مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

سبقهم ، الواجب حقهم ، أن نشرح في ذلك شرحا كافيا ، ونبين بيانا شافيا ، ليكون مدحرة لشيطان المتمردين ، وبرهانا لرغبة المسترشدين ، وبالله نستعين ، وعليه نتوكل. فأجبناهم إلى ما سألوا تعرضا لأجر الهداية ، وقياما بفرض الرعاية (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس : ٣٥].

[الردة]

اعلم أيدك الله وهداك وحاطك وتولاك : أن الردة لا تكون إلا بعد الإسلام ؛ لأن الكافر الأصلي لا يكون مرتدا ، فإذا قد تقرر هذا الأصل فاعلم أن أول ردة كانت في الإسلام ردة مسيلمة بن حبيب بن قيس بن حبيب (١) ، وردة ذي الخمار المكنى عبهلة ، والملقب الأسود ، والمسمى كعب العنسي (٢) الخارج من حرف

__________________

(١) في (الأعلام) ٧ / ٢٢٦ : مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي ، أبو ثمامة ، المتوفى سنة ١٢ ه‍ ، ولد ونشأ باليمامة المسماة بالجبيلة بقرب العيينة بوادي حنيفة في نجد ، وتلقب في الجاهلية بالرحمن وعرف برحمان اليمامة ، تنبأ في أواخر سنة ١٠ ه‍ كما في سيرة ابن هشام ، وتوفي النبي قبل القضاء عليه ، فأنفذ له أبو بكر خالد بن الوليد على رأس جيش قوي هاجم ديار بني حنيفة واستشهد من المسلمين ١٢٠٠ رجلا منهم ٤٥٠ صحابيا كما في (الشذرات) ، وانتهت المعركة بظفر خالد ومقتل مسيلمة سنة ١٢ ه‍ ، وانظر (الكامل) لابن الأثير ٢ / ٢٤٣ ـ ٢٤٨. وانظر الطبري الذي استند في رواياته عن أخبار مسيلمة إلى سيف بن عمر التميمي ، انظر (تأريخ الطبري) طبعة القاهرة سنة ١٣٨٢ ه‍ ، ج ٣ / ص ١٤٧ ، ١٨٤ ، ١٨٧ ، ٢٤٢ ، ٢٤٩ ، ٢٧١ ، ٢٨١ ، ٢٨٢ إلى ٣١٤.

(٢) في (الأعلام) ٥ / ١١١ : عبهلة بن كعب بن عوف العنسي ، المذحجي ، ذو الخمار ، المتوفى سنة ١١ ه‍ ، متنبئ مشعوذ من أهل اليمن كان بطاشا جبارا ، أسلم لما أسلمت اليمن ، وارتد أيام النبي ، فكان أول مرتد في الإسلام ، وادعى النبوة ، وأرى قومه أعاجيب استهواهم بها ، فاتبعته مذحج وتغلب على نجران ، وصنعاء وما بين مفازة حضر موت إلى الطائف إلى البحرين والإحساء إلى عدن ، وجاءت كتب رسول الله إلى من بقي على الإسلام باليمن بالتحريض على قتله فاغتاله أحدهم في خبر طويل ، أورده ابن الأثير في حوادث سنة ١١ ه‍ ، انظر ابن الأثير ٢ / ٢٢٨. وانظر الطبري الذي هو مرجع ابن الأثير تجد روايات الأسود العنسي عن سيف بن عمر ج ٣ / ما بين صفحة ١٤٧ ـ ٣٣١.

٤١

خبان (١) ، المستشري أمره في اليمن استشراء النار في الحطب ، حتى ملك من قعر عدن إلى حلي (٢) ، ومن خبان إلى نجران ، وكان كل واحد منهما يدعي النبوة.

فأما مسيلمة فادعى الشركة في الأمر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو معترف بصحة ما جاء به محمد من عند ربه. هذه حاله في أول أمره ، ثم تبعتها [بعد ذلك] (٣) الردة فطبقت عامة جزيرة العرب ، فقام طليحة (٤) في نجد في الحليفتين : أسد وغطفان

__________________

(١) حرف خبان : ثلاث قرى من بلاد يريم تسمى الحرف هي : حرف بني قيس ، وحرف العمري ، وحرف بنا ، وفي عبيدة من بلاد يريم حرف عبيدة (مجموع بلاد اليمن) ١ / ٢٥٧ ، وخبان واد مشهور فيه مزارع وقرى وعيون جارية ، وبه سميت ناحية خبان من أعمال يريم ، وخبان أيضا بلدة من مغرب عنس ، وفي (معجم البلدان) : خبان بضم أوله وتشديد ثانيه ويخفف وآخره نون ، ويجوز أن يكون فعلان من الخب وهي قرية باليمن في واد يقال له : وادي خبان قرب نجران وهي قرية الأسود الكذاب ، وفي كتاب (الفتوح) : كان أول ما خرج الأسود العنسي واسمه عبهلة بن كعب أن خرج من كهف خبان وهي كانت داره وبها ولد ونشأ.

انظر (مجموع بلدان اليمن وقبائلها) ١ / ٣٠٤.

(٢) لعلها حلي بني يعقوب بفتح الحاء وسكون اللام : بلد من تهامة في شماليها ، جنوبي القنفذة على مسافة سبع مراحل إلى مكة.

انظر (مجموع بلدان اليمن) ١ / ٢٨٠.

(٣) في (أ) : بذلك.

(٤) طليحة بن خويلد الأسدي ، المتوفى سنة ٢١ ه‍ ، من أسد خزيمة يقال له : طليحة الكذاب كان شجاعا ، قيل : قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وفد بني أسد سنة ٩ ه‍ ، وأسلموا ، ولما رجعوا ارتد طليحة وادعى النبوة في حياة الرسول ، فوجه إليه ضرار بن الأزور فضربه بسيف فنبا السيف فشاع بين الناس أن السلاح لا يؤثر فيه ، ومات النبي فكثرت أتباع طليحة من أسد وغطفان وطي ، وطمع بامتلاك المدينة ، وغزاه أبو بكر وسير إليه خالد بن الوليد فانهزم طليحة إلى بزاخة بأرض نجد ، وكان مقامه في سميرا بين (توز) و (الحاجر) في طريق مكة ، وقاتله خالد ففر إلى الشام ، ثم أسلم بعد أن أسلمت أسد وغطفان كافة ، ووفد على عمر فبايعه في المدينة ، وخرج إلى العراق فحسن بلاؤه في الفتوح واستشهد (بنهاوند).

انظر (الأعلام) ٣ / ٢٣ ، (الكامل) لابن الأثير حوادث سنة ١١ ه‍ ، و (معجم البلدان) بزاخة ، و (تهذيب ابن عساكر) ٧ / ٩٠ ، و (تأريخ الخميس) ٢ / ١٦٠ ، و (الإصابة) الترجمة ٤٢٨٣ ، و (تهذيب الأسماء واللغات) ١ / ٢٥٤. وهو في تأريخ الطبري ـ طبعة القاهرة ـ سنة ١٣٨٢ ه‍ ، ج ص ١٤٧ ، ١٨٥ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ٢٤٢ ، ٢٤٤ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٦٠ ، ٢٦١ من روايات سيف بن عمر ، وص ٢٥٦ ، ٢٦٦ عن محمد بن إسحاق ، وص ٢٥٤ عن هشام الكلبي.

٤٢

وطي ، وقامت هوازن على قادتها ، وتميم في نتاجها ؛ وأكثر جهاتها ، وارتدت ربيعة ومن حالفها من قيس ، ومن انظم إلى الغرور (١) والحطم من تلك القبائل ، وارتدت عمان مع لقيط بن مالك الأزدي الذي كان يقال له : ذو التاج ، وكذلك مهرة وكندة بحضر موت ، وسليم على قرب دارها.

[فرق المرتدين]

واختلف أهل هذه الردة على أقوال شتى ، وفروع وتشتت آراء ، ومعظم قولهم في الجملة على ثلاثة أقوال ما شذ عنها في اللفظ رجع إليها في المعنى :

فرقة أنكروا الإسلام جميعا ، وصوّبوا ما كانت عليه الجاهلية وهم الأقل.

وفرقة أقروا بالإسلام جملة ولم ينقصوا حرفا واحدا إلا الزكاة فقالوا : كانت تجب تأديتها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد موته يفرقها أربابها في مستحقيها ؛ فخالفوا ما علم من دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة ، أن ما كان له من الأمر في الأمة كان للإمام القائم بالحق من بعده (٢).

وفرقة قالوا : نقر بالإسلام ، ولكن لا نقيم الصلاة ، ولا نؤتي الزكاة ويكفينا الإقرار بالإسلام.

فهاتان الفرقتان مقرتان بالإسلام ، شامختان بالتوحيد ، يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ؛ وإنما منعوا الصدقة من القائم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أن جل الصحابة رضي الله عنهم قالوا لأبي بكر : لو تركتهم والصدقة حتى يتقوى أمرنا ، ويرجع إلينا بعض ما نريد من قوتنا لكان أولى. فقال : والله لو منعوني عناقا

__________________

(١) في (ب) : العرور.

(٢) في (أ) : من عنده ، وهو خطأ.

٤٣

مما أعطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [لقاتلتهم عليه] (١). ولا خلاف نعلمه بين أحد [من المسلمين] (٢) العلماء أن أبا بكر ما قاتل إلا المرتدة ، فجعلوا منع الصدقة ردة ، وناهدهم الحرب فهزموا المسلمين في أول يوم فقال شاعرهم ـ قيل : إنه الحطيئة (٣) :

فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي

عشية يحدي بالرماح أبو بكر

عشية طارت بالرجال ركابها

ولله جند ما تطير ولا تجري

ولكن تدهدى بالرجال فهبنه (٤)

إلى قدر ما أن يزيد ولا يجري

أطعنا رسول الله ما كان وسطنا

فيا لعباد الله ما لأبي بكر

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) سقط من (أ).

(٣) في حاشية الكامل لابن الأثير : وقال في ذلك الخطيل بن أوس أخو الحطيئة :

فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي

عشية يحدي بالرماح أبو بكر

ولكن تدهدى بالرجال فهبنه

إلى قد رما أن تقيم ولا تسري

ولله أجناد تذاق مذاقه

لتحسب فيما عد من عجب الدهر

وأورد الأبيات في الطبري وزاد عليها :

أطعنا رسول الله ما كان بيننا

فيا لعباد الله ما لأبي بكر

أيورثنا بكرا إذا مات بعده

وتلك لعمر الله قاصمة الظهر

فهلا رددتم وفدنا بزمانه

وهلا خشيتم حس راعية البكر

وإن التي سألوكم فمنعتم

لكالتمر أو أحلى إلي من التمر

(الكامل) ٢ / ٢٣٣ حوادث سنة ١١ ه‍ ، (تأريخ الطبري) ٢ / ٤٧٧ حوادث سنة ١١ ه‍. ط مؤسسة الأعلمي ، وفي الموسوعة الشعرية الإصدار الأول :

فدى لبني ذبيان أمي وخالتي والبيت الرابع بلفظ :

أطعنا رسول الله إذ كان صادقا

فيا عجبا ما بال دين أبي بكر

ليورثها بكرا إذا مات بعده

وتلك وبيت الله قاصمة الظهر

مع اختلافات أخرى.

(٤) في (أ) : فميتة ، وفي (ب) : قمينة ، وفي (الكامل) لابن الأثير ما أثبتناه.

٤٤

أيورثها بكرا إذا كان بعده

وتلك لعمر الله قاصمة الظهر

فهلا رددتم وفدنا بزمانه

وهلا خشيتم حس راعية البكر

وإن الذي سألوكم ومنعتم

لكالتمر أو أحلى لدي من التمر

ولما قهرهم المسلمون بذي القصة (١) وذي حسى (٢) وقتلوهم وأعلى الله الإسلام قال شاعر المسلمين يجيبهم ـ وهو زياد بن حنظلة التميمي ـ (٣) :

أقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا

ككبكبة الغزى أناخوا على الوفر (٤)

فما صبروا للحرب عند قيامها

صبيحة يسمو بالرجال أبو بكر (٥)

طرقنا بني عبس بأدنى نباجها

وذبيان نهنها بقاصمة الظهر (٦)

__________________

(١) ذي القصّة بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة ماء في أحياء لبني طريف ، وقد أورد القصة وشعر زياد بن حنظلة الطبري ٢ / ٤٧٨ حوادث سنة ١١ ه‍ ، عن سيف بن عمر التميمي.

(٢) ذي حسى بضم الحاء المهملة والسين المهملة المفتوحة.

(٣) زياد بن حنظلة التميمي : قال صاحب (الاستيعاب) : له صحبة ، ولا أعلم له رواية ، وهو الذي بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ليتعاونوا على مسيلمة الكذاب ، وطليحة ، والأسود ، وقد عملا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان منقطعا إلى علي ـ كرم الله وجهه ـ وشهد مشاهده كلها.

قال المرتضى العسكري : نقل هذه الترجمة بألفاظها صاحب (أسد الغابة) ثم قال : أخرجه أبو عمر صاحب (الاستيعاب) ، ونقلها صاحب (التجريد) عن (أسد الغابة) بإيجاز ، وقال صاحب (الإصابة) : زياد بن حنظلة التميمي حليف بني عدي ، وقال ابن عساكر : حليف بني عبد بن قصي ، وأورد ما ورد عنه في عصر الرسول في حوادث سنة (١١ ه‍) ثم في عصر أبي بكر ، وأورد له هذه المقطوعة وغيرها ، وقال : إن سيف بن عمر التميمي هو الذي ذكر بأن زياد بن حنظلة من الصحابة وأنه اشترك في تلك المواقع الحربية وروى تلك الأراجيز فيها. وخلص إلى أنه صحابي مختلق.

انظر كتاب (خمسون ومائة صحابي مختلق) الجزء الأول من صفحة (٢٧٣ ـ ٢٨٨).

(٤) في الأصل كبكبة الا نحانو كا على الوفر ، وهو كما أثبتاه في (خمسون ومائة صحابي مختلق) الجزء الأول تأليف مرتضى العسكري ط. دار الزهراء.

(٥) في (أ) : للحق بدلا عن الحرب ، وقد صححناه من المصدر السابق ، ومن النسخة (ب).

(٦) في (أ) : نتاجها ، وفي المصدر السابق : نباجها ، وفي (ب) : بدون نقط.

٤٥

ولما غلب المسلمون عبس وذبيان على بلادها وقال أبو بكر : حرام على بني ذبيان أن يتملكوا على هذه البلاد إذ غنمناها الله تعالى.

ولما دخلوا في الباب الذي خرجوا منه طلبوا سكنى بلادهم فقال أبو بكر : ليست لكم ببلاد وقد أفاءها الله علينا وأحماها وأرعاها ؛ وهذا فيما (١) لا يجهله أهل العلم ، وما كان من القوم أكثر من منع الصدقة ، فكيف بمن يمنع الصدقة وأضاف إلى ذلك أنواعا من الكفر جمة ، نفى فعل الله عن الله وأضافه إلى الإحالة وتأثيرات الطبائع ، وأضاف أفعال العباد إلى الله بقوله : فعل العبد لا يعدوه ، ولا يوجد في غيره ، ومنعوا على (٢) ذلك الصدقة ، ولما كتب أبو بكر إلى أهل الردة كتابا طويلا نذكر منه ما تمس إليه الحاجة.

[كتاب أبي بكر إلى أهل الردة]

بسم الله الرحمن الرحيم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة أو خاصة (٣). سلام على من اتبع الهدى ، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له (٤). أما بعد .. فإن الله أرسل محمدا من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، فهدى الله بالحق من أجاب إليه (٥) ، وضرب (٦) بإذنه من أدبر

__________________

(١) في (ب) : مما.

(٢) في (ب) : مع.

(٣) في الطبري حوادث سنة ١١ ه‍ ج ٢ ص ٤٨٠ ط الأعلمي : بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة أو خاصة أقام على إسلامه أو رجع عنه.

(٤) في الطبري : وأن محمدا عبده ورسوله نقر بما جاء به ونكفّر من أبى ونجاهده. أما بعد.

(٥) في النسخ : من أجاب الله ، وفي الطبري : من أجاب إليه ، وهو الأصل الذي نقل عنه الإمام عليه‌السلام.

(٦) في الطبري : وضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أدبر عنه.

٤٦

عنه حتى صاروا (١) إلى الإسلام طوعا وكرها ، ثم توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أنفذ أمر (٢) الله ، ونصح لأمته ، وقضى الذي عليه (٣) ، وقد قال تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: ٣٠] ، وقال : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤] ، وقال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤] فمن كان يعبد محمدا ؛ فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي قيوم لا يموت ، لا تأخذه سنة ولا نوم ـ والكتاب طويل وإنما نذكر منه موضع الزبدة مما تمس إلى ذكره الحاجة (٤) ـ قال في آخره : وإني قد بعثت إليكم جيشا من المهاجرين والأنصار ، والمتابعين بإحسان ، وأمرتهم أن لا يقاتلوا أحدا حتى يدعوه ، فمن رجع إلى الحق قبل منه ، ومن أبى قاتلوه ، ثم لا يبقون عليه بقية ، ولا يتركون أحدا ممن يقدرون عليه ، بل يحرقونهم بالنار ويقتلونهم كل قتلة ، وتسبى النساء والذراري ، ولا يقبل من أحد إلّا الإسلام فمن اتبعه فهو خير له ، ومن ترك فلن يعجز الله (٥).

__________________

(١) في الطبري : حتى صار.

(٢) في الطبري : لأمر الله.

(٣) في الطبري : وقضى الذي عليه وكان الله قد بين له ذلك ولأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل فقال تعالى ... إلخ.

(٤) انظر نص الكتاب في تأريخ الطبري حوادث سنة ١١ ج ٢ ص ٤٨٠ ـ ٤٨٣ ط الأعلمي.

(٥) نص الفقرة في الطبري : وإني بعثت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، وأمرته أن لا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله فمن استجاب له وأقرّ وكفّ ، وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه ، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك ، ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه وأن يحرقهم بالنار ويقتلهم كل قتلة ، وأن يسبي النساء والذراري ولا يصل من أحد إلا الإسلام ، فمن اتبعه فهو خير له ومن تركه فلن يعجز الله ، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم والداعية الأذان ، فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم وإذا لم يؤذنوا عاجلوهم ، وإن أذنوا اسألوهم ما عليهم ، فإن أبوا عاجلوهم وإن أقروا قبل منهم وحملهم ما ينبغي لهم.

٤٧

[أحكام أهل الردة]

فهذا كما ترى الحكم في أهل الردة بإجماع من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أنكره منكر ، ولا غيره مغير ، ولو جرى في ذلك نزاع لنقل كما نقل غيره من الأحداث ، والحديث والإجماع أكد الدلالة ، ولم يقع خلاف [كما] (١) كان في الصدر الأول وما يليه من صدور الإسلام ولا إلى يومنا هذا في كفر الثلاث الطرق التي قدمنا ذكرها في أهل الردة ، ولا وقع خلاف أن المرتدين كانوا يرتدون بأحد الثلاثة الأحوال ، ولا خلاف أن المرتد متى كانت له شوكة كان حكمه حكم الكافر الأصلي ، وأن دارهم تكون دار حرب ، فما كانت أحكام دار الحرب كانت أحكامها (٢) وكذلك لا خلاف أن خولة بنت يزيد بن جعفر بن قيس بن مسيلمة بن

__________________

(١) زيادة في (أ).

(٢) لعل من المناسب هنا أن نسوق آراء المذاهب الإسلامية في تحديد ما يصبح به المسلم محكوما بالارتداد ، وقد أوجز هذه الآراء الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه (نصوص الردة في تأريخ الطبري) ص ٦١ إلى ص ٦٥ معتمدا في ذلك على موسوعة الفقه الإسلامي (الموسوعة الناصرية) وهذه هي المذاهب وآراؤها :

أ ـ الحنفية قالوا : تتحقق الردة بإجراء كلمة الكفر على اللسان بعد وجود الإسلام ، كما تتحقق بإنكار ما علم من الدين بالضرورة ، كإنكار فرضية الصلاة أو الصيام أو الزكاة. ولا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره خلاف ولو كان ذلك رواية حقيقة ، فإذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر وواحد يمنعه فعلى المفتي الميل لما يمنعه.

ب ـ المالكية قالوا : تكون الردة بأحد ثلاثة أمور :

١ ـ إما بصريح القول ، كقوله : أشرك أو أكفر بالله.

٢ ـ أو بلفظ يقتضيه ، أو كجحده حكما معلوما من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة وحرمة الزنا ، أو قال بقدم العالم أو ببقائه ، أو شك في ذلك.

٣ ـ وإما بفعل يتضمن الارتداد أي : يقتضي الكفر ويستلزمه استلزاما كإلقاء مصحف بقذر.

ج ـ الشافعية ضربوا أمثلة لما يكون به المسلم مرتدا فقالوا : إن الارتداد قد يقع بالتلفظ بألفاظ الكفر ، وبجحود فرض ، واستباحة محرم. ـ

٤٨

ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول (١) بن حليفة بن نجيم أم محمد بن الحنفية عليه‌السلام كانت من سبي بني حنيفة بن نجيم ، وقعت سهم أمير المؤمنين علي بن أبي

__________________

ـ د ـ الحنابلة قالوا : من أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو صفة من صفاته أو بعض كتبه أو رسله ، أو سب الله ورسوله ، فقد كفر ، وكذلك من جحد وجوب عبادة من الخمس ، أو جحد تحريم الزنا أو الخمر ، أو أنكر حل الحلال كاللحم والخبز ، ونحوه من (الأحكام) الظاهرة المجمع عليها مما لا يجهلها.

ه ـ الظاهرية قالوا : إن موجبات الكفر أن يكفر بما بلّغه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحّ عنه وأجمع عليه المؤمنون ، وقال ابن حزم : إن من لحق بدار الكفر والحرب مختارا محاربا لمن يليه من المسلمين يكون بهذا الفعل مرتدا له أحكام المرتد كلها.

و ـ الشيعة الزيدية قالوا : إن الردة عن الإسلام تكون بأحد أوجه أربعة :

١ ـ إما باعتقاد كفر ، نحو أن يعتقد أن الله تعالى ثالث ثلاثة ، أو أن المسيح أو عزيز هو ابن الله ، أو يعتقد كذب النبي في بعض ما جاء به.

٢ ـ إذا أتى بفعل يدل على كفر فاعله من استخفاف بشريعة النبي أو بما أمر الله بتعظيمه.

٣ ـ إظهار لفظ كفر نحو أن يقول : هو يهودي أو نصراني أو كافر بالله وبنبيه مستحل للحرام أو يسب نبيا أو القرآن أو الإسلام.

٤ ـ أو من الردة عن الإسلام السجود لغير الله تعالى لقصد تعظيم المسجود له لا على وجه الإكراه أو السخرية أو الاستهزاء.

ز ـ الشيعة الإمامية قالوا : إن الكفر بنيّة ، وبقول كفر ، وفعل مكفّر : فالأول : العزم على الكفر ولو في وقت مترقب ، وفي حكمه التردد فيه.

والثاني : كنفي الصانع لفظا ، أو المرسل ، وتكذيب الرسول ، وتحليل محرم بالإجماع كالزنا وعكسه كالنكاح ، ونفي وجوب مجمع عليه كركعة من الصلوات الخمس ، وعكسه كوجوب صلاة سادسة يومية. والضابط إنكار ما علم من الدين ضرورة ، ولا فرق في القول بين وقوعه عنادا ، أو اعتقادا ، أو استهزاء ، حملا على الظاهر.

والثالث : ما تعمده استهزاء صريحا بالدين ، أو جحودا له ، كإلقاء مصحف أو بعضه في قاذورة قصدا ، أو سجود لصنم. وفي حكم الصنم ما يقصد به العبادة للمسجود له ، فلو كان مجرد التعظيم مع اعتقاد عدم استحقاقه للعبادة لم يكن كفرا ، بل بدعة قبيحة ، لأن الله تعالى لم ينصب السجود تعظيما لغيره» انتهى.

(١) في (ب) : الدوك وهو خطأ.

٤٩

طالب عليه‌السلام فاستولدها محمدا عليه‌السلام (١).

وقد ذكر ذلك الشعراء وهو لا يفتقر إلى بيان ، ولكننا لا نجد بدّا من مزيد بيان لضلال كثير من الأمة وسعة جهلهم في هذه المدة. قال فيه الشاعر :

__________________

(١) في حاشية الأصل : الحمد لله وحده ، أما سبي بني حنيفة ففيه كلام وأن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام تزوجها بعقد لا بالسبي ، وفي ذلك رواية صحيحة أخرجها ابن أبي الحديد رحمه‌الله وأن بني حنيفة إنما منعوا الصدقة وقالوا : لا يأتوا بها إلى أبي بكر وإنهم سيأتون بها لمن ولّاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم يعنون بذلك أمير المؤمنين وأنهم لم يمنعوا عن الصدقة منعا إنما منعهم لأجل يأتوا بها إلى الإمام المنصوص عليه من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعرف ذلك. «توقيع مجهول» لم أعرف من صاحبه وأظنه يحيى بن عبد الله بن عثمان الوزير ، وفي (أعيان الشيعة) ٩ / ٤٣٥ : خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ، قال ابن أبي الحديد في (شرح النهج) ما حاصله : اختلف في أمرها فقيل : إنها سبية من سبايا حنيفة على يد خالد بن الوليد أيام أبي بكر (أقول ـ أي مؤلف أعيان الشيعة) : وبذلك قد يحتج بعضهم على اعتراف أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بصحة سبيها ، وفيه أن الحال في ذلك لا يمكن الجزم بها ولا دعوى العلم بأنه كيف تزوجها لجواز أن يكون قد عقد عليها ، مع أن المؤرخين مختلفون فيه إذ متى وجد الاحتمال سقط الاستدلال ، على أن عمر نفسه لم يعترف بصحة سبي بني حنيفة وكان يطلب إلى الخليفة أن يقيم الحد على خالد ، قال : وقال قوم منهم أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني : هي سبية في أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : بعث عليا إلى اليمن فأصاب خولة في بني زبيد وقد ارتدوا مع عمرو بن معد يكرب ، وكانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم فصارت في سهم علي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن ولدت منك غلاما فسمه باسمي وكنه بكنيتي» فولدت له بعد موت فاطمة محمدا فكناه : أبا القاسم.

قال : وقال قوم وهم المحققون وقولهم الأظهر : إن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر فسبوا خولة فباعوها من علي ، فقدم قومها عليه فأخبروه بموضعها منهم فأعتقها ومهرها وتزوجها ، قال : هذا القول اختيار أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه المعروف (بتأريخ الأشراف). أه. عن (أعيان الشيعة) ، وفي (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط دار الفكر ج ١ ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥ وفيه اختلف في أمرها فقيل : إنها سبية من سبايا حنيفة على يد خالد بن الوليد في أيام أبي بكر ، لما منع كثير من العرب الزكاة وارتدت بنو حنيفة وادعت نبوة مسيلمة وإن أبا بكر دفعها إلى علي عليه‌السلام من سهمه في المغنم .. إلخ.

٥٠

أمه من حنيفة بن لجيم

من بني الدؤل في المصاص الصميم

ومثله قول الآخر :

ألا قل للإمام فدتك نفسي

أطلت بذلك الجبل المقاما

أضر بمعشر والوك طرا

وقوفك عنهم تسعين عاما

وعادوا فيك أهل الأرض جمعا

وسموك الخليفة والإماما

وما ذاق ابن خولة طعم موت

ولا وارت له أرض عظاما (١)

وكانت الكيسانية (٢) تزعم أنه حي مرزوق ، وأنه المهدي الذي بشّر الله به ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما ، ولهم في ذلك كلام كثير وليس هذا مما نحن فيه في شيء ـ أعني ذكر الحياة ومن يقول بذلك فيستقصى ذكره ونذكر ما جاء فيه ـ لأن قصدنا في هذه الرسالة ليس إلا بيان ذكر أهل الردة وأحكامهم ، وأن المطرفية الملعونة ومن شايعها من أهل (المصانع) (٣) الجهلة حكمهم

__________________

(١) الأبيات للشاعر الشهير السيد الحميري ، ونصها في (أعيان الشيعة) ٩ / ٤٣٦ :

ألا قل للإمام فدتك نفسي

أطلت بذلك الجبل المقاما

أضر بمعشر والوك منا

وسموك الخليفة والإماما

وعدوا أهل هذا الأرض طرا

مقامك فيهم ستين عاما

وما ذاق ابن خولة طعم موت

ولا وارت له أرض عظاما

لقد أمسى بمورق شعب رضوى

تراجعه الملائكة الكراما

هدانا الله إذ صرنا لأمر

به ولديه نلتمس التماما

(٢) الكيسانية : فرقة سبق الحديث عنها والتعريف بها في كتاب (العقد الثمين) للمؤلف بتحقيقنا.

(٣) المصانع : وتسمى مصانع حمير جبال مرتفعة من أعمال ثلاء ، وتسمى بلاد المصانع (مجموع بلدان اليمن) ١ / ١٦٦ ، (معجم البلدان والقبائل) للمقحفي ص ٦٣٠ ، (السيرة المنصورية) للإمام عبد الله بن حمزة ج ٢ ص ٩٣٩ ، ٩٤٠ ، ٩٥٤ ، ٩٥٨ ، ٩٦١ ، قال في سيرة الإمام المنصور : ورفع عليه‌السلام محطته من قارن إلى مصانع حمير ، فحط بقرية مدع وقد خلا خاطره من جهة الغز ، وأثقب النظر في أمور المطرفية لما يعلم من عظيم مكيدتهم في الإسلام ، وتلبيسهم على الخاص والعام مما يظهرونه من النسك وإكثار الصلاة والصيام .. إلخ ، وانظر قصة استيلاء المؤلف على هجرة قاعة وقصة المطرفية في (السيرة المنصورية) من ص ٩٦١ إلى ص ٩٨٦.

٥١

حكمهم بلا خلاف في ذلك ، وإن ردّتهم بوجوه كثيرة أقوال أهل الفرق الثلاث من أهل الردة داخلة في بعض أقوال هؤلاء ، ولا بدّ لنا من ذكر من سبي جملة ، وما كان قول تلك الفرقة المسبية ليعلم المستبصر أن القوم في عصرنا زادوا على أهل الردة أضعافا مضاعفة ، وبلغوا النهاية العظمى في الكفر ، فأي حرمة بقيت لهم ولا معول على صلاتهم ولا شهادتهم كما قدمنا ذكره من أن بعض أهل الردة بقي معتصما بالصلاة وهي فرع على الشهادة. والكفر أجناس ومقالات واعتقادات وأفعال إن حصل واحد منها كفى في كون مرتكبه كافرا ، وإن اجتمعت فأجدر أن يكون كافرا ، بل ذلك الكفر المضاعف ، ولسنا نتمكن من استقصاء ذكره ، وإنما نذكر ما تيسر من ذلك مما يكون دليلا على غيره.

[موجب تكفير المطرفية]

فمن الكفر : اعتقاد اليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية والثنوية ، واعتقاد الوثنية في أن الأصنام تضر وتنفع من دون الله تعالى ، ولا خلاف بين المسلمين في كفر من ذكرنا.

وكذلك لا يتحقق الخلاف في كفر من طابقهم من هذه الأمة وصوّب أفعالهم ، وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون ، بل قد وقع التكفير بدون ذلك وهو ما رواه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان (١) بن الهادي إلى الحق سلام الله عليه

__________________

(١) الإمام أحمد بن سليمان : الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن محمد الحسني ، اليمني ، ينتهي نسبه إلى الإمام الهادي عليه‌السلام [٥٠٠ ـ ٥٦٦ ه‍] أحد عظماء الإسلام ، والأئمة الزيدية الأعلام ، مجتهد ، مجاهد ، مجدد ، برز في شتى العلوم ، وقام داعيا إلى الله وإلى الجهاد في سبيل الله سنة ٥٣٢ ه‍ ، في أيام حاتم بن عمران ، فبايعه خلق كثير ، وحكم صنعاء ، وزبيد ، وصعدة ، ونجران ، وخطب له بالحجاز ، وأقام عمود الدين ، وشريعة رب العالمين ، وأخباره ، ومناقبه ، وفضائله ، كثيرة لا تسعها مثل هذه العجالة ، توفي في حيدان من بلاد خولان بن عامر سنة ٥٦٦ ه‍ وقبره بها مشهور ومزور ، ويعرف بالمشهد ، وله مؤلفات كثيرة منها : (أصول (الأحكام» و (الحكمة الدرية) و (حقائق المعرفة) وغيرها والكل لا زال مخطوطا.

انظر (أعلام المؤلفين الزيدية وفهرست مؤلفاتهم) ترجمة (٨٦) ومصادر ترجمته الكثيرة هناك.

٥٢

رفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يوم القيامة يهوديا. قال جابر : قلت : يا رسول الله وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» (١) ولا يبعث يهوديا إلا من حكمه حكم اليهود ، ولا يكون حكمه حكم اليهود إلا وهو كافر ؛ وإنما قلنا : إن حكم المطرفية حكم اليهود لأنّا وجدنا فيهم صفة اليهود وزيادة في الكفر ، وذلك أن اليهود أقرت بالله تعالى ورسله وكتبه ، والبعث والنشور ، والجنة والنار ، واعترفت بأفعال الله تعالى أنها فعله ، وأنها حكمة وصواب ، محبوبها ومكروهها ، وأنكرت نبوة عيسى عليه‌السلام وكتابه ، وأنكرت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه ، وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ـ يريدون عيسى ومحمدا عليهما‌السلام ـ فقرر الله سبحانه عليهم الاحتجاج بقوله تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) [الأنعام : ٩١] ، واعترفوا بنبوة مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي إلا نبيين ، وبإنزال مائة كتاب وكتابين ، وأنكروا كتابين. فكفروا بذلك على لسان عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وعلى الطيبين من ذرية محمد وسلامه.

[إنكار النبوة!!]

وهذه المطرفية المرتدة أنكرت نبوة المائة الألف نبي والأربعة والعشرين ألف نبي ،

__________________

(١) حديث من أبغضنا : أورد الحديث السيد صارم الدين الوزير في كتابه (الفلك الدوار) عن سديف المكي ، عن محمد الباقر ، عن جابر بن عبد الله ، انظر : (الفلك الدوار) ط ص ١٥٦ ، وفي (مجمع الزوائد) ٩ / ١١٢ عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : خطب فينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته وهو يقول : «أيها الناس : من أبغضنا أهل البيت ... وسرد الحديث .. وزاد : قال : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم احتجر بذلك من سفك دمه ، وأن يؤدي الجزية عن يد وهم صاغرون ، مثل لي أمتي في الطين فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته» رواه الطبراني في (الأوسط) وفيه من لم أعرفهم. وهو في (المعجم الأوسط) للطبراني بلفظه ٤ / ٢١٢ ، وهو في تأريخ جرجان وفي آخره : إنما احتجر بهذه الكلمة من سفك دمه أو يؤدي الجزية عن يد وهو صاغر إن ربي مثل أمتي في الطير ، وعلمني أسماء أمتي كما علم آدم ، فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته. وهو في ضعفاء العقيلي ٢ / ١٨٠ ، وشكك فيه كما هو شأنه.

٥٣

وأنكروا جميع الكتب المنزلة ، وناظرونا مرارا ، وحاورونا أسفارا ، ولم يختلفوا في شيء من ذلك : أن النبوة فعل النبي ، وأن الله تعالى ما خص أنبياءه بالنبوة ولا فضلهم بالرسالة ، بل هم المختارون لذلك والعاملون له ؛ وأن النبوة فعلهم. وقالوا لنا : نبا ينبو نبوا فهو نابي.

قالوا : ودلالة الفعل التصرف. قلنا : يا عدو الله (١) ، ما به من فعل الله شيء إلا ويمكن تصريفه يقول : نبت ينبت نباتا فهو نابت ، ومات يموت موتا فهو ميت ، وحيا يحيا حياة فهو حي ، إلى غير ذلك مما يطول شرحه ، وقالوا : إن من أراد كان نبيا ولا يمنعه إلا تقصيره وعجزه.

[إنكار القرآن!!]

وأما الكتب فقالوا : لا يصح نزول العرض ، والقرآن وسائر كلام الله تعالى عرض ، وإنما القرآن صفة ضرورية لقلب الملك الأعلى لا يفارقه ويسمونه ميخائيل ، وهذا الموجود بين أظهرنا ليس بقرآن وإنما هو حكاية القرآن ، وهم لا يسمعون القرآن. قالوا : وإنما يسمعون القارئ ، ولهم جهالات جمة ، وأقوال متناقضة.

فإذا كانت اليهود كفارا بما ذكرنا كان المطرفي زائدا على صفة اليهودية مائة ألف ضعف وأربعة وعشرين ألف ضعف الآخرين ، لإنكار نبوة عيسى ومحمد وكتابيهما ، والنصارى آمنت بجميع الكتب المنزلة والأنبياء المرسلة سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : إن الله تعالى ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ـ يعنون ذات الباري ـ وأقنوم الابن ـ يعنون الحياة ـ وأقنوم روح القدس ـ يعنون به القدرة ـ فقالوا بذات

__________________

(١) في (ب) : يا أعداء الله.

٥٤

وصفتين : هما الذات والذات هما. قالوا : فهو واحد على الحقيقة وثلاثة على الحقيقة. فحكى الله عنهم التثليث بذلك بقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ...) الآية [المائدة : ٧٣] ، وبقوله : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) [النساء : ١٧١] والمطرفية قالوا : إن للباري أربعين اسما هي الله والله هي ، وناظروا على هذا مرارا ، ولا مخالفة بينهم في ذلك فيما علمناه ، وقد حكاه الإمام أحمد بن سليمان عليه‌السلام في شعره ، فقال :

وفرقة من شرار شيعتنا

ملوا مقامي واستبعدوا أمدي

من أجل أني أنكرت قولهم

في مثل أسماء الواحد الصمد

أسماؤه يزعمونها هي هو

قديمة كالقديم في الأبد

وهل يكون للأشياء ويلهم

حسا يكافئ في المعنى وفي العدد

فشابهوا قول من يقول بأقن

وم خلاف التوحيد متحد

[الضرر والمرض من الشيطان]

فذكر مشابهة قولهم للنصارى ، ثم قال عليه‌السلام في كتاب (العمدة ، في الرد على المطرفية المرتدة ومن وافقوا من أهل الردة) (١) هذه ترجمة الكتاب ، فقال عليه‌السلام فيه : إن المطرفي ثلاثة عشر نصرانيا وثلث نصراني ؛ لأنك إذا قسمت أربعين [اسما] (٢) على ثلاثة ثلاثة كانت (٣) هذه الجملة ، فقد زادوا على النصارى فيما به كفرت النصارى.

وأما المجوس فإنما كفروا حيث أضافوا النفع والضر إلى الله تعالى [وأشركوا معه

__________________

(١) كتاب العمدة للإمام أحمد بن سليمان مفقود ، لم أجد له مخطوطة حتى اليوم ، وهو (شرح الرسالة الهاشمة لأنف الضلال من مذاهب المطرفية الجهال).

(٢) زيادة في (أ).

(٣) في (ب) : كان.

٥٥

الشيطان فقالوا : النفع من الباري تعالى] (١) وهو عندهم (يزدان) (٢) ، والضر من (أهرمن) ـ وهو عندهم الشيطان ـ وكذلك قالت المطرفية : إن الضرر والمرض من الشيطان ـ ويحتجون بقول أيوب (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٤١].

قلنا : إنما أصابه الشيطان بالوسوسة ؛ فأنكروا ذلك وزادوا على المجوس بأن نفوا المحبوب عن الله وقالوا : هو بإحالات الأجسام. والثنوية أضافوا النفع والضرر إلى النور والظلمة ، وهما مما ليس بحي ولا قادر ؛ فلا يصح أن يضاف إليهما الضر والنفع ، والمطرفية أضافت الضرر والنفع إلى جميع الجمادات كلها فزادت على المجوس أضعافا مضاعفة وعلى الثنوية.

وأما الوثنية : فاعتقدوا في الأصنام أنها تضر وتنفع من دون الله ، وكان في كل قبيلة صنم كما كان (يعوق) في همدان ، و (يغوث) في مذحج ، و (هبل) في قريش ، و (ذو الخلصة) في خثعم ، و (ذو الكفين) في دوس ، و (اللات والعزى) في ثقيف وهذيل ، إلى غير ذلك مما يطول.

[الجمادات تضر وتنفع من دون الله وتأثير الطبائع]

وهذه المطرفية تعتقد في الجمادات كلها وهي أعداد لا تنحصر أنها تضر وتنفع من دون الله فزادت على اعتقاد الوثنية أضعافا كثيرة لا تنحصر ، فهم أكفر الكفرة ، وأفجر الفجرة ، وشر أهل الفترة المرهقة القترة ، ولقد نفوا عن الله بشهادتنا عليهم وشهادة من تقدمنا من آبائنا الطاهرين ، جميع أفعاله من خلق ورزق ، وموت ، وحياة ، وزيادة ، ونقصان ، وأضافوا ذلك إلى إحالة الأجسام ، وتأثيرات الطبائع ،

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) في شرح سنن ابن ماجة للسيوطي قال : إن المجوس يثبتون إلهين : (يزدان) للخير و (أهرمن) للشر.

٥٦

ونفوا ذلك عن الحكيم الصانع ، وقد ذكر جدنا القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام في كتاب (القتل والقتال وما يحل به سفك الدماء والمال) (١) وهو كثير ، وإنما نذكر منه نكتة. قال عليه‌السلام بعد كلام طويل : (يحل القتل والسبي وأخذ المال بأن ينكر من حكم الله تعالى حكمة ، أو يضيف من أفعال عباد الله إلى الله ، أو ينفي شيئا من أفعال الله عن الله) وكل هذه الوجوه قد فعلته الفرقة الغوية ، المرتدة الشقية ، المسماة بالمطرفية ؛ لأنهم نفوا عن الله تعالى أفعاله ، وأضافوا أفعال العباد إلى الله ؛ لأن مذهبهم أن فعل العبد لا يعدوه ، ولا يوجد في غيره ؛ فقد نفوا أفعال الله عن الله ، وأنكروا حكما لا ينحصر ، وأضافوا إلى الله تعالى من أفعال العباد والقبائح ما لا ينحصر عدده في رسالتنا هذه ، وقد أباح القاسم عليه‌السلام القتل والسبي ، وأخذ المال بإنكار حكمة واحدة ، أو إضافة فعل واحد من فعل الغير إلى الله. فاعلم ذلك وتأمله موفقا إن شاء الله تعالى.

[نفي أن يكون لله نعمة ومنّة]

ومن ذلك أنهم نفوا أن يكون لله تعالى نعمة ومنة على أحد من عباده لا مؤمن ولا كافر ؛ لأنهم قالوا : المؤمن أخذ ما أخذ من الرزق جزاء على عمله ، والكافر والفاسق مغتصبان لما في أيديهما ، وهذا مخالف لنصوص القرآن ؛ لأن القرآن جله امتنان على العباد ، كسورة الرحمن وغيرها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلى آخر السورة. والآلاء هي النعم ، وقد ذكرنا إنهم ردوا من صريح كتاب الله تعالى ، والآي المحكم الظاهر أربعمائة آية وسبعا وثلاثين آية لا تحتمل آية منها التأويل ، لو

__________________

(١) (القتل والقتال) ، للإمام الأعظم القاسم بن إبراهيم ، مخطوط مكتبة برلين رقم ٤٨٧٦ ، وهو ضمن مجموع بمكتبة السيد العلامة عبد الرحمن شائم ، وبمكتبة السيد محمد بن يحيى بن المطهر.

٥٧

أنهم ردوا آية واحدة ، أو ظاهرا واحدا لكفروا بإجماع الأمة ؛ فكيف بمجموعها ، وقد ذكرنا الآي وعيناها في كتاب غير هذا.

ونذكر هاهنا ما تحتمله هذه الرسالة على وجه التنبيه على سائر الآيات ؛ فمن ذلك مما يتعلق بالخلق وأنه سبحانه المتولي [له] (١) مع كماله وزيادته ونقصانه ، وذكورة [وأنوثة] (٢) قوله تعالى : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) [الشورى : ٤٩ ، ٥٠] ، وقال سبحانه : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] إلى غير ذلك مما ذم به من أنكر نزول القرآن ، كقوله تعالى : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ* تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ* وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ* فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ٦ ـ ١١] ، وقال عز من قائل : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ* قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) [يس : ١٣ ـ ١٥] ، وقال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) سقط من (أ).

٥٨

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [الأنعام : ٩١ ـ ٩٢] ، وقال تعالى في إعجاز القرآن : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] ، وقال سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) [الطور : ٣٣ ، ٣٤] ، وقال عزوجل : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : ١٣ ـ ١٤] ، وقال جل ثناؤه : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٣ ـ ٢٤] ، وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) [يونس : ٣٨ ـ ٣٩].

وأما أنه كلامه تعالى وأنه مسموع فقد قال سبحانه : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) [التوبة : ٦] ، وقال جل وعلا : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥].

وأما أنه محدث ، فقد قال عز من قائل : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) [الشعراء : ٥] ، وقال سبحانه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء : ٢].

٥٩

وأما أنه باق فقد قال جل وعلا : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤] ، وقال سبحانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] وجميع ذلك يدل على بقائه.

ومن ذلك ما يدل على أنه تعالى يتولى إنزال الأمطار خلاف ما تذهب إليه هذه الفرقة الضالة ومن وافقته من الملحدة [و] الطبائعية من أنه من بخارات يتصاعد من الأرض ، فقال جل وعز : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) [الزمر : ٢١] ، وقال سبحانه : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : ٩] وأمثال ذلك من آيات القرآن الكريم في بضع وعشرين آية فيها التصريح الظاهر أن الله تعالى أنزل المطر من السماء إلى الأرض.

ومن ذلك ما ورد في اختصاص الله تعالى لأنبيائه بالنبوة ، وأنها فعله عزوجل فقال سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام : ٨٩] ، وقال جل وعلا : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [الحديد : ٢٦] ، وأمثال ذلك مما يدل على أنه تعالى اختصهم بالنبوة ولم يكلها إلى عباده ، كما قال تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ، وقال عز من قائل : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص : ٦٨] ، وقال جل وعلا : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ* يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [آل عمران : ٧٣ ، ٧٤] إلى غير ذلك من سائر الآيات التي قدمنا ذكر عدها فمن أحب الاطلاع على جملتها فلينظر في رسالتنا الموسومة (بالفارقة) يجده هنالك

٦٠