المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

العقلاء من نفوسهم وعقولهم ، وجدانا ظاهريا جليا. فإن فتحتم باب الإنكار ، على سبيل المكابرة ، انفتحت تلك الأبواب في الكل. وحينئذ يفسد الكل.

وأما الجواب عن السؤال الثاني : وهو أن العقل ، وإن حكم بحصول التفاوت في بعض الأوقات ، فقد يحكم بينها بالاستواء في سائر الأوقات.

فنقول : إن وقوع التفاوت في بعض الصور يكفي في القدح ، وأما حصول المساواة في الصور الكثيرة فإنه لا يفيد الصحة. وبيانه : وهو أن القضية البديهية هي التي يكون [مجرد] (١) تصور موضوعها ، ومحمولها كافيا في جزم الذهن بنسبة أحدهما إلى الآخر ، إما بالنفي أو الإثبات.

فنقول : لو كانت هذه القضية بديهية لكان تصور موضوعها ومحمولها كافيا في إيقاع ذلك التصديق ، ولو كان الأمر كذلك لامتنع خلو حصول هذين التصورين عن حصول ذلك الجزم في التصديق ، وحيث خلا هذان التصوران عن الجزم الحاصل في التصديق ولو في صورة واحدة ، كفي ذلك في العلم ، بأن هذين التصورين لا يوجبان ذلك التصديق ، فإن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم ، أما لو حصل هذا الجزم في ألف ألف صورة ، فإنه لا يفيد البتة شيئا لأن استثناء عين التالي لا ينتج شيئا البتة. وأما الجواب عن السؤال الثالث: فمن وجهين :

الأول : إنا لا نسلم أن شيئا من التصورات ، يمكن أن يكون كسبيا. وقد مر تقرير هذا الأصل ، في أول علم المنطق.

والثاني : سلمنا أن التصور يمكن أن يكون كسبيا نستحضر ماهية الممكن ، وماهية الاحتياج ، وماهية المؤثر على أقصى الوجوه في عقولنا وأذهاننا ، فإن الممكن ، لا تفسير له، إلا الذي يقبل الوجود والعدم ، من حيث هو هو. أو أنه الذي لا يلزم من فرض وجوده وفرض عدمه ، من حيث

__________________

(١) من (ز).

٨١

هو هو محال. وأما الافتقار ، فلا تفسير له ، إلا أنه هو الاحتياج والتوقف. وأما المؤثر فلا تفسير له ، إلا الأمر الذي به ، ولأجله يحصل ذلك الشيء.

إذا عرفت هذا فنقول : إنا بعد استحضارنا هذه التصورات الثلاثة في عقولنا على أقصى الوجوه. إذا نظرنا إلى جزم العقل بصحة قولنا : الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح ، ثم نظرنا إلى جزم العقل بأن الواحد نصف الاثنين ، علمنا بالضرورة أن الجزم الأول أضعف من الجزم الثاني. [بكثير ، وهذا التفاوت ليس لأجل التفاوت في التصورات ، فأما في هذه الحالة فقد استحضرنا هذه التصورات على أبلغ الوجوه ، فعلمنا أن هذا التفاوت إنما وقع في الحكم والتصديق] (١).

وأما الجواب عن السؤال الرابع : وهو قوله : «ما الدليل على أن أحد الجزءين ، لما كان أقوى من الثاني كان المرجوح ظنيا لا يقينيا؟».

فنقول : الدليل على أنه يجب كون القضية المرجوحة ظنية لا يقينية : هو أن جزم العقل بهذه القضية المرجوحة ، إما أن يكون مع المنع من نقيضها منعا كليا ، وإما أن يقال : المنع من النقيض على سبيل الجزم غير حاصل ، فإن كان المنع الجازم من النقيض حاصلا [امتنع وقوع التفاوت. وإن كان المنع الجازم من النقيض غير حاصل بل كان احتمال النقيض حاصلا] (٢) من بعض الوجوه سواء كان ذلك الاحتمال قريبا أو بعيدا ، كان ذلك التصديق ظنا غالبا ، فإن احتمال النقيض يوجب هذا المعنى ، وحينئذ لا يكون ذلك الجزم علما ويقينا ، بل يكون ظنا. فهذا جملة الكلام في الجواب عن السؤالات التي أوردوها على هذا الدليل.

الحجة الثانية : في بيان أن افتقار الممكن إلى المرجح ليست مقدمة بديهية ، إنا قد ذكرنا أن جماعة عظيمة من العقلاء ذهبوا إلى أنه لا يجوز (٣)

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) يجوز (ز).

٨٢

رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إلا لمرجح ، ولو كانت هذه القضية بديهية لامتنع إطباق الطوائف العظيمة على إنكارها.

الحجة الثالثة : لو كانت هذه المقدمة بديهية ، لكان العلم بافتقار الممكن الباقي حال بقائه إلى المؤثر علما بديهيا لأن الإمكان حاصل فيه ، لكن الأمر ليس كذلك ، فإن أكثر العقلاء يقولون ببطلانه ، ويقولون : إن تحصيل الحاصل محال في بديهة العقول ، فعلمنا : أن العلم (١) بافتقار الممكن إلى المؤثر ليس حكما بديهيا. فهذا تمام الكلام في طرق السؤال والاعتراض.

والجواب : قوله في السؤال الأول : «إن الشبهات التي ذكرتموها ، إنما تدل على أن العلم بافتقار المحدث إلى المؤثر علم ضروري ولا تدل على أن العلم بافتقار الممكن إلى [المؤثر] (٢) المرجع ضروري».

فنقول في الجواب (٣) عنه طريقان :

الطريق الأول : أن نقول إنه لما ثبت بالوجوه المذكورة أن العلم باحتياج المحدث إلى المؤثر (٤) أمر (٥) ضروري بديهي.

فنقول : إنه يلزم منه كون الإمكان محوجا إلى المؤثر ، والدليل عليه : أنا إذا فرضنا الشيء قديما أزليا ومع كونه كذلك ، فإذا فرضناه واجب الوجود لذاته [فههنا إذا حصل اعتقاد كونه أزليا وحصل أيضا اعتقاد كونه واجب الوجود لذاته (٦)] فمع حصول هذين الاعتقادين ، يستحيل منا أن نعتقد فيه كونه محتاجا في وجوده إلى مرجح ومؤثر ، وهذا يدل على أن منشأ الحاجة إما الحدوث وإما الإمكان ، لأنا عند فرض زوال هذين المفهومين لما امتنع الحكم علينا بالحاجة ، ثبت أن المقتضي للحاجة إما مجموع هذين القيدين أو أحدهما ، وإذا ثبت هذا. فنقول : الحدوث يمتنع أن يكون علة للحاجة ، أو أن يكون جزء العلة ، أو أن يكون شرط العلة ، وإذا سقط الحدوث عن درجة الاعتبار ، بقي

__________________

(١) الحكم (س).

(٢) من (س).

(٣) فنقول : لنا عنه (س).

(٤) المحدث (س).

(٥) علم بديهي (س).

(٦) من (ز).

٨٣

أن المؤثر في هذه الحاجة ليس إلا الإمكان ، وبهذا الطريق يظهر لنا أن الإمكان علة الحاجة إلى المؤثر [وأما بيان أن الحدوث يمتنع كونه معتبرا في هذا الباب فسيأتي في تقريره فصل مفرد] (١).

والثاني : أن نترك الوجه الذي ذكرناه ، ونقول إن الممكن هو الذي يكون نسبة الوجود إليه كنسبة العدم ، ومتى اعتقدنا أن نسبة الوجود ونسبة العدم إليه على التساوي ، حكم صريح العقل بأنه يمتنع رجحان أحد الجانبين على الآخر إلا لأمر منفصل ، والعلم بأن الأمر كذلك علم بديهي ضروري ، ومن أنكر ذلك فقد فارق مقتضى عقله (٢) لسانا ، ويعود إليه ضميرا ، وإذا عولنا على هذا الطريق فلا حاجة بنا إلى ذكر تلك الشبهات وتقرير تلك الأمثلة. فهذا هو الجواب عن السؤال الأول.

وأما السؤال الثاني : قولهم : «ان العقول كما جزمت بأنه لا بدّ للحادث من فاعل ، فكذلك جزمت بأنه لا بدّ للحادث من سبق مادة [ذهبت] (٣) ومدة ومكان».

فنقول : هذا السؤال غير وارد على الفلاسفة ، فإنهم يلتزمون [أن الحادث] (٤) كما أنه لا بدّ له من فاعل [سابق] (٥) فكذلك لا بدّ له من مادة سابقة ، ومن مدة سابقة [وبهذا الطريق] (٦) فهذا السؤال غير وارد عليهم. وأما القائلون بحدوث المادة والمدة ، فقالوا : الفرق بين البابين ظاهر ، أما المادة فلأنه لا نزاع أن الصور والأعراض تحدث عن محض العدم، [وإذا عدلنا حدوث بعض الأشياء عن محض العدم] (٧) فكيف يمتنع في [أول] (٨) العقل حدوث الذوات أيضا عن محض العدم؟ وأما المدة فقالوا لا شك أن بعض أجزائها سابق على البعض ، لا لأجل مدة أخرى وإلّا لزم وقوع المدة في مدة

__________________

(١) من (س).

(٢) فارق علمه (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

٨٤

أخرى ، ولزم التسلسل وهو محال. فثبت أن سبق الجزء (١) في المدة ، على الجزء المتأخر منها ليس لأجل مدة اخرى.

وإذا عقل هذا ، فلم لا يعقل سبق عدم الحادث على وجوده من غير مدة؟ فثبت بهذين الطريقين : أن صريح العقل لا يقتضي افتقار الحادث في حدوثه إلى سبق مادة ومدة ، لأنه حكم في هاتين الصورتين بالحدوث من غير سبق مادة ولا مدة ، أما في حق الفاعل ، فقد حكم صريح العقل بالافتقار الى الفاعل ، ولم يوجد شيء حدث ، ولا عن الفاعل فظهر الفرق.

أما قوله في المعارضة الأولى : «إن جزم العقل بقولنا : الواحد نصف الاثنين ، أقوى من جزمه بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح».

فالجواب الحق : أن هذا التفاوت ممنوع وذلك لأن من أزال عن عقله تعود الجدال والمنازعة في كل شيء ، واستحضر في عقله أن نسبة الوجود إليه كنسبة العدم إليه ، وأنه لا رجحان لأحد الجانبين على الآخر البتة ، جزم جزما بديهيا : أنه ما دام يبقى (٢) هذا الاستواء فإنه يمتنع حصول الرجحان ، فإن حصل الرجحان فقد زال الاستواء وانضم إلى الطرف الراجح شيء آخر ، فإذا اعتبر العقل هذه القضية على هذا الوجه ، لم يبق بينها وبين القول الواحد نصف الاثنين تفاوت.

وأما المعارضة الثانية وهي قوله : «إن جمعا من العقلاء جوزوا رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، ولو كانت هذه القضية بديهية لما اختلفوا فيها».

فنقول : لا نسلم أنهم يلتزمون رجحان الممكن لا عن مرجح (٣) نعم ربما

__________________

(١) جزء المتقدم (س).

(٢) مع (س).

(٣) مؤثر (س).

٨٥

لزمهم ذلك على بعض مذاهبهم ، لكن الفرق بين الإلزام وبين الالتزام معلوم.

وأما المعارضة الثالثة (١) وهي قولهم : «لو كانت هذه القضية بديهية ، لكان العلم بافتقار الممكن الباقي إلى المؤثر ، علما بديهيا. وليس كذلك».

فنقول : إن كل من تصور في الموجود الباقي كونه متساويا ، اضطر إلى العلم بافتقاره إلى المؤثر [نعم قد لا يحكم بافتقاره إلى المؤثر] (٢) لاعتقاد أنه لأجل كونه باقيا صار أولى بالوجود ، فأما إذا أزال عن قلبه هذه الشبهة ، وعلم أنه حال البقاء بقي متساوي الطرفين ، كما كان حال الحدوث ، اضطر إلى العلم بافتقاره إلى المؤثر.

فهذا كله هو الكلام في تقرير (٣) قولنا : إن العلم بافتقار الممكن إلى المؤثر علم بديهي [والله ولي الهداية والإرشاد] (٤).

__________________

(١) الثانية (ز).

(٢) من (ز).

(٣) تفسير (س).

(٤) من (ز).

٨٦

الفصل الثالث

في

تقرير قول من يقول : هذه المقدمة استدلالية

أعلم أن الشيخ الرئيس أبا علي [ابن سينا] (١) مضطرب القول في هذا الموضوع ، وذلك لأنه أينما يذكر هذه المقدمة في كتبه الطويلة والمختصرة فإنه يدعي إقامة البرهان على صحتها ، ثم إنه يذكر تقسيمات طويلة خارجة عن المقصود ، ثم إذا انتهى إلى هذا القسم الذي هو المطلوب والمقصود فإنه يدعي فيه البديهة. وكل من طالع كتبه بالتأمل التام عرف أن الأمر كما ذكرناه. فهو في أول الأمر يدعي كونها استدلالية ، وفي آخر الأمر عند ضيق الكلام عليه يدعي كونها بديهية ، ورأيت أبا الحسين محمد بن علي البصري ـ وهو كان من أذكياء المعتزلة ـ احتج على صحة هذه المقدمة في الكتاب الذي سماه بالتصفح ، فقال : «الممكن هو الذي استوى طرفاه فلو حصل الرجحان من غير مرجح ، لزم أن يحصل الرجحان حال حصول الاستواء وذلك جمع بين النقيضين وهو محال ، ولقائل أن يقول : هذا التناقض غير لازم ، وذلك لأن الممكن هو الذي تكون ماهيته غير مقتضية لرجحان أحد الطرفين على الآخر [ونقيض القضية أن يقال : إن تلك الماهية مقتضية لرجحان أحد الطرفين على الآخر] (٢) فأما أن يقال : إن حقيقته لا تقتضي الرجحان ، ثم إنه حصل الرجحان لا لذاته ولا لغيره ، فعلى هذا التقدير لا يلزم التناقض».

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

٨٧

وكان هذا الرجل قد ظن أن هذا الرجحان لما لم يكن بسبب أمر مغاير ، وجب أن يكون لذاته ، فحينئذ تكون ذاته مقتضية لهذا الرجحان ، وذلك يناقض قولنا : إن هذه الذات غير مقتضية للرجحان ، إلا أن هذا الكلام إنما يصح لو ثبت أن حصول الرجحان [إذا لم يكن لغيره وجب أن يكون لذاته ، وهذا إنما يصح لو ثبت أن حصول الرجحان] (١) لا لذاته ولا لغيره محال ، فإذا ادعى العلم البديهي بهذه المقدمة ، كان ذلك تركا للاستدلال وإن ادعى تقريرها بالدليل. فنقول : قد ثبت أن صحة الدليل [الذي ذكرتموه (٢)] موقوف على صحة هذا المطلوب ، فلو وقفنا صحة هذا المطلوب على ذلك الدليل لزم الدور ، وأنه باطل. إذا عرفت هذا فنقول : الذي يعول عليه في إثبات هذا المطلوب وجوه :

الأول : أنا قد بينا أن العلم البديهي حاصل بافتقار المحدث إلى المؤثر ، وبينا أيضا : أن علة تلك الحاجة إما الحدوث أو الإمكان أو مجموعهما ، وبينا أيضا أن الحدوث ليس علة تامة ولا شطر العلة ولا شرطا لها ، فكان ساقطا عن درجة الاعتبار بالكلية ، وإذا سقط الحدوث عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الإمكان وهذا يدل على أن علة الحاجة هي الإمكان.

الحجة الثانية في تقرير هذا المطلوب : أن نقول : لا شك أن الممكن هو الذي تكون نسبة الوجود إليه كنسبة العدم إليه ، وما دام يبقى هذا الاستواء ، فإنه يمتنع حصول الرجحان ، لأن الاستواء التام يناقض [حصول] (٣) الرجحان. فثبت : أن دخوله في الوجود موقوف على حصول الرجحان وهذا الرجحان لما حصل بعد أن لم يكن ، كان أمرا وجوديا ثبوتيا ، والصفة الوجودية الثابتة لا بدّ لها من موصوف موجود ، ويمتنع أن يكون [الموصوف بهذه الصفة الوجودية هو وجود ذلك الشيء ، لأنا بينا أن حصول هذا] ٤ الرجحان سابق على وجود الممكن سبقا بالرتبة [لكن المحل سابق على ما يحل فيه سبقا بالرتبة] ٥. فلو قلنا : إن

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

٨٨

محل هذا الرجحان هو أن تلك الذات حال صيرورتها موجودة : لزم كون هذا الرجحان سابقا على ذلك الرجحان من حيث أن المحل سابق على الحال. وذلك دور والدور باطل ، فثبت أنه ليس محل هذا الرجحان هو ذلك الممكن الذي هو الأثر ، فلا بد من شيء آخر يغايره ، ويكون محلا لهذا الرجحان ويكون بحيث يلزم من حصول الرجحان فيه حصول الوجود لهذا الأثر ، ولا نريد بالفاعل والمؤثر إلا الموجود الذي من شأنه وصفته ما ذكرناه. فثبت أن الممكن لا يمكن دخوله في الوجود إلا لأجل مؤثر منفصل وذلك هو المطلوب.

الحجة الثانية : لو كان رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر غنيا عن المؤثر والمرجح [لامتنع توقف هذا الرجحان في موضع من المواضع على حصول المؤثر والمرجح] (١) وهذا الثاني باطل ، فذلك المقدم أيضا [باطل] (٢) أما بيان الملازمة فهو أنه لما كان ذلك الرجحان غنيا عن المؤثر امتنع افتقاره إلى المؤثر في شيء من المواضع أصلا ، لأن مقتضيات الحقائق والماهيات لا تتغير البتة ، فإذا كان رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر غنيا عن المؤثر من حيث هو هو كان هذا الاستغناء حاصلا في جميع الصور والغني لذاته عن الشيء يمتنع أن يكون محتاجا إليه ، وأما بيان أن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر قد يتوقف على حصول المؤثر ، فلأن العلم البديهي حاصل بأن [حصول (٣) الكتابة في هذا الكاغد تتوقف على حصول الكاتب ، وعلى حصول كل ما لا بد منه في كونه كاتبا ، وكذا القول في القطع والضرب والكسر وأمثالها من الأفعال.

الحجة الرابعة : وهي إنما تتم على قول القائلين بقدم المدة ، وتقريره أن نقول : القول بقدم المدة لازم ، ومتى كان كذلك وجب افتقارها في وجودها إلى المؤثر ، أما بيان أنه لا بد من القول بقدم المدة ، فهو أن كل جزء من أجزاء المدة حادث ، وكل حادث فقدمه سابق على وجوده ، وذلك السبق أمر زائد على

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

٨٩

مجرد العدم لأن العدم المتأخر يشارك العدم المتقدم في مفهوم كونه عدما ، ويخالفه في كونه متقدما ومتأخرا ، وما به المخالفة غير ما به المشاركة ، فهذا السبق والتقدم أمر زائد على مجرد العدم ، فيكون صفة موجودة. ثم تلك القبلية أيضا حادثة فهي مسبوقة بقبلية اخرى ، والكلام فيها كما في الأول.

وهذا يوجب أن يكون كل قبل ، مسبوقا بقبل آخر لا إلى أول. فثبت بهذا الكلام : أن المدة لا أول لها ، ثم نقول : وإنها مركبة [من هذه الأجزاء المتعاقبة المتتالية ، وكل واحد منها حادث وكل حادث فهو ممكن ، فالزمان مركب] (١) من أجزاء ، وكل واحد منها ممكن لذاته ، والمجموع مفتقر إلى تلك الأجزاء ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ، فمجموع المدة أمر ممكن [لذاته] (٢) فإما أن يكون رجحان وجوده على عدمه بسبب منفصل ، أو لا بسبب منفصل ، بل بمحض الاتفاق [فإن كان لمحض الاتفاق] (٣) من غير سبب أصلا ، فكل ما كان بمحض الاتفاق من غير سبب أصلا لم يمتنع في العقل ، أن لا يوجد أصلا ، وعلى هذا التقدير يكون الانقطاع على المدة جائز ، لكنا بينا أن الانقطاع والابتداء عليهما محالان ، فوجب أن يقال : إنها واجبة الوجود ، لأجل وجوب سببها ، ولأجل وجوب علتها ، وهذا يدل على أن المدة ممكنة لذاتها ، واجبة لوجوب مؤثرها ، وإذا ثبت أن الأمر كذلك في هذه الصورة وجب أن يكون في سائر الصور كذلك ، ضرورة أن صريح العقل يقضي باستواء كل الممكنات في هذا المعنى [والله الهادي إلى الحقائق] (٤).

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

٩٠

الفصل الرابع

في

حكاية شبهات القائلين بأن رجحان

الممكن ، لا يتوقف على المرجح

الشبهة الأولى : لو افتقر الممكن إلى المؤثر ، لافتقر الباقي حال بقائه إلى المؤثر ، وهذا باطل ، فذاك باطل. بيان الشرطية أن الممكن ممكن لذاته ، فالشيء حال بقائه يجب أن يكون ممكنا ، لو كان الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر ، لزم حصول الحاجة إلى المؤثر حال البقاء ، ولا يقال : لم لا يجوز [أن يقال] (١) إنه حال البقاء صار الوجود به أولى ، فلأجل حصول هذه الأولوية يستغنى عن المؤثر؟ لأنا نقول : هذا العذر باطل.

وذلك لأن هذه الأولوية الغنية عن المؤثر إما أن يقال : إنها كانت حاصلة [حال الحدوث ، أو ما كانت حاصلة] (٢) فإن كان الأول لزم الاستغناء حال الحدوث ، وهو محال.

وإن كان الثاني فقد حدثت هذه الأولوية ، وهذا الحادث المسمى بالأولوية ، هو العلة لوجود الباقي حال بقائه ، فيكون الباقي مفتقرا حال بقائه إلى هذا الشيء المسمى بالأولوية ، وهذه الأولوية لأجل كونها (٣) أمرا حادثا ، تكون مفتقرة إلى السبب المنفصل ، والمفتقر إلى المفتقر إلى الشيء يكون مفتقرا إلى ذلك الشيء ، فالباقي حال بقائه ، يجب أن يكون مفتقرا إلى السبب المنفصل ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) تحققها (س).

٩١

فيثبت بما ذكرنا : إنه لو افتقر الممكن إلى المؤثر ، لافتقر الباقي حال بقائه إلى المؤثر ، وإنما قلنا : إن الباقي حال بقائه لا يفتقر إلى المؤثر ، لأنا لو فرضنا مؤثرا يؤثر فيه في حال بقائه ، فذلك المؤثر ، إما أن يكون له أثر أو لا يكون له أثر ، فإن لم يكن له أثر ، امتنع وصفه بكونه مؤثرا ، وإن كان له أثر فذلك الأثر إما أن يكون شيئا يصدق عليه ، أنه كان حاصلا قبل هذا التأثير ، أو يصدق عليه أنه ما كان حاصلا قبل هذا التأثير ، فإن كان الأول لزم إيجاد الموجود وهو محال. وإن كان الثاني كان ذلك الأثر أثرا يصدق عليه أنه كان موجودا قبل ذلك الوقت ، وكل ما كان كذلك فهو حادث ، فهذا المؤثر لا تأثير له إلا في الحادث فلا يكون له أثر في الباقي ، وقد فرضناه مؤثرا في الباقي. هذا خلف.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال (١) إن أثره هو بقاء ذلك الشيء الذي كان موجودا؟ لأنا نقول : بقاء ذلك الشيء إما أن يكون نفسه أو غيره ، فإن كان بقاؤه نفسه ، ونفسه كانت حاصلة قبل هذا الوقت ، فحينئذ يكون تأثير هذا المؤثر في تحصيل الحاصل ، وهو محال ، وإن كان بقاؤه غيره فحينئذ يكون المسند إلى المؤثر هو هذه الحالة الزائدة الحادثة ، فحينئذ لم يصدر عن المؤثر إلا ما كان حادثا ، فحينئذ لا يكون لهذا المؤثر تأثيرا في الباقي. وقد فرضناه كذلك. هذا خلف.

الشبهة الثانية : إن تأثير المؤثر في الأثر إما أن يكون حال وجود الأثر ، أو حال عدمه.

والقسمان باطلان ، فكان القول بالتأثير باطلا ، وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يؤثر المؤثر في الأثر حال وجود الأثر : لامتناع إيجاد الموجود ، وتحصيل الحاصل. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يؤثر في الأثر حال عدم الأثر لأن الأثر حال عدمه باقي كما كان ، وإذا بقي الأثر كما كان على العدم المحض ، والنفي الصرف ، فحينئذ لم يصدر عن هذا الشيء المسمى بالمؤثر ، أثر في هذا الوقت البتة.

__________________

(١) أن يكون أثره (س).

٩٢

فثبت : أن الأثر ما دام يكون باقيا على عدمه ، فإن المؤثر يمتنع كونه مؤثرا فيه ، وإذا صار الأثر موجودا ، فإنه يمتنع كون المؤثر مؤثرا فيه. وإذا كان لا واسطة بين كون الأثر معدوما وبين كونه موجودا ، وثبت أن القول بالتأثير ممتنع في كلتا الحالتين ، ثبت أن القول بأصل التأثير محال.

ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال إنه في الآن الأول يجعله موجودا في الآن الثاني؟ لأنا نقول : إنه في الآن الأول ، هل صدر عنه أثر أم لا؟ فإن لم يصدر عنه أثر البتة ، كان حاله في الآن كما كان قبل ذلك ، وكما أنه قبل ذلك الآن ، صدق عليه أنه ما كان [أثر] (١) مؤثرا في أثر. كذلك في هذا الآن ، وجب أن يصدق عليه أنه غير مؤثر فيه ، وأما إن صدر عنه في الآن الأول أثر ، فهو (٢) في ذلك الآن مؤثر لوجود ذلك الأثر ، وذلك الأثر موجود في ذلك الآن. فيعود الإلزام المذكور ، وهو أنه يلزم إيجاد الموجود ، وهو محال.

الشبهة الثالثة : لو صدق على الشيء كونه مفتقرا إلى المؤثر ومحتاجا إليه ، لكان هذا الافتقار والاحتياج. إما أن يكون عن ذلك الشيء المحكوم عليه بالافتقار والاحتياج ، وإما أن يكون مغايرا له. والقسمان باطلان فالقول بالافتقار والاحتياج باطل.

أما بيان أنه يمتنع أن يكون نفس ذلك الشيء. فالوجوه : أحدها : إنه قد يعقل ذات السماء والأرض ، من يجهل (٣) كونهما مفتقرين ومحتاجين إلى المؤثر ، والمحكوم عليه بكونه معلوما ، ليس عين الشيء المحكوم عليه ، بكونه غير معلوم. وثانيها : إن الجسم ذات قائمة بالنفس غير مقول بالقياس إلى الغير ، [والافتقار والاحتياج نسبة وماهيات مقولة بالقياس إلى الغير] (٤) وذلك يوجب التغاير. وثالثها : إنا إذا قلنا : الجسم محتاج في وجوده إلى الغير، كان

__________________

(١) (س).

(٢) فهو في وجود الآية قد آثر ذلك الآثر .. الخ (س).

(٣) تجويز (س).

(٤) من (ز).

٩٣

هذا الكلام قضية مفيدة ، وتشهد الفطرة بكون موضوعها مغايرا لمحمولها (١). وإن قلنا : الجسم جسم لم يكن كذلك ، وذلك يدل على المطلوب.

وأما بيان أنه يمتنع أن يكون ذلك الاحتياج والافتقار أمرا مغايرا للذات ، فلأن ذلك المغاير ، إما أن يكون مفهوما عدميا أو وجوديا. والقسمان باطلان. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونه عدميا. فلأنا إذا قلنا هذا الشيء لا يفتقر إلى الغير ، ولا يحتاج إليه ، كان صريح العقل حاكما بأن هذا المفهوم سلبي ، وإذا كان نفي الافتقار والاحتياج مفهوما عدميا ، امتنع أن يكون ثبوت الافتقار والحاجة مفهوما عدميا ، ضرورة أن أحد طرفي النقيض يجب أن يكون ثبوتيا ويكون الآخر عدميا.

وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون المفهوم من الافتقار والاحتياج أمرا ثبوتيا فلوجهين :

الأول : إنه لو كان أمرا ثبوتيا : لكان إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته ، والأول باطل ، لأنه صفة للموجود الذي يكون ممكنا لذاته ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان. والثاني أيضا باطل ، لأن الاحتياج لما كان موجودا ممكنا [لذاته] (٢) كان [محتاجا] (٣) إلى الموجد ، فيكون حاجة الحاجة زائدة عليه ، ولزم التسلسل ، وهو محال.

والثاني : إن الموصوف بهذا الافتقار والاحتياج إلى الموجد ، إما أن يكون موجودا ، [أو لا يكون ، فإن كان موجودا] (٤) كان الموجود موصوفا بالافتقار والاحتياج [إلى الموجد والمؤثر ، فيلزم تحصيل الحاصل وهو محال ، وإن كان معدوما لزم اتصاف العدم المحض، والنفي الصرف بالصفة الموجودة ، وهو

__________________

(١) للذات (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

٩٤

محال. فثبت بما ذكرنا ، أن الافتقار والاحتياج (١)] لو حصل لكان ذلك إما عين تلك الذات وإما أمرا مغايرا لها ، والقسمان باطلان ، فالقول بثبوت الافتقار والاحتياج باطل.

الشبهة الرابعة : لو صدق على شيء كونه مفتقرا إلى الموجد والمؤثر ، لزم كون تلك الماهية متقدمة بالرتبة على حصول هذه الحاجة ، وكونها متأخرة عن هذه الحاجة محال ، فوجب أن يكون القول بثبوت الاحتياج : محال.

إنما قلنا : إنه يقتضي التقدم لوجهين :

الأول : إن افتقاره إلى المؤثر واحتياجه إليه صفة (٢) من صفاته ، وحكم من أحكامه، وصريح العقل يقتضي بتقدم الموصوف على الصفة بالرتبة.

والثاني : إن افتقار الشيء واحتياجه إلى الغير ، نسبة مخصوصة بينه وبين ذلك الغير، وتحقق النسبة بين الشيئين يتوقف على تحقق الشيئين (٣) ، فوجب أن يكون الافتقار والاحتياج متأخرا بالرتبة عن تحقق الذات المحكوم عليها بالافتقار والاحتياج.

وإنما قلنا : إنه يقتضي التأخر ، وذلك لأن الافتقار إلى الفاعل إنما يحصل لأجل أن يجعله الفاعل متحققا وحاصلا وكائنا وإذا كان كذلك وجب أن يكون تحقق الأثر وتكونه ، متأخرا عن تأثير الفاعل فيه ، لكن تأثير الفاعل فيه متأخر عن افتقاره واحتياجه إلى الفاعل ، والمتأخر عن المتأخر عن الشيء متأخر عنه. فثبت : أن تحقق تلك الحقيقة المحكوم عليها بالافتقار والاحتياج إلى المؤثر يجب أن يكون متأخرا بالرتبة عن احتياجه إلى المؤثر ، فيثبت بما ذكرنا : أنه لو صدق على شيء كونه مفتقرا إلى المؤثر ، ومحتاجا إليه ، فإنه يلزم كون تلك الحقيقة متقدمة بالرتبة ، على حصول تلك الحاجة ، وكونها متأخرة عنه ، ومعلوم أن ذلك محال ، فوجب أن يكون القول بثبوت الاحتياج والافتقار باطلا ومحالا. ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال الموصوف بالافتقار والاحتياج الى المؤثر ، هو الماهية ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) إليه لا تفتقر صفاته .. الخ (س).

(٣) النسبتين (س).

٩٥

وهي متقدمة على حصول هذا الاحتياج والافتقار [وأما الواقع بالفاعل والمؤثر فهو الوجود ، وهو متأخر بالرتبة عن حصول هذا الافتقار] (١)؟ لأنا نقول : الماهية من حيث هي هي ، إما أن تكون مفتقرة الى المؤثر ، أو لا تكون ، فإن كانت مفتقرة إلى المؤثر لزم تقدمها على الافتقار وتأخرها عنه على ما بيناه ، فيعود الخلف ، وإن لم تكن مفتقرة إلى المؤثرة ، كان المفتقر إلى المؤثر هو الوجود فقط ، أو موصوفية الماهية بالوجود ، وعلى التقديرين فيلزم منه حصول التقدم والتأخر معا وهو محال.

الشبهة الخامسة : المفتقر إلى المؤثر يمتنع [أن يكون] (٢) هو الماهية ، [ويمتنع أن يكون هو الوجود] (٣) ويمتنع أن يكون هو موصوفية الماهية بالوجود ، وإذا امتنعت الأقسام الثلاثة ، امتنع كون الماهية مفتقرة إلى المؤثر. فيفتقر في تقرير هذا الكلام إلى إثبات أقسام (٤) أربعة :

الأول : قولنا : إنه يمتنع أن يكون المفتقر إلى المؤثر هو الماهية. وبيانه من وجهين :

الأول : إن كل ما [كان بالغير ، فإنه يجب أن يرتفع عند ارتفاع عدم ذلك الغير. فلو كانت الماهية من حيث هي هي ، مفتقرة إلى المؤثر ، لزم من فرض عدم ذلك الغير (٥)] بطلان الماهية ، من حيث هي هي [لكن بطلان الماهية من حيث هي هي] (٦) محال. لأن السواد يمتنع أن ينقلب غير سواد ، والبياض يمتنع أن ينقلب غير بياض.

والوجه الثاني : إن المفتقر إلى المؤثر ما يكون ممكنا ، والإمكان حالة نسبة إضافية بين الماهية وبين صفة من صفاتها ، لأنا إذا قلنا : إن كذا ممكن أن يكون كذا ، فهذا المعنى إنما يعقل إذا كان المفهوم من الموضوع مغايرا للمحمول. فإنه يمتنع أن يقال : السواد يمكن أن يكون سوادا. أما ما لا يمتنع أن يقال : السواد يمكن أن يكون موجودا. فثبت أن المحوج إلى المؤثر [هو الإمكان ، وثبت : أن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز ، س).

(٤) الأصل : أمور.

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

٩٦

الإمكان حال نسبية ، وثبت في بديهة العقل : أن الشيء الواحد] (١) من حيث إنه هو فقط ، فإنه لا يعرض له شيء من الأحوال النسبية الإضافية ، فيثبت : أن الإمكان يمتنع كونه عارضا للحقيقة من حيث هي هي ، وإذا كان المقتضى للحاجة ليس إلا الإمكان ، وثبت أن الماهية من حيث هي هي يمتنع أن يعرض لها الإمكان ثبت أن الماهية من حيث هي هي يمتنع كونها محتاجة الى المؤثر.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال المحتاج الى المؤثر والجاعل [يمتنع أن يكون] (٢) هو الوجود. فهذا أيضا باطل لأن الوجود من حيث إنه وجود : ماهية من الماهيات ، وحقيقة من الحقائق ، والدليلان المذكوران في امتناع كون الماهية مجعولة يجريان بعينهما في امتناع كون الوجود مجعولا.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال المحتاج إلى الفاعل ، والجاعل والمؤثر هو موصوفية الماهية بالوجود فنقول : هذا أيضا باطل من وجهين :

الأول : إن موصوفية الماهية بالوجود ليس أمرا زائد على الماهية وعلى الوجود ، وإذا كان كذلك امتنع الحكم عليها بكونها مجعولة. بيان الأول : إنه لو كانت موصوفية الماهية بالوجود أمرا [زائدا] (٣) مغايرا لهما ، لكانت موصوفية الماهية بتلك الموصوفية مغايرة ، ولزم التسلسل.

[وبيان الثاني] (٤) : إن هذه الموصوفية لما لم تكن أمرا ثبوتيا مغايرا ، فإنه يمتنع القول بكونها أثرا للفاعل والجاعل ، وذلك باطل ، (٥) لأن ما لا ثبوت له في نفسه ، كيف يعقل جعله أثرا للمؤثر والفاعل؟

الوجه الثاني : في إبطال قوله : (٦) «الواقع بالفاعل هو موصوفية الماهية بالوجود» أن نقول : هذه الموصوفية إما أن تكون أمرا وجوديا ، وإما أن لا تكون ، فإن كان أمرا وجوديا فحينئذ يكون له ماهية ، ويكون له وجود ، وحينئذ يعود التقسيم المذكور فيه من أن الواقع بالفاعل ، إما ماهيته أو وجوده ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) زيادة.

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) ظاهر (س).

(٦) قولنا (ز).

٩٧

وإن لم يكن له وجود البتة ، استحال القول بأن الواقع بالفاعل والجاعل هو هو ، فثبت بما ذكرنا : أنه يمتنع القول بأن تأثير الفاعل في الماهية ممتنع ، ويمتنع القول بأن تأثيره في الوجود ، ويمتنع القول بأن تأثيره في موصوفية الماهية بالوجود.

وأما القسم الرابع : (١) وهو بيان أنه لما ظهر بطلان الأقسام كان القول بالتأثير والمؤثر باطلا ، فتقريره : أن ذلك الأثر لما كان غنيا في ماهيته عن المؤثر ، وكان غنيا في وجوده عن المؤثر ، وكان غنيا في اتصاف ماهيته بوجوده عن المؤثر ، كانت هذه الماهية الموجودة غنية عن المؤثر والفاعل. لأنه متى حصلت الماهية ، وحصل الوجود ، وحصلت موصوفية الماهية بالوجود ، فقد حصلت الماهية الموجودة بدون هذا المؤثر ، وهذا الفاعل. وإذا كان كذلك كانت هذه الماهية الموجودة غنية عن المؤثر. وذلك هو المطلوب.

الشبهة السادسة : المحكوم عليه بالافتقار والحاجة ، إما أن يكون بسيطا ، وإما أن يكون مركبا ، والقسمان باطلان ، فالقول بالحاجة باطل ، أما الحصر فظاهر ، وإنما قلنا : إنه ممتنع أن يكون المحكوم عليه بالافتقار والحاجة بسيطا ، وذلك لأن البسيط حقا لا يعرض له الإمكان ، لأن من المعلوم بالضرورة أنه يستحيل الحكم على الشيء بأنه يمكن أن يكون هو هو ، فيستحيل أن يقال السواد يمكن أن يكون سوادا ، بل يقال السواد يمكن أن يبقى ، ويمكن أن يحدث ، إلا أن ذلك إنما يصح لأن المفهوم [من السواد] (٢) مغاير للمفهوم من كونه باقيا وحادثا ، فأما أن يقال : السواد يمكن أن يكون سوادا ، فهذا غير معقول. فثبت أن الإمكان لا يعرض البتة للحقائق البسيطة ، ولما ثبت أنه لا علة للحاجة إلا الإمكان ، وثبت أن حصول الإمكان في البسائط ممتنع [بذلك] (٣) ، ثبت أن حصول الحاجة في البسائط ممتنع. وإنما قلنا : إن

__________________

(١) القسم الرابع (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

٩٨

المحكوم عليه بالافتقار والحاجة يمتنع أن يكون هو المركب ، وذلك لأن المركب مركب من البسائط ، فإذا كان كل واحد من تلك البسائط غنيا عن الفاعل والمؤثر ، ثم ثبت بمقتضى بديهة العقل أن عند حصول جميع المفردات ، يجب حصول المركب ، وعند فقدانها أو فقدان واحد منها يمتنع حصول المركب ، فحينئذ يلزم امتناع استناد المركبات إلى الفاعل والجاعل ، ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال : المفتقر إلى المؤثر هو هيئة التركيب؟ لأنا نقول : هيئة التركيب أحد أجزاء ماهية المركب ، فتلك الهيئة إما أن تكون مفردة أو مركبة. ويعود التقسيم الأول فيه.

الشبهة السابعة : لو أثر شيء في شيء لكان تأثير ذلك المؤثر في ذلك الأثر ، إما أن يكون نفس ذات المؤثر [أو ذات] (١) الأثر ، أو يكون مفهوما مغايرا لهما ، والأقسام كلها باطلة. فالقول بالتأثير باطل ، وإنما قلنا : إن تأثير المؤثر في الأثر يمتنع أن يكون عين ذات المؤثر ، أو ذات الأثر. لوجوه :

الأول : إنه يمكننا أن نعقل ذات المؤثر وذات الأثر مع الشك ، في أن هذه الذات [هل هي] (٢) مؤثرة في تلك الذات؟ مثلا : تعقل موجودا واجب الوجود لذاته ، وتعقل ماهية هذا العالم المحسوس ، ثم تشك في أن هذا العالم ، هل وجد بتأثير ذلك الموجود الواجب لذاته؟ ومعلوم أن المعلوم مغاير لغير المعلوم ، فوجب أن تكون هذه المؤثرية ، مغايرة لذات المؤثر ، ولذات الأثر.

الثاني : إن مؤثرية شيء في شيء ، نسبة مخصوصة لأحدهما إلى الآخر ، والنسبة بين الشيئين يتوقف تحققها على تحقق ذات كل واحد من الشيئين ، والمتوقف على الأمرين مغاير لهما ، فمؤثريّة أحد الذاتين في الأخرى يجب أن تكون مغايرة لذات المؤثر وذات الأثر.

الثالث : إن النار تؤثر مثلا في التسخين ، والماء يؤثر في التبريد ، فالماء والنار يتشاركان في كون كل واحد منهما مؤثرا في أثر مخصوص ، والحرارة

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

٩٩

والبرودة يتشاركان في كون كل واحد منهما أثرا لمؤثر مخصوص ، فثبت أن المشاركة في مفهوم المؤثرية وفي مفهوم الأثرية حاصلة. وأما المشاركة في خصوص ذات المؤثر وخصوص ذات الأثر فغير حاصلة ، فإن ذات النار مخالفة لذات الماء ، وحقيقة الحرارة مخالفة لحقيقة [البرودة ، وإذا ثبت هذا ، لزم القطع بأن كون النار مؤثرة غير ، وكونها نارا غير ، وكذلك] (١) كون الحرارة أثرا لمؤثر غير ، وكونها حرارة غير.

الرابع : إنا إذا قلنا : قدرة الله ، قدرة الله. فهذا الكلام عبث لا يفيد فائدة ، أما إذا قلنا : قدرة الله مؤثرة في وجود العالم ، كان هذا الكلام مفيدا. فلو كان المفهوم من كون القدرة قدرة ، غير المفهوم من كونها مؤثرة في وجود العالم ، وجب أن لا يبقى البتة فرق بين الكلامين ، فظهر بهذا البرهان : أن التأثير مفهوم مغاير لذات المؤثر.

بقي أن نقيم البرهان على أن تأثير المؤثر في الأثر ليس عين ذات الأثر ، فنقول : الذي يدل عليه وجوه :

الأول : إنا إذا قلنا قدرة الله مؤثرة في وجود العالم ، كنا قد وصفنا قدرة الله تعالى بهذه المؤثرية ، ومعلوم بالضرورة أن العالم ليس صفة لقدرة الله ، ويلزم من مجموع هاتين المقدمتين القطع بأن قدرة الله تعالى في العالم ليست نفس العالم.

الوجه الثاني في إبطال هذا الكلام : أنه إذا قيل لنا : لم وجد العالم؟ كان جوابنا : إن قدرة الله تعالى اقتضت إيجاد العالم في الوجود ، [فعللنا وجود العالم في الوجود] (٢) بأن الله تعالى أوجده ، فلو كان إيجاد الله للعالم عين العالم ، لكان قولنا : العالم إنما وجد بإيجاد الله تعالى معناه : أن العالم إنما وجد بنفسه ، ولو وجد العالم بنفسه لامتنع أن يقال : إنه وجد بإيجاد الله تعالى ، فثبت أنا لو فسرنا تأثير المؤثر في الأثر ، بنفس وجود ذلك الأثر ، لزم نفي المؤثر ونفي

__________________

(١) من (ز ، س).

(٢) من (س).

١٠٠