المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

بجامعة أنقرة. في «الجمهورية التركية» لأنه صوّر لنا مخطوطة «أسعد أفندي» من «المطالب» وسلمنا إياها لنراجع عليها.

والله أسأل أن يوفقنا إلى خدمة العلم والدين.

د أحمد. حجازي. أحمد. علي السّقا

الحائز على درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين ـ جامعة الأزهر

في موضوع : «البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل»

«الكويت» في رمضان ١٤٠٤ ه‍

٢١

٢٢

٢٣

٢٤

٢٥

٢٦

٢٧

٢٨

٢٩
٣٠

٣١
٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(قال مولانا الإمام الداعي إلى الله. أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي ـ رضي الله عنه (١)) :

هذا كتابنا في العلم الإلهي ، وهو المسمى في لسان اليونانيين : باثولوجيا. وهو مرتب على مقدمة وكتب (٢).

__________________

(١) من (ز).

(٢) سنسمي كل كتاب : جزءا ، لمنع اللبس.

٣٣
٣٤

المقدّمة وفيها أربعة فصول

الفصل الأوّل : في بيان أنّ هذا العلم أشرف العلوم على الإطلاق.

الفصل الثاني : في أنّه هل للعقول البشريّة سبيل إلى تحصيل الجزم واليقين في هذا العلم أم يكتفى في بعض مباحثه ومطالبه بالأخذ بالأولى والأخلق؟

الفصل الثالث : في أن تحصيل هذه المعارف المقدّسة ، هل الطريق إليه واحد أم اكثر من واحد؟

الفصل الرابع : في ضبط معاقد هذا العلم.

٣٥
٣٦

الفصل الأول

في

بيان أن هذا العلم أشرف العلوم على الإطلاق

أعلم. أن شرف العلم (إنما يظهر من وجوه :

الوجه الأول من الوجوه الموجبة للشرف (١)):

شرف الأمر المبحوث عنه في ذلك العلم. وذلك في هذا العلم ، هو ذات الله تعالى ، وصفاته. وهو أشرف الموجودات على الإطلاق. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنه غني عن الفاعل والقابل. وغيره محتاج إليه.

والثاني (٢) : إنه فرد على الاطلاق ، فهو غني عن الجزء المقوّم.

والثالث : إن الواجب لذاته ليس إلا هو ، وكل ما سواه فهو ممكن لذاته ، محتاج إلى المؤثر ، فيلزم أن كل ما سواه فهو محتاج إليه ، وهو غني عن كل ما سواه ، فوجب أن يكون هو أشرف الموجودات.

والرابع : إنه ثبت أن الممكن كما أنه محتاج إلى المؤثر حال حدوثه ، فهو محتاج إليه أيضا حال بقائه (٣) ، وكل ما سواه فهو محتاج إليه في جميع أوقاته ،

__________________

(١) من (س).

(٢) والثاني : أنه منزه على الإطلاق ، فهو غني عن المميز والمقوم (س).

(٣) عبارة (س) : حال البقاء. وكما أنه محتاج إليه في جميع أوقاته ، سواء كان ذلك الوقت حال الحدوث ، أو حال البقاء. وكما أنه محتاج إليه في جانب الوجود ، ففي جانب العدم أيضا .. الخ.

٣٧

سواء كان ذلك حال الحدوث ، أو حال البقاء. وكما أنه محتاج إليه في جانب الوجود ففي جانب العدم أيضا كذلك لما ثبت أن الممكن ليس معدوما لذاته ، بل علة العدم عدم العلة فثبت بما ذكرنا : أن الحق سبحانه وتعالى أشرف من غيره بحسب هذه الاعتبارات.

والخامس : هو أن الوجود أشرف من العدم ، والواجب لذاته لا يقبل العدم البتة فهو موجود لذاته ، وبوجوده يحصل (١) الوجود لكل موجود ، بل وجوده كالمنافي للعدم ، وأما كل ما سواه فإنه ممكن لذاته ، والممكن لذاته إذا نظر إليه من حيث هو هو ، وجد غير موجود ، وكل ما سواه فإنه إذا اعتبر من حيث هو هو ، لم يكن موجودا. وهو سبحانه إذا اعتبر من حيث هو هو ، فهو الموجود.

فلهذا المعنى قلنا : إنه حق ، وما سواه باطل ، بل الحق أنه لا يليق لفظ الحق إلا له ، ولا يليق وصف الاعتقاد بأنه حق ، إلا باعتقاد وجوده (٢). وأن كل ما سواه فهو الفناء المحض ، والهلاك المحض ، كما قال في الكتاب (الإلهي) (٣) : (كل شيء هالك إلا وجهه) (٤) فثبت بهذه الاعتبارات أنه تعالى أشرف الموجودات وأكملها (٥) ، بل إنه تعالى أشرف وأكمل من أن يقاس هو إلى غيره ، فإنه أشرف وأكمل منه. فكلما كان المعلوم أشرف ، كان العلم به أشرف [ولما كان أن أشرف] (٦) المعلومات.

الوجه الثاني في بيان شرف هذا العلم ، وشدة الحاجة إليه وكمال الانتفاع به :

أشرف العلوم بحسب هذا الوجه هو العلم الإلهي ، وذلك لأن الأمر المقصود بالذات هو الفوز بالسعادة والخلاص من الشقاوة. والسعادات إما جسمانية وإما روحانية وقد دلت الدلائل الفلسفية والمعالم الحقيقة على أن

__________________

(١) يحتمل (س).

(٢) باعتقاده (س).

(٣) من (س).

(٤) آخر سورة العنكبوت.

(٥) وأكمل من أن يقاس هو إلى غيره ، فإنه أشرف وأكمل منه إذا ثبت ... الخ (س).

(٦) من (س).

٣٨

السعادات الجسمانية خسيسة ، وأقل ما فيها : أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيها بل الاستقراء يدل على أن تلك الحيوانات الخسيسة أقوى وأكمل في جانب تلك اللذات من الإنسان. وأيضا فالحدس والاستقراء يدلان على أن الخوض في جلب تلك اللذات يجذب النفس من أعالي عالم الأرواح المقدسة إلى أسافل عالم البهيمية. وأيضا فهذه اللذات سريعة الانقضاء والانقراض ، واللذات الروحانية آمنة من الزوال ، مصونة عن الفناء. وأيضا فالاستكثار من اللذات الجسمانية مشهود عليه بفطرة جميع الخلق أنه خسيس فإن الانسان الذي يكون كل أوقاته مصروفا إلى الأكل والوقاع يكون محكوما عليه عند كل أحد بخساسة الذات ودناءة الهمة وعلى أنه بهيمة محضة. وأما الانسان الذي يعتقد فيه التقليل من هذه الأحوال فإن طبع كل عاقل يحمله على تعظيمه والاعتراف له بعلو الدرجة وكمال المنقبة. ولذلك فإن العوام من الخلق إذا اعتقدوا في إنسان قلة الرغبة في الأكل والشرب والنكاح اعتقدوا فيه كونه مستوجبا للتعظيم والخدمة وعدوا أنفسهم بالنسبة إليه كالعبيد إلى الأرباب ، وكل ذلك يدل على أن هذه السعادات الجسمانية خسيسة نازلة ، فأمّا السعادات الروحانية فإنها باقية دائمة عالية شريفة تجذب النفس من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ، ومن ظلمات عالم الأجسام إلى أعالي عوالم المقدسات المطهرات. فلهذه البراهين القاهرة ، قال في الكتاب الإلهي : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) (١) وقال صاحب الوحي والشريعة حكاية عن رب العزة تعالى : (أنا جليس من ذكرني) (٢) فقد ظهر بما ذكرناه : أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية. ولا شك أن رأس السعادات الروحانية ورئيسها (وزبدتها) (٣) وخلاصتها : معرفة المبدأ الأول ومعرفة صفات جلاله ونعوت كماله وكبريائه. وأيضا قد دلت الشواهد النبوية والمعالم الحكمية على أن الجهل بهذا الباب يوجب العذاب الدائم ، والخسار المطلق ، وأن الفوز بهذه المعرفة

__________________

(١) الكهف ٤٦.

(٢) هذا من حديث قدسي.

(٣) من (ز).

٣٩

يوجب السعادة الأبدية والسيادة السرمدية. فوجب أن يكون هذا العلم رأس جميع العلوم ورئيسها ، وأشرف أقسامها وأجلها.

والوجه الثالث في بيان شرف هذا العلم :

إن الانسان الكامل يجد من نفسه أنه كلما كان استغراق (١) روحه في هذه المعارف أكمل ، وكان خوضه فيها أعظم ، وانجذابه إليها أتم ، وانقطاعه عما سواها أوفى ، كان ابتهاجه بذاته أفضل ، وقوة روحه أكمل ، وفرحه بذاته أوفى. وكلما كان الأمر بالعكس كانت الأحوال الروحانية والآثار النفسانية (بالعكس) (٢) مما ذكرناه. وكل ذلك يدل على أن كل السعادات مربوطة بهذه العلة وكل الكمالات والخيرات طالعة من هذا الافق. كما قال في الكتاب الإلهي : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٣).

والوجه الرابع :

إن المصالح المعتبرة إما مصالح المعاش ، أو مصالح المعاد أما مصالح المعاش فلا تنتظم إلا بمعرفة المبدأ والمعاد وذلك لأنه لو لا استقرار الشرائع الحقة لزال النظام ، واختلت المصالح وحصل الهرج ولم يأمن أحد على روحه ومحبوبه ، وأما مصالح المعاد فلا يتم شيء منها إلا بمعرفة الله تعالى وبمعرفة ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وذلك لا يحصل إلا بهذا العلم.

فظهر بهذه المباحث التي قررناها : أن مبدأ الخيرات ومطلع السعادات ، ومنبع الكرامات ، هو هذا العلم. فمن أحاط به على ما ينبغي كان في آخر مراتب الإنسانية ، وأول مراتب الملكية.

__________________

(١) استغراقه في هذه المعارف (س).

(٢) من (ز).

(٣) الرعد ٢٨.

٤٠