مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

على ما في أيديهم من الممالك ، كأسعد بن أبي يعفر (١) ، وأحمد بن محمد الضحاك (٢) وغيرهما من الرؤساء ؛ وقد بينا في أول المسألة أنه لا يجب على الإمام التحكم في أنه لا يفعل الإمام إلا ما قد سبق فعله ، وقد بينا أن الأئمة عليهم‌السلام قد فعلوا أشياء لم يسبق إليها ذكر ، ولأنها فعل ، ولم ينكر عليهم أحد من أهل المعرفة ، ولا ينبغي لأحد أن ينكر فأهل البيتعليهم‌السلام معدن العلم فما خرج من علم للآخر أضيف زيادة إلى علم الأول ، وكان سعة ورحمة ، ومثالهم مثال قوم لهم معدن من ياقوت أو جوهر وهم يستخرجون منه ، وإنما على قدر ما يرزقهم الله تعالى من كثرة وقلة ، وتفاضل في الجودة ؛ فكما أن الذي يخرجه أحدهم هو غير ما يخرجه الآخر ، وإنما هو جنسه فلحق به ، فليس للآخر أن يقول : إن هذا غير ذلك فلا أقبله ؛ فإنه يقال له : فإن كان غيره فإنه من جنسه. فتفهم ذلك تجده كما قلنا ، ولو لا صحة ما قلنا لما صنف أحد من الأئمة المتأخرين علما ، ولكان العلم كتابا واحدا وهو الآثار التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يتعداها أحد إلى غيرها ، ولكان من جاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علي فمن بعده من ولده عليهم‌السلام يقال لهم : [لا] (٣) نقبل منكم إلا

__________________

(١) أسعد بن إبراهيم بن أبي يعفر محمد بن يعفر بن إبراهيم الحوالي.

قال في (الأعلام) : زعيم يماني من الأمراء ، قاتل القرامطة أيام استيلائهم على اليمن وانتزع منهم صنعاء ، ثم استولى عليها فقاتلهم في ذمار ثم صالح علي بن الفضل فولاه صنعاء ، ثم تآمر عليه مع طبيب من آل بغداد فقتله مسموما ونهض أشياعه فقاتلهم أسعد وظفر بمن لقي منهم ، ودانت له بلاد اليمن كلها ما عدا صعدة فاستمر من سنة ٣٠٤ ه‍ إلى أن توفي بكحلان.

انظر (الأعلام) ١ / ٢٩٩.

(٢) أحمد بن محمد بن الضحاك الهمداني ، المتوفى سنة ٣٣٠ ه‍ ، أبو جعفر. سيد همدان في عصره وأحد كبار المحاربين في اليمن. قتل أبوه وهو ابن سبع سنين. فراعى ثأره في آل يعفر سبعا وخمسين سنة ، شهد بها مائة وست وقائع كان أكثرها بينه وبين الإمام الهادي يحيى بن الحسين ثم صافاه ابنا الهادي (محمد المرتضى) و (أحمد الناصر) ، فكان لهما نعم الصاحب والوزير في أمورهما ، وكان معاصرا للهمداني صاحب (الإكليل). انظر (الموسوعة اليمنية) ١ / ٦٣.

(٣) في (أ) : ما.

٢٠١

ما كان في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فهذا كما ترى قول ساقط لا يلتفت إليه ، ولو لا الضرورة والبلوى بهذه الفرقة الملعونة ، والأمة المفتونة ، لما اشتغلنا بشيء من هذا ، ولكنا نذكر ما يذكر الله تعالى ؛ لئلا نلقى الله تعالى ولأحد من خلقه لائمة ، ومن الله نستمد التوفيق والهداية.

[مصروفات الوالي]

وسألت : إذا كان السلطان يقبض ما يقبض من الرعية على جاري عادته ، ويصرفه في ضيفه وخدمه وسائر مصالحه وعلى حرب من حاربه ، وسواء كان الحرب حقا أو باطلا ، هل يجوز ذلك له ، أو يجوز للمسلمين التصرف من تحت يده ، ويجوز للإمام أن يقره عليه أم لا يجوز؟

الكلام في ذلك : إن للإمام أن يعطي السلطان أو غيره ، فإن استقاموا على طاعة الله تعالى فقد عملوا بالواجب وسلموا من الحرج ، وإن عصوا الله تعالى طلبهم بحكم معصيته فكان ما أعطاهم الإمام حلالا يسألون عنه يوم القيامة كما يسألون عن نعمة الحلال التي أنعم الله بها عليهم ، وللسلطان أن يصرف ما قبضه في مصالحه ؛ وإلا فما فائدة صرف الإمام إليه ، فأما حروبه فما كان طاعة لله تعالى وجائز فهو غير آثم ، وما كان محظورا فحكمه لا يتغير وهو عليه محظور ، ولا يجوز له الإنفاق من صميم ماله وخالص حلاله على الحروب وسائر الأمور المحظورة ، فما المخصص لما يعطيه الإمام بالحكم إلا واحد ، وللمسلمين التصرف فيما أعطاه الإمام ما لم يحصر الإمام ذلك.

وأما إقرار الإمام له : فكما جاز أن يعطي لمصلحة جاز أن يقر لمصلحة ، فلا وجه لاعتراض المعترضين على أولاد النبيين.

٢٠٢

[الضرائب والقبالات]

وسألت : ما الحجة على جواز أخذ الضرائب ، والقبالات في الأسواق والجلائب ، وأهل التجارات والصناعات ، وإكراه أهل الزرايع وسائر الأموال على أخذ أكثر من الزكاة عموما من سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سير الأئمة عليهم‌السلام قلت : ويبالغ الإمام في ذلك فالمعترض يقول : الآيات الموجودة محمولة على الزكاة ، والزائد مندوب إليه من غير إكراه ، وقال المعترض : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكره أحدا من الصحابة على أزيد من الزكاة مع شدة الحاجة إلى ذلك ، وكثرة أموال بعضهم ، وقد روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله السلف؟

الكلام في ذلك : إن جواب هذه المسألة على تنوعها وتفرعها ينبني على أنه هل يجوز للإمام أن يأخذ من الأموال ما يسد به الثغور ، ويصلح به الأمور من أحوال الجمهور أم لا؟ فإن كان ذلك يجوز لم يبق للسؤال وجه ، وإن كان لا يجوز فحكمه باق والسؤال قائم الحكم ، وقوله : إن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللإمام من بعده التصرف في أموال المسلمين ونفوسهم بما يؤديه إليه النظر في مصالحهم وعليه الاجتهاد وعلى الله التوفيق فما أداه اجتهاده إليه جاز له أخذه لمصلحة الدين ، وما لم ينظر لأخذه صلاح فهو لا يأخذه لارتفاعه عن درجة المتهمين ، ومتهمه في ذلك لا يكتب في سجل الصالحين عند جميع المسلمين.

فنقول وبالله التوفيق : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب الكتاب يوم الخندق لعيينة بن حصن ومن تابعه من غطفان بثلث تمر المدينة من غير مشورة الأوس والخزرج رحمة الله عليهم أجمعين فوصل إليه السعدان : سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ في آخرين فقالوا : يا رسول الله أمر من الله أمرك به فلا يجوز لنا تركه ، أم نظر نظرته لنا؟

٢٠٣

فقال : «بل نظر لكم. فقالوا : يا رسول الله والله لقد كنا على عبادة الأوثان فما طمعوا بتمرة من تمرها إلا أن يكون قرى أو شراء ، فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام وبك يا رسول الله. فأعطاهم الكتاب مزقوه» وهذا الخبر لم تختلف الأمة في صحته وهو دليل واضح على أن لولي الأمر أن يأخذ الأموال بغير مراضاة من أربابها لمصالح الأمة ، ووجه الاستدلال بالخبر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم بذلك وأراد إمضاءه إلى أن عرّفه القوم قوتهم ومنعتهم ، وكان امتناعه لأجل ذلك لا لأنه لا يجوز ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يهم ولا يريد لعصمته إلا بالجائز دون المحظور ، فإذا جاز ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو جائز للإمام من بعدئذ ، لا أحد فصل حكم الإمام في التصرف عن حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا فيما خصه الله من النبوة ، وكذلك قال أبو بكر على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو منعوني عناقا وفي رواية أخرى عقالا مما أعطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقاتلتهم عليه. فلم ينكر عليه أحد فكان إجماعا ، فثبت أن ما كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو للإمام من بعده ، فلما اعتقد أبو بكر في نفسه الإمامة قال ما قال ولم ينكر ذلك عليه أحد ، فهذا فعل الرسول كما ترى ، وهو القدوة ؛ وقد تقرر أن للإمام أن يأخذ من الأموال ما يدفع به العدو إما مسالمة أو محاربة ، فهذا الشرع ودلالة العقل تقضي بذلك كما قدمنا أن لولي اليتيم إذا خشي التلف جاز له أن يدفع ذلك الضرر بقسط من ماله بثلث أو ربع ، ولا يعلم في ذلك خلاف بين العقلاء والمسلمين كافة ، وهذه الأموال المأخوذة من المسلمين دون ما أراد أخذه خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولصلاح المسلمين.

وأما حملهم الآيات على الزكاة فقول لا يقول به أحد من المسلمين ، آيات الصدقة على حيالها ، وآيات الإنفاق على حيالها ؛ وآيات (١) الصدقة هي المتضمنة

__________________

(١) في (ب) : فآيات الصدقة.

٢٠٤

لأخذ الزكاة تصريحا [و] (١) كقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣] ، وهذا (٢) محمول على الزكاة ، فأما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ...) الآية [التوبة : ١١١] ، فلا يحمله أحد من أهل العلم على الزكاة ، وإنما يحمل على الجهاد بالمال والنفس وهو ظاهر ، ولا يجوز العدول عنه بوجه من الوجوه ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اجعل مالك دون دمك فإن تجاوزك البلاء فاجعل مالك ودمك دون دينك» فأوجب إتلاف المال والنفس بحياة الدين ، والله عز من قائل يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف : ١٠ ، ١١] ، ووجه الاستدلال بهذه الآية : أن الله تعالى دل العباد وهو الهادي إلى الهدى وإلى الرشاد ، وجعل الإيمان بالله تعالى وبرسوله مقرونة بالجهاد في سبيله بالمال والنفس ، وظاهر الآية يقضي بذلك ، والعذاب الأليم لا يكون في مقابله شيء سوى الواجبات ؛ لأن الترك لغير الواجب لا يستحق عليه العقاب ، فدل على [أن] (٣) إنفاق المال في سبيل الله سبحانه واجب ، فإذا كان واجبا لمن كان يعرف الاستدلال ومعاني الأقوال.

[حكم أخذ الزيادة عن الزكاة]

وأما ما ذكره صاحب المسألة من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكره أحدا على [زائد] (٤) من الزكاة مع شدة الحاجة إلى ذلك وكثرة مال بعضهم ، وقد روى [منه] (٥) السلف ؛ وهذا من عجائب السؤال الذي خرج عن طريق الاستدلال ، وإنما

__________________

(١) زيادة في (ب).

(٢) في (ب) : فهذا.

(٣) سقط من (أ).

(٤) في (ب) : على أزيد.

(٥) سقط من (أ).

٢٠٥

هو قول من لا يعرف حال السلف ، فتردى في مواضع التلف ، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم مهاجرون وأنصار.

فأما الأنصار فهم الذين ورد فيهم مدح العزيز الجبار بقوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] ، وكان من حالهم : أنهم قسموا أموالهم نصفين بينهم وبين المهاجرين ، وخيروا المهاجرين أي النصفين شاءوا ، وشرطوا لهم إصلاح النخيل بأيديهم وعبيدهم ، وقاسموهم في المنازل نصفين ، ومن كانت له زوجتان نزل عن إحداهما ؛ لأن المهاجرين هربوا من بلادهم وخلفوا نساءهم واحتاجوا إلى النسوان فنزل لهم الأنصار عن نصف نسائهم.

وأما المهاجرون فلا شك في غنى كثير منهم ؛ ولكن هل كانت أموالهم لهم؟ المعلوم أن أبا بكر أسلم وهو من أغنياء قريش ، واختلف في مبلغ ماله فقيل : ثمانون ألفا فأنفقه حتى انتهى به الحال إلى أن بقيت له عباءة إذا ركب حلها وإذا نزل أبعد خلالتها واشتمل بها ، وجهز عثمان بن عفان جيش العسرة بتسعمائة بعير وخمسين بعيرا وتمم الألف بخمسين فرسا كل ذلك من صميم ماله ، ولما أقبل الجيش وقد مستهم الفاقة لقاهم منه ناقة محملة مخطومة ، فوهبها لهم فأكلوا ما عليها ونحروها ، إلى غير ذلك من أفعالهم مما لو ذكرناه لطال الشرح واتسع الحال [وفيما ذكرنا ما يغني طالب الاستدلال والمميز بين الحرام والحلال] (١) ؛ فهل من هذه حاله أيها السامع العاقل يحتاج إلى الإكراه أو يطلب به أزيد من الزكاة! أين العقول التي تعقل معنى السؤال ، وتفرق بين الهدى والضلال.

وأما أنه روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه استلف فذلك كانت حاله منة من الله تعالى على عباده ليقتدي به المؤمنون ، ويتأسى به الصالحون ؛ وإلا فلو أراد أن يسأل

__________________

(١) سقط من (أ) ، وهو في (ب).

٢٠٦

الله تعالى بأن تكون الجبال له ذهبا وفضة لفعل ، فمات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير رحمة من الله تعالى ليتأسّى به الفقراء من الصالحين ، وإلا فالأموال كانت تأتي إليه كثيرة عظيمة ، وصل إليه قبال من البحرين وهو ثمانون ألفا ، فقسمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غرفا غرفا وكفا [كفا] (١) ، فما قام من مقامه ومنه درهم فرد ، حتى أعطاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك فعله في كل مال ، والحمد لله فهذا واضح للمتأملين ، وما يعقلها إلا العالمون.

[الحجة على جواز تحريق المهجم]

وسألت : ما الحجة على جواز تحريق المهجم وفيه (٢) المشايخ والحرم والأيتام الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.

الكلام في ذلك : إن حريق المهجم إنما كان لما قصدها جنود الحق وفيها جند الظالمين فلقوهم دونها ، ونصر الله عليهم فقتلوهم وهزموهم إليها ، فلما دخلوها قوتلوا في أزقتها ، وضاق المجال ، وتعذر أكثر القتال ، فلما كان ذلك كذلك حرقوا البلد ليتصلوا بالعدو الظالم من غير قصد ولا مضرة طفل ولا حرمة ولا يتيم ، ومن الشرع المعلوم أن البغاة والفساق والمشركين لو تترسوا بالمؤمنين أو الأطفال أو النساء ولم يتمكن المحقون من قتلهم إلا بقتل الأطفال والمؤمنين والنساء لجاز ذلك للمحقين قتلهم ليصلوا إلى أعداء الله الظالمين ، فكيف إذا لم يقصدوا ، فهذا جواب على أغلظ حكم يكون علينا.

فأما إذا رجعنا إلى أن مذهب أهل البلد مذهب الجبر والقدر ، وعلمنا أن بلاد

__________________

(١) سقط من (أ) ، وهو في (ب).

(٢) في (ب) : وفيها.

٢٠٧

الجبرية والقدرية عند القاسم والهادي والناصر عليهم‌السلام دار حرب لا يختلفون في ذلك ، ولا يختلف أتباعهم من أولادهم سلام الله عليهم وشيعتهم رضي الله عنهم في ذلك ، ومعلوم أن دار الحرب لا يتوجه فيها هذا السؤال رأسا ، ومن ذلك أن البلدة ما حرقت إلا بعد تمييز أعدائها من ضعفائها ؛ فمنهم من دخل جامعها ومساجدها فما لحقهم ضرر ، ومنهم من خرج من البلد إلى البادية ، ولم يبق إلا الجند الغوي ، ومن شايعهم من كل ردي ، فكان الحريق للبلد والقوم إجماع من أهل العلم على هذه الصورة ، وهذه رواية قصة المجاهدين ، والذي أتينا عليه السؤال رواية الأشرار المحاربين ، فأي الروايتين أولى بالقبول عند أهل العقول.

[حكم إكراه الناس على الضيفة]

وسألت : هل يجوز للمصدق أو الجندي أو الوالي إكراه الناس على الضيفة سيما المصدق ، فإن الهادي عليه‌السلام منع من ضيفته على سبيل الإكراه والاختيار لما فيه من الإيهام فما الحجة؟ وكذلك الحاكم إذا أتى [إلى] (١) بلدة وضيفه كل واحد من الخصمين إلى أن يكمل (٢) الخصمة ، وهل يستوي في ذلك المنصوب وغير المنصوب أم لا؟ وهل يجوز للإمام أن يأذن لجميعهم في ذلك ، فما الحجة عليه من سير الأئمة عليهم‌السلام؟

الكلام في ذلك : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن نزول المصدق على أرباب الصدقة ، وأن لا يكلفهم شيئا من مئونة نفسه ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معلم الدين ، وهادي العباد إلى الرشد ، ولا شك أن الجباة الذين كان يأمرهم إلى الأحياء بعد المواشي في

__________________

(١) سقط من (ب).

(٢) في (أ) : تكمل.

٢٠٨

القفار ، ويلزمون لهم المياه ، والجابي على هذه الصورة يحتاج يضيف الذين أخذ منهم المال لا يضيفونه ؛ لأنه صار أكثر منهم مالا ، وهو مال الله تعالى لأهل الشهادة فيه نصيب على شروط.

وأما أهل القرى ووالي الصدقة أو الوالي إذا وصل قرية لو امتنع من ضيفته أهلها لاستقبحوا ذلك ، واستوحشوا منه ، ونفرت قلوبهم عنه ، والعرف [جار] (١) فالحكم له ، وتختلف الأحوال بحسب ما يعلم.

وأما طريقة الإكراه فالأمر في جوازها والمنع منها قد سبق فيما تقدم من المسائل ؛ لأن الإمام إذا جاز له أخذ الأموال لصلاح الأمة إكراها فسواء كان ذلك ضيفة أو مالا [خاصا](٢) أو غير ذلك ، وقد تقدم من الاستدلال على هذا الشأن ما في بعضه كفاية لمن كان له قلب رشيد أو ألقى السمع وهو شهيد ، وفعل الهادي عليه‌السلام حق ودين ، وإذا رأى الإمام المنع من ذلك فله أن يفعل ذلك ولكن ما فيه من الدليل ؛ فلو أنه عليه‌السلام صرح بأني منعت من الضيفة لأنها لا تحل [لحمل] (٣) ذلك على أنها لا تحل عندي ولا في اجتهادي ، وذلك لا يمنع غيره من الأئمة والمجتهدين من أن يحلل نظره ما حرم نظر الهادي ـ سلام الله عليه ـ كما يعلم أن ذلك قد كان في الفروج وهو أعظم المستعملات حكما فأحل الهادي عليه‌السلام وطء من طلقت ثلاثا بلفظ واحد على وجه الرجعة ، وحرمه غيره من الأئمةعليهم‌السلام والكل حق لا ينكره ذو معرفة ، وإذا نزل الحاكم بلدة فله أن يمتنع من ضيفة الكل [لا يضطافهم ، وله أن يضطاف] (٤) الكل على السواء ، ولا يجوز له أن

__________________

(١) في (ب) : والعرف طار.

(٢) في (ب) : أو مالا ناضا.

(٣) في (ب) : يحمل.

(٤) كذا في الأصل ويظهر أن العبارة [لا يضتافهم وله أن يضتاف].

٢٠٩

يضطاف أحد الخصمين دون صاحبه ، بل يساوي بينهما في كل حال من قول وفعال ، ويستوي فيه المنصوب وغير المنصوب ؛ لأن من تراضيا به فهو حاكمهما ، وعليه أن يعدل فلا فرق في ذلك بين المنصوب وغيره ، ويجوز للإمام أن يأذن في ذلك ، والدليل عليه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذن لمعاذ في قبول الهدية ، وقد قال : «هدايا الأمراء غلول» (١) والغلول هو الحرام ، فلو كانت الضيفة حراما وأذن فيها الإمام لجازت ، وأهدي لمعاذ ثلاثين رأسا من الرقيق في حال إمارته في اليمن ، فلما رجع المدينة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاول أبو بكر انتزاعهم إلى بيت المال فكره وقال : طعمة أطعمنيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فأتى وهم يصلون فقال : لمن تصلون؟ فقالوا : لله. قال : قد وهبتكم لمن صليتم له. فأعتقهم وكان رحمه‌الله سهلا ، فهذا أصل كما ترى ، وقد قال [عليّ] (٢) عليه‌السلام في رسالته إلى عمال الأطراف : ضموا أطرافكم ، وافعلوا واصنعوا ، وحذرهم من معرة جيشه وهم رعية ، وقال فيه : وأنا أبرأ من معرة الجيش إلا من جوعة إلى شبعة ، وفي رواية أخرى : إلا من شبعة المضطر (٣). فهذا كما ترى توسع ؛ لأنها لو كانت محظورة لأدخلها في التبري

__________________

(١) حديث : «هدايا الأمراء غلول» عزاه في (موسوعة الأطراف النبوي) ١٠ / ٩٥ ، إلى البيهقي ١٠ / ١٣٨ ، و (التمهيد) لابن عبد البر ٢ / ٩ ، ١٠ / ١٦ ، و (إتحاف السادة المتقين) ٦ / ١٦٢ ، ١٦٣ ، و (تلخيص الحبير) ٤ / ١٨٩ ، و (مجمع الزوائد) ٤ / ١٥١ ، وهو في مصادر أخرى ، وبألفاظ أخرى في الموسوعة ١ / ١٩٥ ، ١٩٦.

(٢) سقط من (أ).

(٣) هو في (نهج البلاغة) الكتاب ٦٠ بلفظ : ومن كتاب له ـ عليه‌السلام ـ إلى العمال الذين يطأ الجيش عملهم : من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من مر به الجيش من جباة الخراج وعمال البلاد ، أما بعد : فإني قد سيرت جنودا هي مارة بكم إن شاء الله ، وقد أوصيتهم بما يجب لله عليهم من كف الأذى وصرف الشذي ، وأنا أبرأ إليكم وإلى ذمتكم من معرة الجيش ، إلا من جوعة المضطر ، لا يجد عنها مذهبا إلى شبعة ، فنكلوا من تناول منهم شيئا ظلما عند ظلمهم ، وكفوا أيدي سفهائكم عن مضارتهم ، والتعرض لهم فيما استثنيناه منهم. وأنا بين أظهر الجيش ، فارفعوا إلي مظالمكم وما عراكم مما بلغكم من أمرهم ، وما لا تطيقون دفعه إلا بالله وبي ، فأنا أغيره بمعونة الله إن شاء الله.

٢١٠

ولم يخرجها بالاستثناء.

وأما ما سألت عنه من سير الأئمة عليهم‌السلام فأصولهم في أقوالهم ما فعله أو قاله أو أقر عليه النبي والوصي صلوات الله عليهما وعلى الطيبين من آلهما فقد بينا ما جاء عنهما في ذلك فتأمل ما قلنا بعين الفكر تصب رشدك إن شاء الله تعالى.

[حكم الخوارج]

وسألت : عن الخوارج هل يكونون كفارا مع اعتقادهم كفر علي عليه‌السلام أم لا؟ فإن كفروا فما الحجة؟ أو لا فما المانع؟

الكلام في ذلك : إن عليا عليه‌السلام المتولي لحرب القوم والفعل والقول فيهم مأخوذ عنه ، وهو معصوم ، وقد سئل عنهم : أكفار هم؟ فقال : من الكفر هربوا. قيل : أمؤمنون هم؟ قال : لو كانوا مؤمنين ما حاربناهم. قيل : فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال : إخواننا بالأمس بغوا علينا فقاتلناهم حتى يفيئوا إلى أمر الله (١).

فلو لا قوله هذا لقضينا بكفرهم فلا يحكم بكفر سلفهم والحال هذه ، ومن يعينه

__________________

(١) أورد الإمام الأعظم زيد بن علي عليه‌السلام في مسنده ص ٤١٠ ، وقوله : إخواننا بغوا علينا في (جواهر الكلام) للنجفي ج ٢١ ص ٣٣٨ ، (وسائل الشيعة) للحر العاملي ج ١١ ص ٦٢ ، وقال : هذا محمول على التقية!!!! ، و (مستدرك الوسائل) للمحقق النوري ص ٦٨ ، و (المبسوط) لشمس الدين السرخسي ج ٢ ص ٥٣ وص ١٨١ ، وج ١٠ ص ١٢٨ ، و (بدائع الصنائع) للكاستاني ج ١ ص ٣١٢ ، و (السنن الكبرى) للبيهقي ج ٨ ص ١٧٣ ، ١٧٤ ، ١٨٢ ، وهو في (كنز العمال) ج ١١ ص ٣٣٥ رقم (٣١٦٧٣) ، وعزاه إلى مصنف ابن أبي شيبة ، ورقم (٣١٦٨٧) وعزاه إلى البيهقي ، وفي تفسير فرات الكوفي الزيدي ص ١٩٢ رقم (٢٤٨) ، وتفسير العياش ج ٢ ص ٢٠ رقم (٥٣) ، ص ١٥٢ رقم (٤٣) وفي تفسير (نور الثقلين) للجوزي ج ٢ ص ٤٤ ، ٤٥ ، ٥٢ ، وفي (قرب الإسناد) للحميري القمي ص ٩٤ ، و (شرح الأخبار) للمغربي ج ١ ص ٣٩٩ ، و (الإفصاح) للمفيد ص ١١٨ ، و (الاحتجاج) للطبرسي ج ٢ ص ٤٠ ، و (مناقب آل أبي طالب) لابن شهرآشوب ج ٣ ص ١٩ ، وهو في (البداية والنهاية) ٧ / ص ٣٢١.

٢١١

عسكرهم على أهاليهم ونسائهم ؛ لأنهم كانوا معه في الكوفة ، وإنما انفصلوا من عسكره وهو صادر إلى الشام لحرب معاوية.

وأما من اتصلنا به في بلادنا هذه من الخوارج فقد صار رأي القوم رأي المجبرة في الأفعال والإرادة وسائر الصفات ، فهم يكفرون بذلك لا غير ، فإن تابوا عنه كان حكمهم ما قدمنا.

[خراب دور بني محمد]

وسألت : ما الحجة على جواز خراب دور بني محمد بروحان وبيعها بمال بني همام وقد أقبل الكل وتاب وامتثل المراسم؟

الكلام في ذلك : إن الدليل على خراب منازلهم كفرهم بالله تعالى وكون دارهم دار حرب يجوز تحريقها وهدمها وتغريقها ، وأصحابهم حكمهم كحكمهم ، ولكن لا يمنع الشرع من صلح بعض الكافرين وحرب الفريق الآخر ، وقد فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح بني مدلج وسواهم من العرب ، وحارب قريشا وسالمهم في بعض الحالات.

فأما القوم فلا صحة لتوبتهم ، وكيف تصح توبتهم والكفار بين أظهرهم من المطرفية الكفرة الأشرار الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وأحلوا قومهم دار البوار ، جهنم يصلونها وبئس القرار ، ابن برية وأصحابه ساكنون في الجهة إلى تصدير كتابنا هذا في شهر شوال سنة عشر وستمائة ، وعلى أن القوم عليهم من الحقوق الواجبة التي لا يجوز ترك المطالبة بها وتضمينها من أتلفها ، وهي تستغرق أموالهم ومنازلهم ، وللإمام أن يهدم كما فعل علي عليه‌السلام في دار جرير بن عبد الله

٢١٢

البجلي (١) ، فإنه هدمها وسوابقه في الإسلام لا تنكر ، ومجال حروب القادسية عليه وعلى قومه ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خير ذي يمن» (٢) فما عسى أن يكون بنو محمد روحان ، وأين سوابقهم في الإيمان ، ومن المراسم عليهم طرد المطرفية الأشرار فما نفوهم إلى الآن فأي توبة لهم ، وأي صلاح لهم ، وإنما هذه مسائل الأشرار الذين يريدون لبس الحق بالباطل ، وتكدير سلسال الحق بزردي الباطل.

[حكم أخذ العقائب]

وسألت وقلت : ما الحجة على أخذ العقائب الكبيرة من الناس في الخطايا ، وربما اقتصر في ذلك على العقوبة من دون استيفاء حق الظالم (٣) على كماله ، قال المعترض : العقائب التي في هجرهم يذكرونها لمن حل معهم ، فإن اختار التزامها حل معهم وأكره بعد ذلك ، وإن لم يختر لم يحل لهم.

الكلام في ذلك : إن العقوبة بالمال قد قدمنا عن علي عليه‌السلام أنه عاقب المحتكر بجملة ماله ، وكان مالا عظيما ولا أكثر من جملة المال فكيف يستعظم ما سوى ذلك من نصف أو ثلث ، أو ربما اقتصر على العقوبة من دون

__________________

(١) هو جرير بن عبد الله البجلي. قيل : قدم على رسول الله سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان واعتزل علياعليه‌السلام ومعاوية ، وأقام بالجزيرة ونواحيها حتى توفي بالشراة سنة أربع وخمسين. قال في (شرح نهج البلاغة) : ويذكر أهل السير أن عليا عليه‌السلام هدم دار جرير ودور قوم ممن خرج معه حيث فارق عليا عليه‌السلام منهم أبو أراكة بن مالك بن عامر القسري ، كان ختنه على ابنته. انظر شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١١٥ ـ ١١٨.

(٢) انظر قوله : «من خير ذي يمن» في مسند أحمد ج ٤ ص ٣٦٠ و ٣٦٤ ، ومستدرك الحاكم ١ / ٢٨٥ ، و (مجمع الزوائد) ج ٩ / ٣٧٢ ، و (تهذيب المقال) للأبطحي ج ٣ ص ٣٢ ، وعزاه إلى كتاب (بحار الأنوار) ج ٢١ ص ٣٧١ ، وهو في (تهذيب المقال) ص ٣٣ ، وعزاه إلى ابن سعد في (الطبقات) ج ١ ص ٣٤٧ وص ٣٥ ، وعزاه إلى ابن عبد البر في (الاستيعاب).

(٣) كذا في (أ) وفي (ب) : حق المظلوم.

٢١٣

استيفاء حق المظلوم.

والكلام في ذلك : إن هذا لا يجوز ولا علمنا وقوعه ، فإن كان على هذه الصورة فما وجه الاعتراض في السيرة النبوية ، فقد يقع في الدولة النبوية من المعاصي ما هو أعظم من هذا ولا يعلمه ، وكذلك كان في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأيام علي عليه‌السلام تقع المعاصي العظيمة فما ظهر أجري فيه حكمه ، وما غبي فأمره إلى الله تعالى.

وأما قوله : يستوفى على كماله ، والصلح جائز ، وقد أصلح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رجل بنصف ماله الذي ادعاه فما المانع من مثله في أيامنا.

وأما انفصال المعترض عما يلزم الفرقة المرتدة الشقية ، الضالة الغوية ، المسماة بالمطرفية ، في عقوبتهم للناس بالشرط قبل الحلول ؛ فهذا انفصال من لا يعرف العلم ولا حدوده ، ولا أدلته ، ولا شهوده ، وهل المحظور يجيزه الإذن فيه قاتلهم الله أنى يؤفكون ، فهل يعلم أهل المعرفة أن قول الإنسان لغيره : عاقبني إن فعلت كذا وكذا ، ألا يجيز له أخذ ماله بالتزام هذا العقد ، ومن المعلوم أن هذا الشرط لا يعمهم ، وإن عمهم فالحكم فيه ما قلنا ، ولأنه شرط في إلزام مجهول ، ولو كان له نظير في الجواز لم يجز على هذه الصفة ؛ لأنهم يطالبون بالضيفة وهي مجهولة ، وكذلك المغارم لما ينوبهم في إثبات عشاش كفرهم التي سموها هجرا ، وعقائب من يعاقبون أهون نوائبهم ، وأصغر مصائبهم ، ولو أن وجوههم كانت تندى عند مقابلة الأخيار ، ما اعترضوا بهذا المقدار ؛ لأن المعلوم من حالهم ضرورة لمن عاشرهم وخبرهم أن عشاش كفرهم فيها العقوبة ، وفيها الحكم الشديد بالنفي من المنازل ، وفيها هدم الدور ، وفيها الإكراه على الضيفة بما لا يمكن إلا بشق الأنفس والدين ، ومنها مغارم يجمعونها ويسلمونها للظلمة ، وهذه وصايا باعوها واشتروا بها عسلا وموزا

٢١٤

لوردسار (١) مستمرا في مدة طويلة جملة مال ، ومن المعلوم أنا قمنا غاضبين لله تعالى على حين فترة والحال حويل والمال مويل فقذفنا بنفوسنا في بحار الجنود ، واستظللنا بخوافق البنود ، في مقامات تشخص فيها الأبصار ، وتبلغ القلوب الحناجر ، فما بعنا شيئا من الوصايا ، ولا خطر لنا في بال ، ولا يخطر إن شاء الله تعالى ، وكل وصية باعوها فإنا ننقض بيعها لكونه خلاف شرع الإسلام ، وقبضوا الزكوات ، والحقوق الواجبات ، ودفعوها للظالمين مغارما ، فما عاب ذلك منهم عائب ، ولا شاب إيمانهم عندهم شائب ، فلما فعلنا [بعض] (٢) ما فعلوه ولنا ولاية على الأمة عامة في النفوس والأموال ، بحكم الكبير المتعال ، عابوا وشابوا ، وذهبوا في الطعن كل مذهب ، هذا وهم يخضمون أموال الله خضم مسنات الإبل نبتة الربيع عند إجماعه ، فما سدوا ثغرا ، ولا استنزلوا عدوا من الظالمين قهرا ، ولا أحدثوا فيها قتلا ولا أسرى ، ولا أزالوا من شيء من أرض نكرا ، ولا حموا من أنفسهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس بذمة أو جوار كما نعلمه منهم ، ويعلمه كافة من عرفهم.

فأما حبل من الله تعالى فلا حبل ، فهم أسوأ في هذا الباب حالا من اليهود والنصارى والمجوس وسائر أنواع الكفر ، فإن لهم من الله حبل الذمة ، وأشعارهم تشهد بذلك إلى كل قبيلة أشرافهم وعوامهم ، أجوارنا لا ينكر ذا منصف هل يكون من هذه حاله يعترض على من سد الثغور ، وأصلح الأمور ، وحفظ الجمهور ، وأسر عفاريت الظالمين ، واستعبد شياطين الآثمين ، وطهر الأرض من أدناس

__________________

(١) ورد سار : قال محقق (السيرة المنصورية) الأمير الكبير الأعز المختار ملك الأكراد مصطفى علم الدين وردسار بن بنامي الشاكاني ... هكذا جاء اسمه على المنارة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء. كان الأمير وردسار من كبار قادة الأيوبيين وظل على ولائه للملك المعز إسماعيل إلى أن وقع الخلاف بينهما فانضم إلى صفوف الإمام عبد الله بن حمزة في الحادي عشر من جمادى الآخرة سنة ٥٩٨ ه‍.

(٢) سقط من (أ).

٢١٥

طغاتها ، ونفى أرباب الفساد من منوع جهاتها ، وأمن السبل المخوفة على مرور الأعصار ، وهزم الجنود الكبار ، يشهد بذلك (ذيبين) (١) و (عفار) (٢) ، وصنعاء وحراز وذمار (٣) ، وأنفذ الأحكام على فرق الكفار ، بالقتل والسبي والإسار ، حتى علا منار الدين على كل منار ، وسما فخاره على كل فخار ، فمن كان يطلع بذلك أيها الأشرار ، نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ، وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيان أخي جابر

فليتأمل العاقل ، الطالب النجاة الفصل ، ففيه شفاء عليل الطالب لرشده ، الذي يعلم به أن القوم لا يطلبون دينا ، ولا يحالفون يقينا ، وإنما قصدها التشكيك ، ودينها الشك ، ومحاولتها التغليظ ، ومذهبها الإفك ، فسلام الله على غيرهم ما أكلّ مداهم ، وأقصر مداهم ، حاولوا مناوأة آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجدودهم الغابرة ، وعزائمهم الفاترة ، وتجارتهم البائرة ، وصفتهم الخاسرة ، والله لهم بالمرصاد ، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار.

[قتل الأبرهي والنقيب ويحيى بن أحمد]

وسألت : ما الحجة على جواز قتل جماعة وهم آمنون معاشرون كالأبرهي ،

__________________

(١) ذيبين : من بلدان حاشد في الشمال من صنعاء إلى ناحية الشرق ، تبعد عن صنعاء مرحلتين ، فيها مركز ناحية ذيبين. من أعمالها بلاد بني جبر من حاشد ، وقد ذكرت في حاشد ومن أعمال هذه الناحية شاطب ومرهبة من بكيل ، ومن قرى ناحية ذيبين شوابة وهران من بلاد همدان المشهورة. ومن ذي بين يجلب العنب الذيبني إلى صنعاء ، وهو مشهور.

انظر (مجموع بلدان اليمن وقبائلها) ١ / ٣٥٢.

(٢) عفار : بلد من نواحي حجة على مقربة من كحلان تاج الدين ، وهو في الأصل بلاد موتك.

انظر (مجموع بلدان اليمن وقبائلها) ٣ / ٦٠٦.

(٣) أما صنعاء وحراز وذمار فمعروفة.

٢١٦

والنقيب ، وكذلك قتل يحيى بن أحمد؟

الجواب في ذلك : إن من أظهر فساده ، واتضح لصاحب الأمر عناده ، جاز قتله ، وتنكيله ، وتذليله ، وقد قال الله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً ، مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) [الأحزاب : ٦٠ ، ٦١] ، ووجه الاستدلال بهذه الآية أن الله تعالى أشعر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن من ذكرهم إن لم ينتهوا عما كانوا عليه من الفساد أغراه بهم ، والإغراء أغلظ حكما من [الأمر] يعرف ذلك أهل العلم ، وقضى بقتلهم وهو لا يقضي إلا بالحق بأخذهم وقتلهم ، [وكثره] (١) وعظمه بلفظ التفعيل يعرف ذلك أهل اللسان.

والمعلوم ممن عرف أحوال الأبرهي والنقيب أن فسادهما كان من أعظم الفساد ، وعنادهما من أشد العناد.

تولى النقيب وأراد (٢) توطيد دولة الغز في بلاد الطرف بكل مرام ، ولما ظهرت دولة الحق خضع لها بعض خضوع ، وهو في نهاية المكر ، واستشعار الغدر.

وأما الأبرهي فلا يجهل أحد من أهل المعرفة فساده وعناده وما كان منه في تلمص (٣) وصعدة من الشقاق فأحاطت به ذنوبه ، وأهلكه حوبه.

والهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه‌السلام هو القدوة لأهل الإسلام ، فالمعلوم في سيرتهعليه‌السلام أنه لما تمكن في صنعاء وظهرت يده وبلغه مكر

__________________

(١) كذا في (ب) ، وفي (أ) : وكبره.

(٢) في (ب) : ورام.

(٣) تلمص : حصن في بلاد سحار ، من أعمال صعدة.

٢١٧

آل يعفر وآل طريف والفجائم (١) فلم يتمكن منهم إلا بأن دعاهم إلى العطاء ، فلما استقر بهم القرار في بحبوحة الدار ، أمر بقبضهم فكبلوا في الحديد ، وغللوا إلى الحبس الشديد ، فشحن بهم سجون صنعاء ، وسجن ظهر ، وسجن شبام ، وأخذ دوابهم ، وسلاحهم ، وقاطبة من أموالهم فرقه في المسلمين ؛ هذا وهم في نهاية الأمن والتقربة ، فجاز له ذلك لما علم خبثهم وشرارتهم ، وما المذكوران بأفضل من أولئك ، ولا أقرب إلى الحق ، وهو عليه‌السلام قدوة لأهل الإسلام.

وأما يحيى بن أحمد فالكل يعلم اتصاله بالغز ، وكونه من جملتهم ، وكتبه شاهدة بذلك ما كان [يعلونها] (٢) إلا بالملكي المعزي ، ومنها ما هو موجود الآن ، وحلف لهم ، وخرج إلى البلاد فكل من لقيه وغرضه الطاعة كان يحلف للملك المعز قال : ما أحلف إلا له ؛ وهذا ظاهر من أمره ، معروف من قوله وفعله ، ثم طلع الهجرة ، فنصب الحرب ، فحاربناه ، واستعنا بالله عليه ، فأظهرنا عليه ، فله الحمد كما هو أهله ومستحقه ، فأخذناه قهرا بالسيف ، وأوثقناه بالحديد ، ورسمنا عليه بقاء (٣) من المسلمين فاغتالهم بالبنج (٤) وكان بعضهم قد عصمه الله تعالى بالاحتراز من مكيدته ، فلما اختل أمر أصحابه صاح بمن يعينه ، فأمرنا من أغار فأتى وهم على حالة ضعيفة ، منهم من يحتذي عمامته ، ومنهم من يقحط الجدر قال : يأخذ شسعا لنعله ، ومنهم من وصل [في] (٥) البركة العظيمة فأتى يحكي أن ماءها قد غار ؛ فلما بان مكره بعد الأسر حل قتله وإهلاكه على كل قول من أقوال أهل العلم ؛ ولأن الحرب قائمة بيننا وبين حزبه ، وقتل من تلك حاله جائز ما دامت الحرب قائمة

__________________

(١) لعلها الجفاتم.

(٢) يعلونها : يعنونها. ويعلنوها لهجة عامية.

(٣) في (ب) : ثقاة.

(٤) في (ب) : بالمنج.

(٥) زيادة في (أ).

٢١٨

يعرف ذلك أهل العلم ؛ ولأن الهادي عليه‌السلام قتل واليه على شبام ، وأتى أهل ظهر إلى ظهر منهزمين فقالوا : هذا والي الهادي قد قتل ، وانتقصت البلاد فنحتاج نزحف على والي البلد لينهزم ، فيخرج من كان عنده من آل يعفر وآل طريف والجفاتم من السجن فنتحد بداعية القوم لرجوع دولتهم ، فصاحوا : السلاح السلاح ، ودولبوا فانهزم الرجل ، ودخل البلد أهل الفساد إلى حالهم الأولى ؛ فلما بلغ العلم إلى الهادي سلام الله عليه كتب إلى ابن عمه محمد بن سليمان واليه على صنعاء :

أما بعد فإياك [ثم] (١) إياك أن تفعل كما فعل صاحب ظهر ، فلو كان رجلا عند ما صاح القوم : السلاح السلاح رمى إليهم برءوس أصحابهم [فما] (٢) كان من هذا الأمر شيء ، فهل رأيت أمر الهادي عليه‌السلام بقتل الأسارى لحادث حدث من غيرهم ، وذلك لأن قتلهم جائز في الأصل لو لا ذلك لما لام على تركه ، وهو إمام هدى ، قدوة في الدين ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيد الأولين والآخرين قتل من الأسرى طائفة منهم : عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس قتله علي بن أبي طالب سلام الله عليه ، والنعمان بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار قتله علي عليه‌السلام صبرا فقتلهم بعد الأسر ، وهذه براهين ظاهرة بعضها كاف في هذا الباب لذوي العقول والألباب.

[حاتم بن دعفان]

وسألت عن حاتم بن دعفان ، وقتله صاحب حضور ، وهو محب للإمام وفيه ثلاثة وجوه :

__________________

(١) زيادة في (ب).

(٢) في (ب) : ما.

٢١٩

أحدها : عن قتله قاتله ، وتسليمه إلى ولي الدم مع التمكن من المطالبة بذلك.

والثاني : أمان الإمام ، [والأمراء كتبوا بطرد القتالة] (١) لأنهم قتلوه في ذمة ، وبعد ذلك بمدة قريبة حلوا في بعض الحصون التي للإمام واستخدموا ، ولم يقع إنكار في حق العقد بطردهم ، وأمنوا بعد ذلك وخالطوا.

الثالث : أن الإمام أمر بقسم دية العيب نصفين : فنصف للورثة فصار إليهم ، والنصف الثاني جعله لأهل الذمة قبضه والي الحصن.

الكلام في ذلك : إن قول السائل (إن حاتم بن دعفان محب للإمام) مستحيل ، لا حقيقة له بل هو ممن كان يرتكب العناد ، ويسعى بالفساد ، ويمنع الصدقة ضرورة مع ضرورة الحال ، قال الشاعر :

تعصي الإله وأنت تأمل حبه

هذا محال في المقال بديع

هيهات لو أحببته لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

وكيف تصح محبة المذكور بغير طاعة.

وأما قوله : ليسلم قاتله إلى ولي الدم مع التمكين ، فلا شك في التمكين ؛ ولكن من أين أن قتله قد ثبت عندنا على وجه يصح تسليم المدعى عليه القصاص ، ومن أين جاز للسائل أن يسأل قطعا على هذه الصورة؟!

فأما نحن فإلى الآن ما صح عندنا هذا ، والقوم المدعى عندهم القتل انهزموا إلينا وقالوا : إنا بالله وبالإمام يستوفي لنا الحق ، ويوفي منا فما عندنا من هذه الدعوى شيء ؛ فهذا قولهم ، ويمكن أن يكونوا مبطلين أو محقين كلا الأمرين نحتمل ، فما الحكم أيها السائل والصورة هذه؟ والآن هم بحكمنا فإن أردت كشف الإشكال

__________________

(١) كذا في (ب) ، وفي (أ) : والأمر أكبر نظرا لقتاله.

٢٢٠