مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

المرتدين إلا بفعل علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه‌السلام لكان كافيا ، وإن كان الإجماع آكد الدلالة ، وتواتر الدلالة أنفى للريب من القلوب.

[ردة تغلب]

ولما ارتدت تغلب عليهم ربيعة بن بحيرة التغلبي (١) فلقيهم خالد بن الوليد في النطيح والحصيد (٢) وهم في جمع غليظ فقاتلهم ، فسبى وغنم وأصاب في السبي ابنة ربيعة بن بحيرة فبعث بالخمس إلى أبي بكر وهي فيه ، فأخذها علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهي أم عمر ورقية ابني علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٣) وتلقب الصهباء ، وتسمى أم حبيب بنت ربيعة بن بحير بن العبيد (٤) ، وقيل : الهند بن علقمة بن الحارث بن عتبة ، وفي نسخة عقبة بن سعد بن زهير بن خيثم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل ، وقيل : وقعت في سهمه. وقيل : اشتراها من السبي ، وكانت كتب أبي بكر إلى أمراء الأجناد في حرب أهل الردة الذين ارتدوا بمنع الصدقة ما ذكره محمد بن جرير في كتابه قال : كتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية المخزومي (٥) وهو أخ أم سلمة زوج

__________________

(١) في الطبري : ربيعة بن بجير التغلبي.

(٢) في الطبري : المضيخ والحصيد.

(٣) الطبري ٣ / ١٩١.

(٤) كذا في النسخ ، وسبق أن ذكرنا أنه في الطبري : ربيعة بن بجير التغلبي.

(٥) المهاجر بن أبي أمية سهيل (أو حذيفة) بن المغيرة المخزومي القرشي : وال ، صحابي ، من القادة ، شهد بدرا مع المشركين وقتل يومئذ أخواه هشام ومسعود ، كافرين ، على دين الجاهلية. وأسلم هو وكان اسمه (الوليد) فسماه رسول الله : (المهاجر) ، وتزوّج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخته لأمه (أم سلمة) واسمها (هند) ، وأرسله إلى الحارث بن عبد كلال الحميري باليمن. تخلف المهاجر عن وقعة تبوك سنة ٩ ه‍ ، فعتب عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم رضي عنه ـ بشفاعة أخته ـ واستعمله (أميرا) على صدقات كندة والصدف ، وتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يسير إليها ، فبعثه أبو بكر إلى اليمن لقتال من بقي من المرتدين بعد قتل الأسود العنسي ، فتولى إمارة (صنعاء) سنة ١١ ه‍ ، وكتب إليه أبو بكر أن ينجد زياد بن لبيد البياضي في حصاره لحصن (النجير) قرب حضر موت ، وقتال المرتدين بحضر موت فأنجده وفتح الحصن سنة ١٢٠ ه‍.

٨١

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورضي الله عنهما :

أما بعد ... فإذا جاءكم كتابي هذا وقد ظفرتم بالقوم عنوة فاقتلوا المقاتلة ، واسبوا الذرية ، وإن نزلوا على حكمي فافعلوا فيهم بهذا الحكم ، وإن جرى بينكم صلح فعلى أن تخرجوهم من ديارهم وتكون للمسلمين ، لأني أكره أن أقر قوما فعلوا فعلهم في ديارهم ليعلموا أن قد أساءوا وليذوقوا وبال الذي أتوا (١).

فهذه أحكام شهدها المسلمون حقا ، وأجمعوا عليها ، وإجماعهم حجة على جميع الأمم.

وإنما أرادت الفرقة الملعونة التلبيس على العوام وعلى جهال المسلمين ممن يدعي العلم ولا نصيب له فيه ، ولا له في أهل بيت النبوة هوى فيرد الأمر إليهم فيعلموه ما جهل ويرشدوه فيما سأل.

فالذين حالهم هذه ، لا علماء ، ولا سألوا أهل العلم ، هم الذين قال تعالى فيهم : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤].

[ردة الهذيل]

وفي حديث أهل الردة في أيام خالد أن الهذيل لما التجأ إلى الزميل بن عتاب (٢) بالموضع المعروف بالبشر (٣) في عسكر ضخم ، فلما علم بهم خالد شنها غارة كأنه

__________________

(١) في الطبري : واسبوا الذرية إن أخذتموهم عنوة أو ينزلوا على حكمي .... إلخ ، مع اختلاف طفيف في بعض العبارات. انظر : الطبري ٣ / ١٦٩ ط مؤسسة عز الدين.

(٢) في المخطوطات : الرميل ، وهو الزميل كما في الطبري.

(٣) في الطبري : البشر ، كما أثبتناه ، وفي المخطوطات : السر.

٨٢

يبادر نهابا ، فسبقت الخيل الخبر وجاءهم من ثلاثة مواضع فقتل فيهم مقتلة لم يقتلوا مثلها ، وسبى وغنم فقسم في الناس فيئهم ، وبعث بأخماس الغنم والسبي مع الصباح بن فلان المري(١) ، وكانت في الأخماس ابنة مؤذن النمري ، وليلى بنت خالد وريحانة بنت الهذيل بن هبيرة (٢) ؛ ولم يعلم من أحد إنكار السبي في أحد ممن كفر بالله تعالى ، وكانت له شوكة وكفره بوجوه لا تنحصر هاهنا.

[بعض وجوه الكفر]

منها : أن ينكر شيئا مما علم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة ، ولو كان شيئا واحدا من ألوف كثيرة قد اعترف بجميعها إلا ذلك الشيء ، أو ينفي عن الله تعالى فعلا واحدا من أفعاله التي لا ينحصر أعدادها ، أو يضيف إلى الله تعالى فعلا واحدا من أفعال عباده.

وهذه الفرقة الملعونة أضافت إلى الله تعالى جميع أفعال المخلوقين ، أما البهائم فقالوا : إنها مجبورة وفعل المجبور فعل جابره.

قلنا : وكيف يذم الباري تعالى فعله وهو يقول : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان : ١٩] وكيف يكون عضال الكلب وسفاد البهائم فعل رب العالمين المتعالي عن القبيح.

وأما أفعال المكلفين فقالوا : فعل العبد لا يعدوه ولا يوجد في غيره ، وهو ضرب وانضراب فالضرب فعل العبد وهو حركة يده لا يتجاوزها ، والانضراب هو انقطاع الجسم وهو فعل الله بما يجعله ينقطع ، وناظروا على ذلك ولا خلاف بينهم فيه ، أخزاهم الله وعجل انتقامهم ، وعلى علتهم هذه في الأفعال تلزم حركات

__________________

(١) في الطبري : مع الصباح بن فلان المزني.

(٢) في الطبري : ابنة مؤذن النمري ، كما أثبتناه ، وفي المخطوطات : ابنة مودي الفهر.

٨٣

أيديهم ، فإنه لو لا جعلها الله تحترك لما احتركت [وكذلك سائر حواسهم] (١).

فلهذا قلنا : إن أفعال [جميع] (٢) المخلوقين يضيفونها إليه سبحانه ، ثم مع ذلك نفوا عن الله تعالى جميع الحوادث ، وأضافوها إلى الإحالة والاستحالة ، ومن قال منهم : فعل الله قال بخلقه للأصول الموجبة لهذه الفروع بالإحالة ، فذهبوا في ذلك فريقا مما ذهبت إليه الفلاسفة ، وإن كانت الفلاسفة أحصل منهم والكل من الفريقين كافر بإجماع علماء الأمة.

[إباحة الإمام للمطرفية]

وكل دار أظهر فيها إنسان كلمة من الكفر ، أو كلام لا يفتقر في إظهاره إلى ذمة ولا جوار من أحد من المسلمين فهي دار كفر ، ومذهب هذه الفرقة الملعونة يظهروه في عوشات كفرها ، ومكامن كيدها التي سموها هجرا ، ولا يفتقر إلى ذمة ولا جوار ، وإن كانت في ذمة أو جوار ممن يزعم إصابتها ، ويعتقد صلاحها فهو كافر بذلك لكفرها ، وممالأته ، فكل جهاتهم دار حرب يحل فيها قتل مقاتليهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم ، وغزوهم كما تغزى ديار الحرب ليلا أو نهارا ، وأخذهم سرا وجهارا ، والقعود لهم كل مرصد ؛ وقد أبحناهم لمن اعتقد إمامتنا من المسلمين غيلة ومجاهرة ، وغيبا وظاهرة ، ومن جاءنا بأحد من ذراريهم اشتريناه بثمن مثله ، وأجزنا أخذه بما يرضاه كما يفعل أئمة المسلمين بمن غزا ديار المشركين ، ويجهز على جريحهم ، ويقتل مدبرهم ومقبلهم ، ويمثل بقتلاهم خلاف ما يفعل في الحربيين أصلا ؛ فإنه لا يمثل بهم ، وقد نهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المثلة نحن نرويه في أخبار

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) سقط من (أ).

٨٤

كثيرة إلا في المرتدين ، فالردة كفر وتمرد ، فلما جمعت النوعين غلظ فيها الحكم ، ولهذا فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع أيدي العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام ، وأخذوا إبل الصدقة ، وقتلوا رعاتها ، فلما ردهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام أسارى قطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم بالنار ، وأمر بهم فرمي بهم في الحرة حتى ماتوا (١).

وكذلك حرق علي عليه‌السلام زنادقة السواد وهم مظهرون الإسلام وقال :

لما رأيت الأمر أمرا منكرا

أضرمت ناري ودعوت قنبرا

وحرقهم بالنار حتى صاروا رمادا وهو سلام الله عليه الحليم الوقور (٢).

روينا فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أحب أن ينظر إلى نوح في حلمه ، وإلى موسى في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب» (٣) فلم يمنعه حلمه من تنكيل

__________________

(١) أورده الإمام أحمد بن سليمان في (أصول الأحكام) برقم (٣٩٠) تحت الطبع ، وأشار إليه في كتاب (الديات) من نفس المصدر رقم (٥١٦).

وحول الموضوع انظر في البخاري ج ٨ ص ١٨ ، ومستدرك الحاكم ٤ / ٣٦٧ ، و (أعلام الورى) للطبرسي ص ٩٥ ، و (بحار الأنوار) للمجلسي ج ٢ ص ٢٩٤.

(٢) أورده العلامة أحمد بن يحيى حابس في (الإيضاح شرح المصباح) ، وهو في (كنز العمال) ج ١١ ص ٣٠٣ برقم (٣١٥٧٩) ، وعزاه إلى ابن شاهين في (السنة) ، وحشيش عن الشعبي ، وابن أبي الدنيا في كتاب (الأشراف) ، عن قبيصة بن جابر ، وهو في (الاختصاص) للشيخ المفيد ص ٧٣ ، و (مناقب آل أبي طالب) لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٢٧ ، و (بحار الأنوار) ج ٢٥ / ٢٨٥ رقم (٣٨) ، وفي نفس المصدر ج ٢٥ ص ٢٩٩ ـ ٣٠٠ رقم (٦٣).

(٣) حديث : من أحب ... له شاهد بلفظ : «من أراد أن ينظر إلى آدم في عمله وإلى نوح في فهمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن أبي طالب» ، أخرجه النيسابوري في (روضة الواعظين) ص ١٢٨ ، وهو في (مناقب الخوارزمي) بلفظ مقارب ص ٨٣ رقم (٧٠) ، وبلفظ مقارب ص ٣١١ برقم (٣٠٩) ، وفي (مناقب آل أبي طالب) لابن شهرآشوب ج ٣ ص ٥٧ ، وفي (ذخائر العقبى) لأحمد بن عبد الله الطبري ص ٩٣ ، و (بحار الأنوار) ج ٣٥ ص ٣٩ ، وج ٣٦ ص ٧٨ ، وفي (الغرر) للعلامة الأميني ج ٣ ص ٣٥٦ ، ص ٣٥٨ ، ص ٣٦٠ ، وانظر تخريجه هناك.

٨٥

المتمردين على الله ـ عزوجل ـ المخالفين في الدين بعد إظهار التمسك به.

وكذلك حرق أبو بكر الفجاءة السلمي (١) ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وكتب إلى عماله : لا ينزل أحد من أهل الردة على حكم أحد منكم ولا حكمي إلا قتلتموه ، وشردوا بهم من خلفهم ، ولما ظفروا بالأربعة الملوك وأختهم الملكة المسماة (العمردة) مثلوا بهم أقبح المثل.

أما العمردة : فربطت بحبلين إلى جملين ، وارد وصادر ، وأخيفا ، وطردا ، وأوجعا ، فشقاها.

وأما الأربعة : فربطوا في أرجلهم الحبال وركضوا بها الخيل حتى تقطعوا (٢).

ومن أهل الردة في عبس وذبيان من قمطوهم بالحبال ورضحوهم بالحجارة.

ومنهم من رموا به من رءوس الجبال ، ومنهم من حرقوه بالنار ، وكنا ذكرنا قتل الملوك ولم نذكر صورته ، فكررنا ذكره للبيان وتحقيق الحال ، لأن النظر النبوي يلزمنا إن مكن الله تعالى من أحد من أعيان ضلالتهم ورءوس جهالتهم أن نقتلهم

__________________

(١) أورده في (الخصال) ص (١٧١ ، ٢٢٨) قال : والفجاءة هو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل ، وهو رجل من بني سليم. قدم على أبي بكر فقال : إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار فاحملني وأعني ، فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحا ، فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتد ، فشن الغارة على كل مسلم في سليم وعامر وهوازن ، فأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم ، فلما بلغ أبا بكر خبره أرسل إلى طريقة بني حاجز إلى أن يقول : فسار إليه طريقة فهرب الفجاءة ، فلحقه فأسره وبعث به إلى أبي بكر ، فلما قدم عليه أمر أبو بكر أن توقد له نار في مصلى المدينة ثم رمي به فيها مكتوفا مقموطا ، قال : انتهى.

راجع : تأريخ الطبري ، و (الكامل) لابن الأثير ج ٢ ص ٢٣٧ ، والقصة مذكورة أيضا في المسترشد لمحمد بن جرير الطبري ص ٣٤.

(٢) قال الكليني في (الكافي) ج ٨ ص ٧١ : إن الملوك الأربعة هم : جمدا ، ومخوسيا ، ومشرحا ، وأبضعة ، وأختهم العمردة ، وهم بنو معد يكرب ، وفدوا مع الأشعث فأسلموا ثم ارتدوا ، فقتلوا يوم النجير. وذكر في مسند أحمد ج ٤ ص ٣٧٨ ، ومستدرك الحاكم ج ٤ / ٨١ ، والطبراني عن عمرو بن عنبة كما في (كنز العمال) ج ١٢ ص ٥٤ رقم (٣٣٩٦٧) و ٣٣٩٦٨ ، ٣٣٩٦٩) لعن هؤلاء.

٨٦

على هذه الصورة إن شاء الله تعالى ، غضبا لدين جدنا ، وحمية على شرع أبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن القوم استرقوه وغروا رجالا كثيرا ، ولبّسوا عليهم أمرهم وفتنوهم عن دينهم ، وصدّوهم عن ذرية نبيهم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الطيبين من آله ـ وساروا مع كل إمام قائم من يوم ظهور بدعتهم بأنهم يأتونه في أول ظهوره فيبايعوه ويظهرون اعتقاد إمامته حتى إذا طالت مدته رفضوه وأظهروا للعوام جواز معصيته ، والخواص منهم وجوب البراءة منه ، ونصب عداوته ، وقالوا : قد كنا اعتقدنا وصدقنا إلى أن بدت لنا أشياء أنكرناها فتوقفنا تورعا ودينا ، فيصدقهم مثلهم ثم يعيبون عليه نحوا مما يفعلونه فإنهم ـ أخزاهم الله ـ ونحن نعلم من حالهم ، ويعلمه من يعرف أحكامهم في عوشات كفرهم يرحّلون من خالفهم في بعض أمرهم ، وربما أحرقوا داره ، ويعاقبون من لم يستمر في المعونة أو نقص شيئا من شروطهم ، ويغرمون كرها في المغارم التي تلزمهم ، ويلزم بعضهم بعضا الضيفة لمن يأتي إليهم والقرى على أنواعه ، ولا ينكر بعضهم على بعض ، ولا ينكرون على أنفسهم ، فمتى فعل الإمام الذي له من الله تعالى ولاية عامة على كافة الأمة في النفوس والأموال والذي إليه النظر في المصالح والحمل عليها بالطوع والإكراه شيئا من هذه الأمور ، إما إكراه على ضيافة أو مغرم ، أو ترحيل على خطيئة ، أو خراب دار وعقوبة بمال ، أنكروا عليه أشد الإنكار وقالوا : من أين يجوز له ، وهذا كتاب الأحكام ؛ وفيما سقت السماء العشر ، وفي سقي الدوالي والنوازع نصف العشر ، وفي الخمس من الإبل شاة ، وعدوا الفرائض.

قلنا : يا عدو الله (١) وأعداء ذرية نبيه ، فأنتم تجيئون إلى من لا يملك إلا دراعته فتلزموه شاة يذبحها لضيفانكم ولم يرد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن في الدراعة شاة ،

__________________

(١) في (ب) : يا أعداء الله.

٨٧

ولا في خمس دراريع ، ولا تؤمنون سبيلا ، ولا تقبحون ظالما ، ولا تنصفون مظلوما ، ولا تحمون ثغرا ، ولا تذكرون ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منبر ، وتعدون فعلكم دينا وطاعة وفعل الإمام ظلما ومعصية ؛ فأي الفريقين أحق بالأمن. وإنما أردنا أن نبين لمن أراد البيان من المسلمين ما يكون قائدا لهم إلى النجاة ، وذائدا عن موارد المهلكين ، وناهيا لهم عن مشايعة المعتدين ، (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود : ٨٨] ، والحمد لله رب العالمين ، والسلام على كافة من بلغه كتابنا هذا من المسلمين ورحمة الله وبركاته ، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد النبي وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، [وشرف وكرم] (١).

تمت الرسالة الهادية بالأدلة البادية في بيان أحكام أهل الردة

والحمد لله أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

وهو حسبنا ونعم الوكيل

* * *

__________________

(١) سقط من (ب).

٨٨

كتاب الرسالة الموسومة بالدرة اليتيمة

في

تبيين أحكام السبي والغنيمة

تصنيف مولانا ومالكنا الإمام الأجل المنصور بالله عزوجل أمير المؤمنين

عبد الله بن حمزة بن سليمان بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وهي جواب مسائل وردت من ناحية قطابر

٨٩
٩٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وبه أستعين ، الحمد لله الذي نوّر قلوب العارفين [بنور] هدايته (١) ، وأسبل عليهم ستر رعايته ، وجعل بدايتهم ما ينتهي إليه الجاهل من غايته ، حمدا يستمري مزيد إحسانه ، ويستدعي عوارف امتنانه ، ولا إله إلا الله الشاهد له بالوحدانية أدلة استحقاق الكمال ، والاختصاص بصفات الجلال ، وصلى الله على محمد المبعوث من جرثومة الشرف العال ، المتجلي بمكارم الخلال ، وعلى آله خير آل.

أما بعد ..

[تقديم]

فإن المسائل التي أوردها (٢) السائل ، وسأل أن يكون الجواب عن مسائله ما ورد عن الأئمة (٣) في مصنفاتهم دون السير النبوية ، والأعمال الصحابية ، فحمّلنا أيده الله ما لا طاقة لنا به ، ولم يأت البيت من بابه ، لأن السير النبوية ، والأعمال الصحابية هي الأصول في الفتاوى الشرعية ، والأعمال الدينية ، فحال هذا المسترشد في سؤاله كحال من يقول للدليل : أو صلني إلى بلد كذا وكذا ، ولا تسلك بي طريقه ، وهل صنف الأئمة عليهم‌السلام إلا ما بنوه على كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعمال السلف رضوان الله عليهم مجتمعين ؛ فيكون أصلا لاحقا بالأصول ، أو مفترقين ، فيكون مذهبا ودينا يفتقر إلى الترجيح والتعليل.

وأما ما حكاه عن الأئمة فلا بد من الكلام عليه ، ولم يقع في كلامهم الذي

__________________

(١) في (ب) : بهدايته ، وكلمة نور محذوفة.

(٢) في (ب) : أورد.

(٣) في (ب) : عن الأمة.

٩١

ذكره أن من أظهر شيئا من الكفر ودان به وتغلب عليه بحيث لا يقدر أحد من المسلمين على منعه ، بل يمنع في أغلب الأحوال من إظهار خلافه ، كان حكمه حكم المسلمين ، وحكم دارهم حكم دار الإسلام فيكون حجة للسائل. ونحن نذكر ما ذكره شيئا شيئا ، ونتكلم عليه إن شاء الله تعالى بما تهيأ مع ضيق المجال لتراكم الأشغال ، فمتى انفصل ذلك بينا وجه الدلالة على ما فصلناه وذكرناه ، والذي ذكرناه هو علم إن لم يوجد فيما مضى من علوم الأئمة عليهم‌السلام ألحق بها ، وحمد الله أهل [هذا] (١) المذهب على ما منّ الله به عليهم واختصهم من كون الهداة الطيبين فيهم ، وسعت علومهم ، وتواتر ذلك [كذلك] (٢) بحيث يتعذر انقطاعه مع بقاء التكليف ، وأكثر علوم الأئمة عليهم‌السلام وتصانيفهم كانت في أعصار وأمصار يعلم من يعلم صورة تلك الحال أنه لا يمكن لهم من إظهار كثير من أحكامهم عليهم‌السلام في أهل تلك الأمصار وتلك الأعصار ، لأن علوم محمد بن عبد الله عليه‌السلام في أيام بني أمية ألحق الله بهم أمثالهم في الضلالة في الدمار والنكال.

وبنو أمية دينها الجبر والقدر ، وفي أيامها ظهر وانتشر ؛ وباقي الأئمة عليهم‌السلام في أيام أشد من أيام بني أمية بكثير. هذه بنو عمنا بنو العباس دولتهم من سنة اثنين وثلاثين ومائة إلى يومنا هذا (٣) ، لا شغل لهم إلا عداوة ذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسلالة البتول ، ولا بدنا نذكر طرفا مما نالهم وشيعتهم سلام الله عليهم وصلواته ورضوانه ، ثم انتهوا في ذلك إلى غاية لم يسبقهم إليها أحد من أهل العداوة ، وذلك أن الملقب بالمتوكل خرب قبر الحسين عليه‌السلام وحوله ستين جريبا وزرعها ، ومنع زيارته

__________________

(١) زيادة في (ب).

(٢) زيادة في (ب).

(٣) أي : سنة ٦٠٠ ه‍ تقريبا.

٩٢

أشد المنع ، وولى ذلك اليهود ، وأطلق لهم قتل من وجدوا زائرا من المسلمين ، وهذا نرويه مسندا ولا عون على ضلالتهم إلا أهل المذاهب الضالة (١). فهل كان من الرأي والعقل والعلم أن يظهروا في كتبهم وتصانيفهم ما لا قدرة لهم على فعله من الأحكام مما يكون ضررا عليهم ، وزيادة في كلب أهل الضلال على طلبهم بالعداوة؟ أو ليس نشر العلم من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرائط معلومة ، ودون ما ذكرنا أكبر عذر في ترك ذلك ؛ فإن قدر أحد منهم عليهم‌السلام بعض قدره فإنما هو في زاوية من الأرض وبإزائه من الجنود ما يقاومه ويظهر عليه في بعض الأحوال ، وهو أحوج الناس إلى تخذيل أهل الضلال ، وتشتيت أمرهم على كل حال ؛ فلنبدأ بذكر محمد بن عبد الله عليه‌السلام (٢) وما ذكره صاحب السؤال ذكر عنه عليه‌السلام أن المرتدين إذا غلبوا على مدينة في دار الحرب وهم مرتدون ونساءهم وأولادهم وليس معهم غيرهم ، ثم ظفر بهم الإمام ، فإن أسلموا خلّى سبيلهم ، وإن أبوا الإسلام قتل من كان مدركا ، وغنمت ذراريهم.

قال المسترشد : فجعل ذلك مشروطا بدار الحرب ، ومثل قول الإمام عليه‌السلام والمسترشد في هذه المسألة قولنا سواء سواء ، ولكن لا بد أن نعرف نحن وإياه دار الحرب.

[دار الحرب وأحكامها]

فأما [نحن فعندنا] (٣) أن دار الحرب : كل أرض ظهرت فيها خصلة أو خصال

__________________

(١) سيأتي خبر المتوكل وكربه قبر الحسين في أكثر من موضع.

(٢) الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية ، تقدمت ترجمته في (العقد الثمين) للمؤلف عليه‌السلام.

(٣) في (أ) : فأما عندنا.

٩٣

من الكفر المعلوم بالأدلة ، ولا يفتقر مظهرها إلى ذمة من المسلمين ولا جوار ، وسواء كانت أرض مكة منزل البعثة أو المدينة دار الهجرة حماهما الله من الكفر وأهله ، أو قسطنطينية ولا فرق في ذلك ، إن عندنا أن مكة حرسها الله تعالى قبل الفتح دار حرب ، وكذلك المدينة حرسها الله قبل الهجرة فتأمل ذلك تجده كما قلنا.

فإذا لا تأثير للأرض في إيجاب حكم أو نفيه ، ويبعد أن يكون من الأمة بل الأئمةعليهم‌السلام في هذا اختلاف.

ولا شك أن أهل دار الحرب إذا أسلموا خلي سبيلهم ، وإن كفروا أجريت أحكام الكفر عليهم ، وارتداد المرتدين يكون بإظهار شيء من الكفر بحيث لا تحاشي ، ولا كفر أكبر من [كفر] (١) هذه الفرق المخالفة لنا في مذاهبنا المتعلقة بأصول الدين كمن يضيف أفعال العباد إلى الله تعالى.

وبهذا دانت المجبرة والمطرفية أقماهم الله تعالى ، أو ينفي أفعال الله عن الله. وبهذا اختصت المطرفية وأضافته إلى ما سبق مما اشتركت فيه هي والمجبرة ، وما جانس هذا من التشبيه والقدر والإرجاء والإجبار ، وما جرى مجرى ذلك ، ولا نعلم تكفير الأئمة عليهم‌السلام لأهل هذه المقالات إلا من كتب أصول الدين ؛ لأن كتب الشرع إنما تتضمن الفتاوى الواقعة والمقدرة ، ولا يمكن أن ندعي أن المصنف قد أتى على جميع ذلك.

وذكر عنه عليه‌السلام أن رجلا هو وامرأته لو لحق بدار الحرب فولد له أولاد وأولاد أولاد وظفر المسلمون بهم ، فإن أسلموا قبل منهم وخلي سبيلهم وهم أحرار ، وإن أبوا قتل من كان مدركا كافرا ، والصبيان يجرون على الإسلام ،

__________________

(١) زيادة في (ب).

٩٤

ولا يترك رجل منهم ولا امرأة على الكفر. ذكر ذلك في سيره (١).

والكلام في هذه المسألة على نحو الكلام في الأولى إلا أنه عليه‌السلام نفى حكم الشرك عن رجل وامرأته ، فأجرى عليهما حكم المرتد في دار الإسلام ، وجعل الردة ملة منفردة من ملل الكفر فلها حكم يخصها ، بدليل أنه قال في الأولى : تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ؛ وحكم في الرجل وامرأته بخلاف ذلك لما نذكره فيما بعد.

وعندنا يكفر المسلم المحقق باستحالة السكنى في دار الحرب ؛ لأن المعلوم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلافه ، لأن عندنا إن حكم من اختار سكنى دار الحرب على دار الإسلام يخرجه ذلك عن الإسلام ويكفر بمجرد ذلك ولا تبقى له حرمة الإسلام ، ولو كان ملتزما لجميع خصال الإسلام إلا هذه ، لأن المعلوم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحريم مساكنة القوم إلا على من لم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلا فحكمه والحال هذه حكم المسلمين ، وعند ظهور قدرة المسلمين عليهم حرمتهم باقية متى كانت الصورة ما ذكرنا ، ونرى أنه يجري عليه حكم الكفار وعلى جميع أولاده وأولاد أولاده بلا فصل ولا فرق ، وعمدتنا قوله تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) [القمر : ٤٣] فجعل حكم كفر الكافرين واحدا ، وهو عليه‌السلام فصل حكمه عن حكم أهل دار الحرب ، وهذا بناه على أصل تنويع الكفر أنواعا فجعل الردة نوعا ، وجعل الحرب القليل في جنب الكفار التي انحاز إلى ملتهم ، وجعله لكونه مفردا لا شوكة له ، بدليل أنه في المسألة الأولى أجرى المنتقلين وهم

__________________

(١) كتاب (السير) للإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية لم نجد له نسخة خطية ، وقد جمع رضوان السيد بعض ما روي عن محمد بن عبد الله بن الحسن من السيرة في أهل البغي ، عن الإمام محمد بن منصور المرادي ، ونشره في مجلة كلية الآداب ـ جامعة صنعاء ـ العدد (١١) سنة ١٩٩٠ م.

٩٥

كثرة مجرى الحربيين في سبي الذرية ؛ ونحن نعتبر الشوكة أيضا ولكنا نجعل حكم المتنقل إلى القوم حكمهم ، سواء كان كافرا أي كفر كان فحكمه حكمهم ، وشوكته شوكتهم ، ونجعل الحكم للأعم الأكثر كما في نظائره من الأحكام الشرعية ؛ فإذا تميزت الدور وتنوعت الأحكام وتحت هذه الجملة علم وسيع لو وقع لتفصيله تمكن ، وفيه إشارة كافية ، لمن له معرفة وافية ، فكانت ردة الرجل وامرأته عنده عليه‌السلام ردة من يرتد من المسلمين سواء سواء ؛ لأن المسلمين ملة واحدة ، وهو يستضعف في جنبهم. وكذلك حاله مع الكفار الذين هرب إليهم هو مستضعف في جنبهم فبقي الحكم الأول كأنه لم يفارق المسلمين لعدم الشوكة التي تخصه ، فأما على تقدير حصول الشوكة فبعيد على التحقيق أن يكون في المسألة خلاف.

[و] (١) حكي عن السيد أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : وكلام يحيى عليه‌السلام يدل على أن المرتد إذا لحق بدار الحرب وظفر المسلمون بالدار ولم يسلم ، قتل ولم يسترق ، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، ولا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في المرتدة إذا ظفر بها بدار الحرب فعند أبي حنيفة أنها تسبى ، وعند الشافعي أنها تقتل.

قال أيده الله : وكذا يجب على أصل يحيى :

الكلام على هذا : أنه تأييد لما تقدم ، ودليل على أنهم عليهم‌السلام جعلوا الكفر مللا ، وهذا من أصولنا فجعل المرتد ملة ، والكافر والنصراني والمجوسي واليهودي ملتان ، كانت الشوكة ملة ملة فجعلوا المرتد المنفرد إذا انظم إلى غيره بحيث لا شوكة له

__________________

(١) سقط من (ب).

٩٦

فإن الحكم فيهم أن يستتابوا ، فإن تابوا وإلا قتلوا ، فإن كانوا من العرب لم يقبل منهم إلا السيف ، وإن كانوا من غير العرب فالإسلام والجزية (١) ، وكذلك الخلاف في المرتدة أنها تسبى عند أبي حنيفة ، وتقتل عند الشافعية كالخلاف في المرتد في دار الإسلام بحيث تجرى عليها الأحكام بلا امتناع ، بخلاف الحربية فإنها لا تقبل (٢) قولا واحدا. فتأمل ذلك تجده كما قلناه (٣) بحيث لا اختلاف في ذلك ، ولا خلاف في هذه إلا كما ذكرنا لك في جعل المرتد المنفرد والمستضعف ملة قائمة بنفسها. فأما حصول الشوكة في المرتد بأي وجه من وجوه الكفر فيبعد أن يكون في المسألة خلاف بين الأئمة عليهم‌السلام والأمة ، ولو لا ذلك لما أجمع الصحابة على خلافه ، ولا يعلم بينهم خلاف على ما يأتي تبيانه (٤) تنبيها على ما وضعناه في الرسالة الهادية إذ لا يمكن استيفاء ذلك هاهنا ، ولا وجه لإعادته للغنى بما قد تقرر ووقع.

قال أيّده الله : وذكر الشيخ علي خليل أن المؤيد بالله عليه‌السلام قال في الزيادات : الأقرب عندي أن كل موضع تظهر فيه الشهادتان ، وتقام فيه الصلاة فلا يجوز أن يكون ذلك الموضع دار كفر ؛ كما ذهبت إليه الحنفية لأنهم قالوا : لو أن أهل دار الحرب دخلوا دار الإسلام وتحصنوا في حصن ، فالمعلوم أن ذلك لا يصير من دار الحرب فيجب أن يكون الموضع متاخما لدار الكفر متصلا بها كما ذهبت إليه المعتزلة ، والمتاخم هو أن يكون انتهاء حده إلى دار الحرب.

والكلام في هذا : إنه يبعد أن يكون الموضع الذي يظهر فيه الإسلام والشهادتان

__________________

(١) في (ب) : أو الجزية.

(٢) في (أ) : لا تقتل.

(٣) في (ب) : قلنا.

(٤) في (ب) : بيانه.

٩٧

والصلاة دار كفر ، ولا شك في ذلك ؛ لأن الكلام لا يفيد ما لم يقل الأقرب عندي أن يكون كل موضع يظهر فيه تشبيه لله جل وعلا بخلقه ، أو تجويره في حكمه ، أو إضافة القبائح إليه ، أو الإلحاد في أسمائه ، أو نفي شيء من أفعاله عنه ، أو إضافة أفعال خلقه إليه ، أو تكذيبه في خبره ، أو تجويز إخلاف وعده ووعيده ، أو إنكار شيء مما علم ضرورة من دين نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجوز أن تسمى دار كفر.

فأما إذا ذكر صفات الإسلام وشرائعه وقال : لا تكون دارهم دار كفر ، فذلك الواجب ، وأما تمثيله بما ذهب إليه الحنفية فتمثيل صحيح على أصولنا وأصولهم ؛ لأن أهل دار الحرب إذا دخلوا دار الإسلام وتحصنوا في حصن (١) ، فالمعلوم أن ذلك لا يصير من دار الحرب. قال : فيجب أن يكون الموضع متاخما لدار الكفر ومتصلا بها كما ذهبت إليه المعتزلة ؛ والمتاخم هو أن يكون انتهاء حده إلى دار الحرب.

الكلام في ذلك : إنهم إذا دخلوا دار الإسلام ، وتحصنوا في حصن (٢) فيها فالحكم للإسلام ؛ لأن الشوكة والسطوة لهم ، والكفر محصور مقهور ، وإنما امتنعوا بمنعة الحصن لا بشوكتهم ولا حديتهم (٣) ، فلا شوكة لهم والحال هذه ، وما لم يكن لهم شوكة فالحكم للإسلام على كل حال ، ومتى كان متصلا بدار الكفر والكفر عضده ومدده (٤) فله الشوكة به ؛ فيكون والحال هذه دار الكفر ، فالمثال لا تنبني عليه المسألة لمتأمله بعين البصيرة.

فأما قوله : فاقتضى ذلك أنهم وإن كانوا قائلين بالتشبيه ومستوجبين للكفر بهذا

__________________

(١) في (ب) : حصين.

(٢) في (ب) : حصين.

(٣) في (ب) : ولا حدبهم.

(٤) في (ب) : وممده.

٩٨

القول ، فإن الدار لا تكون دارا للكفر إلا لملاصقة دار الكفر الأصلي.

وهذا الكلام إن كان للمؤيد عليه‌السلام فالذي يتحقق منه أنه جعل ظهور جملة الإسلام مانعا من إتيان حكم ما تخللها من نقض ذلك باعتقاد شيء من الكفر ؛ لأن الحكم للأغلب.

وقول القائل : لا إله إلا الله قولا ظاهرا ، هو يتضمن نفي التشبيه ؛ فمتى قال بالتشبيه زال حكم الظاهر على الاعتقاد النادر ، فمتى اتصلت دارهم بدار الكفر كان حكمهم حكم الكفار ، ودارهم حكمها حكم دار الحرب ، فوقع الاتفاق في هذه الصورة ؛ لأن الحكم الظاهر للأعم ، فلو كان لهم حكم الإسلام لم يختلف لمصاقبة [دار] (١) الكفر ولا مباينتها ؛ لأن أهل الثغور من المسلمين متاخمين لأهل الكفر ، وحكمهم للإسلام ، وكذلك حكم دارهم بلا خلاف بين أهل الإسلام ، ولو لا ذلك لكانت دار الكفر دار الإسلام (٢) ، ودار الإسلام دار كفر ؛ فلما كفروا وكانت لهم شوكة بمصاقبة الكفار ، وحكم دارهم حكم دار الحرب. فتأمل هذه النكتة تجد العلة ما ذهبنا إليه من أن الكفر والشوكة توجب أن تكون دارهم دار حرب ، أي دار كانت ، في أي جهة كانت.

فأما قوله : فاقتضى ذلك وإن كانوا قائلين بالتشبيه ، ومستوجبين للكفر لهذا القول ، فإن الدار لا تكون دار كفر (٣) إلا على صفة دار الكفر الأصلي.

الكلام في ذلك : إن القول ما قلنا لمن تأمل التعليل ، لأن قوله : إن الدار لا تكون

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) في (ب) : دار إسلام.

(٣) في (أ) : الكفر.

٩٩

دار الكفر إلا على صفة دار الكفر الأصلي مستقيم على تعليلنا وهو : إن دار الكفر الأصلي تظهر فيها كلمة الكفر ولأهلها شوكة تمنعهم ممن أراد إجراء أحكام الكافرين عليهم ، فذلك تكون دارهم دار حرب ، وهذا قولنا بغير زيادة ولا نقصان ، وكل دار لا تكون صفتها صفة دار الكفر الأصلي ، فإنها لا تكون دار حرب ؛ لأن صفة دار الكفر الأصلي هي التي تظهر فيها كلمة الكفر بحيث لا يخشى قائلها من المسلمين تبعة ولا يفتقر إلى تستر بنفاق ، وتكون له شوكة يمنع نفسه بها ، ومن كان على غير هذه الصفة فلا يكون حكم داره حكم دار الحرب فهذا نفاق (١).

فأما قوله : فكيف يكون دار من أقر بالجملة دار حرب ، وداره مباينة لدار الكفر الأصلي مع إظهار الشهادتين ، والاعتراف بأن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الحق وما سواه الباطل.

الكلام في ذلك : إن المقر بجملة الإسلام ، والمعترف بأن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الحق وما سواه الباطل هذا مسلم على الحقيقة ، فكيف تكون داره دار حرب ، وهذا مستقيم لأن دار الكفر الأصلي هي التي يظهر فيها الكفر بغير ذمة ولا جوار ، وهذا حكم دور المجبرة ، والمطرفية ، والمشبهة ، والباطنية ، والمرجئة ، والنابتة (٢) ، ومن جانسها من أهل مقالات الكفر الذين ادعوا بقاءهم على الإسلام ؛ فإنهم لا يحاشون في إظهار كفرهم أحدا ، بل لا يظهر عندهم دين الإسلام على الحقيقة إلا بذمة وجوار ، وكفرهم ظاهر بحيث لا محاشاة. فهل بقي بينها وبين دار الكفر الأصلي فرق؟! تأمل ذلك موفقا. ولا يقدر المسلمون ينطقون عندهم بحدوث القرآن ،

__________________

(١) في (ب) : فهذا اتفاق.

(٢) تقدم ذكر الفرق في (العقد الثمين) للمؤلف.

١٠٠