المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

واعلم أن هذا الدليل مأخوذ من القرآن ، قال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١).

الثالث : كان أبو حنيفة سيفا على الدهرية وكانوا ينتهزون الفرصة في قتله فبينما هو قاعد في مسجده يوما إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهموا بقتله. فقال لهم : أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا : هات. فقال : ما تقولون في رجل يقول لكم : إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال ، مملوءة من الأثقال ، قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ، ورياح مختلفة ، وهي في هذه الأحوال تجري مستوية ، ليس لها ملاح يجريها ، ولا متعهد يحفظها. هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا : لا ، هذا شيء لا يقبله العقل. فقال : أبو حنيفة يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري من غير متعهد ولا حافظ ، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها ، وسعة أطرافها ، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟ فبكوا جميعا ، وقالوا : صدقت.

واعلم أن هذه الدلالة مأخوذة من قوله سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (٢) ومن قوله تعالى (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٣)

الرابع : سألوا الشافعي [رضوان الله عليه] (٤) عن الدليل عن الصانع فقال : ورقة الفرصاد طعمها ولونها ، وريحها ، وصبغها : واحد. تأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم ، ويأكلها النحل فيخرج منه العسل ، وتأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك ، وتأكلها سائر الحيوانات فتفضل مع العفونة والفساد. فالذي دبر هذه الأجسام على هذه المناهج العجيبة : هو الله سبحانه.

__________________

(١) العنكبوت ٦٥.

(٢) الروم ٢٥.

(٣) الرعد ٢.

(٤) من (س).

٢٤١

الخامس : سئل جعفر الصادق [رضي الله عنه] (١) عن هذه المسألة أيضا فقال : شاهدنا قلعة حصينة ملساء ، ظاهرها كالفضة المسبوكة ، وباطنها مملوء من الذهب المذاب [والفضة المذابة] (٢) ثم انشقت الجدران ، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير. فلا بد من مدبر يدبره ، وصانع يخلقه. وعنى بالقلعة : البيضة. وبالحيوان : الفرخ.

السادس : سأل هارون الرشيد مالكا عن ذلك ، فاستدل باختلاف الأصوات ، وتردد النغمات ، وتفاوت اللغات ، وهو مأخوذ من القرآن في قوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) (٣).

السابع : سئل أبو نواس عن هذه المسألة فقال :

تأمل في نبات الأرض وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

الثامن : سئل أعرابي عن الدليل. فقال : البعرة تدل على البعير ، والروث على الحمير، وآثار الأقدام على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، أما تدل على العليم القدير؟

التاسع : قيل لطبيب : بم عرفت ربك؟ فقال : بإهليلج مخفف أطلق ، ولعاب ملين أمسك. وقال آخر : عرفته بحيوان صغير ، وضع السم في أجد طرفيه ، والشفاء في طرفه الآخر. وعنى به النحل.

العاشر : سئل أبو حنيفة عن الدليل مرة أخرى فقال : اصبروا فإن قلبي مشغول ببعض المهمات ، وإذا فرغت منه أخبرتكم (٤) بذلك [الدليل] (٥) فقالوا : وما ذلك المهم؟ فقال : إن أمتعتي من ذلك الجانب من دجلة ، وإن

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) الروم ٢٢.

(٤) أجب لكم (ز).

(٥) من (ز).

٢٤٢

بعض السفن تذهب بنفسها إلى ذلك الجانب وتلك الأمتعة تقع في تلك السفينة من تلقاء ذواتها ، وتمتلئ السفينة من تلك الأمتعة [وتعود إلى هذا الجانب ، وتخرج الأمتعة من تلقاء نفسها ، وتقع على الأرض ، وإن تلك السفينة] (١) تعود مرة أخرى إلى ذلك الجانب. فقلبي متعلق. بهذا [المعنى] (٢) المهم ، فاصبروا إلى أن يتم. فقالوا يا أبا حنيفة. هذا الكلام لا يقوله إلا معتوه. قال : ولم؟ قالوا : لأن حدوث هذه الأحوال ، وظهور هذه الأفعال لا يعقل إلا بحافظ يحفظها ، وفاعل يدبرها. فكيف يعقل حدوثها من غير فاعل؟ فقال : أبو حنيفة : فالآن أقررتم بوجود الإله. لأن أحوال هذا العالم ليست أقل درجة من أحوال هذه السفينة. فإذا كان صريح العقل شاهد بأن هذه الأحوال لا تتم إلا بمدبر ومقدر ، فأولى أن لا تتم أحوال هذا العالم إلا بمدبر ومقدر؟

واعلم أن مقصود أبي حنيفة من هذا الكلام : التنبيه على أن العلم بافتقار الحادث [إلى المحدث علم بديهي] (٣) ضروري غني عن الدليل.

الحادي عشر : سئل جعفر بن محمد مرة أخرى عن الدليل فقال : أقوى الدلائل على وجوده : وجودي [وذلك لأن وجودي] (٤) حدث بعد أن لم يكن. فله فاعل.

ويمتنع أن يقال : فاعل وجودي أنا. لأنه لا يخلو إما أن يقال : أنا أحدثت نفسي ، حال ما كنت موجودا ، أو حال ما كنت معدوما. فإن أحدثت نفسي حال ما كنت موجودا فالموجود أي حاجة به إلى الموجد؟ وإن أحدثت نفسي حال ما كنت معدوما [فالمعدوم] (٥) كيف يكون موجدا للموجود؟ فدل هذا على أن الصانع الفاعل لوجودي : موجود غير غيري.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

٢٤٣

الثاني عشر : سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (١) عن الدليل [فقال : الدليل عليه] (٢) نقص العزائم ، وفسخ الهمم ، وتقرير هذا الدليل : هو أن الإنسان يسعى في تحصيل شيء من المطالب [على أقصى الوجوه] (٣) ويتعذر عليه ذلك وقد لا يسعى في تحصيله البتة فيحصل. فلو كان حصول هذه الأحوال بسعيه ، لوجب أن يحصّل ما سعى في تحصيله ، وأن يمتنع ما سعى في امتناعه ، ولما كان الأمر بالعكس من ذلك. علمنا : أن تدبير أحوال هذا العالم ، وتقدير حوادثه يتعلق بحكمة موجود قهر بقدرته قدر العباد.

الثالث عشر : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الدليل. فقال : إن الناس يبالغون في تعظيم الأعاجم [حيث استخرجوا] (٤) علم الشطرنج فإنهم وضعوا طريقا عجيبا ، يظهر في الرقعة المختصرة أنواعا من اللعب والمماسات غير متناهية. ثم قال : وإن رقعة وجه الإنسان أصغر من رقعة الشطرنج ، وإن تلك المماسات (٥) الموضوعة في بيوت الشطرنج قد تنتقل من بيت إلى بيت ، وأما الأعضاء الموضوعة في رقعة وجه الإنسان فإنها لا تنتقل عن أمكنتها. ثم مع هذه الأحوال ، فإنك لا ترى إنسانين في المشرق ، والمغرب يتشابهان في صورة الوجه البتة. وهذا يدل على كمال قدرة هذا الخالق المصور. حيث أظهر الأنواع التي لا نهاية لها من التفاوت ، في هذه الأجسام القليلة الموضوعة في هذه الرقعة الصغيرة.

واعلم أنك إذا وقفت على هذه الدقيقة علمت أنه لا يوجد إنسانان تتشابه صورتاهما البتة ، ولا يوجد إنسانان تتشابه أحوالهما حتى أن كل واحد لا بد وأن يخالف صاحبه في الطبع والخلق والمشي وفي كور العمامة. وفي الخط ، والكتابة ، والحظ من السعادة والشقاوة. وهذا باب واسع وبحر لا ساحل له.

__________________

(١) كرم الله وجهه (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) المناسبات (ز).

٢٤٤

الرابع عشر : قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل رأيت ربك؟ فقال : لا أعبد ربا لم أره. فقيل له : كيف رأيته؟ فقال : ما رأته [العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته] (١) القلوب بحقائق العرفان. فقيل له : صف ربك. فقال : إن ربي لطيف الرحمة ، كبير الكبرياء ، جليل الجلالة ، قبل كل شيء ، وليس له قبل ، وبعد كل شيء ، وليس له بعد ، ظاهر لا بتأويل المباشرة ، باطن لا بالمباعدة ، سميع بلا آلة ، بصير بلا حدقة ، لا تحده الصفات ، ولا تأخذه السنات ، القدم وجوده ، والأبد أزليته. الذي أيّن الأين. لا يقال له : أين ، والذي كيّف الكيف ، لا يقال له : كيف.

الخامس عشر : قيل لذي النون المصري : بم عرفت ربك؟ قال : عرفت ربي بربي ، ولو لا ربي [أخبرني] (٢) لما عرفت ربي.

واعلم أن معنى الكلام : أنه سبحانه غرس شجرة المعرفة في أراضي الأرواح ، فهذه الشجرة أرضها الطاعة ، وماؤها العبودية ، وأغصانها الذكر ، وثمرتها الفكر ، فمن واظب على هذه الأعمال وجد هذه الآثار ، ولو لا أنه سبحانه ملأ الأرواح من معرفته ، وأنار القلوب بمحبته ، وإلا فكيف يليق بكف من التراب ، معرفة رب الأرباب؟ وهذا الكلام الذي ذكره ذو النون مأخوذ من قول [النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٣).

والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ، ولا صلينا

السادس عشر : كان رجل مضطجعا في ظل شجرة فسقطت ورقة من تلك الشجرة على وجهه ، فتعجب من كيفية تولد هذه الورقة الخضراء الناعمة من تلك الخشبة اليابسة الكثيفة ، فقال : من الذي أنبت الورق على الشجر؟ [فنام فرأى في منامه كأن قائلا يقول: الذي أنبت الورق على الشجر] (٤) هو

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

٢٤٥

الذي شق على الوجه البصر.

ويقرب من هذه الحكاية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان يقرأ في سجدة التلاوة : «سجد وجهي للذي خلقه [وصوّره] (١) وشق سمعه وبصره بحوله وقوته» وكان علي ابن أبي طالب يقول: سبحان من بصرني بشحم ، وأسمعني بعظم ، وأنطقني بلحم (٢).

السابع عشر : كان بعض الملوك قد وقع في قلبه شك في وجود الله تعالى ، وكان له وزير عاقل ، وكانت العادة جارية بأن ذلك الوزير كان يتخذ لذلك الملك ضيافة في كل سنة مرة واحدة فأمر الوزير في بعض المفاوز الخالية بوضع الزرع والضرع فيها وباجراء المياه الجارية وبناء البساتين الطيبة ، ووضع القصور العالية. ثم حضر السلطان في تلك المواضع فتعجب السلطان ، وقال للوزير : كيف عمرت هذه المواضع؟ فقال الوزير : أطال الله بقاء السلطان إني ما عمرتها ، ولكنها كانت خرابا قفرا الى هذه الأيام القريبة ، ثم إنا لما عدنا وجدنا هذه الأشياء حدثت من تلقاء نفسها من غير بان ولا مصلح ، فاشتد غضب السلطان ، وقال : كيف يليق بمثلك أن يهزأ بي؟ فقال : أطال الله بقاء السلطان ، إذا كان حدوث هذا القدر من العمارة بلا معمار ولا مصلح ممتنعا ، فحدوث العالم الأعلى والأسفل مع كثرة ما فيها من العجائب ، والغرائب بلا موجد (٣) ولا مدبر أولى بالامتناع. فانتبه السلطان من هذا الكلام ، وعاد إلى الدين الحق.

الثامن عشر : سئل جعفر بن محمد [الصادق] (٤) عن الدليل فقال للسائل : أخبرني عن حال هذا العالم ، لو كان له مدبر [ومباشر] (٥) وحافظ.

__________________

(١) من (ز).

(٢) في (س) : أبصر بشحم.

(٣) مقدر (ش).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

٢٤٦

أما كان يزيد حاله حينئذ على هذه الأحوال الموجودة؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فهذه الأحوال وجب أن تكون دالة على أن لها [إلها] (١) مدبرا حكيما.

التاسع عشر : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» وجاء في التوراة : «يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك» (٢) وعند هذا قال أهل التحقيق : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، لا بطريق المساواة بل بطريق المخالفة ، يعني من عرف نفسه بالحدوث ، عرف ربه بالقدم ، ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب.

ومن عرف نفسه بالتركيب [والتأليف] (٣) عرف ربه بالوحدانية والفردانية ومن عرف [نفسه] (٤) بالجهل والعجز والحاجة ، عرف ربه بالعلم والقدرة والاستغناء. وعلى هذا الباب فقس.

العشرون : روي أن الموفق بالله لما حجّ ، وكان قد حضر عنده جمع من المنجمين مثل أبي معشر البلخي ، وما شاء (٥) الله وغيرهما. فقال لهم : إني اسمع أنكم تدعون أن الإنسان يضمر في قلبه ضميرا ، وأنتم تستخرجون ضميره (٦) وأنا أضمرت الآن ضميرا فاستخرجوه. ثم إن أولئك المنجمين استخرجوا طالع الوقت ، وقال كل واحد منهم كلاما ، فلم يوافق كلام أحد منهم. فقال أبو معشر البلخي : أضمرت ذكرت الله. فقال : صدقت. فأخبرني كيف عرفت؟ فقال : لأنك لما أضمرت أخذت ارتفاع الوقت (٧) فوجدت نقطة الرأس وسط السماء ، ونقطة الرأس شيء لا يرى ذاته ، ويرى آثار خيره ورحمته [ووسط السماء أرفع موضع في الفلك. فعرفت أنك أضمرت ذكر موجود لا ترى ذاته ويرى آثار خيره ورحمته (٨)] وذلك الموجود هو أرفع

__________________

(١) من (ز).

(٢) يحتمل أن المعنى من إرمياء ١١ : ١٨.

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) الكلمة غير واضحة.

(٦) سقط (س) وبدلها الضمير [انه].

(٧) الارتفاع (ز).

(٨) من (س).

٢٤٧

الموجودات. وليس أرفع هذه الموجودات إلا الله تعالى. فعرفت بهذا الطريق أنك أضمرت ذكر الله تعالى ، فأحسن القوم منه هذا الكلام.

واعلم. أن أمثال هذه الوجوه فيها كثرة ، والقدر الذي ذكرناه ينبه على البقية [والله أعلم بالصواب] (١).

__________________

(١) من (ز).

٢٤٨

الفصل الثالث

في

تعديد الدلائل التي تذكرها أصناف طوائف العالم

اعلم. أن أصناف العلوم وأقسامها كثيرة ، ولكل واحد من أصناف العلماء طريق يختص به في إثبات معرفة الله تعالى. ونحن نعدها :

الطائفة الأولى : العلماء الباحثون عن تواريخ أهل الدنيا ، ومعرفة الأحوال الماضية من أحوال هذا العالم :

ودليل هذا الصنف من العلماء على إثبات الإله لهذا العالم من وجهين.

الأول : قالوا إن البحث عن تواريخ أهل الدنيا يدل على أنه لم يوجد تحت قبة (١) السماء طائفة منهم. كثيرة معتبرة ينكرون وجود الله تعالى. وإنما النزاع الواقع بين الخلق في الصفات.

أما الاعتراف بوجود شيء يدبر هذا العالم. فأمر متفق عليه بين الكل. والذي يدل عليه : أن أهل العالم فريقان : منهم من (٢) يعترف بنبوة الأنبياء ، ومنهم من ينكر النبوة.

أما المعترفون بنبوة الأنبياء [عليهم‌السلام] (٣) فلا نزاع في أنهم معترفون

__________________

(١) أديم (س).

(٢) منهم من يقول نعترف (س).

(٣) من (ز).

٢٤٩

بوجود الله تعالى. أما المسلمون فالأمر بينهم ظاهر ، وأما اليهود فاعترافهم بوجود الإله تعالى أظهر من أن يحتاج الى البيان والذكر.

والذي يذكرونه كثيرا قولهم : «ألوهيم. أدوناي. آهيا شراهيا» (١). وكل ما في التوراة من معجزات موسى عليه‌السلام فهو بعينه دليل وجود الإله تعالى ، وكان موسى يقول : «إلهكم هو الذي أتى بهذه العجائب ، وأظهر عجائب الغرائب» وأما النصارى فاعترافهم بوجود الإله ظاهر ، ويقولون : «أبدا ، إلها ، ربا ، قديسا» والتفاوت بين السريانية وبين العربية (٢) قليل. وأما المجوس : فإنهم يسمون الله تعالى بلغتهم : (٣) أهرمن ، أو يزدان. يزعمون : أنهم إنما جعلوا النار قبلة صلاتهم. لأن النار جسم مشرف عالي قاهر ، وهذه الصفات تتناسب مناسبة غير بعيدة لصفات جلال الله من بعض الوجوه ، فلهذا السبب جعلوا النار قبلة صلاتهم ، وخصوها بمزيد من التعظيم ، وقال (٤) زردشت في كتاب «زند أوستا» وهو الكتاب الذي زعم أن الله أنزله عليه : «وتبدو لهم بهيئة أهرمن» (٥).

والأعاجم كانوا يقولون «خداى» [وترجمته بالعربية : أنه بنفسه جاء يعني أنه بذاته وجد ، وحصل (٦)] وتفسيره : أنه واجب الوجود لذاته.

__________________

(١) في الأصحاح الثالث من سفر الخروج : «وقال الله أيضا لموسى : هكذا تقول لبني إسرائيل : يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق ، وإله يعقوب ، أرسلني إليكم. هذا أسمى إلى الأبد» وفي نفس الأصحاح قبل ذلك : «فقال موسى لله : ها أنا آتي إلى بني إسرائيل ، وأقول لهم : إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي : ما اسمه؟ فما ذا أقول لهم؟ فقال لله لموسى : أهيه الذي أهيه» [خروج ٣ : ١٣ ـ] وفي التوراة وردت كثيرا هذه العبارة: «وكلم الرب موسى قائلا : كلم بني إسرائيل وقل لهم ..» وفي الإنجيل : «فأجابه يسوع : إن أول كل الوصايا هي : يا إسرائيل : الرب الهارب واحد» [مرقس ١٢ : ٢٩].

(٢) السريانية (الآرامية) والعبرية. والعربية : الفروق بينهم قليلة جدا.

(٣) يقول الشهرستاني في «الملل والنحل» : «ثم إن التثنية اختصت بالمجوس ، حتى أثبتوا أصلين اثنين مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر ، والنفع والضر ، والصلاح والفساد. ويسمون أحدهما النور ، والآخر الظلمة. وبالفارسية : يزدان وآهرمن».

(٤) وقال يزداد شيئا في كتاب لابستا (ز) وفي (س) كتاب لابستا ـ والتصحيح من الشهرستاني ـ.

(٥) عبارة (ز) : ويكمان تلمسية فلو من. وعبارة (س) وتبدو لهم بهيئة هرمز.

(٦) من (ز).

٢٥٠

فهذه الطوائف الأربع وهم الطوائف المعتبرون ممن يقر بنبوة الأنبياء عليهم‌السلام كلهم مطبقون متفقون على الإقرار بوجود الله تعالى (١).

وأما سائر الطوائف :

فأحدها : أهل الجاهلية : وهم العرب الذين كانوا موجودين قبل ظهور الإسلام ، وكلهم كانوا مطبقين على الإقرار بوجود الإله (٢) ، والدليل عليه [قوله تعالى (٣) حكاية عنهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ : اللهُ) (٤) وقال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ؟ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥) وكانوا يطلقون لفظ الإله على الأوثان ، أما لفظ الله فما كانوا يذكرونه إلا في حق الله تعالى.

والصنف الثاني : من أصناف أهل الدنيا : [الهند ، وكلهم مطبقون على الإقرار بوجود الإله الحكيم الرحيم ، ولذلك فإنهم يبالغون في العبادة ويحرقون أنفسهم بالنار ، على حب الله تعالى.

والصنف الثالث : من أهل الدنيا] (٦) : الزنوج وهم أبعد طوائف أهل الدنيا [عن العقل] (٧). ومع ذلك فهم مقرون بوجود إله العالم ، ويقولون : ملكرى جلوى (٨) ومعناه : الرب الأعظم.

والصنف الرابع : من أهل الدنيا : الترك ، وهم مقرون بوجود الإله تعالى فيقولون : به ينكرى (٩) ، يعني الرب واحد ، وقد يقول بعضهم : ألغ بايات. ومعناه الغني الأعظم.

والصنف الخامس : أهل الصين. ولهم علو عظيم من الإقرار بوجود الإله المدبر الحكيم.

__________________

(١) الإله (س).

(٢) الله تعالى (س).

(٣) من (س).

(٤) الزمر ٣٨.

(٥) إبراهيم ١٠.

(٦) من (ز).

(٧) من (ز).

(٨) ملكوى جلوى (ز).

(٩) به ينكرى (ز).

٢٥١

والصنف السادس : الروم والبربر ، والقبط ، والحبشة ، وهؤلاء الغالب عليهم النصرانية. وفيهم المسلمون. وعلى التقدير فهم مقرون بوجود الإله تعالى.

والصنف السابع : اليونانيون ، وهم كانوا كالمشعوذين بهذا العلم [والعمل عليه] (١) وما طلبوا علما من العلوم الدقيقة ولا بغوا بحثا من المباحث النفيسة إلا ليتوسلوا به إلى معرفة [وجود الإله تعالى ومعرفة] (٢) صفات كبريائه.

فهذا هو ضبط [أصناف] (٣) أهل الدنيا ، وكلهم مطبقون على وجود الإله.

والتواريخ القديمة دالة على أن أهل الدنيا من الدهر الداهر ، والزمان الأقدم ، هكذا كانوا وما كان فيهم أحد ينكر وجود الإله تعالى.

وإذا ثبت هذا فنقول : إن من المعلوم بالضرورة أن عقل [جميع] (٤) أهل المشرق والمغرب في مدة سبعة آلاف سنة ، أو أقل ، أو أكثر : أزيد من عقل واحد مغمور بين الخلق. فعلى هذا لو اتفق لإنسان واحد شبهة ، أو شك في وجود الإله [تعالى] (٥) فيجب أن يقطع بأن ذلك الشك أو الشبهة لقصور عقله وقلة فهمه ، لا لعدم المطلوب. فإن صريح العقل شاهد بأن عقول جملة الخلق في هذه الدهور المتطاولة ، كانت أكمل من عقل هذا الواحد. فهذا طريق قوي جلي في إثبات العلم بوجود الإله الحكيم ، بشرط أن يعترف الإنسان بأن عقله أقل من عقل الكل [ونسأل الله الرحمة] (٦).

والوجه الثاني : من دلائل هذه الطائفة : أن أصحاب التواريخ لما بحثوا

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

٢٥٢

عن أحوال الدنيا وفتشوا عن أخبارها ، وجدوا أن كل طائفة كان تمسكهم بعبودية الله أشد ، وكان اشتغالهم بعبادة الله أكثر ، وكانت مواظبتهم على ذكر الله [تعالى] (١) وعلى الفكرة في دلائل الله أكثر ؛ كانوا في الدنيا أحسن ذكرا ، وأطول أعمارا ، وأكثر خيرا ونعمة ، وأبعد عن الشرور ، والآفات ، وأقرب إلى دوام الخيرات والسعادات. وكل من كان أبعد عن طاعة الله ، وأكثر استغراقا في طلب الدنيا وحبها ، كانوا إلى الهلاك والشرور أقرب ، وإلى الوقوع في الآفات والمخافات أوصل. وهذه أحوال لا يعرفها إلا من طالت تجربته في أحوال أهل الدنيا ، وكثرت فكرته في كيفية أحوالهم ، وطالع أيضا كتب التواريخ ، وعرف أحوال الماضين من المقرين والمنكرين ، فإنه يقطع بعد التجربة التي ذكرناها وبعد الأفكار التي أرشدنا إليها : أن الأمر كما ذكرناه ، وأنه لا شبهة في حقيقة ما ادعيناه.

ومما يقوى ذلك وجوه :

الأول : إن وقوع الظلمة ، وطلاب الدنيا في أنواع القتل والنهب ، أكثر من وقوع أهل العلم والعمل ، في تلك الآفات.

الثاني : إن المدرسة الحقيرة [المبنية] (٢) لأهل العلم ، والرباط الحقير المبني لأهل الطاعة قد يبقى مائتي (٣) سنة أو ثلاثمائة سنة ، وأما القصور العالية ، والأبنية المشيدة التي للملوك ، فإنها لا تبقى إلا زمانا قليلا ، وذلك يدل على ما قلناه.

الثالث : إن باني المدارس والرباطات ، كلما كان أقرب إلى الدين والطاعة ، كانت أبنيته أبقى.

الرابع : إن ذكر أهل (٤) العلم وأهل الدين أبقى من ذكر الظلمة وأهل الشر.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) مائة (س).

(٤) أهل الدين والطاعة (س).

٢٥٣

الخامس : إن ميل القلوب إلى أهل الدين ، والطاعة ، أكثر من ميلها إلى أهل الدنيا ، وكل ذلك يدل على أن كل من كان أوغل في عبودية الله ، كان أقرب إلى الخيرات ، ولما رأينا بحسب هذه التجربة أن الإقرار بالإلهية ، والاعتراف بوجوب الطاعة والخدمة ، كمال السعادات في الدنيا. فهذا من أدل الدلائل على وجود الإله الرحيم الحكيم.

وهذا النوع من الدلائل كثير في القرآن العظيم. قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١) وقال : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) إلى قوله : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ، وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢).

وبالجملة : فلما دلت المشاهدة والتجربة على أن الاعتراف بهذه المعاني سبب لانفتاح أبواب السعادات [والإعراض عنها سبب لانفتاح أبواب الآفات] (٣) علمنا أن الطريق الحق والمنهج الصدق هو الإقرار بوجود الإله الحكيم الرحيم. فهذا هو الإشارة إلى الدلائل المستنبطة من علم التواريخ على وجود الإله لهذا العالم.

الطائفة الثانية : طوائف أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات :

واعلم أن طريقهم يدل على وجود الإله الحكيم الرحيم من أنواع :

النوع الأول : أن نقول : إن صريح العقل شاهد بأن الموجودات على ثلاثة أقسام : الأجسام ، وصفات الأجسام ، والذي لا يكون جسما ولا حالا في الجسم.

أما القسمان الأولان فهما اللذان يسميان الجسمانيات.

وأما القسم الأخير : فهو المسمى بالروحانيات ، فثبت بهذا التقسيم : أن الموجودات إما جسمانية ، وإما روحانية. إذا عرفت هذا فنقول : إن فطرة جميع

__________________

(١) يوسف ١١.

(٢) الدخان ٢٩.

(٣) من (ز).

٢٥٤

العقلاء الكاملين تشهد بأن الموجودات الروحانية موجودة. وأنها مع كونها موجودة فهي أعلى، وأكمل وأشرف من الموجودات الجسمانية.

والذي يدل على ما ذكرناه وجوه اعتبارية.

فالأول (١) : إن كل إنسان كان استغراقه في حب الجسمانيات أكثر ، وكان شغفه بوجدانها والوصول إليها أشد ، كان عند العقلاء من الناس أكثر حقارة وأكمل خساسة ، وكل من كان إعراضه عن الجسمانيات أكثر ، وكان التفاته إليها أقل ، وكان شغفه بالفكر في طلب المعارف أتم ، كان عند كل الخلق أعلى حالا ، وأكمل درجة. والذي يقرر هذا : أنهم إذا اعتقدوا في إنسان أنه جعل أيامه وذكره ، وفكره وقفا على تحصيل المطعوم والملبوس والمنكوح ، وصار بالكلية معرضا عن الأحوال الروحانية ، فإن كل عاقل يقضي عليه بأنه من البهائم ، وأنه خارج عن صفة (٢) الإنسانية ، وينظرون إليه بعين الحقارة والإهانة ، ولا يقيمون له في نظرهم البتة (٣) وزنا.

وأما إذا اعتقدوا فيه أنه معرض عن طلب هذه الجسمانيات ، وقليل الميل إليها ، وعديم الالتفات إليها ، فإنهم يعظمونه ويعترفون له بوجوب التعظيم والاعتراف بالتقديم.

واعلم : أن هذا الحكم غير مختص بالعقلاء والأكياس من الناس بل جميع طوائف أهل العالم مطبقون متفقون على هذا الحكم ، وهذا يدل على أن جميع الخلق مطبقون على تحقير الجسمانيات ، وعلى تعظيم الروحانيات. بل نقول : إن الأجلاف من الترك والهند والزنج ، مقرون بهذه الأحوال ، لأنهم يحترمون شيوخهم ويعظمونهم ، وما ذاك إلا أنهم اعتقدوا فيهم أنهم بسبب طول العمر عرفوا ما لم يعرفوه ، ووقفوا على ما لم يقفوا عليه ، فلأجل هذا الخيال يحترمونهم حتى إذا أحسوا من بعض الشيوخ بأفعال لا تليق بالمشايخ ، فإنهم يبالغون في

__________________

(١) هذا هو النوع الأول. والنوع الثاني يأتي بعد قليل ، وهو عن الجسمانيات.

(٢) مرتبة (س).

(٣) من (ز).

٢٥٥

إهانته واذلاله ، ويزيدون إهانته على إهانة الصبيان ، وكل ذلك يدل على أن إهانة الجسمانيات ، وتعظيم الروحانيات أمر مركوز في العقول ، مغزوز في النفوس ، يعترف به أهل الملل والنحل ، ويقر به جميع طوائف أهل العالم بل نزيد ونقول : إن الصبيان إذا رأوا الأكابر من الناس يخشونهم ، ويفرون منهم ، وما ذاك إلا لأجل إن روحانية الأكابر أقوى من روحانية الأصاغر بل نزيد ونقول : إن السباع القوية ، والبهائم الشديدة إذا رأت الإنسان فإنها تهابه وتحتشمه ، مع أن الإنسان بالنسبة إليها في غاية الضعف ، وما ذاك إلا لأن الصفات الروحانية مهيبة معظمة بالطبع ، السباع والبهائم الشديدة القوية ، تهاب الإنسان وتحترمه وتعظمه وتفر منه لهذا السبب.

فثبت بهذه التنبيهات : أن تعظيم جانب الروحانيات على الجسمانيات كالأمر المتفق عليه بين جميع الحيوانات.

والوجه الثاني : من الدلائل الدالة على ترجيح جانب الروحانيات على جانب الجسمانيات : أن الصبي إذا بلغ إلى حد أن يفهم الكلام ، فإن المرأة الشيخة إذا جلست وذكرت الحكايات من باب الخرافات لذلك الصبي [صار الصبي] (١) مستغرقا في سماع تلك الخرافات ، فإذا عرض عليه أطيب الطعام وألذ الشراب ، فإنه يعرض عنه ، ولا يلتفت إليه ، ويبقى مشتغلا بسماع تلك الحكايات ، وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بسبب سماع تلك الخرافات أشد وأقوى من اللذة الحاصلة من ذلك الطعام [ومن ذلك] (٢) الشراب ، وذلك [يدل] (٣) على أن الروحانيات أقوى حالا من الجسمانيات ، وكذلك المشتغل بلذة (٤) النرد والشطرنج ، قد يبقى معرضا عن الأكل والشرب مدة طويلة مع أنه لا يحس [البتة] (٥) بألم الجوع والعطش ، وما ذاك إلا لأن لذة الغلبة ، آثر

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) يلعب (س).

(٥) من (س).

٢٥٦

عنده من لذة الأكل والشرب والوقاع ، وكل ذلك يدل على أن الروحانيات أشرف وآثر من الجسمانيات.

والوجه الثالث : أن كل ما كان سعادة وغبطة وكمالا ، فإن إظهاره يكون مطلوبا لكل أحد ، وإذا كان إظهاره مستقبحا عند كل أحد ، فيدل على أن ذلك الشيء ليس من جنس الكمالات.

إذا عرفت هذا فنقول : أقوى اللذات الجسمانية : لذة الوقاع فلو كانت هذه اللذة من جنس السعادات والكمالات ، لوجب أن يكون إظهارها مستحسنا في العقول ، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، بل العاقل يستحي من ذكره فضلا عن إظهاره. وأيضا : قد جرت العادات (١) بأن الناس لا يشتم بعضهم بعضا إلا بذكر الألفاظ الدّالة على تلك الأحوال ، ولو كانت [تلك] (٢) اللذة من باب السعادات لما كان ذكرها أعظم أنواع الشتم [والإهانة] (٣) وكل ذلك يدل على أن هذه الأحوال ليست من باب [السعادات] (٤) البتة.

فأما الأحوال الروحانية ، وهي العلم بحقائق الأشياء ، والإعراض عن الجسمانيات ، والإقبال على عالم الروحانيات ، فإن كل أحد يبتهج بها ويستسعد بذكرها ، حتى أن من كان خاليا عنها ، فإنه يأتي بأفعال وأحوال توهم كونه موصوفا بها ليتوسل بذلك إلى إقبال الناس على خدمته ، والانقياد الى طاعته. وكل هذه الاعتبارات دالة على أن الجسمانيات مستحقرة باتفاق الخلق [وعلى أن الروحانيات مهيبة معظمة باتفاق جمهور الخلق] (٥).

والوجه الرابع : [من الاعتبارات (٦)] الدالة على صحة ما ذكرناه : إنا نجد القلوب والنفوس كلها اتفقت [على أن الإنسان ، كلما أقبل] (٧) على ذكر الدنيا وكيفية الحيلة في تحصيلها ، وترتيب الوجوه التي بها يتوسل إلى الفوز بها ،

__________________

(١) العادة (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

(٧) زيادة.

٢٥٧

أظلم روحه ، وضاق قلبه ، وكثر ضجره وعظم اضطرابه ، وبقي في الحيرة ، والدهشة ، وكلما كان توغله في حب الدنيا وطلب خيراتها أكثر ، كانت هذه الأحوال الموحشة الظلمانية عنه أقوى وأكمل. أما إذا قلبت القضية وقلت : كلما أعرض عن اللذات الجسمانية ، وأقبل على طلب المعارف ، وعلى عالم الروحانيات ، حصل في قلبه أنواع البهجة والراحة والسرور [فإنك تكون على صواب] (١) وإلى هذا التحقيق الإشارة بقوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢). وكل ذلك يدل على أن الروحانيات أكمل حالا من الجسمانيات.

والوجه الخامس : في تقرير هذا المعنى أن الإنسان إذا حصل في قلبه نور من أنوار عالم الروحانيات ، قويت قوته ، وعظمت شوكته ، وصار بحيث لا يبالي بملوك الدنيا ، وكل ما سواه ، فإنهم يهابونه ويستعظمون القرب منه.

قال على بن أبي طالب : «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة إلهية». وأيضا : «فالأنبياء والأولياء لا يبالون بكثرة الأعداء ، ولا يقيمون لهم وزنا عند ظهور الأحوال الروحانية عليهم ، فدلت هذه الاعتبارات على أن العالم الروحاني أعلى وأعظم وأبهج من العالم الجسماني.

إذا عرفت هذا فنقول : إن أصحاب الرياضيات والمشاهدات ، قد انكشف لهم : أن العالم الجسماني [كالمثال للعالم الروحاني ، وأن الأصل هو العالم الروحاني ، وأن العالم الجسماني] (٣) كالظل ، والرسم ، والخيال ، من العالم الروحاني.

وإذا عرفت هذا فنقول : فلنعتبر (٤) أحوال العالم الجسماني ، ثم ننتقل منها إلى اعتبار عالم الروحانيات ، فنقول : إنا (٥) إذا تأملنا في موجودات هذا العالم الجسماني ، وجدناها مختلفة الدرجات في مراتب الكمال والنقصان ،

__________________

(١) زيادة.

(٢) الرعد ٢٨.

(٣) من (ز).

(٤) فلنعرف (س).

(٥) لما تأملنا (س).

٢٥٨

وذلك لأن الجسم المحض ، الخالي عن القوى النفسانية يكون في غاية النقصان ، مثل طبقات العناصر [الأربعة] (١).

ثم إن هذه العناصر الأربعة أيضا متفاوتة في الكمال والنقصان ، وكل عنصر كانت الجسمانية فيه أكثر ، والروحانية أقل ، كان أخس. وكل عنصر كانت الروحانية فيه أكثر كان أشرف. فأخس العناصر هو الأرض لأنه ليس فيها إلا القبول والتأثير ، والقوة الفاعلة فيها ضعيفة جدا. وأما الماء فإنه بسبب ما فيه من اللطافة والحركة حصلت له قوة مؤثرة ، فلا حرم كان الماء بالنسبة إلى التراب كالروح بالنسبة إلى البدن. ولما كان الهواء أكمل لطافة ، وأصفى جوهرا من الماء [لهذا السبب ، فإن الهواء مستولي على الماء] (٢) وأما النار فإنها لما كانت مشرقة عالية قوية على الفعل والتأثير ، لا جرم كانت أشرف العناصر وأعلاها. وظهر أنا لما اعتبرنا أحوال العناصر الأربعة وجدنا أنها كلما كانت أقل روحانية ، كانت أخس. وكلما كانت أكثر روحانية كانت أشرف وأعلى ، وهذا الاعتبار أيضا يدل على أن الروحانيات أشرف من الجسمانيات.

وأما الأجسام السفلية المركبة فهي ثلاثة أنواع : المعادن ، والنبات ، والحيوان. ولا شك أن القوة النفسانية الروحانية في المعادن في غاية القلة ، وفي النبات في المرتبة المتوسطة ، وفي الحيوان في المرتبة العالية. فلا جرم كان أخس هذه الثلاثة هو المعادن ، وأوسطها النبات ، وأشرفها الحيوان. ثم إن الحيوان أنواع كثيرة ولها درجات متفاوتة في الخسية والشرف ، وأكثر الحيوانات روحانية هو الإنسان ، فلا جرم كان الإنسان سلطان الحيوانات ومتصرفا فيها ، وسائر الحيوانات كالعبيد له.

ثم نقول : وأصناف الناس فيهم كثرة إلا أنهم على اختلاف أصنافهم وتباين مراتبهم ، مشتركون في حكم واحد وهو أن كل من كانت الروحانية عليه أغلب ، كان أشرف وأعلى.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

٢٥٩

وكل من كانت الجسمانية عليه أغلب ، كان أخس وأبعد من الكمال. ثم لما تأملنا في ضبط صفات الكمال ، وجدناها محصورة في ثلاثة أنواع : الاستغناء ، والعلم ، والقدرة. ثم من المعلوم أن هذه الصفات الثلاثة لا تحصل للإنسان على سبيل الكمال ، بل إنما تحصل له بمقدار القوة البشرية ، والطاقة الإنسانية. فنشاهد أن أصناف أهل العالم ، وإن كانوا كثيرين إلا أن الصنف الواحد من تلك الأصناف أكملهم في هذه الصفات ، ثم في ذلك [الصنف] (١) يوجد أشخاص كثيرون إلا أنه يحصل فيهم شخص واحد هو أكمل أولئك الأشخاص ، وحينئذ يكون ذلك الشخص هو أكمل الأشخاص الموجودين في عالم الدنيا ، وهو المسمى عند أهل التصوف بقطب (٢) العالم. وفي لسان الشيعة بالإمام المعصوم. ثم هؤلاء الأفاضل الذين لا يوجد منهم في الدور الواحد إلا الفرد الواحد ، إذا قوبل بعضهم بالبعض ، فسيوجد في كل ألف سنة أو أقل أو أكثر : شخص واحد هو رئيسهم الأكبر ، وإمامهم الأعظم ، وذلك هو النبي الكامل صاحب الوحي والتنزيل.

ولما عرفتك (٣) هذه المراتب في عالم الجسمانيات ، فاعرف مثله في عالم الروحانيات : فالموجودات الروحانية المجردة عن علائق الأجسام كثيرة ومختلفة

__________________

(١) من (س).

(٢) الحق : أن التصوف ليس من الإسلام. وأنه دعوة اعتنقها بعض الناس في بدء ظهور الإسلام ، ليبعدوا الناس عن العمل في الدنيا ، لعمارتها. وليربطوهم بالمساجد. وإذا ابتعدوا عن عمارة الدنيا ، يتقدم أعداء المسلمين لعمارة الدنيا ، ثم يسيطرون على بلاد المسلمين ، لإذلال المسلمين. ومن هؤلاء الأراذل : الجنيد وأبو يزيد البسطامي ، والحلاج ، والسري السقطي ، وقد آن الأوان ليرفض المسلمون الصادقون ، أفكار هؤلاء المنحرفين عن الدين. فإن الدين عند الله الإسلام ، وليس هو التصوف. ومن خرافات هؤلاء الأرذال : جاء في بعض كتب مناقب الشيخ عبد القادر الجبلي : أنه مات بعض مريديه ، فشكت إليه أمه وبكت ، فرق لها. فطار وراء ملك الموت في المساء ، وهو صاعد إلى السماء ، يحمل في زنبيل ما قبض من الأرواح في ذلك اليوم. فطلب منه أن يعطيه مريده ، أو أن يردها إليه. فامتنع. فجذب الزنبيل منه ، فأفلت فسقط جميع ما كان فيه من الأرواح ، فذهبت كل روح إلى جسدها. فصعد ملك الموت ، وشكا إلى ربه ما فعله عبد القادر. فأجاب الرب ـ سبحانه .. الخ [ص ٣٨ صراع بين الحق والباطل ـ سعد صادق محمد].

(٣) ولما عرفت (س).

٢٦٠