مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة وبعد ذلك ملكا عضوضا» (١).

قالوا : فهذا دليل على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أن مجموع أيامهم تكون ثلاثين سنة.

قلنا : المراد أعمال الخلافة ، فنحن لا نخالف بأن هؤلاء المذكورين فعلوا فعل الأئمة وإن لم نقل بإمامتهم مدة أيامهم ، ثم انتقل الأمر إلى بني أمية فكفرهم ظاهر ، فكيف يطلب منهم تعرف الأحكام ولم نسلم الشهادتين وظاهر الإسلام منهم إلا بالدعاء ، ولو طمعوا أن الملك يبقى لهم مع عبادة الأوثان لما أمن ذلك من بعضهم ، فالله المستعان ، أفليس منهم من أمر المجوسي يعمل له قبة على ظهر الكعبة شرفها الله ليشرب فيها الخمر فانتقمه الله قبل ذلك ـ وهو الوليد بن يزيد (٢) ـ وهذا

__________________

(١) الحديث بهذا اللفظ ، أخرجه ابن حبان برقم (١٥٣١) ، وهو في (فتح الباري) ٨ / ٧٧ ، ١٢ / ٢٨٧ ، ١٣ / ٢١٢ ، وهو في (إتحاف السادة المتقين) ٢ / ٢١٠ ، ٢٢٥ ، وفي (مشكل الآثار) للطحاوي ٤ / ٣١٣ ، وفي تفسير ابن كثير ٦ / ٨٥ ، والقرطبي ١٢ / ٢٩٧ ، ٢٩٨ ، و (الكشاف) ١٢٠ ، و (البداية والنهاية) ٣ / ٢١٩ ، ٦ / ٢٢٥ ، ٢٨٢ ، ٧ / ٢٠٦ ، ٨ / ١٦ ، ٤١ ، ١٣٥ ، وفي (تهذيب تأريخ ابن عساكر) ٤ / ٢٢٢ ، وانظر (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٤ / ٦٧٠ ، ٦٧١.

(٢) الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان الأموي ، أبو العباس [٨٨ ـ ١٢٦ ه‍] ، من ملوك الدولة المروانية بالشام.

قال في (الأعلام) : يعاب بالانهماك في اللهو وسماع الغناء ، وقال السيد المرتضى : كان مشهورا بالإلحاد ، متظاهرا بالعناد ، ولي الخلافة سنة ١٢٥ ه‍ ، بعد وفاة عمه هشام بن عبد الملك ، ونقم عليه الناس حبه للهو ، فبايعوا سرا ليزيد بن الوليد بن عبد الملك فنادى بخلع الوليد وكان غائبا في (الأغدف) من نواحي عمّان ، بشرقي الأردن. فجاءه النبأ فانصرف إلى البخراء ، فقصده جمع من أصحاب يزيد فقتلوه في قصر النعمان بن بشير ، وكان الذي باشر قتله عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ، وحمل رأسه إلى دمشق فنصب في الجامع ، ولم يزل أثر دمه على الجدار إلى أن قدم المأمون دمشق سنة ٢١٥ ه‍ ، فأمر بحكه.

انظر (الأعلام) ٨ / ١٢٣ ، وبقية المصادر فيه ، قال : وفي (تأريخ الخميس) : ووصفه بالزنديق المتهتك ٢ / ٣٢٠. قلت : وفي (مروج الذهب) للمسعودي قال : كان الوليد بن يزيد صاحب شراب ولهو وطرب ، وسماع للغناء ، وهو أول من حمل المغنين من البلدان إليه ، وجالس الملهى ، وأظهر الشرب والملاهي ، ثم سرد أشياء كثيرة من خلاعته ، وذكر أنه قرأ ذات يوم (وَاسْتَفْتَحُوا ـ

١٢١

من غايات الكفر ، وهو الذي حرق المصحف وقال الأبيات المشهورة :

أتوعدني بجبار عنيد

وها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل : يا رب حرقني الوليد

ثم أخذتها منهم بنو العباس سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى يوم الناس هذا ؛ فيوم كان الإسلام يعمل به ويوقف عند رسومه ، عدت ملة الإسلام من ترك شيئا من خصاله كان مرتدا ، وقتلوا وسبوا ولم يتناكروا في ذلك ، ونكحوا من السبي واستولدوا ، فأفضلهم علي بن أبي طالب سلام الله عليه أخذ خولة بنت يزيد من بني حنيفة من السبي ، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك الصهباء أم حبيب ابنة ربيعة بن بجير من سبي بني تغلب فولدت له عمر بن علي ورقية بنت علي ، وقد ذكرنا هذا مبرهنا في (الرسالة الهادية بالأدلة البادية) وما ذكرنا من ذلك إلا ما هو سماع عمن نرتضي فما المانع أن يكون أصلا.

فأما ما أخذنا من كتاب (الردة) فهو كتاب قائم بنفسه وكان وضعه بأسانيده على جاري عادة أهل العلم فحذف الشيخ إسحاق قال : أسانيده لطلب التخفيف على جاري عادتهم في حذف الأسانيد عندنا ، وقد تقررت هذه المراجعة ووقع

__________________

ـ وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) ، فدعا بالمصحف فنصبه غرضا للنشاب ، وأقبل يرميه ، وهو يقول :

أتوعد كل جبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا رب خرّقني الوليد

وذكر محمد بن يزيد المبرد [النحوي] أن الوليد ألحد في شعر له ذكر فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن الوحي لم يأته عن ربه ، كذب أخزاه الله. من ذلك الشعر :

تلعب بالبرية هاشمي

بلا وحي أتاه ولا كتاب

فقل لله يمنعني طعامي

وقل لله يمنعني شرابي

فلم يمهل بعد قوله [هذا] إلا أياما حتى قتل.

المصادر : (مروج الذهب) ٣ / ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، الطبعة الرابعة ١٣٨٤ ه‍.

١٢٢

عليها الاتفاق ممن يصح اتفاقه من أهل المعرفة أن الرواية من الكتاب المشهور تصح كما تصح من الشيخ.

وأصل ذلك ما أجمع عليه الصحابة من قبول الرواية من كتاب عمرو بن حزمرحمه‌الله تعالى ولم يروه لهم أحد ، فكان ذلك أصلا لنظائره ، ولأنا يحصل لنا برواية الواحد غالب الظن أن هذا من فلان وأن هذا قاله فلان ، وقد علمنا ضرورة بخبر الخلق الأكثر أن هذا الكتاب مثلا الذي هو كتاب (الأحكام) تصنيف الهادي عليه‌السلام بحيث لو أن إنسانا انتحله أو أظهر التشكك وقال : أما كتاب (الأحكام) فلم يصنفه الهادي عليه‌السلام لتشكك أهل العقول في كمال عقله ، وكذلك لو أن إنسانا ممن يتعلق بالعلم قال : ولم يحارب أبو بكر أهل الردة ولا سباهم لأجل الردة ، أو قال : كانت ردتهم بعبادة الأوثان لعلم أهل العلم جهله أو اختلال عقله إن كان من أهل العلم ؛ فحرب أهل الردة معلوم جملته ، وتفصيله ضرورة كما يعلم صفين والجمل فهذا وجه. والوجه الثاني : أن أخبار الردة مسموعات لنا مستوفاة ذكرها (محمد بن جرير) (١) في كتابه مفصلة وهو لنا سماع وعليه بنينا ما في (الهداية) ، وذكرها القضاعي (٢) جملة ، وهو لنا سماع أيضا ، فقد ثبت ما رويناه واعتمدنا على

__________________

(١) محمد بن جرير الطبري : وهو محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، أبو جعفر [٢٢٤ ـ ٣١٠ ه‍] ، مؤرّخ ، مفسّر ، عالم ، ولد في آمل طبرستان ، واستوطن بغداد وتوفي بها ، وله كتاب التفسير ، وكتاب (أخبار الرسل والملوك) المعروف بتأريخ الطبري ، وقد اعتمد فيه في أخبار الردة والفتوح ، وعصر الخلفاء على روايات سيف بن عمر التميمي صاحب كتاب (الردة والفتوح) وهو من أكذب المؤرخين.

انظر (الأعلام) ٦ / ٦٩.

(٢) القضاعي : هو محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حكمون ، أبو عبد الله ، القضاعي ، المتوفى سنة ٤٥٤ ه‍. مؤرخ ، مفسر ، من علماء الشافعية ، كان كاتبا للوزير الجرجرائي (علي بن أحمد) بمصر في أيام الفاطميين. وأرسل في سفارة إلى الروم ، فأقام قليلا في القسطنطينية ، وتولى القضاء بمصر نيابة ، وتوفي فيها. ومن كتبه : (تفسير القرآن) عشرون مجلدا ، و (الشهاب في المواعظ والآداب) ـ ط ، و (مناقب الشافعي وأخباره).

انظر (الأعلام) ٦ / ١٤٦.

١٢٣

الاستدلال به بكل طريق ، وإن كان علي عليه‌السلام هو قدوتنا وهو الإمام المعصوم فوطئ بملك اليمين من المرتدين [من] (١) قدمنا ذكره وهو معلوم لنا ، وذكره العقيقي عليه‌السلام في أنسابه(٢) وهو لنا مسموع وهذا أظهر الأدلة لمن تأمله.

[موقف الأئمة من السبي]

ولما استقام الأمر له عليه‌السلام كان في أيامه سبي بني ناجية وبيع معقل بن قيس الرياحي(٣) رحمه‌الله من مصقلة بن هبيرة (٤) رواية بخمسمائة ألف ورواية بأربعمائة ألف ؛ لأنها ذراري قبيلة ذكر أنه سبى منهم ألف بنت نسائهم وأطفالهم ، وذكرهم في كتاب (نهج البلاغة) وهو لنا مسموع أيضا وطلب المسلمون لما هرب مصقلة ولحق بمعاوية ردهم في الرق فقالعليه‌السلام : لا سبيل لكم عليهم وقد أعتقتهم وإنما لكم مال غريمكم وقال : قبّح الله مصقلة فعل فعل الأحرار وهرب هرب

__________________

(١) في (أ) : ما.

(٢) هو يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله ، الأعرج بن الحسين الأصفر ، العبيدلي ، العقيقي ، النسابة ، أبو الحسن ، مؤرخ ، عالم ، نسابة ، مولده بالمدينة المنورة سنة ٢١٤ ه‍ ، وبها نشأ وترعرع ، وكان من أصحاب الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ، أخذ عنه وعن مشايخ آل الرسول في بلده ، وروى عن : الزبير بن بكار ، وإبراهيم بن علي بن الحسن بن يحيى ، وابن مصعب وغيرهم. وعنه : حفيده الحسن بن محمد بن يحيى ، ومن تلاميذه الحافظ ابن عقدة ، وله إلى الإمام القاسم مسائل ، أخرج له من أئمتنا السيدان الأخوان والجرجاني ، توفي بمكة. ومن مؤلفاته : (أخبار المدينة) ، (أنساب آل أبي طالب) ، (المسائل إلى القاسم بن إبراهيم) ، (كتاب المسجد) [ذكره في تنقيح المقال].

المصادر : (أعلام المؤلفين الزيدية وفهرست مؤلفاتهم) ، وانظر بقية المصادر هناك.

(٣) معقل بن قيس الرياحي ، تقدمت ترجمته في (الرسالة الهادية).

(٤) مصقلة بن هبيرة تقدمت ترجمته في (الرسالة الهادية).

١٢٤

العبيد ، أما إنه لو أقام لأخذنا ميسوره وانتظرنا بماله وفوره (١). وهم عرب ممن كان قد عظم عناؤه في الإسلام يعلم ذلك ضرورة لنا ولأهل العلم.

وذكر يحيى بن زيد عليه‌السلام لما دخل عليه كبار العرب من جنود بني أمية يلومونه (٢) ويعنفونه فكان يسأل عنهم واحدا واحدا ويرد على كل إنسان ما يصلح أن يرد على مثله حتى كلمه صاحب بني ناجية فقال : من أين هذا؟ قيل : من بني ناجية. فقال : لا تلامون على بغضنا أهل البيت لأثر أبي الحسن فيكم يعني قتله لمقاتلتهم وسبيه لذراريهم ؛ ولم نعلم منهم ولا ينكر من يراعي أحكام العلم إنكاره إلا منعهم الصدقة عامين : عام صفين والعام الذي بعده ، وذلك لوجدهم على علي عليه‌السلام لما نفاهم من نسب قريش فقضى بردتهم لذلك ، ومهما وقع فيه النزاع فلا نزاع في أن كندة في حضر موت ارتدت على ناقة تسمى (شذرة) خرجت في سهم الصدقة وأبى صاحبها إلا استرجاعها ورد بعير مكانها وكره (زياد بن لبيد)(٣) رحمه‌الله ذلك ، فتمادى الشر حتى شبت الحرب ، وكانت شذرة عليهم مثل ناقة البسوس فقتلت مقاتلتهم وسبيت [ذراريهم] (٤) ؛ وحادثتهم ظاهرة عند أهل العلم ؛ وما عبدوا صنما ، ولا ادعوا سوى الله ربا ، ولا انتحلوا سوى

__________________

(١) (نهج البلاغة) الخطبة ٤٤. في (نهج البلاغة) خطبة رقم (٤٤) : قبح الله مصقلة فعل فعل السادة ، وفر فرار العبيد فما نطق مادحه حتى أسكته ولا صدق واصفه حتى بكته ، ولو أقام لأخذنا ميسوره ، وانتظرنا بماله وفوره.

وقد تقدمت حكاية بني ناجية في (الرسالة الهادية) ، وانظر (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد ٣ / ١٢٧ إلى ١٥١.

(٢) في (أ) : يلزمونه وهو خطأ.

(٣) زياد بن لبيد بن ثعلبة بن سنان بن عامر بن عدي بن أمية بن بياضة الأنصاري البياضي ، شهد بدرا والعقبة ، كنيته أبو عبد الله ، من فقهاء الصحابة ، ممن سكن الشام.

(٤) سقط من (أ).

١٢٥

الإسلام دينا ، ولا يمكن أحد إلا يباهت دعوى شيء من ذلك ؛ وقد ذكرنا قصتهم في (الرسالة الهادية) مستوفاة فاستغنينا عن إعادتها هاهنا ؛ وعلي عليه‌السلام بين ظهراني الجماعة فما أنكر شيئا من ذلك ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وقد ذكرنا في الرسالة الهادية نساء بأسمائهن [كن] (١) مع أفاضل الصحابة معروفات النسب في العرب سوى من كان مع علي عليه‌السلام ، وإن كان علي القدوة ولكن ذلك لا يزيد الأمر إلا تأكيدا ولا وجه لملكهن إلا كفر أهلهن.

وأظهر من ذلك لأهل المعرفة المتأملين أن الحسن بن علي عليه‌السلام وهو الإمام المعصوم تزوج خولة ابنة منظور (٢) بن سيار من عبد الله بن الزبير وهو قرشي وهي فزارية وأبوها منظور بن سيار قريب الدار ، فلما علم أبوها بذلك دخل المدينة ونصب فيها لواء فما بقي قيسي حتى دخل تحته وقال : يا معشر قيس أمثلي يقتات عليه في ابنته (٣). والقصة طويلة معلومة لأهل البحث ، ولا نعلم لذلك وجها إلا أنه علم كفره ببعض مسائل الكفر فأسقط حكم ولايته على ابنته ووطئها صلوات الله عليه بعقد من الزبير وأمره ، وأولدها الحسن السبط الحسن الرضى عليهم‌السلام وبما ذا يتعلق ويفصل بين الحق والباطل إن لم يرجع في هذه الأصول الدينية إلى ما ذكرناه.

__________________

(١) سقط من (ب).

(٢) خولة ابنة منظور بن زيان بن سيار الفزاري ، كما في الطبري.

(٣) في حاشية الأصل ما لفظه : نقلت حاشية على هذا المبحث بخط الوالد العلامة يحيى بن عبد الله بن زيد بن عثمان الوزير رضي الله عنه فقال ما لفظه : في هذا عندي كلام الإمام يحتاج إلى تحقيق لأن أول القصة : فلما وصل أبوها وفعل ما ذكره فارقها الحسن بن علي عليهما‌السلام وردها والدها ، فلما خرج بها والدها من المدينة وسار بها عاتبته أن الحسن بن علي ، وأنه إن له رغبة فهو سيتبعنا فما شعر ذلك اليوم إلا وقد تبعه ، فأجاز له النكاح وأرجعها برضا والديها.

هذا الذي اطلعنا عليه ولعله في (مقاتل الطالبيين) أو غيره فيبحث عليه. (يحيى بن عبد الله بن عثمان بن الوزير عفا الله عنه).

١٢٦

وأما كلام محمد بن عبد الله عليه‌السلام في سيره فهو لنا مسموع ، وهو يؤيد ما قلناه ولا ينافيه كما قدمنا الكلام فيه ، ونحن حاكوه لك وإن كنت غير جاهل به ، ولكن لتردد الكفر في معانيه فتعلق الفائدة بالعقل السليم إن شاء الله تعالى.

قال عليه‌السلام في المرتدين : إذا غلبوا على مدينة في أرض الحرب ومعهم نساؤهم وذراريهم وهم مرتدون وليس في المدينة غيرهم فقاتلوا المسلمين ، فإن المسلمين إذا ظفروا بهم قتلوهم وسبوهم وسبوا ذراريهم ، وضربوا عليهم السهام ، وأخرج منهم الخمس.

قال : والأصل في ذلك ما اتفقت الصحابة عليه من قتال أهل الردة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما صار لهم تحزب واجتماع ، ودار وامتناع على المسلمين ، وانتصاب لقتالهم ؛ لأنهم إذا صاروا كذلك كان حكمهم حكم الكفار في دار الحرب فيجري عليهم ما يجري في دار الحرب ؛ فهذا كلامه عليه‌السلام ، وهذا دليله ، فما رأيتنا أيها المسترشد زدنا أو نقصنا إلا أن يكون بيانا يشفي صدور الطالبين ، ويثلج قلوب الراغبين ، لأنا ميزنا القضايا وبيناها ، وعللناها ، وسهلناها ، وفصلناها ، وبينا المعنى في قوله عليه‌السلام في المرأة المرتدة وزوجها المرتد : إذا لحقا بدار الحرب ـ ما معنى فتواه عليه‌السلام فيها موافقا للمسألة الأولى ـ لأن قول العالم يلزم تأويله على الصحة ، وقول الإمام أولى ولا سيما مثل النفس الزكية محمد بن عبد الله عليه‌السلام.

والمعلوم أيدك الله تعالى أن الأشعة التي استضأنا بأنوارها إنما استخرجناها من المشكاة التي تنوّر منها أئمة الهدى عليهم‌السلام ؛ فأي [لأئمة] (١) علينا إذا احتججنا بها؟

__________________

(١) كذا في (ب) ، وفي (أ) : الأئمة وهو خطأ.

١٢٧

ولو قيل للإمام الأول : لا بد أن تحتج على قولك من قول الإمام الذي تقدمك لما التزم ذلك ، ولا العلم يقضي بإلزامه ذلك ، بل يقول : ارجعوا إلى الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ، واجتماع العترة والصحابة والأمة ، فإن ذكر شيئا من أقوال الأئمة عليهم‌السلام والعلماء رضي الله عنهم فإنما نذكره تقوية وتأنيسا ، وقد رأيت رد كلام محمد بن عبد الله عليه‌السلام إلى ما أراد المسترشد أن يمنعنا منه ؛ لأنه احتج بما فعله الصحابة رضي الله عنهم في أهل الردة. وقلنا : أن تكون لهم شوكة ودار ؛ فهل هذا يلزمنا لأنه ذكر عليه‌السلام جواز سبيهم بأنه صار لهم تحزب واجتماع ، ودار وامتناع ، وذكر أن الأمر متى صار كذلك كان حكمه (١) حكم الكفار في دار الحرب ، وأجري عليهم ما يجري على أهل الحرب. فهل رأيت أيدك الله كلامنا زاد على كلام محمد بن عبد الله عليه‌السلام أو نقص منه ، واحتجاجنا عدل عن منهاج احتجاجه قيد الشعرة ، إنما عمدته عليه‌السلام فعل الصحابة رضي الله عنهم ولا شك أنها حجة قاطعة عن جميع أقوال أهل العلم ؛ لأنه لم يشذ من الأئمة من الاحتجاج بالإجماع إلا الإمامية ، فعندهم أن الحجة بالإمام المعصوم.

وقوله : فهذا الإمام المعصوم بل الأئمة المعصومون عليهم‌السلام علي وولداه عليهم‌السلام فعلوا ذلك كما ذكرنا من أخذ علي لخولة وأم حبيب من السبي ، ولا خلاف بين سائر الأمة في وجوب حرب المرتدين وإجراء حكم الكفار عليهم ، وكون أرضهم التي غلبوا عليها دار حرب ، وقتل المقاتلة ، وسبي الذرية ، والغزو ليلا ونهارا ، وسرا وجهارا ، ولا نجدد إليهم دعوة وذلك متى تحزبوا وكانت لهم شوكة كما قلنا ، ولا عمدة للكل إلا إجماع المسلمين على حرب أهل الردة وقتلهم وسبي ذراريهم ، وما خالف في ذلك إلا الإمامية كما قدمنا ولا سلف لهم ولا ثقة بشيء من رواياتهم ؛

__________________

(١) في (أ) : حكمهم.

١٢٨

لأنهم لا يتوثقون في الرواية ولا يلزمون أحكام الدين في بابها ، فقد قالوا : إن العرب إنما حاربت أبا بكر لتقدمه على علي فلذلك قتلهم وسباهم لا لدين ، ولا إقامة شرع ؛ وما هذا بأعظم من كذبهم على علي عليه‌السلام وعلى ولديه ولا من دعاويهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النص ؛ فلا يلتفت إلى قولهم ، وقد أكذبهم فعل علي عليه‌السلام أخذه لخولة وأم حبيب من سبي أبي بكر ومحمدا محمدا وعمر ، وكون ذلك عند من يعرف الأثر ، في ظهور الشمس والقمر ، وقد طلبت المعتزلة وغيرها من أهل التدقيق أن يجعل ذلك ذريعة إلى إمامة أبي بكر ؛ لأن عليا عليه‌السلام أخذ من سبيه فلو لا اعتقاد [صحة إمامته لما] استجاز أن [يأخذ من سبيه] (١) سبيه صحيح.

قلنا لهم : إن أهل دار الحرب يجوز قتلهم وسبيهم مع غير إمام ، ولأن إمامة عليعليه‌السلام ثابتة بالنص فلا يفتقر فيها إلى التصرف وإجراء الأحكام فهو إمام ، وأخذ ما أخذ بنفسه ؛ لأنه حقه وإمامته ثابتة في الأيام كلها بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن توفي ، وقد كان بقي على رأيه في اعتقاد إمامته جماعة فله أن يأمرهم وينفذ أعمالهم بأمره ، ولم يتمكن أحد من إنكار كون دار أهل الردة دار حرب ، وقد كفت الإشارة من محمد بن عبد الله عليه‌السلام ، ولا جرم لنا إلا أنا فصلنا ما أجمل ، وشرحنا ما علل ، وقد بينا عذر الأئمة عليهم‌السلام في تبيين أحكام أهل الجبر والتشبيه ومن نحا نحوهم من الفرق الكافرة ، وذلك لغلبة فرق الضلالة وتحزبها على الذرية الطاهرة ، بالمقال والفعال حتى أن فرق الجبر بخراسان وطبرستان كانت علماؤها تفتي بوجوب غزو الناصر عليه‌السلام كما تغزى الكفار. وقال في قصيدة له :

__________________

(١) سقط من (أ) ، وهو في (ب) ، وحاشية (أ).

١٢٩

تداعى لحرب بني المصطفى

ذوو الحشو منها ومراقها

فهذه أمور لا تخفى على متأمل.

وقد روينا عن أصحاب القاضي شمس الدين (١) رحمه‌الله تعالى قبل أن يخطر ببالنا أنه يكون من نصر الله ما كان أنه كان يقول لأصحابه : بينوا كفر المطرفية ، ولا تبينوا أحكام الكفر. وإنما الردة لا تكون إلا بيقين فذلك حق ؛ لأنه لا يخرج من اليقين إلا بيقين (٢) ، والإسلام هو الأصل في دار الإسلام فلا يجعلها دار حرب إلا بيقين لا لبس فيه ؛ لأن أصول الحكام لا تبنى على الظنون ، ونحن ندعي لأنفسنا أنا ما أجرينا الأحكام إلا على من علمنا ردته بالضرورة إما بالتطريف وإما بالجبر والقدر ومعنا على هذا الخلق الأكثر.

فإن قيل : يجوز أن يكون فيهم من لا يقول بذلك.

قلنا : لا حكم في الشرع ، لذلك فقد كان في مكة يوم الفتح بنص القرآن الكريم من يدين بدين الإسلام قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ

__________________

(١) جعفر بن أحمد : القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام (شمس الدين ، بن يحيى البهلولي) الزيدي العلامة ، الحافظ ، المحدث ، المسند ، وأحد أعلام الفكر الإسلامي في اليمن ، عاش معاصرا للإمام أحمد بن سليمان (٥٠٠ ـ ٥٦٦ ه‍) ، وكان من أنصاره ، وقام بزيارة العراق لجمع الكتاب ونقلها إلى اليمن ، فأدخل كتب الزيدية في العراق والجيل والديلم إلى اليمن التي حفظتها مكتاباتها حين أضاعها الآخرون وهو شيخ الزيدية في وقته ، تصدى للتدريس بقرية سناع ، وناهض أتباع المذهب المطرفي بعد أن كان منهم في مرحلة مبكرة من شبابه ، وتوفي بسناع حدة جنوب صنعاء سنة ٥٧٦ ه‍ ، وقيل : سنة ٥٧٣ ه‍ ، وقبره مشهور على أكمة جنوب قرية سناع ، وقد خلّف مؤلفات وآثارا عظيمة.

انظر عنه وعن مؤلفاته كتاب : (أعلام المؤلفين الزيدية وفهرسة مؤلفاتهم).

(٢) في (ب) : إلا اليقين.

١٣٠

وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الفتح : ٢٤ ، ٢٥] فلم يمنع كون المؤمنين والمؤمنات (مع) (١) كون دارهم دار حرب ، فهذا على أبلغ التسليم وآكد الاحتجاج لمن نظر فيه ، ولا نعلم في جهات الجبر والتشبيه ما هذه صفته يكون من المؤمنين فيه إلا ندرا ، فأي حجة أبلغ مما هذا سبيله؟ وأي قول ساوى هذا الدليل دليله؟ فأطلقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسماهم الطلقاء ، واستثنى جماعة : نساء ورجالا أمر بقتلهم ولو تحت ستر الكعبة ، وأمر بقتل طائفة من بني بكر بن عبد مناة بقتلى بني كعب. وقد ورد في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى» (٢) ، فرأينا الصحابة اجتمعت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم الأمة في عصرهم ، بل خير الأمة على حرب المانع للصدقة والقضاء بردهم ، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قال أبو بكر على المنبر : لا أفرق بينما جمع الله بينه ـ يريد الصلاة والزكاة ـ والله لو منعوني عناقا أو قال : عقالا مما أعطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحاربتهم عليه. لأنهم قالوا نقيم الصلاة ولا نؤتي الزكاة ، بل نفرقها في أهل الفاقة منا كما قال قيس بن عاصم :

جنوت بها من منقر كل بائس

وأيأست منها كل أطلس طامع (٣)

__________________

(١) في (ب) : من.

(٢) الحديث شهير ، ويوجد في أغلب مصادر الحديث وللاطلاع على مصادره.

انظر (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٢ / ٣٣٧ ، ٣٣٨.

(٣) سبق إيراد البيت ضمن أبيات في (الرسالة الهادية) ، وفيها وفي الطبري وغيره :

حبوت بها في الدهر أعراض منقر

وأيأست منها كل أطلس طامع

وسبق الكلام على قيس بن عاصم المنسوبة إليه.

١٣١

يعني أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكما قال شاعر بني ذبيان :

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا

فوا عجبا ما بال دين أبي بكر

أيورثها (١) بكرا إذا مات بعده

وتلك لعمر الله قاصمة الظهر

وإن التي سألوكم ومنعتم

لكالتمر أو أحلى لدي من التمر (٢)

فالقوم مقرّون بالله وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما قالوا : لا نحب حملها بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أحد ، وأبو بكر لاعتقاده أنه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقائم من بعده قال : له ما للرسول ، ولو صح أنه خليفة لكان حقا ما قال ولم ينكر عليه أحد قوله على المنبر فكان إجماعا ؛ لأن الأكثر اعتقد إمامته [فأوجب ذلك والأقل فلم يخطئه في أن للإمام ما للرسول وإن كان لا يعتقد إمامته] (٣) ، ولم يختلف أحد في أن أبا بكر سبى جميع من قاتل ، وما سلم ممن قاتله من السبي إلا أهل (بزاخة) فإنهم لقوه بالجيش مجردا من النساء والذرية وتركوا بينهم وبين الذراري يومين أو نحو ذلك ، وما حضرت الجيش امرأة تذكر إلا امرأة طليحة ، فلما حقت الهزيمة قدمها بين يديه راكبة وحماها حتى نجت ، وملك على بني ذبيان أرضهم ـ أعني أبا بكر بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم ـ وقال : حرام على بني ذبيان [أن يتملكوا علينا] (٤) هذه الأرض بعد أن أفاءها الله علينا. وقال لأصحابه : إن الأرض كافرة. فأخرجها من الحكم الأول ولم ينكر عليه أحد ، وما قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا وجزيرة العرب دار الإسلام لا يشوبه كفر إلا ما نجم في حال

__________________

(١) في (أ) ، (ب) : يورثها.

(٢) سبق إيراد الأبيات في (الرسالة الهادية) ، وهي منسوبة إلى الخطيل بن أوس أخي الحطيئة ، وانظر الطبري وابن الأثير و (الرسالة الهادية).

(٣) سقط من (أ) ، وهو في حاشية (أ) ، وفي (ب).

(٤) سقط من (أ) ، وهو في (ب) ، وحاشية (أ).

١٣٢

مرضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأسود العنسي بصنعاء ، ومسيلمة باليمامة فقضى بكفرهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر بغيلتهم ، ومجاهرتهم ، فكانت الدار من قعر عدن إلى عمان إلى جفر أبي موسى إلى (تبوك) إلى (آيلة) فما تحوزه هذه التخوم إلى البحر دار الإسلام وما عداها دار حرب [فلما كان من العرب ما كان عادت الأرض دار حرب] (١) إلا القليل كمكة ، والمدينة ، والظاهر ، وصعدة ، و (جواثى) (٢) قرية من قرى البحرين ، وما سواها دار حرب [وردة] فلما دخلت العرب كرها في الباب الذي خرجت منه بعد نفاذ أحكام الله تعالى فيها بالقتل والسبي والصلب والحريق والرضح بالحجارة وأنواع التنكيل رجع الإسلام إلى حالته الأولى فقال شاعرهم :

وحبرها الراوون أن ليس بينها

وبين قرى مصر ونجران كافر

فألقت عصاها واستقرت بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

فالقوم ما جعلوا بين الإيمان والكفر في تلك الحال واسطة.

[موقف الأئمة من المجبرة والقدرية]

فأما كلام أهل البيت عليهم‌السلام في تكفير المجبرة والقدرية فلو عيناه لكم مع كونه موجودا عندكم لكنا كجالب التمرة إلى البصرة ، ومعلم العوان الحمرة ، ولكنا نذكر كلمة أو كلمتين كالتنبيه على ما وراءه.

قال القاسم عليه‌السلام (٣) في كتاب (العدل والتوحيد ونفي التشبيه) : فذهبت المشبهة إلى أن الله ـ تعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ تكلم بلسان وشفتين ، وخرج

__________________

(١) سقط من (أ) ، وهو في (ب) ، وحاشية (أ).

(٢) وقيل هو : حصن في البحرين. ذكر في حروب الردة.

(٣) القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام تقدمت ترجمته في (العقد الثمين).

١٣٣

الكلام منه كما خرج من المخلوقين ؛ فكفروا بالله العظيم (١) ، فأطلق كلمة الكفر من غير تقييد فلا بد من لزوم أحكامه وإلا تعرى من الفائدة وذلك لا يجوز في الألفاظ الشرعية.

وقال عليه‌السلام في كتاب (أصول العدل والتوحيد) (٢) بعد مضي نصف الكتاب أو نحوه: فأول ما نذكره من ذلك معرفة الله عزوجل وهي عقلية منقسمة على وجهين وهي : إثبات ونفي ، فالإثبات : هو اليقين بالله والإقرار به ، والنفي : هو نفي التشبيه عن الله تعالى وهو التوحيد ، وهو ينقسم على ثلاثة أوجه :

أولها : الفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق ، حتى تنفي عنه جميع ما يليق بالمخلوقين في كل معنى من المعاني ، صغيرها ، وكبيرها ، وجليلها ، ودقيقها ، حتى لا يخطر في قلبك في التشبيه خاطر شك وتوهم ارتياب ، حتى توحد الله سبحانه باعتقادك وقولك وفعلك ؛ فإن خطر على قلبك في التشبيه خاطرة شك فلم ينف بالتوحيد خاطرها ، ويحط باليقين البت والعلم المثبت حاضرها ، فقد خرجت من التوحيد إلى الشرك ، ومن اليقين إلى الشك ؛ لأنه ليس بين التوحيد والشرك ، وبين اليقين والشك منزلة ثالثة ؛ فمن خرج من التوحيد فإلى الشرك مخرجه ، ومن فارق اليقين ففي الشك موقعه.

والوجه الثاني : الفرق بين الصفتين حتى لا تصف القديم بصفة من صفات المحدثين.

__________________

(١) انظر (رسائل العدل والتوحيد) تحقيق سيف الدين الكاتب ، منشورات دار مكتبة الحياة ص ٢٦٤.

(٢) كتاب (أصول العدل والتوحيد) : طبع ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد بتحقيق سيف الدين الكاتب. وهو مخطوط بمكتبة السيد عبد الرحمن شائم ، وأخرى منه ضمن مجموع بمكتبة السيد محمد بن محمد الكبسي خط سنة ١٠٤١ ه‍ ، وأخرى ضمن مجموع خط سنة ١٠٦٤ ه‍ بمكتبة السيد يحيى راوية.

١٣٤

والوجه الثالث : الفرق بين الفعلين حتى لا يشبه فعل القديم بفعل المخلوقين ، فمن شبه بين الصفتين أو مثل بين الفعلين ، فقد جمع بين الذاتين ، وخرج إلى الشك والشرك بالله ، وبرئ من التوحيد والإيمان ، وحكمه في ذلك حكم من أشرك واعتقد ذلك ، وافترى فشك ؛ فهذا كما ترى تصريح بكفر المجبرة والمشبهة وشركهم وبراءتهم من الإيمان والتوحيد ، كما ترى حكمهم عند أئمة الهدى عليهم‌السلام وإن لم يعللوا الفتاوي ويطولوا في أمرها ، وكلام الهادي عليه‌السلام نحو ذلك ، وكلام الناصر عليه‌السلام أشد من ذلك.

وقد قدمنا جملة كلام أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة ولم نعنى بالتطويل به لكونه معلوما موجودا ، وضرورة علم ذلك لأهل المعرفة من أهل الاعتقادات الصحيحة والعدل والتوحيد كثر الله جماعتهم ، وقوى جندهم ، ولسنا نتمكن من حصر إطلاقات هؤلاء الأئمة الثلاثة عليهم‌السلام في كتبهم بتكفير المجبرة والمشبهة والقدرية والقضاء بشركهم تصريحا ـ أعني القاسم بن إبراهيم ، وابن ابنه الهادي يحيى بن الحسين ، والناصر الأطروش عليهم‌السلام ـ وأما الإشارات والتخريجات من كلامهم فمما لا يتحد ، ولو لا ذلك لما خرجت أحكام أشياعهم رضي الله عنهم أجمعين تسبي فرق الجبر ، والقدر ، والتشبيه ، والإلحاد ، من يوم دخلهم الإسلام إلى يومنا هذا بالجيل والديلم ، وهم أهل التفتيش والضبط لعلوم الأئمةعليهم‌السلام وما نعلم أن لأحد من أشياعنا مثل ضبطهم ، وحفظهم ، وتحقيقهم ، وتدقيقهم، في علوم آبائنا عليهم‌السلام ولم تزل أيديهم ظاهرة على جميع الفرق الضالة ، والسبي منهم مستمرا ، والغزو عليهم دائما ، واليد لهم إلى ثلاثة أعصار إلى يومنا هذا من سنة ستين وخمسمائة ، وكلبت عليهم جنود الجبر والإلحاد أخزاهم الله تعالى فغزوا الإخوان وسبوهم ، وتفرقت كلمة السادة والشيعة فطمع فيهم عدوهم ، ومنهم من امتنع من الحج ، وقضى علماؤهم بسقوط فرض الحج عنهم ، لكون مرورهم على بلاد المجبرة ،

١٣٥

ولا يمكن لهم من الاحتراز من رطوباتهم ، وهم يرون تنجيسها بشركهم (١) ؛ فأثبتوا فيهم أحكام المشركين وبعضهم ، بل أكثرهم على ما نقل لنا من الثقات عنهم ، ورأينا منهم لا يستنفعون بالزعفران ، ولا يأكلون طبيخا هو فيه ـ لكون الزعفران من بلاد المجبرة ـ ولا بد من ترطيبهم له عند جناته من أشجاره ، وهذا ظاهر فيهم ، معلوم لنا من أحوالهم ، وما ذلك إلا لتكفيرهم لهذه الفرق المذكورة ، وإجرائهم لأحكام الكفار عليهم ، وهم متفقون على الرواية عن هؤلاء الأئمة عليهم‌السلام أن حكم المجبرة حكم الحربيين ، ويرون اختلاف هؤلاء الأئمة عليهم‌السلام في المسائل ، ولا يرون بينهم اختلافا في أن دار المجبرة دار حرب ، وأحوال الأئمة عليه‌السلام لنا معلومة من لدن أمير المؤمنين ووصي رسول رب العالمين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله الطيبين فلم نعلم أحدا منهم تمكن تمكنا يتمكن معه من إجراء أحكام رب العالمين على أعدائه الكافرين ، بل يحاول توطيد الأمر لتنفيذ الأحكام ، فتحول العوائق بينه وبين المرام فالحمد لله رب العالمين.

أتم ظهور كان لأهل هذا البيت ظهور محمد بن إبراهيم عليه‌السلام في الكوفة ، فإن في دعوته استظهر أهل هذا البيت المطهرين عليهم سلام رب العالمين على الكوفة والبصرة وواسط والأهواز وكرمان وفارس والحجاز واليمن والمدائن ، وصارت بغداد في حكم الحصر وطمع الأولياء بالظهور والنصر ، وقتل من الجنود العباسية مائتي ألف قتيل فمات عليه‌السلام لشهرين من قيامه ، وقيل : لأربعين يوما ، وعلى الجملة لم تطل أيامه عليه‌السلام.

وفيه عن أمير المؤمنين سلام الله عليه قال : يا أهل الكوفة ، يخطب على منابركم هذه وأعوادكم هذه سنة تسع وتسعين ومائة لرجل منا أهل البيت يباهي الله به كرام الملائكة ؛ فكان عليه‌السلام فلم يقع تمكن يبلغ به المراد وتخمد فيه نار أهل

__________________

(١) في (ب) : لشركهم.

١٣٦

الفساد ، وكانوا إلى تألف العامة أحوج ، وأكثر العامة في جميع الأعصار على رأي بني أمية في الجبر والتشبيه ؛ لأن دينهم قد كان طبق آفاق الأرض من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ، ومن بلاد السند إلى بلاد الروم ؛ فانغمس القوم في دينهم بالجبر والتشبيه وبغضة أهل هذا البيت المطهر ، فالأكثر على ذلك إلى الآن فالله المستعان.

والنظر في إمضاء الأمور وتركها إلى الإمام فإن تقوى نظره على إمضاء الأحكام أمضاها ، وإن أداه نظره إلى ترك ذلك تركه ، حتى إذا كان مقاوما للعدو كف عن إقامة الحدود مخافة فتق لا يمكن إصلاحه ، فالنظر إليه في فعل ما يجوز فعله على وجه ، وترك ما يجوز تركه على وجه ، وللدين أصول يرجع إليها ، وإذا نظر بعض الناس من الأمة نظرا ـ وإن كان الناظر صالحا ـ لم يلزم الإمام فعله ولا نظره ، وإذا نظر الإمام نظرا له وجه في الدين ومذهب في النظر كان على الكل قبوله والرضى به والاعتماد عليه ، قال الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب : ٣٦] ، وهذا فيما تكره القلوب ، وتنفر عنه النفوس ؛ لأن الآية الشريفة قضت أن اختيار العباد كان واقعا على غير قضاء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن اختياره خير من اختيار عباده ، ولو لا علم الله سبحانه أن في شدة الوطأة على أعدائه بالقتل والسبي والصلب والسلب صلاحا في الدين وقوة للمسلمين ، لما قرت بذلك أحكامه ، وجرت أوامره ، وليس ما يخاف من تعد الفراعنة يمنع من إمضاء أحكام الأنبياء عليهم‌السلام ، ولو كان ذلك مانعا لما جرت الأحكام ، وقد ظهر من أهل التمييز والنظر أن سبينا (١) للكفرة قطع ظهور المجرمين ، وأعلى كلمة الدين ، وفرق شمل العادين وإن لم تمض الأحكام فمن يقوم بإمضائها ، ومن يقدر على إجرائها ،

__________________

(١) في (ب) : سبانا.

١٣٧

وينهض بأعبائها ، إلا من ملكه الله سبحانه أزمة الأمر ، وجعل إليه العقوبة والزجر ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيامه أحوج الخلق فيما يقتضي به نظر المكلفين إلى تألف العرب وإدنائها بدفع السبي عنها ؛ فرفع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السبي عن بعض ، وسبى بعضا ، وكل فعله إنما هو عن الله تعالى ، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم أطبقت العرب على عنادهم وحربهم ، ورميهم عن قوس واحدة ؛ فلم يمنعهم ذلك من إجراء السبي عليهم ، وإنفاذ حكم الله تعالى فيهم.

وقد ذكر القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام في كتاب (القتل والقتال) فقال ، لما سئلعليه‌السلام : سألت بما يحل الدم والمال والسبي ، وتجب البراءة والعداوة والبغضاء ، ويحرم أكل الذبائح ، وعقد المناكح ، من الكفر الذي جعله الله تعالى اسما واقعا على كل مشاقة أو كبير عصيان ، ومخرج لأهله مما حكم الله تعالى به للمؤمنين من اسم الإيمان بحال كثيرة متفقة في الحكم ، متفرقة بما فرق الله بينها في مخرج الاسم لها ، جامعة وتفسيرها فتفسيرها كبير وجامعها كلها ، وتفسير جميع جملتها فتشبيه الله تعالى بشيء من صنعه كله ، أو تجويره لا شريك له في شيء من قوله ، أو فعله ، وأن يجعل معه إله أو آلهة ، أو والدا [أو ولدا] (١) ، أو صاحبة ، أو ينسب إليه جورا بعينه ، أو مظلمة ، أو تزال عنه من الحكم كلها حكمة ، أو يضاف إليه في شيء من الأشياء كلها ، أو يكذب له صراحا في وعده أو وعيد قاله ، أو يضاف إليه سنة أو نوم ، أو وصف كان من أوصاف العجز مذموما ، أو ينكره سبحانه منكرا ، أو ينكر شيئا مما وصفناه من توحيده ، أو يتحير في شيء مما وصفناه به مرتاب ، أو يذم له فعلا أو قيلا ، أو يكذب له سبحانه تنزيلا ، أو يجحد له نبيا مرسلا ، أو ينسب إلى غيره فعلا من أفعاله كنحو ما ينسب من فعله في الآيات ، وما جعل مع الرسل

__________________

(١) سقط من (أ).

١٣٨

من الأدلة والبينات ، إلى السحر والكهانة ، والكذب والبطالة ، فأي هذه الحال المفسرة المعدودة ، والأمور التي ذكرنا البينة المحدودة ، صار إليه بالكفر صائر ، ثم أقام على كفره فيها كافر ، وجب قتله وقتاله ، وحل سباؤه وماله ، ولم تحل مناكحته ، ولم تحل ذبيحته ، وحرمت ولايته على المؤمنين ، وكان حكمهم حكم المشركين (١). والكتاب كبير هذه زبدته.

فهذا كلام الإمام المرتضى ، الكبير ، العالم ، ترجمان الدين ، ورأس الموحدين ، العابد الخشن ، الزاهد الورع ، الذي لم يختلف أحد من المسلمين فيما نعلم في فضله وكماله ، وكرم خلاله ، حتى وافق فيها مخالفه وعدوه ، كما دان بها وأظهرها محبه ووليه ، قد أتى على كل مرادنا ، وكفانا مئونة الجواب عن كل ما سأل عنه المسترشد أيده الله تعالى ونحن ذاكروا ذلك تأكيدا وتنبيها.

وضع عليه‌السلام هذا الكتاب في (الحكم) وسماه [أو سماه] (٢) بعض أوليائه كتاب (القتل والقتال) فكان فاتحته لأنه جعله جوابا عن سؤال عما يحل الدم والمال والسبي ، وتجب (٣) البراءة والعداوة والبغضاء ، ويحرم أكل الذبائح ، وعقد المناكح ؛ فهذه أحكام الحربيين كما ترى بغير زيادة ولا نقصان ، ثم فسر هذه الجملة بما قدمنا مما تقف عليه. فنص ما ذكر هو كفر الكفار الأصليين والنصارى المضيفين إليه حكم الوالدين تعالى عن ذلك رب العالمين.

ثم ذكر بعد (٤) ذلك التشبيه والجبر ؛ لأن المجور هو من يضيف إلى الله تعالى الجور

__________________

(١) القتل والقتال ـ خ ـ.

(٢) سقط من (أ) ، وهو في (ب) ، وحاشية (أ).

(٣) في (أ) : وتجنب.

(٤) في (ب) : بعض.

١٣٩

وهو ثمرة الجبر لا ينكر ذلك أهل المعرفة.

ثم قال فيه عليه‌السلام : أو ينسب إليه جورا بعينه وقد نسب المجبرة كل جور على وجه الدنيا إلى الله تعالى ، وجعلت ذلك إجلالا وكل مظلمة ، وهذا بنفسه أيضا مذهب المطرفية الكفرة الفجرة ، لأن عندهم ما حدث في العالم من ظلم ، وجور ، وطعن ، وضرب ، وقتل ، ورمي ، ورجم ، فهو فعل الله تعالى لا فاعل له سواه ؛ لأن عندهم فعل العبد لا يعدوه ولا يوجد في غيره ، ونحن نعلم هذا والكل ممن خالطهم من مذهبهم ضرورة ، ونعلم أنهم وإن اختلفوا في فروع لهم فلا يختلفون في هذه المسألة ، فقد قضى عليهم بشركهم ، وأطلق سبيهم ، وأجرى أحكام الحربيين عليهم ، وأزالوا عنه تعالى جميع الحكم الذي يتعلق بالنقائض والامتحانات ، وقضى عليه‌السلام بأن من أضاف إلى الله تعالى شيئا واحدا من الجهالات لحق بالمشركين الحربيين ، وقد أضافوا إليه أفعال العباد كلها جهالة وظلما وضلالا ـ تقدس عن ذلك وتعالى ـ وأضافوا أشياء قالوا : فعلها ولم يردها ـ فوصفوه بصفة الجاهلين تعالى عن ذلك رب العالمين ـ وقد قضى عليه‌السلام بكفر من فعل ذلك ، وألحقه بالحربيين بإجراء أحكامهم التي ذكرها عليه‌السلام من القتل ، وأخذ المال ، والسبي ، وتوابع ذلك ، وقال عليه‌السلام : أو يكذبه صراحا في وعد أو وعيد ، وهذه صفة المجبرة عجل الله دمارها وعفا آثارها ؛ لأنها قالت : إن الله تعالى لا يدخل المسلمين الجنة بوعده ، وإنه لا يفي بخلودهم في النار بوعيده ، وكذلك المطرفية الملعونة كذبته في قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦].

فأضافوا إليه الظلم بأنه يعاقب عبيده على فعله الواقع عندهم في المضروبين والمطعونين وغيرهم ، وأنه لا يعيض المؤلمين ، وهذا نفس الظلم ، فحكمه عليه‌السلام لاحق بهاتين الفرقتين ، وأموالهم بمنزلة الحربيين ، فأوجب عليه‌السلام بأن من لم

١٤٠