مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

الجواب : الإرادة عندنا جنس الفعل وليست بمراد فلا يحتاج إلى إرادة أخرى ؛ لأن الإرادة إنما يحتاج إليها في وقوع الفعل على وجه دون وجه ، كالخبر مثلا عن زيد بن عبد الله وزيد بن خالد فإنه لا يقع على أحد الوجهين إلا بإرادة كذلك ؛ لأنها حاصلة على سبيل التبع للمراد ، بمعنى أن ما دعا إلى المراد يدعو إلى الإرادة (١) به ، فلو لزم ذلك في الباري سبحانه للزم في الواحد منا ؛ لأن ثبوت الإرادة له سبحانه ولنا على سواء ، ومعلوم أن الواحد منا لا بد أن يكون مريدا بإرادة من فعله لو لا ذلك لما تميز أمره من تهديده ولا أقسام كلامها بعضها من بعض ، وإنما قلنا : يجب أن تكون من فعله لاستحالة أن يكون مريدا بإرادة من فعل غيره ؛ لأن [الغير] (٢) إما قادر لذاته فهو الله تعالى ، ولا يجوز أن يكون الواحد منّا مريدا بإرادة من فعل الله سبحانه ، لأن الواحد منّا يريد القبيح كما يريد الحسن ، فلا يجوز أن يفعل إرادة القبيح ، لأنها تكون قبيحة والله سبحانه لا يفعل القبيح وذلك لا يجوز ، وإرادة الحسن واقفة على داعيه وما يكون [موجودا] (٣) من جهة غير الفاعل ، فلا يقف على دواعيه ، وهذا الدليل يبطل القول بأن الواحد منّا مريد بإرادة من جهة غيره سواء كان المراد حسنا أو قبيحا ، وسواء كان الفاعل لها فيه القديم سبحانه أو غيره ، وإذا كان المغير قادر بقدرة ولا يوجد في غيره إلا بالاعتماد ، والاعتماد لا تأثير له في حصول الإرادة ، لأن الواحد منّا لو اعتمد على صدر غيره لما حصل ذلك له إرادة ، فنفى أن الواحد منّا مريد بإرادة من فعله ، ولا يلزم أن يوجد ما لا نهاية له من الإرادات ، فكذلك الباري تعالى ، لأنهما صفتان مستحقتان لمعنى محدث ، فما لزم في إحداهما لزم في الأخرى ، وما انفصل عن إحداهما انفصل عن الأخرى ،

__________________

(١) في (ب) : يدعو إلى إرادته.

(٢) سقط من (أ).

(٣) في (ب) : موجدا.

٢٨١

وقد ثبت انفصال الإلزام في الواحد منّا ، ولهذا فإنه إذا أكل فلا بد من أن يريد الأكل ، ولا يلزم أن يريد إرادة الأكل لما لم تكن مقصودة بنفسها ، بل إنما يقع على طريق التبع للمراد وكذلك (١) في الباري تعالى.

المسألة الثلاثون [استطراد على المسألة التي قبلها]

قال تولى الله هدايته : ثم نردّ السؤال إلى القديم ، وهو هل إرادته تعالى على حكم قدمها مع توجهها إلى إظهار المرادات يتخصص بتخصص أعيان المرادات لمتميز بالإيجاد ، لكون التخصيصات وأعيان الموجودات إنما ينفصل أعيانها مخصصة بأحكام ما هي عليه من ذات ولوازم بأن الله سبحانه هو مفصّلها متميزة بإرادته ، والإرادة متوجهة لإيجاد الأعيان على تفاصيلها عموما ، لتوجهها لأحد المتنافيين توجها عاما لا يخصص إيجاد أحدهما دون الآخر؟

الجواب : قد دخل الجواب على الذي فرعه على كون الإرادة قديمة تحت كلامنا في أنها لا يجوز أن تكون قديمة فلا وجه لإعادته ، ولو كانت قديمة ، فما أنكر من قول من يذهب فيها مذهبنا في العلم وتعلقه ، وتخصيصه فلا يلزم ما ذكره من التخصيص لمثل ما ذكرنا في جوابنا عما لزم من تخصيص العلم بتخصيص المعلوم.

المسألة الحادية والثلاثون [في القدم والإرادة أيضا]

قال تولى الله هدايته : هل إذا وجب العموم [وهو] (٢) أن يكون توجهها عاما لا

__________________

(١) في (ب) : فكذلك.

(٢) سقط من (أ).

٢٨٢

يتميز بالتخصيص لإيقاع التخصيصات يتعلق قصدها بإيجاد الضدين معا في حيّز واحد من الجسم ، فكيف يصح ذلك مع تابعهما ولم يتخصص بوجه الإرادة إلى إيجاد أحدهما مميزا بعينه دون الآخر؟

الجواب : جميع ما ذكر من توابع القدم في هذه المسألة وفي ما قبلها وبعدها يترتب على كون الإرادة قديمة ، وقد قدّمنا بطلان كونها قديمة ، وبيّنا حدثها وكيفية حدثها فيما تقدم بيانا شافيا ، فإذا بطل قدمها بطل ما فرعه عليه تبعا له ، لكون ذلك أصلا في ثبوته ، فإذا تكلمنا في شيء من ذلك فعلى جهة الإيضاح والكشف ، فلمن ذهب إلى قدمها أن يقول : إن العموم لا يلزم في الإرادة ؛ لأنها لا تعلق (١) إلا بما يعلم المريد أو يعتقد أو يظن صحة حدوثه دون ما يعلم استحالة حدوثه ، والقديم سبحانه عالم بأن وجود الضدين معا في حيز واحد مستحيل ، فكيف يلزم ما ذكره من إرادته أو وجود الضدين (٢) كالبياض والسواد مثلا في محل واحد ، مع أن علمه باستحالة ذلك يمنع من صحة كونه مريدا له ، وهذا وإن كنا لا نرتضيه ، إلا أنا أوردناه في معرض الامتحان.

المسألة الثانية والثلاثون [في قدم الإرادة وانتقال مقاصدها]

قال تولى الله هدايته : وهل إذا توجهت الإرادة مع صفة قدمها إلى إيقاع مراد وحصل وجوده تمسك عند إكماله على حسب ما أراده الإله تعالى ، ويتوجه إلى سواه ، فيحصل انتقال المقصودات ، وكيف يصح القصد بالمدد ثم التنقل أو الإمساك والانتقال مع كونها موصوفة حقيقة القديم (٣) وكلها تجدد حالات؟

__________________

(١) في (ب) : تتعلق.

(٢) في (ب) : لوجود الضدين.

(٣) في (ب) : القدم.

٢٨٣

فصل

اعلم أن أكثر هذا الكلام مسترسل في مأزق تدحض فيه الأقدام ، وتختلس الأرواح ، وتهتصر الأجسام ، وذلك غير جيد سيما لمن نصب نفسه للاعتراض ، ومراشقة الأعراض ، انظر إلى ذكر التوجه والإمساك ، والإيقاع ، وإضافة ذلك كله إلى الإرادة ، أثبت ذلك أم لا؟ وله أخوات هذه [الكلمات من] (١) المسألة وغيرها ، سلك فيها مسلك التجوّز في موضع يحتاج فيه إلى تحقيق الحقائق ، وتدقيق الدقائق ، لو ولي جوابه من هو أقل احتمالا منّا من فرسان الكلام لشدد عليه مجارح الإلزام ، لكنّا قد ألزمنا نفوسنا تخريج كلامه ، ووعدنا وعدا لا بد من تمامه.

الجواب : قد بينا حقيقة ما نذهب إليه من الإرادة ، وما ذكره غير لازم لنا ، على ما نذهب إليه ، وما ذكر إن لزم فإنما يلزم المجبرة والقائلين بعدم الإرادة ، ويمنعنا من الإجابة عنهم وإيراد تشككاتهم (٢) ، وما يمكن أن يتعلقوا به قول الله تعالى : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) [النساء : ١٠٥].

المسألة الثالثة والثلاثون [في القصد والإرادة]

قال تولى الله هدايته : هل إن وجب تخصيصها بالامتياز لتميز القصد من سواه عند إيجاد المرادات المتنافية والمتفاضل (٣) ، في آن واحد يكون إرادات كل مراد بتخصيص إيجاد إرادة قاصده لإيجاده دون ضده ، والمنافي له في الذات ، والحكم على حقيقته ما يتخصص به من الأحكام والتفاصيل الحادثة الاقتران بالإرادة ، أو تكون

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) في (ب) : تشكيكاتهم.

(٣) كذا في (أ) ، وفي (ب) : والتفاصيل.

٢٨٤

التفاصيل غير حادثة عن الإرادة فتكون إرادات شتى قديمة مماثلة ، والقديم لا نظير له ولا مثل ، وهل يصح أن يكون تعالى مريدا بتلك الإرادة القديمة التي هي واحدة في وقت ، وذلك عند ما نقصد الإيجاد ، وفي آخر تلك الإرادة التي أراد بها الإيجاد هي بعينها التي بها أثر الإمساك عن العقل ، أو الإعدام ، أو العدم (١) ، وهو ما تقديره زمانا لم يصح فيه إيجاد ، وهو الحكم الذي يوصف به تعالى أنه (٢) لم يرد ثم أراد ، فتكون الإرادة المتوجهة إلى الإمساك هي بعينها الإرادة المتوجهة إلى الفعل معا ، فيكون ما قدمناه في السؤالات من كونه مريدا للضدين معا ، وكذلك المتنافيين ، وبتوجه القصد الإيجاد عند ما يريد للإيجاد تخصصا ، ثم تتوجه وهي واحدة إلى الإمساك تخصصا عند ما يريد الإمساك ، فيتنافى القصد ، وفي منافاة الأحكام والمقاصد جواز الاعتبار ، والتنقل من قصد إلى قصد ليقع التخصيص ، والاعتبار يبطل القدم؟

الجواب : الذي ذكره يلزم المجبرة القائلين بعدم الإرادة ، ويلزم أيضا مماثلتها للقديم سبحانه كما قدمنا ، ويلزمهم وجود الإرادة لشيء مع كونه كارها لمرادها الذي هو ذلك الشيء كما نعلمه في الشرائع المنسوخة ، وليس إلى المناضلة عنهم والمحاجة عليهم داع ، وهل يكون لناصر الباطل أجر ، كلّا ، بل يجوز حوبا ووزرا ، ولعمري إن ذلك لنا صارف قوي عن القيام في وجه سؤاله ، والتحشير لجداله ونضاله.

المسألة الرابعة والثلاثون [هل يصح أن يكون الله تعالى لا مريدا فيما تقديره تقدير الزمان؟]

قال تولى الله هدايته : وهل يصح أن يكون لا مريدا فيما تقديره تقدير الزمان ،

__________________

(١) في (ب) : أو للإعدام أو المعدم.

(٢) في (ب) : به أنه تعالى لم يرد.

٢٨٥

أو حين ما هو الوقت الذي لم يرد فيه اتباع الفعل لإيجاد مراد إلى أن أراد فحصل المراد موجودا كما [مثلنا] (١) شاء وأراد ، فيلزم المدد والفتور مع صفة القديم (٢) ، أو توجه الإرادة مدد فيما لم يزل مع ارتفاع الشرط والموانع ، فيقتضي ذلك حصول المراد معا والإمداد والإمساك يحيلان صفة القدم كما تقدم في السؤالات ، أو يقوم دليل قاطع لعلائق التشكيلات على بيان الحكم في ذلك؟

الجواب : وهذه المسألة الجواب عنها لازم للمجبرة القائلين بقدم الإرادة ومن رأى رأيهم ، ونحن من ذلك بمعزل ، وقد أوضحنا قولنا في هذه المسألة إيضاحا يكشف عن صحة اعتقادنا بما قدمنا من الأدلة الواضحة ، والبراهين الراجحة ، والأمثال اللائحة ، ونصبناها في ميدان الامتحان ، وجعلناها دربة (٣) للطعان ، بحيث لا تزحزح أركانها ، ولا يتقوض بنيانها ، بمن الله وعونه وهدايته ويمنه.

المسألة الخامسة والثلاثون [هل كان الله رازقا منعما فيما لم يزل؟]

قال تولى الله هدايته : استحقاق [صفة] (٤) كونه جوادا فيما لم يزل يبيح أنه تعالى واهب رازق منعم ، فهل كان رازقا منعما فيما لم يزل ، فيقتضي ذلك تضايف المنعم عليه المرزوق منه لاستحالة الرجوع بهذه الصفة على ذاته ، بأن يكون منعما رازقا أو منعما عليه مرزوقا ؛ لأن المنعم عليه المرزوق غير غني عن المنعم الرازق ، فيكون مهما جاز ذلك غنيا بكونه رازقا منعما ولا غنيا بكونه منعما عليه مرزوقا ،

__________________

(١) زيادة في (أ).

(٢) في (ب) : القدم.

(٣) كذا في النسخ ، ولعلها درقة.

(٤) سقط من (أ).

٢٨٦

فيحصل تمانع الصفتين بالإثبات والنفي معا ، أو فلا يكون رازقا [ولا] (١) منعما فيما لم يزل إن كان لا وجود لمغير (٢) معه فيما لم يزل ، ولا يجوز ذلك في حق ذاته ، فما الوجه في كونه منعما رازقا فيما لم يزل تبع هي التضايف. والإلزام كون المنعم عليه المرزوق موجودا كما تقدم السؤال في الفصل المقدر زمانا؟

الجواب : هذه الصفة التي هي كونه جوادا ثابتة له عزوجل أزلا وأبدا ، على معنى أنه لا منعم على الحقيقة فيما لم (٣) يزال سواه ؛ لأن أصول النعم وفروعها من عنده سبحانه ، وليس كونه جوادا يقتضي كونه رازقا معطيا في وقت يستحيل فيه وجود الرزق والمرزوق ، ومعلوم أن وجودهما في الأزل محال ؛ لأن أحدهما لا يكون نعمة والآخر منعما عليه ، والمنعم عليه الباري سبحانه أولى من أن يكون [هو] (٤) منعما على الباري ، بل لا تنفصل النعمة من المنعم ولا من المنعم عليه لاشتراكهما في القدم الذي هو مقتضى صفة الذات الذي الشركة فيه توجب الشركة في سائر المقتضيات ، فتجب المماثلة ، وذلك يرفع التمييز والفصل ، وكل ذلك باطل ، والجواد هو الذي إذا سئل ما يحسن إيصاله إلى السائل أعطاه ، ويسد الخلة وإن لم يسأل ، ويغفر الزلة لمن زل ، ويضاعف الجزاء على قليل العمل ، ويعين الضعيف ، ويجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء.

وهذه حاله [عزّ و] (٥) تقدس عند إمكان ذلك ، فتعالى من عزيز ما أعطفه ، وجليل ما ألطفه ، وجبار ما أرأفه ، فإن أراد أن الباري تعالى رازق في الأزل على

__________________

(١) زيادة في (ب).

(٢) في (ب) : لغيره.

(٣) في (ب) : فيما لا يزال.

(٤) زيادة في (ب).

(٥) سقط من (أ).

٢٨٧

[معنى] (١) أن ثمّ مرزوقا [ورزقا] (٢) ، فذلك ما لا يذهب إليه قائل بالعدل والتوحيد ، عارف بالواحد المجيد.

وقوله : بأنه سبحانه جواد إذا راجع إلى التحقيق ، صفة من صفات الفعل وقد تستعمل ويراد بها الاستقبال ، كما يقال : السلطان غالب لبني فلان وقاتل لهم ، إذا كان ذلك معلوما من حاله وحالهم ، وإن لم يكن الغلب والقتل واقعين في الحال بل هما منتظران في المآل ، ويقال : فلان سخي جواد ، إذا كان المعلوم من حاله أنه عند إمكان ذلك يعطي السائل [ويشبع] (٣) النائل وإن لم [يكن] (٤) في الحال فاعلا ، فوصفنا للباري تعالى بأنه جواد قبل وجود الموجود عليه والمرزوق والرزق نريد به هذا المعنى ، وقد علمنا أن العقلاء يصفون الواحد منا بالكرم والجود وإن لم [يكن] (٥) يعطي السائل [والنائل] (٦) ، إذا كان ذلك لمانع (٧) من عدم المسئول ، ونحوه إذا كانوا يعلمون أنه إذا وجد وأمكن ذلك المسئول جاد وأعطى ، وإنما وصفوه بذلك لعلمهم بما قدمنا ، بدليل أنهم لو لم يعلموا ذلك لما وصفوه بالكرم والجود ، بل يصفونه بالبخل ؛ إذ البخيل عندهم من إذا سئل ما يمكنه مما يحسن أعطاه لم يعطه ، والكريم عندهم من ذكرنا ، فوصفنا للباري سبحانه بذلك أولى وأحرى لعلمنا أنه يعطي عند حسن الإعطاء بلا منّ ، ولا حساب ، ولا مكيال ، ولا ميزان ، لا يضن على المحتاجين ، ولا يخيب رجاء الراجين ، فعلى هذا المعنى نصف الله تعالى بأنه جواد

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) سقط من (أ).

(٣) سقط من (أ).

(٤) سقط من (أ).

(٥) سقط من (ب).

(٦) سقط من (ب).

(٧) في (ب) : لمانع.

٢٨٨

في جميع الحالات وصفا لا ينتهي فيه إلى حاجز ولا رادع ، بل نطلق القول بذلك إطلاقا ، وقد يقال : فلان جواد ، ومنعم ، ورازق ، إذا كان رازقا في الحال منعما جائدا ، فإن وصف الباري بالمعنى الأول صاغ ذلك لما قدمنا على ما قدمنا ، وإن وصف بالمعنى الثاني لم يجز إجراء ذلك عليه في الأزل لاستحالة وجود الرزق والمرزوق في الأزل ؛ لأن وجود ذلك في الأزل يخرج الرزق عن كونه رزقا ، والمرزوق عن كونه مرزوقا ، والرازق عن كونه رازقا في الحال ، ويوجب الجميع للإلهية ، ويذهب عن الباري تعالى الوحدانية ، والأدلة العقلية والسمعية باطلة ببطلان ذلك ، وبطلان ما أدى إليه.

هذا القدر من الكلام في هذه المسألة كاف لمن أنصف نفسه ، وملك عقله ، ونبذ رأي الهوى وراء ظهره ، وجعل طلب السلامة نصب عينيه ، وقد تقدم الجواب عمّا لزم في الفصل المقدر زمانا في موضعه فلا معنى لإعادته.

المسألة السادسة والثلاثون [هل يصح أن يقال أن يستحق الله صفة لم تكن أزلية؟]

قال تولى الله هدايته : وهل يجوز فيما لم يزل قبل إيجاد المحدث بالفضل الذي تقديره زمانا إن وجب ذلك الفضل كان لا منعما ولا رازقا ولا خالقا فيقع الإمساك عن الفعل فيما لم يزل إلى أن أنعم وخلق ورزق ، فيحدث استحقاق الصفة بحدوث الفعل باستحداث المنعم عليه المرزوق وحدوث الصفة أو ينفي عن القديم القدم أفتنا يرحمك الله؟

الجواب : قد بيّنا في المسألة التي قبل هذه كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفة ، وأنها تطلق على معنيين : أحدهما : يجوز إطلاقه عليه سبحانه أزلا وأبدا ،

٢٨٩

والثاني : لا يجوز إطلاقه ، وما ذكره في هذه المسألة قد أتينا على جميعه في المسألة التي قبلها ، لكنه لما دعا مثنى كررنا التلبية ، وقد بيّنا الكلام في الفصل في موضعه.

وقوله : هل يجوز أن يكون فيما لم يزل قبل إيجاد المحدث إلى آخر قوله؟ قول لا يستقيم ؛ لأنه قال قبل إيجاد المحدث : هل كان غير منعم ؛ ومعلوم أن النعمة تستدعي منعما عليه ؛ لأن حد النعمة هي المنفعة الحسنة التي يقصد بها موصلها وجه الإحسان إلى من وصلت إليه ، فلا بد من موصل وموصل إليه ، ولا يكون المنعم عليه إلا محدثا لقيام الدلالة على غنى القديم تعالى ، ووجود المحدث في الأزل يستحيل لما في ذلك من التنافي وخروج الموصوف عن صفة ذاته ، فقد ثبت أنه لا منعم عليه في الأزل ؛ إذ لا يستحيل ، إذ لا موجود في الأزل سواه تعالى ، ولو كان معه موجود لاستغنى كما وجب ذلك للباري سبحانه.

فعلى هذا يجب أن يكون تعالى قبل إيجاد الموجودات غير منعم ولا رازق ولا موجود بالمعنى الثاني من المعنيين الأولين من المسألة الأولى ، إلى أن أوجد وأنعم ورزق ؛ لاستحالة وجود النعمة والمنعم عليه في الأزل ، فلا معنى لقوله : هل يجوز إلى آخر كلامه ، ولكن لا ينبغي أن تطلق هذه الألفاظ على الله تعالى لإيهامها تعريه عن صفات الكمال التي هي القدرة والجود والغنى ، فإن حصلت قرينة جاز إجراء ذلك عليه سبحانه ؛ لأن القرينة ترفع الإشكال وتكشف الإيهام ، وما قاله من أن حدوث النعمة والمنعم عليه توجب حدوث الصفة ويبقى قدمها قول غير محصل ؛ لأن الصفة ليست بذات مميزة فتوصف بحدوث أو قدم ، وإنما هي مزية بعلم الذات عليها ؛ لأنها لو كانت ذاتا مميزة لم يخل إما أن تكون موجودة أو معدومة ؛ والموجودة إما محدثة أو قديمة ؛ والمحدثة إما متحيزة أو غير متحيزة ، ولا يجوز أن تكون الصفة واحدة مما ذكرنا من الأقسام لاستحالة أن تكون ذاتا ؛ لأن القول بأنها ذات يؤدي إلى

٢٩٠

جهالات ، منها إيصال ذلك بما لا يتناهى ، وموضع تقرير هذا وتحقيقه أصول الدين ، فإن كان قد أخذ بحظه من ذلك وإلا فهو في أوانه قبل إحياء (١) السؤال في موقف الحساب ، فلا معنى لقوله بحدوث الصفة أو قدمها ، وقد بينا في المسألة الأولى أن إطلاق هذه الصفة ـ أعني صفة المنعم والجواد ـ قد يفيد من يقدر على ذلك أو يعلم من حاله أنه يفعل وإن لم يكن في الحال فاعلا.

فعلى هذا يجوز إطلاق ذلك على الباري سبحانه أزلا وأبدا ، وليس لقائل أن يقول : إن ذلك يوهم أن معه سبحانه في الأزل موجودا ؛ لأن من عرف الباري عزوجل وقدرته وعلمه وكمال توحيده ارتفع عنه هذا الإيهام ، ومن لم يعرفه لم يناظر في هذه المسألة.

ونقلنا الكلام معه إلى إثبات ذاته تعالى أولا ، وما يجب لها من الصفات ثانيا ، لأن الكلام فيما يجب في الذات فرع على العلم بها ، وعلى أنّا قد بيّنا أن إطلاق ذلك لا يحتمل ما ذكره إلا باللفظ (٢) المحتمل ، إذا أطلقه العاقل لم يسبق إلى أفهام العقلاء المستحيل منه ، بل يحملونه على الممكن ، وقد يقال فيه تعالى : إنه رازق وجواد ومنعم ؛ ويراد بذلك وجود الرزق والجود والنعمة من جهته وهذا غير ثابت له سبحانه في الأزل ، وهو وصف إضافي يستدعي وجود المرزوق والمجود عليه والمنعم عليه ، ووجودها في الأزل مستحيل كما قدمنا ، وليس بمقيد لصفة وحاله يرجع إلى ذاته تعالى ، فهذه فتواك عما سألت أرشدك الله.

المسألة السابعة والثلاثون [كيف يوصف الله تعالى قبل الخلق بأنه رازق ونحو ذلك؟]

قال تولى الله هدايته : هل أن شرط كونه منعما رازقا فيما لم يزل ولا منعما

__________________

(١) كذا في (ب) وفي (أ) احفيا بدون نقاط.

(٢) في (ب) : لأن اللفظ.

٢٩١

بالإمساك ، وعدم القائل رجوع في ذلك إلى رأي من يرى أنها صفات للنفس ، وأن ما كان للنفس فهو دائم موجود بوجود من هو له صفة ، مع اعتقادهم رفع المجود عليه ، وعند سواهم من الصفات ما يقتضي تضايفا توجب الوجود ومعتلون عليهم بقولهم فعلى من كان منعما ، وكذلك من المخلوق المنعم عليه وهي صفة تقتضي ذاتين في الوجود أحدهما خالق رازق ، والآخر مخلوق مرزوق منعم عليه ، ووجوب دوام الصفة واستحقاقها للنفس ، وإبطال وجود المخلوق القائل يلزم أن يكون صدور الجود من الجواد إذا لم يصح مجود [عليه] (١) غنيا ، افتنا يرحمك الله بالأدلة القاطعة على تصحيح أحد هذين المذهبين لما بينهما بالإثبات

والنفي وهو أن أحدهما ينفي وجود المخلوق المرزوق فيما لم يزل ، والآخر يثبته مع إجماعهما على وجوب الصفة للذات ، وفي ذلك غموض مفرط وتشكيكات يتسلمها المقصر تخرجه إلى الإلحاد.

[الجواب] (٢) قد بيّنا كيفية وصفه سبحانه بهذه الصفة وأنها تفيد عند الإطلاق معنيين ، وبيّنا كيفية معنى الوصف على كل واحد من المعنيين ، وبيّنا أن وصفه بهما على المعنى الصحيح لا يتنافى عند أهل العلم ؛ لأنه إذا قيل : من رازق الأجناد؟ قيل : السلطان ، وإن لم يكن رازقا لهم في الحال ، فكذلك يوصف تعالى بأنه رازق ومنعم وإن لم يكن رازقا في الحال ومنعما عليه ، لكنه لما كان المعلوم من حاله أنه المتولي لذلك جاز وصفه بذلك بل وجب ؛ لأن إطلاق خلافه عليه يوهم الخطأ كما قدمنا.

وقوله : بأنها صفة من صفات الذات غير مسلم ، لأن المرجع بذلك إلى خلق

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) سقط من (أ).

٢٩٢

النعمة والمنعم عليه فكيف يقال هي ذاتية ، وليس فعل الباري تعالى سبحانه صادرا على وجه الوجوب لأن ذلك يخرجه تعالى عن كونه فاعلا ؛ لأن من حق الفاعل أن يمكنه قبل فعله أن يفعل وأن لا يفعل ، وبذلك ينفصل عن العلة الموجبة ، وإنما يزعم ذلك قوم من الفلاسفة وليس لهم على ذلك برهان ، وقد قطعت حبائلهم أدلة أهل العدل ، وإيضاح ذلك يخرجنا عن الغرض وهو مقرر في مواضعه من أصول الدين ، فكيف يجوز أن تكون ذاتية لأن الذاتية لا تقف على اختيار الفاعل ولا تحصل به ، وفعله الذي [هو] (١) النعمة والمنعم عليه واقف على اختياره موجود بحسب قصده وداعيه ، وقد بيّنا بطلان لزوم الوجود في التضايف في المسائل الأولى التي فيها ذكر التضايف بيانا شافيا ، وبيّنا فساد لفظه في قوله : يوجب وجود الصفة مما ذكرنا من أنها ليست بذات فتوصف بالوجود.

وقوله : إذا قلنا : جواد فعلى من كان جائدا؟ قد أجبنا عنه حيث بيّنا أنه يوصف بأنه جواد وإن لم يكن في الحال فاعلا إذا كان المعلوم من حاله ذلك فلا معنى لنفي الوصف له سبحانه بأحد المعنيين لأجل عدم القائل.

وقوله : بأن الصفة للنفس باطل بما به أبطلنا أن تكون ذاتية ؛ لأنه لا فرق بين أن نقول للنفس أو للذات ، ووصفنا للباري سبحانه بأنه جواد أولا ، لا يقتضي وجود الموجود عليه والموجود به في الأزل ، لأنهما لو وجدا في الأزل لكان ذلك يخرجه عن كونه جوادا لاستغنائهما عنه واستحالة العقول (٢) ووجوب التساوي للشركة في القدم ، فكيف نقول قولنا جواد يقتضي ذلك أعني وجود المرزوق والرزق في الأزل ، وقد خلصنا من غموض هذه التشكيكات وكشف لنا الغطاء عن وجوه المشكلات

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) في (أ) : القبول.

٢٩٣

ما أمرنا الله به من التوفيق ، وهدانا إليه من التحقيق ، من الارتباك في حبائل الإلحاد والملحدين ، وصيرنا في صف الموحدين ، فله الحمد على ذلك كثيرا.

فهذه فتواك عما سألت أرشدك الله تعالى.

المسألة الثامنة والثلاثون [هل كلام الله صفة ذات]

قال تولى الله هدايته : وجوب هذه الصفات الأربعة تثبت أن الموصوف بها موجود ومع وجوده فإنه متكلم بالإجماع من أهل القبلة ومن وافقهم على ذلك من أهل الكتب المنزّلة ، وكونه متكلما صفة النفس ؛ وكل متكلم فلا بد له من كلام يصح عليه ، سيما إجماع أهل القبلة على أن القرآن كلام الله تعالى ، فهل المعنى فقط كلامه بمجرده فيكون قائما بذاته فيما لم يزل إذ المعنى يقوم بنفسه فكل معنى قائم بذات فله بها اختصاص ، والاختصاص يمنع من قيامه لعينه سواها ؛ إذ لو قام بذاتين لوقع الاشتراك ، والاشتراك يبطل حكم التخصيص ، وإذا كان هكذا فكيف يصح أن كلامه الذي هو ذلك المعنى لعينه هو قائم بقلوبنا وله اختصاص قيامه بذاته ، ولو وجب الاشتراك لكان كلامه وكلام من هو قائم بقلبه لعينه ، فلا بد أن يكون كلام الله لعينه مخصصا؟

الجواب عن ذلك ، بالأدلة الحاسمة المانعة يرحمك الله : قد بينا كيفية استحقاقه سبحانه بما قدّمنا من الصفات الثابتة له على الوجوه التي تثبت له ، وعندنا أنه تعالى متكلم وليست صفة نفس كما ذكر أرشده الله تعالى ؛ لأن معنى المتكلم هو الفاعل بعلمه من الأصوات المقطعة والحروف المنظومة المرتبة ، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أنّا متى علمناه فاعلا لما ذكرنا علمناه متكلما وإن جهلنا ما

٢٩٤

جهلنا ، ومتى لم نعلمه فاعلا لما ذكرنا من الأصوات والحروف لم نعلمه متكلما وإن علمنا ما علمنا ، فثبت من كونه متكلما ليس إلا أنه فاعل لما ذكرنا ، وإذا كان ذلك كذلك لم تكن هذه الصفة من صفات النفس ؛ لأن صفة النفس لا تفتقر إلى مؤثر من علة وفاعل ، وما قدّمنا من تحقيق الكلام يفتقر إلى الفاعل ، فثبت أنها أعني الصفة من صفات الفعل ، وإذا كانت من صفات الفعل ومعلوم وجوب تقدم الفاعل على فعله لو لا ذلك لخرج عن كونه فعلا ، وإذا كان سبحانه متقدما على الكلام بطل ثبوته أزلا ؛ لأن ما ثبت أزلا استحال تقدم غيره عليه ، فقول من يقول بقدم الكلام قول باطل ؛ فدلالة العقل والسمع مانعتان من القول بقدم الكلام.

* أما دلالة العقل فقد قدّمنا بيان ماهية المعقول من الكلام أولا ولا شك في حدثه ، ويدل على حدثه أيضا وجود بعضه في إثر البعض ، لأن المتأخر محدث لسبق الأول له والأول محدث لانحصار الأوقات التي سبق بها الآخر لأنه لو سبقه سبقا لا أول له لما كان كلاما مفيدا.

وقوله : إنه معنى قائم بنفس المتكلم قول لا برهان عليه ، بل قد قضى البرهان ببطلانه لأن حقيقة الكلام ما قدّمنا ، واللغة والعرف يشهدان لنا ؛ لأنه إذا قيل : فلان متكلم لم يسبق إلى أفهام أهل اللغة والعرف سوى ما قدمنا ذكره من أنه فاعل الأصوات المنقطعة والحروف المنظومة المرتبة ؛ إذ لو رفعوا عن أذهانهم ذلك لما عقلوا متكلما ، ولعابوا على من وصفه بذلك ، ولهجّنوا قوله ، فإن قيل : البشر الواحد منا يقول في نفسي كلام فثبت أنه معنى في النفس ، وبطل أن يكون ما ذكرتم على وجه التوسّع والمجاز ، ومراده العكس في كيفية إيجاد الكلام وترتيبه.

ولهذا فإن الواحد منّا متى تعذر عليه ما قدّمنا من الحروف والأصوات لعارض

٢٩٥

في بعض الآلات من اللسان والحلق والشفاة ؛ فإن العقلاء لا يصفونه متكلما ويعيبون على من وصفه بذلك ، وإن كان ما ذكره المعترض موجودا في نفسه ، ويقول مع ذلك : حاولت الكلام فما أمكن ، فلو كان ما ذكره المعترض كلاما لوصف الواحد بأنه متكلم في الحال التي ذكرنا ومعلوم خلافه ، وما ذكره أرشده الله من كونه ـ أعني الكلام ـ الذي هو معنى على ما ذكره قائما بذاته تعالى ثم ألزم عليه استحالة قيامه بقلوبنا مع كونه قائما بذات الباري سبحانه وتعالى فذلك إلزام يتفرع على كون الكلام معنى قائما بذات الباري تعالى ، وكونه معنى زائدا على الأصوات والحروف باطل بما قدمنا ، وكونه قائما بذاته محال ؛ لأن المعقول من القيام بالذات هو الحلول فيها ، والحلول في الباري سبحانه مستحيل لأنه ليس بجسم ولا جوهر ، والحلول لا يكون إلا في الأجسام والجواهر ، ونحن ندين ونذهب إلى أن هذا القرآن الموجود بين أيدينا حجة لنا وعلينا هو كلام الله تعالى وخلقه وإحداثه ووحيه إلى نبيه وتنزيله ، والذي يدل على ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدين بذلك ويخبر به ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق ، وتحقيق هذه الدلالة أنها مبنية على أصلين : أحدهما : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدين بذلك ويخبر به ، والثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق ، فأما الذي يدل على الأول وهو أنه عليه‌السلام كان يدين بذلك ويخبر به فالعلم به ضروري لكل من يتبع آثاره ، ويعرف قصصه وأخباره ، والقرآن الكريم ناطق بذلك قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة : ٦].

وأما الذي يدل على الأصل الثاني ، وهو أنه عليه‌السلام لا يدين إلا بالحق ولا يخبر إلا بالصدق فإن ظهور المعجز على يديه قد أمّننا أن يكون كاذبا في شيء من أخباره ؛ لأن المعجز تصديق له والله لا يصدق لحكمته إلا الصادق ، لأن تصديق

٢٩٦

الكاذب قبيح والله لا يفعل القبيح.

فهذا هو الكلام في هذه المسألة على وجه الإيجاز ، وقد حصل من الأجوبة بحمد الله ومنّه ما يحسم مواد الشبهات ، وينور سدول الظلمات ، لمن نظر بعين الإنصاف ، وتنكّب طريق الخلاف.

المسألة التاسعة والثلاثون [هل كلام الله قديم أم محدث؟]

قال تولى الله هدايته : هل يصح أن يكون ذلك المعنى القائم بذاته وهو كلامه الذي به وصف بأنه متكلم محدث ، وهو معنى قائم بذاته فيكون تعالى موصوفا بصفة حادثة ومحلا لحادث ، وإن كان قديما فكيف يصح أن يكون قائما بقلوبنا وهي محدثة ، والقائم بغيره لا يصح له وجود بنفسه دون ما هو به قائم ، فكيف يكون القديم [مضطرا] (١) في وجوده إلى المحدث حتى يكون به قائما لأن يصح وجوده والقديم سابق في وجوده؟

الجواب : قد قدّمنا الكلام في أنه لا يجوز أن يكون كلام الباري تعالى وكلام غيره معنى زائدا على الأصوات والحروف حتى يقال : هو قائم بذاته أو بغيره ، وإنما المعقول من الكلام ما ذكرنا من الأصوات المقطعة والحروف المرتبة ولا يعقل كلام سوى ذلك.

وقد بيّنا أنه لا يجوز كون ذات الباري سبحانه محلا للمعاني ، وإن الكلام ليس بمعنى زائد على ما ذكرنا ، وإنما قلنا لا يجوز كون ذات الباري سبحانه محلا ؛ لأن المعقول من القيام بذات الغير هو الحلول فيها ، ولا يصح الحلول إلا في المتحيز ، ولا

__________________

(١) سقط من (أ).

٢٩٧

يجوز أن يكون الباري تعالى متحيزا ؛ لأن ذلك يوجب حدوثه ، والدلالة قائمة على وجوب قدمه ، وإن لزم ما ذكر فإنما يلزم المجبرة القائلين بأن كلام القديم معنى زائد على ما ذكرنا وأنه قائم بذاته ، ولو أردنا التشعيب عليه فيما ذكره لفعلنا إلا أن نصرة الباطل لم توجّه علينا.

المسألة الأربعون [هل ما نعرفه من كلام الله حكاية للكلام القديم القائم بالله؟]

قال تولى الله هدايته : وهل يصح أن يكون المعنى القائم بقلوبنا حكاية لذلك المعنى القديم القائم بذات الإله أعني كلامه الذي به وصف متكلما وله بذاته اختصاص ، والحكاية مثال على الحقيقة ، والقديم لا مثال له إذ لو صح ذلك لصح في الإله؟

الجواب عن هذه المسألة على نحو الجواب عمّا تقدم فلا وجه لتطويل الكلام ؛ لأنّا قد أبطلنا فيما تقدم كون كلامه تعالى قديما ، وبيّنا أن الكلام فعله ومن حق الفاعل أن يتقدم على فعله وما يتقدمه (١) غيره فهو محدث ، وأنه لو كان الكلام [قديما] (٢) لوجب بما يليه للباري سبحانه لمشاركته له في مقتضى صفة الذات وهي القدم ، والاشتراك فيها على الوجه الذي يكشف عن المقتضى يوجب الاشتراك في المقتضى ، والاشتراك فيه يوجب المماثلة ، والمماثلة ترفع الكلام عن كونه صفة وكلاما إلى كونه موصوفا ومتكلما وذلك يوجب كونه إلها ثانيا.

ودلالة الوحدانية مانعة من ذلك فبطل أن يكون الكلام قديما ، وإذا بطل كونه

__________________

(١) في (ب) : وما يقدمه.

(٢) في (ب) : قديما ، وفي (أ) : قائما.

٢٩٨

قديما ثبت أنه محدث لأن القسمة في ذلك دائرة بين النفي والإثبات ، وإذا كانت دائرة بينهما لم يجز دخول متوسط ، وبيان أنها دائرة بينهما أن يقول : لا يخلو إما أن يكون لوجود الكلام أول أو لا يكون لوجوده أول ، فإن لم يكن لوجوده أول فهو القديم وقد بطل كونه قديما ، وإن كان لوجوده أول فهو محدث واختصاصه بالباري سبحانه من حيث الإنشاء ، فلذلك قلنا [هو] (١) كلام الله دون غيره ألا ترى أنا لو سمعنا صبيا ينشد :

(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) إلى آخرها ، لعلمنا علما لا تدفعه العقول أنها قصيدة امرئ القيس ، ولو ادعاها مدع لتنازع العقلاء العارفون امرئ القيس (٢) وأنه أنشأها إلى تكذيبه من غير توقف ، وكذلك لو سمعنا قارئا يقرأ ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) إلى آخرها لعلم من علم نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنها كلام الله تعالى ولو ادعاها مدع لجاز قتله عند الكافة من المسلمين وكان ذلك ردة ؛ لأنه (٣) رد ما علم من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة وأجمع عليه الكافة ، وإن لزم ما ذكره (٤) فإنما يلزم المجبرة القائلين بقدم كلامه تعالى ، ولعمري أن قولهم في ذلك وغيره مؤدي إلى جهالات وضلالات (٥) مهمة ، فنسأل الله الخلاص من عمى البصيرة واضطراب السريرة.

__________________

(١) زيادة في (ب).

(٢) كذا في (ب) ، وفي (أ) : لامرئ القيس. وهو امرؤ القيس بن الحجر بن الحارث الكندي (١٣٠ ـ ٨٠ ق. ه) من بني آكل المرار. أشهر شعراء العرب ، يماني الأصل ، قيل : مولده بنجد ، وقيل بمخلاف السكاسك باليمن ، واشتهر بلقبه ، واختلف في اسمه ، وكان أبوه ملك أسد وغطفان ، وأمه أخت المهلهل ، وقصته طويلة مع الشعر والخمر ، ومعلقته الشهيرة :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

أشهر من نار على علم ، وفيه وفي شعره كتب كثيرة. انظر (الأعلام) ٢ / ١١ ، ١٢.

(٣) في (أ) : لأن.

(٤) في (ب) : ذكر.

(٥) في (ب) : فضلالات.

٢٩٩

المسألة الحادية والأربعون [هل يلزم من قدم كلام الله قدم من كلمهم]

قال تولى الله هدايته : ما ورد في كتابه تعالى : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) [القصص : ٣١] ، فهل يصح قدم موسى معه فيما لم يزل ليكون مخاطبا لموسى في الأزل فيكون موسى قد صح له من القدم ما صح للباري تعالى لقدم معنى قوله (يا موسى) أو حدث معناه الذي هو كلامه ليصح حدث موسى ؛ إذ قد يضطرنا التحقيق في ذلك إلى أمرين :

الأول منهما : إما قدم موسى وكلامه الذي هو معنى قديم.

الثاني : أو حدثهما معا.

إذ لا يصح مخاطب إلا ومخاطب ، وقد ورد مصرحا بقوله : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢] ، فكيف يصح مكرمة من عينة معدومة الوجود وبقي التقرير والنداء ؛ فإن أحدنا لو كان على انفراد عينه في فلاة ولا معه أحد سواه ينادي: يا فلان أقبل ولا تخف ، ولا تخاطب وشوهد لدل ذلك منه على حكم النقض والاختلال؟

الجواب عن ذلك يرحمك الله.

الكلام في ذلك : ما ذكره في هذه المسألة من الإلزام لازم للمجبرة القائلين بقدم القرآن ، وقد دللنا على حدوثه فخرجنا من عهدة السؤال.

ولو كان الكلام قديما لم يتعين المعبود وكان الإله أكثر من الواحد الموجود ، ولو كان قديما لم يكن بكونه كلاما أولى منه بكونه إله آخر تعالى عما يشركون ، ودلالة نفي الثاني مانعة من وجود أكثر من قديم ، فكيف يقال بوجود قديم سواه

٣٠٠