محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]
المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦
فعند هذا تنفتح أبواب كثيرة من الاحتمالات :
أحدها : أن يقال : إن خالق هذا العالم الجسماني موجود واحد ، وهو إما مخلوق المبدأ الأول ، أو معلول له.
وثانيها : أن يقال : إن خالق الذوات شيء من معلولات المبدأ الأول ، وخالق الصفات شيء آخر.
[وثالثها : أن يقال : خالق بعض الصفات والذوات شيء ، وخالق نوع آخر من الصفات والذوات شيء آخر] (١).
وبالجملة : فعلى جميع التقديرات ، ثبت : أن الدليل الذي ذكروه لا يفيد البتة تقرير أن خالق هذا العالم الجسماني قديم أزلي واجب الوجود لذاته.
واعلم. أنه حصل هاهنا مقامان : أحدهما : طريقة القائلين بأنه لا سبيل إلى تحصيل المعارف الإلهية إلا بالتمسك بطريقة الأولى والأخلق.
والثاني : طريقة القائلين بأنه لا بد من الدلائل اليقينة.
أما الطريق الأول : فتقريره : أن يقال : إنه لما ثبت أن العالم محدث ، وجب افتقاره إلى فاعل ، فذلك الفاعل إن كان محدثا ، افتقر إلى فاعل آخر. فإما أن يتسلسل ، أو يدور، أو ينتهي بالآخر إلى فاعل قديم واجب الوجود لذاته. أما الدور والتسلسل فهما باطلان(٢) وأما إثبات الوسائط مع الانتهاء إلى موجود واجب الوجود لذاته [فنقول : لما دلت الدلائل على أنه لا بد من الاعتراف بوجود واجب الوجود لذاته] (٣) ولم تدل الدلائل على وجود هذه الوسائط ، وجب إسقاط هذه الوسائط من البين ، والاكتفاء بالموجود الذي هو واجب الوجود لذاته. فهذه طريقة القائلين بالأولى والأخلق.
__________________
(١) من (ز).
(٢) محالان (س).
(٣) من (ز).
وأما إقامة الدلالة على [نفي] (١) هذه الوسائط.
فاعلم أن المتكلمين ذكروا في هذا الباب طرقا واهية ونحن نذكرها وننبه على ضعفها.
الحجة الأولى : قالوا : ليس القول بحدوث بعض تلك المراتب وقدم بعضها أولى من العكس. فإما أن نحكم بحدوث الكل ، وحينئذ يلزم ، إما التسلسل أو الدور ، أو نحكم بقدم هذا العالم وهو المطلوب. ولقائل أن يقول : ما المراد من قولكم : ليس البعض بأولى من البعض؟ إن أردتم [عدم] (٢) الأولوية في نفس الأمر فهذا ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال : إن بعض تلك المراتب أولى بالحدوث ، والمرتبة المغايرة للمرتبة الأولى أولى بالقدم؟ وإن كنا لا نعرف سبب تلك الأولوية ، فإن عقولنا ضعيفة ، وأفهامنا قاصرة ، وليس كل ما لا نعرفه ، وجب أن لا يكون موجودا.
وإن أردتم به عدم الأولوية في أذهاننا وعقولنا ، فهذا لا يفيد إلا وجوب التوقف وعدم الجزم بقسم واحد من هذه الأقسام المحتملة فإما أن نجزم بنفي البعض وثبوت الباقي. وذلك باطل قطعا.
الثانية : قالوا : لا يجوز أن يكون شيء من الذوات علة لذات أخرى. لأنا بينا في المسألة المتقدمة : أن الذوات بأسرها متساوية في الذاتية ، وأن الاختلاف ليس إلا بالصفات، فلو كانت ذات علة لذات ، لكان كل ذات علة لكل ذات. فيلزم كون الذات المعينة علة لنفسها. ويلزم كون الذات المعلولة عامة للذات التي فرض كونها علة [وكل] (٣) ذلك محال. فيثبت أنه لا يجوز أن يكون شيء من الذوات علة لشيء منها.
ولقائل أن يقول : هذا بناء على أن الذوات متساوية في كونها ذوات ،
__________________
(١) من (ز).
(٢) من (س).
(٣) من (س).
ونحن قد بينا بالبرهان اليقيني أن ذلك باطل ، إذ لو كان الأمر كذلك ، لزم أن تكون الأشياء المتساوية ، يلزمها لوازم مختلفة. وذلك محال في العقول.
أما لو قلنا : إنها في أنفسها مختلفة إلا أنها مع اختلافها في حقائقها متشاركة في كونها ذوات ، بمعنى أنها أمور غير تابعة في وجودها لغيرها ، فعلى هذا التقدير فقد حصلت أشياء مختلفة في الماهية ، مع أنها تكون مشتركة في بعض اللوازم. فثبت : أن الحق ما ذكرناه. وإذا كان الأمر كذلك فقط سقط كلامكم.
وأيضا : فمدار هذه الحجة على مقدمتين :
إحداهما : أن الذوات بأسرها متساوية في الذاتية.
والثانية : أن الأشياء المتساوية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر. فنقول : إن كان الأمر كذلك كما ذكرتم ، فحينئذ يلزمكم جواز أن ينقلب الخالق مخلوقا والمخلوق خالقا [والممكن واجبا] (١) والواجب ممكنا ، وحينئذ يبطل عليكم كل ما ذكرتموه [ولما لم يلزم هذا ، فكذا] (٢) هاهنا.
الحجة الثالثة : إن فاعل العالم بتقدير كونه محدثا ، فإنه يجب أن يكون الإله الأكبر [الذي هو الخالق لخالق هذا العالم قادرا على خلقه وإيجاده ، وإذا ثبت ذلك فوجب أن يكون] (٣) قادرا على كل الممكنات ، وإذا ثبت ذلك فوجب أن يكون قادرا على خلق هذا العالم ، وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا شيئا آخر يقدر على خلق هذا العالم ، لزم حصول مقدور واحد لقادرين وهو محال. فوجب أن يكون هذا الفرض محالا.
واعلم : أن هذه الحجة لا تتم إلا إذا قلنا : إنه لا يؤثر شيء في وجود [شيء] (٤) إلا قدرة الله تعالى ، وأكثر أهل العالم ينازعون في هذا الباب ،
__________________
(١) من (ز).
(٢) من (س).
(٣) من (س).
(٤) من (س).
وستأتي [هذه المسألة بالاستقصاء] (١) في باب قادرية الله تعالى.
فهذا تمام الكلام في حكاية كلام المتكلمين في إثبات كونه تعالى قديما أزليا.
وأما الوجه الذي تمسكوا به في إثبات كونه باقيا أبديا. فهو أنهم قالوا : ثبت بما ذكرنا كونه تعالى قديما أزليا. فنقول : ما ثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه. واحتجوا على صحة هذه المقدمة بوجوه :
الحجة الأولى : وهي الحجة التي عليها تعويل الأشعرية. أن قالوا : هذا القديم لو عدم بعد وجوده ، فإما أن يكون عدمه لإعدام معدم أو لطريان ضد ، أو لانتفاء شرط ، والأقسام الثلاثة باطلة. فالقول بعدم القديم باطل. فيفتقر هاهنا إلى بيان أمرين : أحدهما : بيان حصر الأقسام ، والثاني : إفساد كل واحد منها. أما بيان الحصر فهو أنا نقول : كل شيء عدم بعد وجوده ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العدم جائزا. إذ لو كان ذلك العدم واجبا لذاته ، لكان ذلك العدم دائما ، ولو كان العدم دائما ، لما كان (٢) الوجود أزليا ، وإذا كان ذلك العدم أمرا جائزا ، وجب أن يكون له مرجح ، وذلك المرجح إما أن يكون عدميا أو وجوديا ، فإن كان عدميا فهو أن يقال : إنه إنما عدم لأجل أنه عدم شيء. كان ذلك الشيء محتاجا في وجوده إليه ، وهذا هو الذي قلنا : إنه ينعدم لانتفاء شرط ، وإما إن كان المقتضى لذلك العدم أمرا وجوديا فتأثيره في ذلك الإعدام ، وأما أن يكون على سبيل الاختيار (٣) وهو الذي سميناه الإعدام بالفاعل ، أو على سبيل الإيجاب ، وهو الذي سميناه بالعدم لأجل طريان الضد ، فيثبت بما ذكرنا : بيان حصر هذه الأقسام [الثلاثة] (٤) وأما بيان فساد كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة فهو أن نقول : إنما قلنا : إنه يستحيل أن يصير معدوما لأجل أن معدما أعدمه لوجهين :
__________________
(١) من (س).
(٢) لكان (س).
(٣) الإعدام (ز).
(٤) من (س).
الأول : إن وقوع الإعدام بالفاعل محال غير مقبول ، لأن الفاعل لا بدّ له من فعل ، والقادر لا بدّ له من أثر ، والعدم نفي محض وسلب صرف ، فالقول بأن العدم وقع بالفاعل محال.
والثاني : وهو أن ذلك الفاعل الذي يعدمه إما أن يكون قديما [أو حادثا. لا جائز أن يكون قديما] (١) لأنه ليس أحد القديمين بأن يقدر على إعدام الثاني ، أولى من العكس. ولا جائز أن يكون حادثا. لأن القديم أقوى وجودا من الحادث ، فيمتنع كون الحادث قادرا على إعدام القديم. وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يصير معدوما لطريان ضده لوجوه :
الأول : إن المضادة حاصلة بين الضدين ، وإذا كان كذلك كان طريان الضد الحادث مشروطا بانتفاء الضد الثاني ، فلو جعلنا انتفاء الضد الثاني معللا بطريان الضد الحادث ، لزم الدور وهو محال.
والثاني : وهو أن المضادة حاصلة من الجانبين ، فليس انتفاء الباقي لأجل طريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لأجل الباقي. بل هذا الجانب (٢) أولى ، لأن الدفع أسهل من الرفع.
الثالث : وهو أن ذلك الضد إن كان [حادثا] (٣) قديما ، فحينئذ قد كان الضدان موجودين في الأزل وذلك محال. وإن كان حادثا ، كان الأصل الحادث أضعف وجودا من القديم ، والأضعف لا يقوى على إعدام الأقوى. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يقال : إن ذلك القديم ، عدم لانتفاء شرط ، لأن ذلك الشرط ، إن كان قديما كان الكلام في كيفية عدمه ، كالكلام في عدم القديم الأول ، وإن كان حادثا فهو محال. لأن القديم متقدم في وجوده على الحادث ، والمتقدم على الشيء يمتنع كونه مشروطا به. فيثبت بما ذكرنا : أن القديم لو عدم بعد وجوده ، لكان عدمه ، إما أن يكون لإعدام معدم ، أو لطريان ضد ،
__________________
(١) من (س).
(٢) الحادث (س).
(٣) من (س).
أو لانتفاء شرط. وثبت أن الكل محال ، فكان القول بعدم القديم محالا.
الحجة الثانية : وهي التي استنبطها للمتكلمين (١) في إثبات أن العدم على القديم محال: أن نقول هذا القديم إن كان واجب الوجود لذاته كان العدم عليه محالا وإن كان ممكن الوجود لذاته كان وجوده لمرجح ، وذلك المرجح يلزم إما أن يكون فاعلا مختارا ، أو علة موجبة ، والأول باطل لأن الفاعل المختار إنما يفعل بواسطة القصد [والاختيار ، والقصد] (٢) إلى تكوين الشيء ، إنما يكون قبل حدوثه ، أو حالة حدوثه.
والعلم به بديهي ، فإن كل ما يقع بواسطة القصد والاختيار ، فهو حادث ، وكل ما ليس بحادث امتنع وقوعه بإيقاع الفاعل المختار ، ولما بطل هذا القسم ، ثبت : أن القديم لو كان ممكن الوجود لذاته ، لكان وجوده معللا بمؤثر موجب بالذات ، وذلك الموجب (٣) إن كان ممكنا عاد التقسيم الأول ، فبقي أنه كان واجب الوجود لذاته. ونقول : تأثيره في إيجاد ذلك المعلول القديم ، إن كان موقوفا على شرط ممكن الوجود ، عاد التقسيم في كيفية وجود ذلك الشرط ، وإن كان موقوفا على شرط واجب الوجود أو ما كان موقوفا على شرط أصلا ، فحينئذ يلزم من دوام وجوب تلك العلة الواجبة لذاتها ، أو دوام شرط التأثير الذي هو موجود واجب الوجود لذاته : دوام ذلك الأثر. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان قديما فهو إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، وإما أن يكون معلولا لعلة واجب الوجود لذاتها ، ويثبت أن على كلا التقديرين أن يكون العدم عليه محالا. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما يثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه.
الحجة الثالثة : أن كل ما كان قديما فإنه يكون واجب الوجود لذاته. [وما كان كذلك] (٤) فإن العدم عليه ممتنع. بيان المقام الأول :
__________________
(١) استنبطها المتكلمون (ز).
(٢) من (س).
(٣) الممكن (ز).
(٤) زيادة.
أن القديم لو لم يكن واجب الوجود لذاته ، لكان ممكن الوجود لذاته ، وهو يحتاج إلى المؤثر. إلا أن ذلك محال (١) ، لأن القديم ليس له حال عدم ، ولا حال حدوث البتة ، بل هو أبدا كان موجودا ، فلو احتاج إلى المؤثر ، لكان إنما احتاج إلى المؤثر ، حال وجوده. فيلزم أن يكون ذلك المؤثر مؤثرا في حال وجوده ، فيلزم تحصيل الحاصل ، وتكوين الكائن ، وذلك محال. فيثبت بما ذكرنا : أن كل قديم فإنه واجب الوجود لذاته.
وبيان المقام الثاني وهو أن كل واجب الوجود لذاته ، فإنه لا يقبل العدم : هو أن نقول : واجب [الوجود] (٢) لذاته هو الذي لا تكون حقيقته قابلة للعدم ، وما كان كذلك امتنع طريان العدم عليه. فيثبت بما ذكرنا : أن كل قديم فإنه واجب الوجود لذاته ، ويثبت أن كل واجب الوجود لذاته ، فإنه يمتنع العدم عليه ، ينتج : أن كل ما يثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه. هذه الحجة لخصناها للمتكلمين [وهذا جملة ما يليق بأصول الكلام في هذا الباب](٣).
وأما الطرق اللائقة بالأصول الفلسفية في إثبات كونه تعالى أزليا أبديا. أن نقول :
الوجه الأول (٤) : لو صح عليه العدم بعد وجوده ، لكان عدمه بعد وجوده لا بد وأن يكون لسبب ، إما وجودي ، وإما عدمي. وحينئذ يكون وجوده موقوفا على عدم ذلك المعدم ، وما يكون وجوده موقوفا على اعتبار حال الغير ، كان ممكنا لذاته. فواجب الوجود لذاته [ممكن الوجود لذاته] (٥) هذا خلف.
__________________
(١) عبارة (س) :
فإنه يكون واجب الوجود لذاته ، وكل ما كان غير واجب الوجود لذاته ، كان ممكن الوجود لذاته ، وكل ممكن الوجود لذاته ، فهو محتاج إلى المؤثر. ينتج : أن ذلك القديم محتاج إلى المؤثر ، إلا أن ذلك محال ... الخ.
(٢) من (س).
(٣) من (ز).
(٤) زيادة.
(٥) من (س).
والوجه الثاني في بيان امتناع هذا المعنى : أن حقيقة ماهيته ، إن لم تكن قابلة للعدم البتة ، فقد حصل المطلوب ، وإن كانت قابلة [للعدم] (١) فإما أن يكون قبولها للوجود والعدم على سبيل السوية ، وإما أن يقال : إن جانب الوجودية أولى من جانب [العدم] (٢) فإن كان الأول لزم افتقاره إلى المرجح ، لما ثبت أن الممكن المتساوي [لا] (٣) يعقل رجحان أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح ، وحينئذ يكون الواجب لذاته ، واجبا بغيره. وهو محال. [وإن كان الثاني وهو أن يقال : إن حقيقته قابلة للعدم وللوجود ، إلا أن الوجود أولى بها من العدم. فنقول : هذا محال] (٤) لأنا بينا : أن الجمع بين أصل الإمكان مع حصول الأولوية محال باطل. فيثبت بما ذكرنا : أن واجب الوجود لذاته ، يجب كونه أزليا وأبديا.
الوجه الثالث في بيان وجوب كونه أزليا وأبديا : أنه حين كان موجودا. إما أن يقال : إنه كان ممكن الوجود لذاته ، أو كان واجب الوجود لذاته.
فإن قلنا : إنه ممكن الوجود لذاته ، وكل ممكن الوجود لذاته فإنه لا يوجد إلا بسبب. فالمغني عن السبب مفتقر إلى السبب. هذا خلف. وإن قلنا : إنه كان واجب الوجود لذاته فلو فرضنا أنه عدم في وقت من الأوقات ، فحينئذ انتقل من الوجوب الذاتي ، إما إلى الإمكان الذاتي ، أو إلى الامتناع الذاتي. وكل ذلك محال. لأن على هذا التقدير ، يكون ذلك الوجوب الذاتي قابلا للتغير ، وكل ما كان قابلا للتغير فإنه لا يكون وجوبا بالذات ، ينتج : أن الوجوب بالذات ليس وجوبا بالذات. هذا خلف. فيثبت بمجموع ما لخصناه : أن واجب الوجود لذاته ، يجب أن يكون أزليا وأبديا. وهذا تمام المقصود من هذا الباب. وبالله التوفيق.
__________________
(١) من (س).
(٢) من (س).
(٣) من (ز).
(٤) من س.
المسألة السابعة
في
استقصاء الكلام في حقيقة الأزل والأبد
اعلم أن هاتين اللفظتين مختصرتان ، ولأجل اختصار هما لا يقف العقل على تمام المعنى المقصود من لفظ الأزل والأبد. والعلماء ذكروا أمثلة كثيرة كاشفة عن حقيقة هذا المعنى.
فالمثال الأول : قالوا : لو فرضنا أن داخل الفلك الأعظم كان مملوءا من حبات الجاورس (١) ، وفرضنا أن في كل ألف ألف سنة تفنى حبة واحدة من تلك الحبات ، ثم فرضنا اجتماع هذه الحبات بأسرها على كثرتها ، وامتناع وقوف العقل على جزء من أجزائها ، ثم قابلنا ذلك المجموع بالمعنى المفهوم من الأزل ، كان ذلك المجموع بالنسبة إلى الأزل ، كالعدل بالنسبة إلى الوجود. وذلك لأن ذلك المجموع وإن بلغ في الكثرة إلى الحد الذي يعجز العقل عن الإحاطة بالجزء القليل منه ، إلا أن العلم البديهي حاصل بأنه إنما يتولد من ضم المقادير المتناهية بعضها إلى بعض : مرات متناهية ، والمجموع الحاصل من ضم المتناهي إلى المتناهي يكون متناهيا.
فهذا المجموع له أول. واللانهاية واللاأولية غير متناهية. والمتناهي بالنسبة إلى [غير] (٢) المتناهي ، يكون كالعدم في مقابلة الوجود. وهذا المثال
__________________
(١) من (ز).
(٢) من (ز).
يكشف حقيقة الأزلية من بعض الوجوه.
المثال الثاني : إن لرقوم حساب الهند ترتيبا عجيبا ، فإن الواحد في المرتبة الأولى واحد، وفي الثانية عشرة ، وفي الثالثة مائة ، وفي الرابعة ألف ، وفي الخامسة عشرة آلاف وفي السادسة مائة ألف ، وفي السابعة ألف ألف.
وإذا عرفت هذا فنقول : لنفرض أن بحسب كل رأس دائرة (١) من مجموع الفلك الأعظم ، حصل عالم مثل هذا العالم الجسماني المشتمل على الأفلاك السبعة (٢) والعناصر الأربعة ، ثم فرضنا أن هذه العوالم امتدت امتدادا بحيث صارت في الثخن بمقدار قشرة الثوم ، ثم أمليت جميع تلك السطوح من مراتب الأعداد برقوم الهندسة (٣) ثم أوقعت المقابلة بين مجموع تلك الحسابات وبين حقيقة الأزل ، كان ذلك المجموع في مقابلة حقيقة الأزل ، كالعدم في مقابلة الوجود ، بالبيان الذي لخصناه في المثال الأول. فظهر بهذين المثالين : أن حقيقة الأزل والأبد لا قدرة للعقول البشرية على الوقوف عليها. ثم نقول : إن هذه الحسابات التي ذكرنا أنها مقادير متناهية ، والعقول البشرية لا سبيل لها إلى الوقوف على ذرة (٤) من ذراتها. إذا كان [الحال في] (٥) المقادير المتناهية كذلك ، فما ظنك بما لا نهاية له؟ فيثبت : أن العقول عاجزة عن الوصول إلى أوائل هذه المعاني ، فضلا عن الانتهاء إلى أواخرها وغاياتها.
وإذا وقفت على حقيقة الأزل والأبد من الاعتبارات المذكورة ، فنقول : هاهنا مباحث لا بد من الوقوف عليها.
فالأول : قالوا : تقدّم الله تعالى على هذا اليوم ، إما أن يكون بمدة متناهية ، أو بمدة غير متناهية ، فإن كان الأول لزم كون الله تعالى حادثا ، وهو محال.
وإن كان الثاني لزم أن يقال : إنه قد انقضى قبل هذا اليوم مدة غير
__________________
(١) إبرة (س).
(٢) التسعة (س ، ز).
(٣) الهند (س).
(٤) كثرة (س).
(٥) من (ز).
متناهية ، [لكن انقضاء مدة غير متناهية] (١) محال. فكان حصول هذا اليوم موقوفا على شرط محال. والموقوف على المحال : محال. فكان يجب أن يكون حصول هذا اليوم محالا. وحيث لم يكن كذلك : علمنا أن الذي انقضى قبله ، كان متناهيا ، لا غير متناهي.
والثاني : إن الأزل والأبد يتقابلان تقابل المتناقضين ، وكل أمرين هذا شأنهما ، فلا بد وأن يتميز أحدهما عن الآخر ، فيجب أن يكون آخر الأزل متصلا بأول الأبد ، إلا أن هذا محال. لأن كل [حد] (٢) فرض كونه آخرا للأزل ، وأولا للأبد ، فإن آخر الأزل وأول الأبد ، كان موجودا قبله ، لأن الوقت الذي يكون متقدما على ذلك الوقت بمقدار مائة سنة ، يكون خارجا عن الأزل وداخلا في الأبد ، وعلى هذا التقدير يمتنع تميز الأبد عن الأزل ، وقد فرضناه متميزا عنه. هذا خلف.
الثالث : إذا قلنا : كان الله موجودا في الأزل ، وسيكون موجودا في الأبد. فقولنا : كان : يفيد أمرا كان موجودا ، وقد انقضى الآن ، وما بقي. وقولنا : يكون. يفيد أمرا سيكون موجودا في الأبد ، وهو الآن غير حاصل. فإذن كل ما يصدق عليه أنه كان وسيكون ، ففيه أحوال متغيرة متجددة. وذات الله تعالى ، لما كان واجب الدوام ، ممتنع التغير ، وجب أن لا يصدق عليه : أنه كان في الأزل ، وسيكون في الأبد ، وأنه كان الآن ، وكل ما كذبت عليه هذه الألفاظ الثلاثة ، فإنه يمتنع كونه موجودا. هذا خلف.
واعلم : أن مباحث الأزل والأبد ذكرناها على الاستقصاء التام ، في الكتاب المشتمل على البحث عن حقيقة المكان والزمان.
وليكن هذا آخر كلامنا في الكتاب الأول من العلم الإلهي.
وقال المصنف مولانا الداعي إلى الله ، رحمة الله عليه : تم ذلك يوم الجمعة من ذي القعدة سنة ٦٠٣ ثلاث وستمائة. والحمد لله على كل حال.
__________________
(١) من (س).
(٢) من (ز).
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي ، الطاهر الزكي ، وعلى آله وصحبه وسلم. كلما ذكرك (١) الذاكرون ، وغفل عن ذكره الغافلون] (٢).
تم الجزء الأول : من كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» للإمام فخر الدين الرازي.
ويليه الجزء الثاني. وموضوعه : «الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه».
__________________
(١) الصحيح (ذكره).
(٢) من (ز).
مواضیع الکتاب الاول
من الطالب العالية من الهلم الإلهي
التعريف بكتاب المطالب العالية ، وهو تسعة أجزاء................................ ٥
موضوع الكتاب هو البحث في ذات الله تعالى وصفاته............................. ٧
علم الكلام هو الفلسفة الإسلامية................................................ ٨
علم الكلام الكتاب [٥٤٣ ـ ٦٠٦ ه]........................................ ١١
ثناء العلماء عليه.............................................................. ١١
ومن مؤلفات الإمام فخرالدين الرازي........................................... ١٤
توثيق كتاب المطالب العالية.................................................... ١٥
الجزء التاسع هو آخر أجزاء المطالب العالية.................................... ١٨
مخطوطات الكتاب............................................................ ١٩
مخطوطة أسعد أفندي في تركيا ارسل صورتها
الدكتور حسين آتای الى مصر................................................. ٢٠
صور المخطوطات............................................................ ٢٢
مقدمة مؤلف كتاب المطالب العالية. وفيها فصول................................ ٣٥
الفصل الأول :
في بيان أن هذا العلم أشرف العلوم على الإطلاق................................ ٣٧
الفصل الثاني :
في انه هل للعقول البشرية سبيل الى تحصيل الجزم واليقين في هذا العلم أم يكتفى في بعض
مباحثه ومطالبه بالأخذ بالأولى والأخلق؟........................................ ٤١
الفصل الثالث :
في أن تحصيل هذه المعارف المقدسة هل الطريق إليه واحد ، أم أكثر من واحد؟....... ٥٣
الفصل الرابع :
في ضبط معاقد هذا العلم..................................................... ٦٠
الجزء الأول من كتاب المطالب العالية في الدلائل الدالة على إثبات الآله لهذا العالم المحسوس.
وإثبات كونه واجب الوجود لذاته............................................... ٦٥
تمهيد........................................................................ ٦٧
القسم الأول من الجزء الأول من كتاب المطالب العالية : في ذكر الدلائل القطعية اليقينية وفيه مقدمة وفصول ٦٩
المقدمة : في بيان معاقد هذا الباب............................................ ٧١
مقدمة الجزء الأول من كتاب المطالب العالية : الفصل الأول : في مراتب مقدمات هذه الدلائل على الوجه المشهور عند الحكماء..................................................................... ٧٢
الفصل الثاني : في بيان أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر، الإ لمرجح... ٧٤
الفصل الثالث : في تقرير قول من يقول هذه المقدمة استدلالية.................. ٨٧
الفصل الرابع : في حكاية شبهات القائلين بأن رجحان الممكن لا يتوقف على المرجح ٩١
الفصل الخامس : في تقرير الجواب عن هذه الشبهات......................... ١١٥
الفصل السادس : في إيراد نوعين آخرین من السؤال.
على قولنا : الممكن لايد له من مرجح........................................ ١٢٢
الفصل السابع : في بيان أن هذا البرهان المذكور في إثبات معرفة واجب الوجود ، لا يتم على أصول الحكماء إلا بعد إقامة الدلالة على أن العلة واجبة الحصول ، حال حصول المعلول.................... ١٣٠
الفصل الثامن : في إيراد هذا البرهان على وجه آخر.
ویظن أن إيراده على ذلك الوجه يوجب سقوط الأسئلة عنه.
وبيان أن ذلك الظن خطأ من الناس.......................................... ١٣٤
الفصل التاسع : في إقأمة البرهان على أن القول بالدور باطل.................... ١٣٦
الفصل العاشر : في ابطال التسلسل.......................................... ١٤١
الفصل الحادي عشر :
في ابطال التسلسل ، سوى ما تقرر ذكره...................................... ١٥٤
الفصل الثاني عشر : في إيراد سؤال ، على القائل المذكور
في إثبات واجب الوجود لذاته ، وتحقق الجواب الحق عنه......................... ١٥٨
الفصل الثالث عشر : في حكاية شبهات من يقدح في إثبات واجب الوجود لذاته ١٦٤
الفصل الرابع عشر : في بيان أن العالم المحسوس ، ليس واجب الوجود لذاته... ١٧٠
الفصل الخامس عشر : في اثبات إله العالم ـ عزوجل بناء على التمسك بإمكان الصفات ١٧٧
الفصل السادس عشر : في بيان كيفية الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الإله القادر ١٨٤
الفصل السابع عشر : في تعديد الدلائل المستنبطة من إمكان الصفات.......... ١٩٢
الفصل الثامن عشر : في إثبات العلم بوجود الإله تعالى ، بناء على التمسك بحدوث الذوات ٢٠٠
الفصل التاسع عشر : في تقرير طريقة للحدوث ، لا يحتاج فيها إلى ضم الإمكان ٢٠٧
الفصل العشرون : في تقرير قول من يقول : الاستدلال بالحدوث على الفاعل ، لايتم إلا بدليل منفصل ٢١٠
الفصل الحادي والعشرون : في إثبات العلم بالصانع ، بطريقة حدوث الصفات... ٢١٥
الفصل الثاني والعشرون : في الاستدلال على وجود الإله الحكيم الرحيم ، بكيفية تولد الإنسان من النطفة ٢١٨
الفصل الثالث والعشرون :
في اقامة الدلالة على وجود إله العالم ، بناء على حدوث الصفات ، من طريق آخر ٢٢٨
الفصل الرابع والعشرون : فی تقریر طريقة أخرى في أثبات الإله ـ تعالى هذا الخلق ٢٣٣
القسم الثاني من الجزء الأول
من كتاب المطالب العالية
في تفصيل الدلائل الدالة على وجود الإله القديم.
الدلائل الموجودة في عالم الأفلاك وعالم العناصر
وفيه فصول................................................................ ٢٣٧
الفصل الأول :
في بيان أن الاستكثار من هذه الدلائل من أهم المهمات......................... ٢٣٩
الفصل الثاني :
في حكاية كلمات منقولة عن أكابر الناس في هذا الباب......................... ٢٤٠
الفصل الثالث :
في تمديد الدلائل التي تذكرها أصناف طوائف العالم............................. ٢٤٩
القسم الثالث من الجزء الأول :
من المطالب العالية في الكلام في الوجوب والوجود والإرادات والنعين والماهية. وما يشبهها من المطالب والمباحث.
وفيه مسائل............................................................... ٢٧٩
المسألة الأولى : في البحث عن معنى قولنا : إنه واجب الوجود لذاته........... ٢٨١
المسألة الثانية : في أن وجوب الوجود.
هل هو مفهوم ثبوتي ، أم لا؟................................................ ٢٨٣
المسألة الثالثة : في أن وجود الله ـ تعالى نفس ماهيته ، أو صفة زائدة على ماهيته؟ ٢٩٠
المسألة الرابعة : في تحقيق القول في بيان أن المبدأ الأول. هل هو تلك الحقيقة المخصوصة؟ ٣١١
المسألة الخامسة : في بيان أنه ـ سبحانه ـ يخالف جملة الممكنات ، لذاته المخصوصة لا لصفة زائدة على الذات ٣١٣
المسألة السادسة : في بيان كونه ـ تعالى ـ قديماً أزليا............................ ٣١٨
المسألة السابعة : في استقصاء الكلام في حقيقة الأزل والأبد.................. ٣٢٩
فهرس مواضيع الكتاب الأول من المطالب العالية.............................. ٣٣٣
تم فهرس الجزء الأول من كتاب المطالب العالية من
العلم الإلهي. للإمام فخر الدين الرازي