المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

أن يكون حقا فالمقصود حاصل. أما أنه باطل فلأنا نعلم بالضرورة حصول المخالفة بين جسم النار وبين جسم الأرض ، في الأحوال والصفات ، فالقول بأن الجسمية التي بها الاشتراك ، وهذه الصفات التي بها الاختلاف. موجودان متباينان لا تعلق لأحدهما بالآخر لا بكونه صفة له ، ولا بكونه موصوفا به : هو مكابرة. وأما أن بتقدير أن يكون حقا (١) فالمقصود حاصل ، وذلك لأن على هذا التقدير تكون الحجميات ذوات قائمة بأنفسها ، متساوية في تمام ماهياتها ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يصح على كل واحد منها كل ما صح على الآخر. فهذا برهان قوي ظاهر في أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية.

واحتج القائلون : بأن الأجسام لا يمكن أن تكون متماثلة في تمام الماهية بوجوه :

الأول : إن الأجسام لو كانت متماثلة في تمام الماهية ، لكان تغير كل واحد منها زائدا عليه ، وهذا محال ، فذاك محال. بيان الشرطية : أن الأجسام لما كانت متساوية في الجسمية ، وكانت مختلفة في التعين ، فمن المعلوم أن ما به المشاركة غير ما به المباينة ، فيلزم كون التعينات مغايرة لتلك الذوات. وبيان أن القول ، بأن التعين زائد على الذات باطل : أن التعينات مشتركة في كونها تعينات ، ويمتاز كل واحد منها عن الآخر بكون ذلك التعين. فيلزم أن يحصل للتعين تعين آخر ، ويلزم التسلسل ، وهو محال ، فيثبت أنا لو قلنا : بأن الأجسام متماثلة [في تمام] (٢) الماهية ، فإنه يلزمنا هذا المحال ، أما إذا لم نقل بهذا القول لا يلزمنا هذا المحال ، لأنا نقول : إن تعين كل جسم عبارة عن حقيقته المخصوصة ، وتلك الحقيقة بتمام ماهيتها مغايرة للحقيقة الأخرى ، فلا يلزم كون التعين زائدا على الذات.

الشبهة الثانية : قالوا : لو كانت الأجسام متساوية في الجسمية. ولا شك أنها مختلفة بحسب ما لكل واحد منها من التعين ، فحينئذ يلزم أن يكون تعين كل واحد منها زائدا على ذاته المخصوصة. وإذا كان كذلك فاختصاص كل واحد بتعينه المعين ، إما أن يكون لا لأمر وهو محال ـ لأن الممكن لا يستغني عن

__________________

(١) وأما أن لا يكون حقا (ز).

(٢) من (ز).

١٨١

المرجح ـ أو لذاته ، وهو محال ، لأن الجسمية مشترك فيها بين الكل ، والتعين المعين غير مشترك فيه ، وما به الاشتراك لا يكون علة لما به الاختلاف ، أو للفاعل المباين وهو محال. لأن الأجسام لما كانت بأسرها متساوية في الماهية المسماة بالجسمية ، كان اختصاص بعضها بقبول ذلك الأثر الخاص من الفاعل المباين حصولا لأحد طرفي الممكن (١) لا لمرجح ، فلم يبق إلا أن يكون ذلك بسبب القابل وهو أن ذلك القابل [كان قبل حصول هذا التعين موصوفا بأحوال مخصوصة ، لأجلها استعد ذلك القابل] (٢) لقبول هذا الأثر الخاص ، وعلى هذا التقدير ، فالأشياء المتساوية في تمام الماهية ، يمتنع حصول التغاير فيها لا بسبب القابل. فيثبت أن الأجسام لو كانت متساوية في تمام الماهية ، لما كانت ذوات قائمة بأنفسها ، بل كانت صفات حالة في القوابل ، والمحال. وأنتم قد دللتم على أن كون الجسم حالا في المحل أمر محال ، فيثبت أن الأجسام يمتنع كونها متساوية في تمام الماهية.

الشبهة الثالثة : لو كانت الأجسام متساوية (٣) في الجسمية ، لكان اختصاص كل منها بصفته المعينة رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، لأن المقتضى لحصول تلك الصفة لا يمكن أن يكون ذاتا ، لأن سائر الذوات مساوية (٤) لذاته في تمام الماهية مع أن هذه الذوات مختلفة في هذه الصفات ، ولا يمكن أن يكون المقتضى لتلك الصفة المعينة (٥) قوة حالة في ذلك الجسم ، لأن الكلام في اختصاص ذلك الجسم (٦) ، بتلك القوة ، كالكلام في اختصاصه بذلك العرض ، فإن كان ذلك لقوة (٧) أخرى لزم التسلسل ، وهو محال. ولا يمكن أن يكون للفاعل المباين (٨) لأن الذوات لما كانت متساوية في تمام الماهية ، امتنع كون بعضها أولى ببعض الصفات بل كانت نسبة كل الذوات إلى كل الصفات على السوية ، فالقول بأن الفاعل المباين (٩) خصص هذه

__________________

(١) لأحد الطرفين (س).

(٢) من (ز).

(٣) متماثلة في الماهية (س).

(٤) متساوية في تمام الماهية (س).

(٥) المعتبر (س).

(٦) تلك الجسمية (س).

(٧) فإن كانت تلك القوة (ز).

(٨) المتأثر (س).

(٩) المتأثر (س).

١٨٢

الذات بهذه الصفة دون سائر الذوات ، ودون سائر الصفات [يكون] (١) رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال ، فيثبت أن القول بتماثل الأجسام يفضي إلى هذا المحال. أما إذا قلنا : إنها ذوات مختلفة لذواتها ولحقائقها ، زال هذا الإشكال ، فكان هذا القول أولى.

والجواب عن الشبهة : أن نقول : لم لا يجوز أن يقال [ماهية الجسم] (٢) وماهية التعين ، إذا اتصل كل واحد منهما بالآخر ، صار كل واحد منهما علة لتعين الآخر؟ وبهذا الطريق ينقطع التسلسل.

والجواب عن الشبهة الثانية : أن نقول : إن التعين ، وإن كان قيدا زائدا لكن لم لا يجوز أن يكون قيدا عدميا؟ وعلى هذا التقدير يستغنى عن العلة.

والجواب عن الشبهة الثالثة : إن الفلاسفة يقولون : كل حالة حاصلة في محل (٣) فهي مسبوقة بحصول حالة أخرى ، وبكون الحالة السابقة توجب استعداد المادة لقبول الحالة المتأخرة على التعين.

وأما المتكلمون فإنهم يقولون : الفاعل المختار لا يمتنع أن يخصص بعض الذوات ببعض الصفات لا لمرجح. فهذا منتهى الكلام في هذا الباب [والله ولي النعم والإحسان] (٤).

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) المحل فإنه (ز).

(٤) من (ز).

١٨٣

الفصل السادس عشر

في

بيان كيفيّة الاستدلال بإمكان الصفات

على وجود الإله القادر

وتقرير هذه الطريقة أن يقال : الأجسام متساوية في الجسمية ومختلفة في الكيفيات والأحياز ، والمقادير ، فاختصاص كل واحد منها بحالته المعينة ، (وصفته المعينة) (١) إما أن يكون لأمر ، أو لا لأمر.

والقسم الثاني باطل ، لأن الأجسام لما كانت متساوية في تمام الماهية ، فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي ، لما ثبت أن المتماثلات في تمام الماهية ، يجب كونها متساوية في قابلية الصفات والأعراض ، ولما ثبت استواء الكل في القبول ، فلو اختص كل واحد منها بصفته المعينة دون الباقي لا لأمر ، لزم وقوع الممكن لا لمرجح ، وهو محال ، وقد ثبت فساده. ولما ثبت فساد هذا القسم وجب أن يكون اختصاص كل جسم بصفته المعينة بسبب. فنقول :

وذلك السبب أن يكون (٢) شيئا حالا في الجسم ، أو شيئا يكون محلا له ، أو شيئا لا يكون حالا فيه ولا محلا له ، وهذا القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام : لأنه إما أن يكون جسما ، أو جسمانيا ، أو لا (يكون) (٣) جسما ولا

__________________

(١) من (س).

(٢) فلو كان (س).

(٣) من (ز).

١٨٤

جسمانيا ، فهذه بأسرها سوى القسم الأخير باطلة. فبقي أن يكون الحق هو هذا القسم.

وأما القسم الأول : وهو أن يقال : المقتضى (لحصول) (١) هذه الصفات قوى حالّة في هذه الأجسام : فنقول : هذا محال. لأن الأجسام كما أنها بعد تماثلها في ماهياتها قد اختلفت في الأعراض ، فكذلك قد اختلفت في القوى الموجبة لتلك الأعراض وذلك يوجب أن تكون تلك القوى (موجبة) (٢) لقوى أخرى إلى غير النهاية. وهو محال.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الموجب : لهذه الصفات المختلفة مواد الأجسام وقوابلها ، فهذا أيضا محال. لأنا أقمنا البرهان اليقيني على أن الجسم يمتنع أن يكون حالا في محل ، وحاصلا في قابل.

والقسم الثالث : وهو أن يقال : المقتضى لهذه الصفات جسم آخر مباين. فهذا أيضا محال. لأن هذا الجسم يكون لا محالة مخصوصا بالصفات التي لأجلها صار مؤثرا في سائر الأجسام ومدبرا لها ، والتقسيم الأول يعود في سبب اختصاص ذلك الجسم بتلك الصفات.

والقسم الرابع : وهو أن يقال : المقتضى لحصول هذه الصفات في هذه الأجسام صفات أخرى حالة في الأجسام الأخر (٣) ، فهذا : أيضا باطل لعين الدليل المذكور ، ولما بطل القول بهذه الأقسام ، ثبت أن الحق هو القسم الثاني ، وهو أن اختصاص كل جسم بصفته المعينة ، إنما كان لأجل موجود مباين ، ليس بجسم ولا جسماني.

ثم قال المتكلمون في هذا المقام (٤) : ذلك المؤثر ، إما أن يكون موجبا بالذات أو فاعلا بالاختيار ، والأول باطل ، لأن ذلك الموجود لما لم يكن جسما

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) أجسام أخرى (س).

(٤) المعنى (س).

١٨٥

، ولا جسمانيا كانت نسبة حقيقته إلى جميع الأجسام نسبة واحدة ، ولما كانت الأجسام بأسرها متساوية (في تمام الماهية كانت بأسرها متساوية) (١) في قبول الأثر عن ذلك المباين (وإذا كان الأمر كذلك كان قبول كل واحد من تلك الأجسام ، لأثر خاص من ذلك المباين) (٢) المفارق (٣) رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال ، ولما بطلت (٤) هذه الأقسام ، ثبت : أن إله العالم موجود ، ليس بجسم ولا بجسماني ، وأنه فاعل مختار وليس موجبا بالذات. فهذا تمام تقرير هذه الحجة. (واعلم أن مدار هذه الحجة) (٥) على إثبات تماثل الأجسام ، وقد أحكمنا القول فيه. وهذه المقدمة مقدمة شريفة عظيمة المنفعة في أصول الدين ، وذلك لأن المتكلمين يفرعون عليها القول بالإله ، والقول بالنبوة ، والقول بأحوال الآخرة ، والقيامة فأما إثبات الإله المختار فالوجه فيه ما ذكرناه ، وأما في إثبات النبوات ، فلأن هذه المقدمة تدل على أن انخراق العادات أمر ممكن ، وذلك يدل على إمكان المعجزات ، وأما في إثبات القيامة فلأن هذه المقدمة تدل على أن تحريك السموات أمر ممكن ، وتكوير الشمس والقمر أمر ممكن ، وكل ما ورد به القرآن في أحوال القيامة ، فإنه ممكن. فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الطريقة. واعلم أنه بالبيان الذي ذكرناه ، يظهر أن تركيب العالم الأعلى والأسفل يدل على وجود إله قادر على ذلك التركيب ، إلا أنه تبقى مطالب كثيرة ، لا يفي بإثباتها هذا البرهان.

فالمطلب الأول : هذا الدليل لا يدل على حدوث ذوات الأجسام ، ولا على إمكان ذواتها. فإن لقائل أن يقول : إن هذه الأجسام واجبة الوجود لذواتها ، إلا أن إله العالم قادر على تركيب العالم الأعلى ، والأسفل منه.

والمطلب الثاني : إن هذا الدليل لا يدل على أن ذلك المدبر (٦) المركب

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) المقارب (س).

(٤) بطل هذا القسم (س).

(٥) من (س).

(٦) المؤثر (س).

١٨٦

لهذا العالم واجب الوجود لذاته ، بل يبقى (١) احتمال أنه ممكن الوجود لذاته ، فمن أراد إثبات واجب الوجود لذاته ، وجب عليه أن يقيم (٢) الدليل على أن ممكن الوجود حال بقائه يحتاج إلى المؤثر ، ثم يقيم الدليل على بطلان الدور والتسلسل ، وحينئذ يحصل له القطع بوجود موجود واجب الوجود لذاته.

والمطلب الثالث : إن هذا الدليل لا يدل على أن واجب الوجود لذاته قادر مختار فإن لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : هذا الموجود الذي تولى إمكان تركيب هذا العالم وتأليفه ، موجود ممكن الوجود لذاته ، وهو معلول موجود واجب الوجود لذاته ، وذلك الواجب أوجب هذا الفاعل المختار إيجابا بالذات؟ وعلى هذا التقدير ، فهذا الدليل لا يفيد كون المبدأ الأول فاعلا مختارا. فهذه جملة ما يجب التنبيه عليه في معرفة هذا الدليل ، والله أعلم.

فإن قيل : السؤال على الدليل الذي ذكرتم من وجوه :

الأول : لم قلتم : إن الذوات الجسمانية متساوية بأسرها في قبول الصفات؟ قوله : «المتساويات في تمام الماهية يجب استواؤها في قابلية الصفات» قلنا : هذا ممنوع : وبيانه : أن بتقدير أن تكون الأجسام بأسرها متساوية في الجسمية ، فإنه يجب كون كل واحد منها ممتازا عن الآخر بتعينه وبتشخصه ، ضرورة أن ما به المغايرة مغاير لما به المشاركة ، وإذا كان كذلك لم يبعد أن يكون ذلك القيد الزائد ، أعني التعين الخاص ، معتبرا في المقتضى من أحد الجانبين ، وكان مانعا من الجانب الآخر ، وإذا كان الأمر كذلك لم يلزم من الاستواء في تمام الماهية (حصول) (٣) الاستواء في القابلية.

السؤال الثاني : إن الذي ذكرتموه من أن المتساويات في تمام الماهية يجب استواؤها في كل اللوازم (منقوض) (٤) بصور كثيرة :

__________________

(١) يقرع (س).

(٢) يقدم (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

١٨٧

أحدها : أن الشيء في الزمان الأول من أزمنة وجوده ، واجب الاتصاف بكونه حادثا (١) ، وممتنع الاتصاف بكونه باقيا (٢) (وفي الزمان الثاني من أزمنة وجوده ينقلب الأمر فيصير واجب الاتصاف بكونه حادثا) (٣) ومعلوم أن التفاوت بين الشيء الواجب بحسب حصوله في زمانين مختلفين ، أقل من التفاوت الحاصل بين الشيئين المتغايرين ، فإذا كان التفاوت القليل الحاصل في الشيء الواحد بسبب حصوله في وقتين ، قد يصير مانعا من الاستواء في كل الأحكام. فهذا التفاوت الكبير ، أولى بكونه مانعا من وجوب الاستواء في كل الأحكام.

وثانيها : إنكم قد دللتم على أن مسمى الوجود في حق واجب الوجود لذاته ، وفي حق ممكن الوجود لذاته ، مفهوم واحد. أعني من حيث أنه مسمى الوجود (ثم إن وجود) (٤) واجب الوجود لذاته ، ممتنع الحصول في ذوات الممكنات ، ووجود الممكنات ممتنع الحصول في ذات واجب الوجود لذاته (فهذان الوجودان متساويان في تمام الماهية ، مع أنهما مختلفان في بعض اللوازم ، وهو الذي ذكرناه) (٥).

وثالثها : إن الذوات ، والماهيات ، والحقائق متساوية في كونها ذوات (٦) في حقائق وماهيات. ثم إن كل واحد منها اختص بالصفة التي باعتبارها امتاز عن سائر الحقائق والماهيات اختصاصا على سبيل اللزوم.

ورابعها : الحيوانية التي في الإنسان مساوية للحيوانية التي في الفرس من حيث إنها حيوانية ، فلو كان ما ذكرتموه صحيحا ، فحينئذ يلزمكم صحة أن تبقى حيوانية الفرس بعينها مع زوال الفرسية عنها وتبدلها بالإنسانية ، وكذلك

__________________

(١) باقيا (س).

(٢) حادثا (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

(٦) ذواتا وحقائق (س).

١٨٨

القول في حيوانية الإنسان ، وأيضا اللونية التي في السواد مساوية للونية التي في البياض ، فيلزمكم أن تحكموا بجواز بقاء اللونية التي في السواد مع زوال السوادية عنها ، وتبدلها بالبياضية ، ومعلوم أن ذلك باطل لا يقول به أحد.

وخامسها : وهو أن الأجسام حال حدوثها (مقدورة) (١) وحال بقائها غير مقدورة لأن تحصيل الحاصل محال مع أن الجسم الحادث مساو للجسم الباقي. فهذه نقوض لا بدّ من الجواب عنها ليتم دليلكم.

السؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إن كل جسم إنما اختص بالصفة المعينة لأنه حصل في ذلك الجسم قوة وطبيعة ، أوجبت ذلك العرض.

قوله : «السؤال عائد في اختصاص ذلك الجسم بتلك الطبيعة فيلزم التسلسل» قلنا : يلزم التسلسل. فلم قلتم : إنه محال؟ والذي يدل على جوازه وجوه :

الأول : إن الواحد نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة ، وهكذا إلى غير النهاية.

الثاني : إن الصفات الاضافية ، قد ثبت بالدليل أنها موجودات حاصلة في الأعيان ، ثم إنها من قبيل الأعراض ، وكون حصولها في محالها إضافات مغايرة لذواتها ، وذلك يوجب التسلسل.

الثالث : إنا بينا أنه تعالى (عالم) (٢) بالمعلومات (٣) ، وعالم بكونه (عالما بها) (٤)) ، وكذلك في الدرجة الثالثة والرابعة إلى ما لا نهاية له ، وذلك غير التسلسل.

السؤال الرابع : لم لا يجوز أن يكون اختصاص كل جزء بصفته المعينة ،

__________________

(١) من (ز) وفي (ض) معدودة.

(٢) من (ز).

(٣) بالمعلوم (ت).

(٤) من (س).

١٨٩

لأجل مادة ذلك الجسم؟ (قوله : «الجسم) (١) يمتنع أن يكون حالا في محل» قلنا. الكلام في هذا الباب ما تقدم في مسألة الهيولى ، والصورة.

السؤال الخامس : لم لا يجوز أن يكون المؤثر في حصول هذه الصفات المعينة في هذه الذوات المعينة موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار؟ قوله : «نسبة ذلك الموجب إلى الكل واحدة ، فيمتنع حصول الرجحان» قلنا : هذا أيضا بعينه لازم في الفاعل المختار ، فإن تلك القوابل إما أن تكون متساوية في قابلية الصفات من غير أن يكون لبعضها رجحان على الباقي في قابلية (تلك) (٢) الصفات ، وإما أن يكون بعضها أولى ببعض تلك الصفات من بعض ، والثاني باطل لأن الأجسام متساوية في تمام الماهية ، وكونها كذلك يمنع من الاختلاف في هذه الأولوية ، وإن جاز ذلك : فلم لا يجوز اختلافها في سائر الصفات مع كونها متساوية في الماهية؟ ولما بطل هذا القسم (٣) ، تعين الأول ، وإذا كان كذلك كانت نسبة الفاعل المختار إلى كل تلك الأجسام بالسوية ونسبة كل تلك الأجسام إليه بالسوية ، وحينئذ يكون تخصيص ذلك الفاعل على بعض تلك الأجسام ببعض تلك الصفات رجحانا لأحد طرفى الممكن من غير مرجح ، وهو محال. فيثبت أن الذي أوردتموه على الفلاسفة في القول بالموجب ، وارد بعينه على القائلين بالمختار.

والجواب : قوله : «لم لا يجوز أن يكون التعين جزءا من المقتضى في أحد الجانبين ، أو مانعا من القبول في الجانب الثاني؟» قلنا : لأن التعين قيد عدمي ، والقيد العدمي لا يكون داخلا في المقتضى. أو نقول : إنه إما أن يكون عدميا أو ثبوتيا ، فإن كان عدميا ، فالسؤال زائل ، وإن كان ثبوتيا عاد البحث في أنه : لم اختص هذه الذات بهذا التعيين ، والذات الثانية بالتعين الثاني ، ولم يحصل الأمر بالعكس منه؟ وأما النّقوض فمدفوعة. وأما الحدوث

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) هذين القسمين (س).

١٩٠

والبقاء فهما ليسا صفتين زائدتين على الذات ، ولو كان الحدوث صفة زائدة ، لكانت حادثة ، فيكون حدوثها زائدا عليها. ولزم التسلسل.

وكذا القول في البقاء ، وأما (وجود) (١) واجب الوجود ، ووجود ممكن الوجود. فهما وإن كانا متساويين في مجرد كونه وجودا ، إلا أن الاختلاف في اللوازم إنما حصل بسبب الماهية التي هي كالمحل لذلك الوجود ، فإن ماهية الحق ـ سبحانه ـ لما اقتضت ذلك الوجود، امتنع زوال ذلك الوجود عن تلك الماهية ، فهذا التفاوت إنما حصل بسبب الاختلاف في المحل والقابل. وأما هاهنا فقد دللنا على أن الجسم يمتنع أن يكون حالا في المحل (٢) ، فظهر الفرق. قوله : «لم قلتم إن التسلسل باطل»؟ قلنا : لما سبق في الدليل الأول. قوله : «الإشكال الذي أوردتموه في الموجب ، قائم بعينه في القادر» فنقول : الكلام المستقصى في الفرق بين الموجب وبين المختار ، سيجيء في مسألة القدم والحدوث (وهذا آخر الكلام في تقرير هذا الدليل) (٣).

__________________

(١) من (س).

(٢) الممكن (س).

(٣) التعليل (م).

١٩١

الفصل السابع عشر

في

تعديد الدلائل المستنبطة من إمكان الصفات

اعلم أن العلماء تارة استعملوا هذه المقدمة في الأجرام الفلكية (والكوكبية ، وأخرى في الأجرام العنصرية.

أما القسم الأول : وهو استعمال هذه المقدمة في الأجرام الفلكية) (١) : فتقريره من وجوه :

الأول : إن كل فلك اختص بعدد معين ، وثخن معين ، مع جواز أن يكون الحاصل. إما أن يكون أزيد منه ، أو أنقص منه. مثاله : زعموا : أن ثخن فلك المريخ أعظم من قطر فلك الشمس بالكلية ، وأما ثخن الفلك الأعظم ، فغير معلوم.

الثاني : إن كل فلك فإنه مركب من الأجزاء ، بناء على المقدمة التي قررناها في مسألة الجوهر ، وهو أن كل ما يقبل القسمة الوهمية يجب أن تكون الأجزاء حاصلة فيه ، قبل حصول ذلك الوهم. وإذا ثبت هذا فنقول : الجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجا ، وبالعكس ، فوقوع كل واحد منهما في حيزه الخاص ، أمر جائز.

الثالث : إن الحركة والسكون يجوز كل واحد منهما على كل واحد من

__________________

(١) من (ز).

١٩٢

الأجسام ، على سبيل البدل ، فاختصاص الجسم الفلكي بالحركة ، والجسم الأرضي بالسكون من الجائزات.

الرابع : إن كل حركة (قائمة) (١) يمكن وقوعها أسرع مما وقع (وأبطأ مما وقع) (٢) فذلك الحد المعين من السرعة والبطء ، من الجائزات ، وإنه إن تتحرك كرة الثوابت مرة واحدة، تتحرك كرة الشمس ستة وثلاثين ألف مرة.

(وأعجب من هذا : أن الفلك الأعظم ، أعظم من تلك الثوابت ، بما لا يعلمه إلا الله تعالى ، ثم إن الفلك الأعظم على غاية عظمته ، يتحرك كل يوم مرة واحدة ، وتلك الثوابت لا تتمم دورية [إلا] في ستة وثلاثين ألف سنة) (٣).

الخامس : كل حركة قد وقعت متوجهة إلى جهة معينة ، دون سائر الجهات ، فتكون من الجائزات.

السادس : كل فلك يعرض ، فإنه يوجد فلك آخر ، إما أعلى منه ، أو أسفل منه ، وذلك في الحيز من الجائزات.

السابع : اتصاف الأجرام الفلكية بالصورة الفلكية ، واتصاف الأجرام العنصرية بالصورة العنصرية يكون من الجائزات.

الثامن : أجرام الأفلاك مخالفة لأجرام الكواكب في الصفات ، فتكون من الجائزات.

التاسع : حصول كل واحد من الكواكب في نقطة متعينة من الفلك ، يكون من الجائزات.

العاشر : اختصاص كل كوكب بكون معين ، وطبيعة معينة ، من الجائزات.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) سقط (س). وإلا : زيادة.

١٩٣

الحادي عشر : اختصاص (١) كل برج بطبيعة معينة ، وأمر معين من الجائزات.

الثاني عشر : ثبت بالدليل وجود خلاء لا نهاية له ، خارج العالم ، فوقوع كرة العالم في الجزء المعين من ذلك الخلاء ، دون سائر الأجزاء من الجائزات.

الثالث عشر : زعموا : أن كل كرة من كرات الأفلاك فهو بسيط وهذا يوجب عليهم الإمكان من وجوه كثيرة :

أحدها : أنه لما كان جميع أجزاء (تلك) (٢) الكرة متساوية في الطبيعة والماهية ، كان(٣) حصول النقرة التي حصل فيها الكوكب في جانب معين من ذلك الفلك دون سائر الجوانب ، من الجائزات.

وثانيها : لما كانت طبائع الكرات بسائط (٤) كانت طبيعة كل واحد من المتممين اللذين ينفصلان عن الفلك المميل بسبب انفصال الفلك الخارج المركب عنه : طبيعة بسيطة. مع أن أحد الجانبين ، اختص بالرقة ، والجانب الثاني ، اختص بالثخن. فيكون ذلك من الجائزات.

وثالثها : إن طبيعة السطح الأعلى من كل فلك تكون مساوية لطبيعة السطح الأسفل منه ، وكل ما جاز على الشيء ، جاز على مثله.

إذا ثبت هذا فنقول : كما جاز على كرة عطارد أن تماس كرة القمر (٥) بمقعرها ، وجب أن يجوز عليها أن تماسها بمحدبها ، ومتى ثبت هذا الجواز كان جواز الخرق والتفرق ، والتمزق لازما (٦).

ورابعها : زعموا أن فلك التدوير مركوز في ثخن الفلك الخارج عن

__________________

(١) ثبت أن اختصاص (س).

(٢) من (ز).

(٣) وكان (ز).

(٤) تساقط (ز).

(٥) العالم (س).

(٦) من (ز ، س).

١٩٤

المركز ، كما يكون الفص في الخاتم ، وحينئذ يعود السؤال : إنه لم حصلت كرة (١) التدوير في ذلك الموضع دون سائر المواضع مع أن جميع الأجزاء المفروضة في كرة الفلك متساوية في الطبيعة؟

واعلم أن الاستقصاء في شرح هذه الأحوال سيأتي في باب الاستدلال على الصانع الحكيم بحدوث الصفات. فهذا هو الإشارة إلى معاقد الدلائل المأخوذة من أجرام الأفلاك بحسب إمكان صفاتها.

وأما القسم الثاني : وهو الدليل المأخوذ من إمكان صفات العناصر.

فنقول : كرة الأرض محفوفة بالماء ، والماء بالهواء ، والهواء بالنار. فاختلاف هذه الأجرام العنصرية بهذه الصفات وبهذه الأحياز من الجائزات ، فوجب أن تكون بتقدير الفاعل المختار. فإن قيل : السؤال على هذا الدليل يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة ، وهي أن للناس في وجود هذا العالم المحسوس قولان : منهم من قال : إن هذه السموات ، وهذه الكواكب ، وهذه العناصر قديمة بحسب ذواتها ، وبحسب أشكالها ، وترتيب أمكنتها. ومنهم من قال : إنها محدثة. أما القائلون بالقول الأول فهم فريقان : منهم من يقول : إنها واجبة الوجود لذواتها ، وهي غنية عن السبب والمؤثر ، ومنهم من يقول : إنها ممكنة الوجود (بذواتها ، واجبة الوجود) (٢) بسبب تأثير علة قديمة في وجودها ، وزعم هؤلاء : أن ذلك المؤثر موجب بالذات لا فاعل بالاختيار ، ويسمون ذلك المؤثر بأنه أثر (٣) بعلة. وأما القائلون بأن هذا العالم المحسوس محدث ، فلهم قولان : منهم من يقول : إن هذا العالم (المحسوس) (٤) محدث بحسب الذات والصفات فهذه الذوات (المتميزة) (٥) محدثة ، وتركيب السموات والعناصر منها أيضا محدث. وهؤلاء هم أكثر أهل الملل والنحل. ومنهم من

__________________

(١) كرة كرة (ز).

(٢) من (س).

(٣) أثبته (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

١٩٥

يقول : إن ذوات الأجسام قديمة ، أما التركيبات فهي محدثة.

والقائلون بهذا القول أيضا. فريقان : منهم من يقول : إن تلك الأجزاء كانت في الأزل متحركة بالطبع في الخلاء الذي لا نهاية له ، ومنهم من يقول : إنها كانت ساكنة واقفة، أما القائلون بكونها متحركة فهم أصحاب (١) ديمقراطيس ، زعموا : أن عنصر العالم الجسماني له أجزاء لا تتجزأ بحسب الوقوع ومتجزئة بحسب الوهم ، وزعموا : أنها على صور الكرات ، والكرة إذا وقعت على الخلاء المتساوي (المتشابه) (٢) فإنه يمتنع بقاؤها ساكنة ، لأنه لما كانت جميع الأحياز بالنسبة (إليه) (٣) على التساوي كان إبقاؤه على الوضع الواحد رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وإذا ثبت هذا ظهر أن تلك الأجزاء يجب كونها متحركة لذواتها حركات مضطربة غير مناسبة ، ثم اتفق لتلك الأجزاء (المضطربة) (٤) أن تصادمت على وجه خاص فيما بعد ، وتدافعت في حركاتها ، فالتوى البعض على البعض ، واعتمد البعض على البعض فتولد من تصادمها وتدافعها ، والتواء بعضها على البعض هذه الأجرام الفلكية. وهذا هو السبب في تولد الأجرام الفلكية. فما لم تقيموا الدلالة على بطلان هذا الاحتمال ، لا يحصل مقصودكم من إسناد تخليق هذا العالم إلى القادر الحكيم.

ولا يقال : ولم حصل كل واحد من تلك الأجزاء الكروية في حيزه (٥) المعين؟ لأنا كنا قد ذكرنا : أن كل واحد منها كان متحركا من الأزل إلى الأبد ، فحصول كل حالة لاحقة ، إنما كان لأجل أن الحالة السابقة ، أعدت المادة لحصول تلك الحالة اللاحقة. فهذا تقرير قولهم في كيفية تولد الأفلاك.

وأما كيفية تولد العناصر ، فقالوا : إنه لمّا تولد جرم الفلك بالطريق

__________________

(١) شيعة (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) جزء معين (س).

١٩٦

المذكور واستدار. كان باطنه مملوءا من الأجسام ، والحركة موجبة للسخونة ، والفلك لأجل حركته القوية يوجب غاية السخونة واللطافة ، فيما يلاصقه من الأجسام ، ويوجب غاية البرودة والكثافة في الأجسام التي تكون في غاية البعد منه ، وهي الأجسام الحاصلة عند القرب من المركز (١) فلهذا السبب صار الجسم العنصري المماس لجرم الفلك في غاية اللطافة والحرارة ، وهو النار ، وصار الجسم العنصري الذي (يكون) (٢) في غاية البعد من الفلك في غاية الكثافة والبرودة ، وهو الأرض ، والجسم المتصل بالنار ، وهو الهواء لكونه شبيها بالنار مع أنه أقل لطافة من النار ، والجسم المتصل بالأرض ، هو الماء لكونه شبيها بالأرض في الكثافة والبرودة ، مع أنه أقل كثافة وبردا من الأرض ، فهذا هو السبب في ترتيب هذه العناصر ، ثم لما استدارت الأفلاك بحركاتها المختلفة على هذه العناصر المختلفة ، اقتضت حركات الأفلاك تمزيج بعض (أجزاء) (٣) هذه العناصر ببعض ، فتولدت المواليد الثلاثة من المعادن والنباتات (٤) (والحيوان) (٥) فهذا تفصيل مذهب دميقراطيس في هذا الباب. قالوا : وما لم تبطلوا بالدليل فساد هذا الاحتمال لم يحصل مقصودكم البتة من الاستدلال بأحوال الأفلاك والعناصر ، على وجود الصانع (الحكيم) (٦).

والجواب : أن أرسطاطاليس قد أبطل هذا القول من وجوه (٧) : أحدها : إنه بين أنكون الجسم متحركا لذاته محال ، وقد سبقت هذه على سبيل الاستقصاء (في العلم الطبيعي) (٨) (وثانيها : إن هذا بناء على إثبات الخلاء خارج العالم وقد سبقت هذه أيضا على سبيل الاستقصاء ، ثالثها : إن هذا بناء على أن هذه الأجسام المحسوسة مركبة من أجزاء لا تتجزأ وقد سبقت هذه المسألة أيضا على سبيل الاستقصاء) (٩). ولما كانت هذه القواعد الثلاثة باطلة عند أرسطاطاليس ، لا جرم حكم بفساد هذا المذهب. ورابعها : إن

__________________

(١) الحركة (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) والنار (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

(٧) الأول (س).

(٨) من (ز).

(٩) من (ز).

١٩٧

بتقدير صحة هذه الأصول الثلاثة ، فإنه يجب أن لا تتحرك تلك الأجزاء البتة. لأن الأجزاء المعترضة في الخلاء ، إذا كانت متشابهة ، لم يكن بأن تقتضي طبيعة ذلك الجزء بأن تنتقل إلى حيز ، أولى من أن تنتقل إلى حيز آخر. ولما تساوت الانتقالات وتعارضت وتدافعت ، وجب في كل واحد من تلك الأجزاء ، أن يبقى في حيزه (١) المعين.

وأما المتكلمون : فقد أبطلوا هذا المذهب بناء على أن القول بثبوت حركات لا أول لها محال. ودلائلهم في هذا الباب مشهورة وسنذكرها في القدم والحدوث. فهذا هو الإشارة إلى القواعد الأصلية التي يتفرع (٢) إبطال قول ديمقراطيس عليها.

ثم إن العلماء أبطلوا ذلك القول من وجوه أخرى :

الأول : إن على تقدير الذي ذهب إليه ديمقراطيس ، يكون حدوث الأفلاك (لأجل)(٣) أسباب اتفاقية غريبة نادرة ، وأما حدوث المواليد الثلاثة من المعادن والنبات والحيوان فهو لأجل أشياء طبيعية أصلية جوهرية ، ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن تكون تركيبات الأفلاك والكواكب ، أقل شرفا ، وأدون كمالا ، من تركيبات المواليد الثلاثة ، ولما دلّ الحس على فساد هذا القول ، ثبت فساد ذلك القول.

الثاني : إن مقعر فلك القمر ، ومحدب كرة النار ، أيضا : سطح أملس. وإذا انزلق الأملس على الأملس لم يلزم من حركة إحداهما حركة الآخر ، وإذا ثبت هذا فنقول : إما أن يقال : إن الفلك لأجل حركته يسخن جدا ، فإذا تسخن في ذاته ، صارت سخونته سببا (لسخونة) (٤) جوهر (٥) الجرم الملاصق له ، ولهذا السبب تحصل السخونة في جوهر النار. وإما أن يقال : الفلك إذا استدار لزم

__________________

(١) مع جزء (س).

(٢) تتفرع على قول ديمقراطي ، ثم ... الخ (س).

(٣) من (ز).

(٤) (ز).

(٥) من (س).

١٩٨

من استدارته ، حركة استدارة كرة النار وحركتها ، فلأجل شدة حركة كرة النار تسخن وتصير نارا والأول باطل ، لما ثبت أن الأفلاك لا حارة ، ولا باردة. والثاني أيضا باطل لما ثبت أنه لا يلزم من حركة كرة الفلك ، حركة النار التي في جوف الفلك.

الثالث : أن نقول : لو لزم من حركة الفلك أن ينقلب الجسم الملاصق له نارا ، لزم أيضا أن ينقلب الجسم الملاصق للنار نارا ، فعلى هذا التقدير يلزم من كون النار ملاصقا للهواء أن يصير الهواء نارا ، ثم يلزم من كون (الملاصق للهواء أن يصير) (١) الماء نارا على هذا التقدير ، فيلزم عند تمادي الدهور والأعصار ، أن تنقلب كل العناصر نارا. ومعلوم أنه باطل (فهذا جملة الكلام في هذا الباب. والله أعلم بحقائق الأمور) (٢).

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

١٩٩

الفصل الثامن عشر

في

إثبات العلم بوجود الإله ـ تعالى ـ بناء

على التمسك بحدوث الذوات

أعلم : أن جمهور المتكلمين ، لا يعولون ، إلا على هذا الطريق. وذلك لأنهم يقيمون الدلالة على كون الأجسام محدثة. وحينئذ يقولون : كل جسم محدث ، وكل محدث فله علة وصانع. ينتج : أن كل جسم فله فاعل وصانع.

ثم هذا الدليل إنما يتم إذا قلنا : وذلك الفاعل ، إن كان محدثا ، لزم التسلسل أو الدور ، وإن كان قديما ، فهو واجب الوجود لذاته. وهو المطلوب. فأما الكلام في إثبات حدوث الأجسام ، فسيأتي على سبيل الاستقصاء. وأما الكلام في قولنا : كل محدث فلا بد له من فاعل وصانع. فموضعه هاهنا.

وهو : أن يقال : كل محدث فهو ممكن الوجود لذاته ، وكل ما كان ممكن الوجود لذاته ، فله فاعل وصانع ، ينتج أن كل محدث فله فاعل. وفي هذا الطريق يستدل بحدوث الأجسام على كونها ممكنة الوجود ، ثم يستدل بامكانها هذا ، على افتقارهما الى الفاعل.

ونحن نذكر في هذا الفصل : كيفية تقرير (١) هذا الوجه فنقول : كل محدث فهو ممكن الوجود ، وكل ممكن الوجود فهو مفتقر إلى المؤثر وإنما قلنا : إن

__________________

(١) فموضعه هاهنا. وللناس فيه قولان : أحدهما : أن يقال : كل محدث ... الخ (س).

٢٠٠