزء من أجزائها ، ثم قابلنا ذلك المجموع بالمعنى المفهوم من الأزل ، كان ذلك المجموع بالنسبة إلى الأزل ، كالعدل بالنسبة إلى الوجود. وذلك لأن ذلك المجموع وإن بلغ في الكثرة إلى الحد الذي يعجز العقل عن الإحاطة بالجزء القليل منه ، إلا أن العلم البديهي حاصل بأنه إنما يتولد من ضم المقادير المتناهية بعضها إلى بعض : مرات متناهية ، والمجموع الحاصل من ضم المتناهي إلى المتناهي يكون متناهيا.

فهذا المجموع له أول. واللانهاية واللاأولية غير متناهية. والمتناهي بالنسبة إلى [غير] (٢) المتناهي ، يكون كالعدم في مقابلة الوجود. وهذا المثال

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

٣٢٩

يكشف حقيقة الأزلية من بعض الوجوه.

المثال الثاني : إن لرقوم حساب الهند ترتيبا عجيبا ، فإن الواحد في المرتبة الأولى واحد، وفي الثانية عشرة ، وفي الثالثة مائة ، وفي الرابعة ألف ، وفي الخامسة عشرة آلاف وفي السادسة مائة ألف ، وفي السابعة ألف ألف.

وإذا عرفت هذا فنقول : لنفرض أن بحسب كل رأس دائرة (١) من مجموع الفلك الأعظم ، حصل عالم مثل هذا العالم الجسماني المشتمل على الأفلاك السبعة (٢) والعناصر الأربعة ، ثم فرضنا أن هذه العوالم امتدت امتدادا بحيث صارت في الثخن بمقدار قشرة الثوم ، ثم أمليت جميع تلك السطوح من مراتب الأعداد برقوم الهندسة (٣) ثم أوقعت المقابلة بين مجموع تلك الحسابات وبين حقيقة الأزل ، كان ذلك المجموع في مقابلة حقيقة الأزل ، كالعدم في مقابلة الوجود ، بالبيان الذي لخصناه في المثال الأول. فظهر بهذين المثالين : أن حقيقة الأزل والأبد لا قدرة للعقول البشرية على الوقوف عليها. ثم نقول : إن هذه الحسابات التي ذكرنا أنها مقادير متناهية ، والعقول البشرية لا سبيل لها إلى الوقوف على ذرة (٤) من ذراتها. إذا كان [الحال في] (٥) المقادير المتناهية كذلك ، فما ظنك بما لا نهاية له؟ فيثبت : أن العقول عاجزة عن الوصول إلى أوائل هذه المعاني ، فضلا عن الانتهاء إلى أواخرها وغاياتها.

وإذا وقفت على حقيقة الأزل والأبد من الاعتبارات المذكورة ، فنقول : هاهنا مباحث لا بد من الوقوف عليها.

فالأول : قالوا : تقدّم الله تعالى على هذا اليوم ، إما أن يكون بمدة متناهية ، أو بمدة غير متناهية ، فإن كان الأول لزم كون الله تعالى حادثا ، وهو محال.

وإن كان الثاني لزم أن يقال : إنه قد انقضى قبل هذا اليوم مدة غير

__________________

(١) إبرة (س).

(٢) التسعة (س ، ز).

(٣) الهند (س).

(٤) كثرة (س).

(٥) من (ز).

٣٣٠

متناهية ، [لكن انقضاء مدة غير متناهية] (١) محال. فكان حصول هذا اليوم موقوفا على شرط محال. والموقوف على المحال : محال. فكان يجب أن يكون حصول هذا اليوم محالا. وحيث لم يكن كذلك : علمنا أن الذي انقضى قبله ، كان متناهيا ، لا غير متناهي.

والثاني : إن الأزل والأبد يتقابلان تقابل المتناقضين ، وكل أمرين هذا شأنهما ، فلا بد وأن يتميز أحدهما عن الآخر ، فيجب أن يكون آخر الأزل متصلا بأول الأبد ، إلا أن هذا محال. لأن كل [حد] (٢) فرض كونه آخرا للأزل ، وأولا للأبد ، فإن آخر الأزل وأول الأبد ، كان موجودا قبله ، لأن الوقت الذي يكون متقدما على ذلك الوقت بمقدار مائة سنة ، يكون خارجا عن الأزل وداخلا في الأبد ، وعلى هذا التقدير يمتنع تميز الأبد عن الأزل ، وقد فرضناه متميزا عنه. هذا خلف.

الثالث : إذا قلنا : كان الله موجودا في الأزل ، وسيكون موجودا في الأبد. فقولنا : كان : يفيد أمرا كان موجودا ، وقد انقضى الآن ، وما بقي. وقولنا : يكون. يفيد أمرا سيكون موجودا في الأبد ، وهو الآن غير حاصل. فإذن كل ما يصدق عليه أنه كان وسيكون ، ففيه أحوال متغيرة متجددة. وذات الله تعالى ، لما كان واجب الدوام ، ممتنع التغير ، وجب أن لا يصدق عليه : أنه كان في الأزل ، وسيكون في الأبد ، وأنه كان الآن ، وكل ما كذبت عليه هذه الألفاظ الثلاثة ، فإنه يمتنع كونه موجودا. هذا خلف.

واعلم : أن مباحث الأزل والأبد ذكرناها على الاستقصاء التام ، في الكتاب المشتمل على البحث عن حقيقة المكان والزمان.

وليكن هذا آخر كلامنا في الكتاب الأول من العلم الإلهي.

وقال المصنف مولانا الداعي إلى الله ، رحمة الله عليه : تم ذلك يوم الجمعة من ذي القعدة سنة ٦٠٣ ثلاث وستمائة. والحمد لله على كل حال.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

٣٣١

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي ، الطاهر الزكي ، وعلى آله وصحبه وسلم. كلما ذكرك (١) الذاكرون ، وغفل عن ذكره الغافلون] (٢).

تم الجزء الأول : من كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» للإمام فخر الدين الرازي.

ويليه الجزء الثاني. وموضوعه : «الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه».

__________________

(١) الصحيح (ذكره).

(٢) من (ز).

٣٣٢

مواضیع الکتاب الاول

من الطالب العالية من الهلم الإلهي

التعريف بكتاب المطالب العالية ، وهو تسعة أجزاء................................ ٥

موضوع الكتاب هو البحث في ذات الله تعالى وصفاته............................. ٧

علم الكلام هو الفلسفة الإسلامية................................................ ٨

علم الكلام الكتاب [٥٤٣ ـ ٦٠٦ ه]........................................ ١١

ثناء العلماء عليه.............................................................. ١١

ومن مؤلفات الإمام فخرالدين الرازي........................................... ١٤

توثيق كتاب المطالب العالية.................................................... ١٥

الجزء التاسع هو آخر أجزاء المطالب العالية.................................... ١٨

مخطوطات الكتاب............................................................ ١٩

مخطوطة أسعد أفندي في تركيا ارسل صورتها

الدكتور حسين آتای الى مصر................................................. ٢٠

صور المخطوطات............................................................ ٢٢

مقدمة مؤلف كتاب المطالب العالية. وفيها فصول................................ ٣٥

الفصل الأول :

في بيان أن هذا العلم أشرف العلوم على الإطلاق................................ ٣٧

الفصل الثاني :

في انه هل للعقول البشرية سبيل الى تحصيل الجزم واليقين في هذا العلم أم يكتفى في بعض

مباحثه ومطالبه بالأخذ بالأولى والأخلق؟........................................ ٤١

الفصل الثالث :

في أن تحصيل هذه المعارف المقدسة هل الطريق إليه واحد ، أم أكثر من واحد؟....... ٥٣

الفصل الرابع :

في ضبط معاقد هذا العلم..................................................... ٦٠

الجزء الأول من كتاب المطالب العالية في الدلائل الدالة على إثبات الآله لهذا العالم المحسوس.

وإثبات كونه واجب الوجود لذاته............................................... ٦٥

٣٣٣

تمهيد........................................................................ ٦٧

القسم الأول من الجزء الأول من كتاب المطالب العالية : في ذكر الدلائل القطعية اليقينية وفيه مقدمة وفصول   ٦٩

المقدمة : في بيان معاقد هذا الباب............................................ ٧١

مقدمة الجزء الأول من كتاب المطالب العالية : الفصل الأول : في مراتب مقدمات هذه الدلائل على الوجه المشهور عند الحكماء..................................................................... ٧٢

الفصل الثاني : في بيان أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر، الإ لمرجح... ٧٤

الفصل الثالث : في تقرير قول من يقول هذه المقدمة استدلالية.................. ٨٧

الفصل الرابع : في حكاية شبهات القائلين بأن رجحان الممكن لا يتوقف على المرجح ٩١

الفصل الخامس : في تقرير الجواب عن هذه الشبهات......................... ١١٥

الفصل السادس : في إيراد نوعين آخرین من السؤال.

على قولنا : الممكن لايد له من مرجح........................................ ١٢٢

الفصل السابع : في بيان أن هذا البرهان المذكور في إثبات معرفة واجب الوجود ، لا يتم على أصول الحكماء إلا بعد إقامة الدلالة على أن العلة واجبة الحصول ، حال حصول المعلول.................... ١٣٠

الفصل الثامن : في إيراد هذا البرهان على وجه آخر.

ویظن أن إيراده على ذلك الوجه يوجب سقوط الأسئلة عنه.

وبيان أن ذلك الظن خطأ من الناس.......................................... ١٣٤

الفصل التاسع : في إقأمة البرهان على أن القول بالدور باطل.................... ١٣٦

الفصل العاشر : في ابطال التسلسل.......................................... ١٤١

الفصل الحادي عشر :

في ابطال التسلسل ، سوى ما تقرر ذكره...................................... ١٥٤

الفصل الثاني عشر : في إيراد سؤال ، على القائل المذكور

٣٣٤

في إثبات واجب الوجود لذاته ، وتحقق الجواب الحق عنه......................... ١٥٨

الفصل الثالث عشر : في حكاية شبهات من يقدح في إثبات واجب الوجود لذاته ١٦٤

الفصل الرابع عشر : في بيان أن العالم المحسوس ، ليس واجب الوجود لذاته... ١٧٠

الفصل الخامس عشر : في اثبات إله العالم ـ عزوجل بناء على التمسك بإمكان الصفات ١٧٧

الفصل السادس عشر : في بيان كيفية الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الإله القادر       ١٨٤

الفصل السابع عشر : في تعديد الدلائل المستنبطة من إمكان الصفات.......... ١٩٢

الفصل الثامن عشر : في إثبات العلم بوجود الإله تعالى ، بناء على التمسك بحدوث الذوات  ٢٠٠

الفصل التاسع عشر : في تقرير طريقة للحدوث ، لا يحتاج فيها إلى ضم الإمكان ٢٠٧

الفصل العشرون : في تقرير قول من يقول : الاستدلال بالحدوث على الفاعل ، لايتم إلا بدليل منفصل          ٢١٠

الفصل الحادي والعشرون : في إثبات العلم بالصانع ، بطريقة حدوث الصفات... ٢١٥

الفصل الثاني والعشرون : في الاستدلال على وجود الإله الحكيم الرحيم ، بكيفية تولد الإنسان من النطفة       ٢١٨

الفصل الثالث والعشرون :

في اقامة الدلالة على وجود إله العالم ، بناء على حدوث الصفات ، من طريق آخر ٢٢٨

الفصل الرابع والعشرون : فی تقریر طريقة أخرى في أثبات الإله ـ تعالى هذا الخلق ٢٣٣

القسم الثاني من الجزء الأول

من كتاب المطالب العالية

في تفصيل الدلائل الدالة على وجود الإله القديم.

الدلائل الموجودة في عالم الأفلاك وعالم العناصر

٣٣٥

وفيه فصول................................................................ ٢٣٧

الفصل الأول :

في بيان أن الاستكثار من هذه الدلائل من أهم المهمات......................... ٢٣٩

الفصل الثاني :

في حكاية كلمات منقولة عن أكابر الناس في هذا الباب......................... ٢٤٠

الفصل الثالث :

في تمديد الدلائل التي تذكرها أصناف طوائف العالم............................. ٢٤٩

القسم الثالث من الجزء الأول :

من المطالب العالية في الكلام في الوجوب والوجود والإرادات والنعين والماهية. وما يشبهها من المطالب والمباحث.

وفيه مسائل............................................................... ٢٧٩

المسألة الأولى : في البحث عن معنى قولنا : إنه واجب الوجود لذاته........... ٢٨١

المسألة الثانية : في أن وجوب الوجود.

هل هو مفهوم ثبوتي ، أم لا؟................................................ ٢٨٣

المسألة الثالثة : في أن وجود الله ـ تعالى نفس ماهيته ، أو صفة زائدة على ماهيته؟ ٢٩٠

المسألة الرابعة : في تحقيق القول في بيان أن المبدأ الأول. هل هو تلك الحقيقة المخصوصة؟         ٣١١

المسألة الخامسة : في بيان أنه ـ سبحانه ـ يخالف جملة الممكنات ، لذاته المخصوصة لا لصفة زائدة على الذات        ٣١٣

المسألة السادسة : في بيان كونه ـ تعالى ـ قديماً أزليا............................ ٣١٨

المسألة السابعة : في استقصاء الكلام في حقيقة الأزل والأبد.................. ٣٢٩

فهرس مواضيع الكتاب الأول من المطالب العالية.............................. ٣٣٣

تم فهرس الجزء الأول من كتاب المطالب العالية من

العلم الإلهي. للإمام فخر الدين الرازي

٣٣٦