مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

أوجبت لما تفاضل القادرون لأن الموجب واحد ، ولما صح منه تعالى ما استحال منا لما ذكرناه ، ومعلوم خلاف ذلك ، وإذا كانت موجودة لم تخل إما أن يكون لوجودها أول أو لا أول لوجودها ، فإن كانت لا أول لوجودها فهي قديمة ، وفي ذلك إثبات قديم معه وذلك لا يجوز ، ولأنها [لو] (١) لم تكن بأن توجب له كونه قادرا أولى من أن توجب لها كونها قادرة ، فتخرج عن كونها علة وتصير فاعلا وذلك باطل وإذا كان لوجودها أول فهي المحدثة ، ولا يجوز أن يكون قادرا لعلة محدثة ؛ لأنه كان لا يخلو إما أن يكون أحدثها هو تعالى أو غيره ، وباطل أن يكون أحدثها غيره ؛ لأن وجود غيره من القادرين يترتب على كونه سبحانه قادرا ، وباطل أن يكون أحدثها هو تعالى لاستحالة وجود الفعل إلا من قادر ، فلو لم يكن قادرا إلا بعد إحداثها ، ولا يحدثها حتى يكون قادرا ، لو وقف كل واحد من الأمرين على صاحبه ، فلا يحصلان ولا واحد منهما وذلك محال ؛ فإذا صح ما ذكرناه ثبت كون الباري سبحانه قادرا لذاته ، وهو موجود أزلا وأبدا ؛ فيجب أن يكون قادرا فيما لم يزل على جميع أجناس المقدورات كما قدمنا ، وحصول المقدور في الأزل مستحيل من حيث أنه يكون مستحيلا قديما ، ومتى كان كذلك استغنى عن موجود يوجده وخرج عن كونه مقدورا ، فكيف يكون فعلا له سبحانه وليس الباري ـ تقدس ـ عندنا علة موجبة ، فيجب لوجودها وجود معلولها ، بل هو فاعل مختار ، يفعل على مقدار ما يعلمه من المصلحة ، وداعيه سبحانه هو المخصص لوجود الفعل في آن دون آن ، وهو علمه بأن إيجاده في ذلك الآن ممكن ، وبالغ مبلغه في الصلاح دون غيره من الآناء والأوقات ، وما ذكرنا من أنه هل يكون موقوفا على

__________________

(١) زيادة في (أ).

٢٦١

أمر طارئ عند الإيجاد ، إن أراد بذلك الأمر كونه قادرا على الإيجاد ، وأنه طرأ عند الإيجاد ، فذلك باطل بما قدمنا من أنه قادر لذاته فلا يقف كونه قادرا على أمر ؛ لاستحالة ذلك بما ذكرنا ؛ وإن أراد بالأمر إرادة الباري واختياره الإيجاد في آن دون آن فمسلم ؛ غير أن الأجسام والإرادة ليستا موجبتين للمراد ، وإنما الداعي إلى المراد يدعو إليهما ، وليسا بمقصودين في أنفسهما.

وقوله : هل يكون قادرا ولا مقدور؟ إن أراد هل يجوز كونه قادرا ، ولا يصح منه إيجاد مقدوره ، فذلك مناقضة ظاهرة ، لأنا لا نعني بالقادر إلا من يصح منه الفعل ، وإن أراد هل يكون قادرا ومقدوره معدوم فذلك شرط عندنا في كونه قادرا عليه ؛ لأنه لو كان موجودا لاستحال منه إيجاده ؛ لما بينا أولا من أنه لو كان موجودا لاستغنى عن موجود بوجوده ، فالقادر إنما يوجد المعدوم ، ويحصل له صفة الوجود ، فإذا كان موجودا استغنى عن موجد يوجده ، فالقادر إنما يوجد المعدوم ويحصل له صفة الوجود ، فإذا كان موجودا استغنى عن موجد ، والباري عزوجل متفضل بخلق العالم ؛ لأنه لا دليل يوجب ذلك عليه فيوجد قدرا من مقدوراته دون قدر ، وجنسا دون جنس ، فلا يجب استمرار الإيجاد لفقد الموجب له ، ولا اعتراض على المختار الحكيم فيما اختاره ، فلا يلزم إلا ما قلنا والله الهادي.

المسألة السادسة عشر [ما الحكم المميز بين ذاتي القادر والمقدور؟]

قال تولى الله هدايته : إن صح أن المقدور معه فيما لم يزل ، فما الحكم المميز بين ذاتي القادر والمقدور وقد وجب لهما حكم [المقدور] (١)؟

__________________

(١) كذا في (أ) ، وفي (ب) حكم الأول.

٢٦٢

الجواب : قد بطل كون المقدور ثابتا في [الأزل] (١) ، وبيّنا استحالة ذلك في المسألة الأولى ، وعلى ما نذهب إليه الفرق ظاهر بين المحدث والقديم ، والفاعل والمفعول ، والمستغني عن الموجد والمفتقر إليه ، فسبحان من لا يشبه المحدثات ، فتعتوره أحكامها ، ولا يماثل الموجودات ، فتهرمه أعوامها ، جل عن نظير وتقدس عن شبيه.

المسألة السابعة عشر [ما الذي أوجب تأخير إيجاد المقدور؟]

قال تولى الله هدايته : وهل [يبطل] (٢) كونهما معا في [الأزل] (٣) ، ومعا : هو أن لا يكون بينهما فضل تقدره العقول زمانا ولو كطرفة عين ، فما الذي أوجب تأخير المقدور مع وجوب الاقتدار المطلق في الأول ، والاقتدار المطلق يرفع الموانع والشرط؟

الجواب عندنا : إن الذي أوجب تأخير المقدور عن بعض أوقات الإمكان ، هو حكمة القادر الحكيم ؛ لأنه لا يفعل إلا ما تقتضي بحسبه الحكمة ويطابق المصلحة ، فأما وجوده في [الأزل] (٤) فمحال ؛ لأنه يؤدي إلى انقلاب الفعل فاعلا ، والمحتاج مستغنيا وذلك محال.

المسألة الثامنة عشر [لما ذا استحال وجود المقدور في الأزل؟]

قال تولى الله هدايته : هل تأخر [وجود المقدور عن] (٥) تضايف الأول كان لأمر

__________________

(١) في (أ) : الأول.

(٢) كذا في (أ) ، وفي (ب) : وهل إن بطل.

(٣) في (أ) : الأول.

(٤) في (أ) : الأول.

(٥) سقط من (أ).

٢٦٣

من قبل الباري تقدست أسماؤه ، أو لأمر جاء عن غيره ، أو لأمر سواه معه فيما لم يزل ، أو من قبل أنه لم يرد إيجاده إلا عند ما أوجده في الآن الذي صح منه فيه الإيجاد ، أو لرفع جواز الإيجاد بامتناعه إلا عند الإيجاد المقتضي وجود المقدور أعيانا موجودة؟

الجواب عندنا : إن استحالة وجود المقدور في الأزل لأمر راجع إليه وإلى القادر من حيث أنه يخرج عن كونه مقدورا ؛ لأن وجوده فيما لم يزل يوجب استغناءه عن موجد يوجده ، ولأنه يوجب خروج القادر عن كونه قادرا ، وما أدى إلى ذلك فهو باطل ، يبين ذلك أن الدليل على صحة كون القادر قادرا صحة وجود مقدوره ، ومعنى صحة وجوده هو إمكانه وجوازه ، وجواز وجوده يبطل وجوب وجوده ؛ لأنه يستحيل أن يكون موجودا على الجواز ، وعلى سبيل الوجوب ؛ لما في ذلك من التنافي.

فالقول بوجوده فيما لم يزل يرفع الصحة التي هي الإمكان ؛ لأنه لا حالة قبل ما لم يزل يمكن فيها أن يوجد وألّا يوجد ، فإذا قد ثبت أن إمكان الفعل من جملته دلالة كونه قادرا صح أن القول بوجوده في الأول يرفع العلم بكونه قادرا ، وقد دللنا فيما تقدم على أنه قادر ، فما أدى إلى بطلانه فهو باطل ، والذي خصص وجوده بوقت من الأوقات ؛ الإمكان دون وقت هو داعي الفاعل الحكيم المدبر ، فيوجده في وقت دون وقت لعلمه بتعلق المصلحة بإيجاده في ذلك الوقت دون غيره من الأوقات ، ومعنى هذه المسألة داخل تحت ما تقدم فالجواب عنه واحد.

المسألة التاسعة عشر [في القدرة أيضا]

قال تولى الله هدايته : هل الأقدار الذي بوجوبه خلق السماوات والأرض وما

٢٦٤

سواهن مع كمال إيجادهن بناهن وقد أحكمهن ، أو هو على استمرار حكمه ، فيجوز أن يخلق سماوات وأرضين استمرارا لا إلى غاية ، أو لعبور كونه يريد الإيجاد فأمسك عن الفعل فيكون ذلك لأمر من قبل ذاته ، فيقتضي رجوعه عما كان له مرادا ، أو أراد في آن وأمسك في آن غيره ، أو لأمر جاء عن سواه ، أو لامتناع الإيجاد عليه استمرارا وارتفاع الوجوب والجواز؟

الجواب عندنا : إن القديم عزوجل لا يخرج عن كونه قادرا بحال من الأحوال في وقت من الأوقات ، بل هو قادر على جميع أجناس المقدورات في جميع الحالات التي يجوز وجودها فيها كما قدمنا ، وعندنا أنه يجوز أن يخلق سماوات وأرضين إلى غير غاية ينتهي إليها ، فلا يتعذر عليه الإيجاد تعالى عن ذلك ، بل لا يمتنع عليه شيء من مقدوراته ، ولا تحجز الموانع بينه وبين مراده ، ومعنى يجوز أن يخلق سماوات وأرضين إلى غير غاية أنه يمكنه أن يخلق إذا أراد أن يخلق ؛ لأن الحكمة تمنع من أن يخلق خلقا وهو غير مريد له ، أو يريده ولا يدخل بخلقه في باب الحكمة ؛ لأنه لو كان كذلك لكان قبيحا ، والله تعالى لا يفعل القبيح ؛ لأنه عالم بقبحه ، وغني عن فعله وعالم باستغنائه عنه ، ومن كان بهذه الصفات فإنه لا يفعل القبيح أصلا.

وقد بينا أنه فاعل قادر وليس بعلة موجبة ، لو لا ذلك لكان العالم قديما ، وقد دلت الدلالة على حدثه ؛ فالفاعل القادر لا يقال : لم [فعلت] (١) في وقت دون وقت إلا متى علم أن الداعي المتوفر قائم إلى إيجاد مثل ذلك الفعل ولا صارف له عنه ، فإنه حينئذ يفعل ، ولكن من أين أن الداعي إلى إيجاد سماوات وأرضين قائم ، ولا صارف عنه حتى [لا يقال] (٢) : لم لم يوجد؟ وبعد فالباري عزوجل متفضل بخلق

__________________

(١) في (ب) : لم فعل.

(٢) في (ب) : حتى يقال.

٢٦٥

السماوات والأرض على المكلفين وغيرهم من الأحياء ، فلا يقال : يجب على المتفضل أن يتفضل لا محالة ؛ لأن للمتفضل أن يتفضل وأن لا يتفضل ، ولأنه لا دليل على أنه أراد [إيجاد] (١) ما لا نهاية له من السماوات والأرضين ، فيكون إذا لم يفعل انكشف لنا أنه قد رجع عما كان أراده ، بل لو أراد أن يوجد إلى غير غاية لفعل ، ووجوب كونه قادرا ، وجواز وجود الفعل ثابتان لم يزولا ، ولكن لا يلزم وجود الفعل لا محالة ؛ لأن القادر قد لا يفعل ما هو قادر عليه مع وجوب كونه قادرا ، وجواز وجود المقدور لأنه لا يمنع أن يصرفه بعض الصوارف عن إيجاد مقدوره الذي يجوز وجوده من جهته فلا يوجده ، وقد يكون الصارف علمه بأن على الغير في إيجاده مضرة ومفسدة ، أو علمه أن ذلك الفعل قبيح إلى ما شاكله ، فلا يلزم ما ذكره على حال.

المسألة العشرون [هل الفصل بين القادر والمقدور عينا؟]

قال تولى الله هدايته : تأخر المقدور عنا في الوجود يقتضي فضل (٢) زمان ، أو ما تقديره تقدير الزمان وهو الحين الذي لم يكن فيه موجودا إلى أن أوجده ، فإن كان ذلك الفضل (٣) شيئا موجودا لزم أن يكون محدثا ؛ إذ لا موجود مع الإله غير ما كان محدثا بإحداثه إياه ، وإن كان في أفكارنا وفي القول منا فقط ، ولا عين له في أن يكون موجودا ، فذلك غير موف لحقيقة ولا فضل حسب أن لا فائدة نجيد بها بما نضعه في أفكارنا دون أن يكون له وجود ، مثلما نضع أن إنسانا بصفة حجر وبصفة

__________________

(١) في (ب) : لإيجاد.

(٢) كذا في النسختين : ولعله : فصل.

(٣) كذا في النسختين.

٢٦٦

لحم فإذا لا فضل ، ويلزم معه كون المقدور مع القادر تعالى فيما لم يزل ، وإن كان عينا غير محدث حصل مع الإله في الأزل ، قديما غير محدث ، وإن لم يكن محدثا فهو إما جسم أو جوهر أو عرض ؛ إذ هكذا كل محدث؟

الجواب : ينبغي أن [نتبين] (١) أولا معنى القديم ، ويدل على أن الباري قديم ، لنرتب عليه الكلام في الفضل بين القادر والمقدور ، فمعنى القديم هو الموجود الذي لا أول لوجوده ، ونحن نحتاج إلى بيان فصلين : أحدهما : أنه تعالى موجود. والثاني : أنه لا أول لوجوده.

فالذي يدل على أنه تعالى موجود أنه عالم قادر ، والعالم القادر لا يكون إلا موجودا ، ونحن نحتاج إلى بيان أصلين : أحدهما : أنه عالم قادر ، والثاني : أن العالم القادر لا بد من أن يكون موجودا.

فالذي يدل على أنه عالم قادر قد تقدم فلا وجه لإعادته ، والذي يدل على أن العالم القادر لا يكون إلا موجودا ، ما نعلمه من [كون] (٢) استحالة كون الواحد عالما قادرا لعدم العلم والقدرة مع وجود ذاته وحياته ، فبأن يكون عدم الذات مانعا من ذلك أولى وأحرى ، وقد ثبت كونه قادرا عالما فثبت أنه موجود ، ونحن نعلم التعلق المانع من الانفصال بين هذه الصفات أعني كونه عالما قادرا وكونه موجودا ، وأجلى الأمور ما عوّل العقلاء على وجوده من أنفسهم ، فثبت أنه موجود ؛ والذي يدل على أنه لا أول لوجوده أنه لو كان لوجوده أول لكان محدثا ، ولو كان محدثا لاحتاج إلى محدث ، والكلام في محدثه كالكلام فيه ، فإما أن يحتاج كل محدث إلى

__________________

(١) في (ب) : نبين.

(٢) زيادة في (أ).

٢٦٧

محدث إلى ما لا نهاية له وذلك محال ، أو ينتهي إلى فاعل قديم يستغني بوجوب الوجود له عن محدث يحدثه ، فيجب الاقتصار هاهنا والقضاء بأن الباري لا أول لوجوده ، وذلك معنى قولنا إنه قديم تعالى ، وإذا قد صح أنه تعالى قديم ، فتقدمه على ما أوجده وعلى سائر المحدثات يجب أن يكون تقدما لا أول له ، وما أوجده له أول تحصره الأوقات وتمضي عليه وتعتوره ، وذلك معنى الفضل دون ما ألزم من كون الفضل جسما أو جوهرا أو عرضا ؛ لأنه لو كان كذلك فهو مقدور أيضا ، وهل بينه وبين القادر فضل أم لا؟ وإذا كان فضلا فهو جسم أو جوهر أو عرض ، فيؤدي إلى الدخول في باب الجهالات والمحالات ، والمؤدي إليها ما ذكره فيجب أن يكون محالا.

وبعد ، فالأوقات أبعاض الليل والنهار ولا ليل ولا نهار بين القادر والمقدور ، وقد علمنا الفضل بين ما لوجوده أول وبين ما لا أول لوجوده ، وإن لم يخطر ببالنا وقت ، وليس إذا تقدم أحد الشيئين على الآخر لزم أن يكون متقدما له بزمان أو وقت ، ألا ترى أنا نعلم بفطرة عقولنا تقدم اليوم على ما بعده ، وتقدم آخر وقت منه على أول وقت مما بعده ، ولا يلزم أن يكون تقدمه بوقت ؛ لأن الكلام في ذلك الوقت كالكلام في الوقت الأول ، فإما أن يؤدي إلى أن يحتاج كل وقت في التقدم إلى وقت إلى ما لا نهاية له وذلك محال ، أو لا نعتبر الوقت ولا تقديره ونقتصر على ما نعلمه دون ما نتوهمه ، وهذا هو الأولى ؛ وقد علمنا ضرورة أن اليوم سابق لما بعده ومتقدم عليه ، وكذلك آخر وقت منه لأول وقت مما بعده ، فلا معنى لإثبات ما لا يجب إثباته ، ولا تقدير ما لا يلزم تقديره ، وقد ثبت أن الباري موجود لا أول لوجوده ، وأن المحدث لوجوده أول ، فإذا كنا قد علمنا تقدم بعض الحادثين على بعض مع أنهما قد دخلا تحت الوجود المشار إلى أوله ، فالعلم حاصل لنا بطريقة

٢٦٨

الأولى أن القديم تعالى سابق للمحدث ، والعلم بالفضل بينهما ثابت ، ولا يلزم وجود الفضل الذي رجع به إلى الجوهر أو العرض أو الجسم ، لأنا قد بيّنا أنا نعلم الفضل ، وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ، بل هو راجع إلى إثبات الأولية للمحدث وسلبها عن القديم ، فإن عني ما نضعه في أفكارنا من المفضل بين المحدث والقديم علمنا أن الباري متقدم على ما سواه فمسلم ، ولكن من أين أن ذلك لا حقيقة له ، وقد ذكر أن المعلوم متى لم يكن موجودا فلا حقيقة له وذلك باطل بما قدمنا في المسائل الأول فلا وجه لإعادته ، وهذا هو الكلام في هذه المسألة ، وظهور الفضل بين الحادث والقديم يغني عن الإطناب في إيضاحه ، لأن القديم هو الذي لا غاية ينتهي إليها فيكون معدوما قبلها ، ثم يصير موجودا ، بل هو موجود أزلا وأبدا ، والمحدث هو الموجود الذي ينتهي إلى غاية يكون قبلها معدوما ، ثم يصير بعدها موجودا ، فأي فضل أظهر من هذا ، وقد انحسم ما فرعه على أصل السؤال بانحسام أصل السؤال وبطل ببطلانه.

المسألة الحادية والعشرون [هل الفضل عرض أم جوهر؟ أم جسم؟]

قال تولى الله هدايته : إن كان عرضا فهو في محل ؛ إذ لا عرض يقوم بنفسه ، وإن كان عرضا لا في محل ؛ فما الدليل على وجوده ، وإن وجد مع انتفاء المحل فهو قائم بنفسه ، ويبطل كونه عرضا ، ويلزم إما أن يكون إما جسما أو جوهرا فردا ، والزمان والفضل الذي تقديره تقدير الزمان لا يصح أن يكون جوهرا ولا جسما ؛ إذ هو عرض متضاعف كالطيف والفوق والتحت ، وبالجملة العرض لا يكون سابقا للجوهر؟

٢٦٩

الجواب : قد بينا كيفية العمل بالفضل بين القديم القادر وبين المقدور ، وتقدم أحدهما على الآخر ، وأنا لا نفتقر في العلم بتقدمه إلى علم زائد على أنه لا أول لوجوده ، وكذلك لا نفتقر في العلم بالمقدور وحدوثه ، إلى أزيد من العلم بأن لوجوده أولا ، ولا يحتاج في العلم بذلك إلى فضل يكون جسما أو جوهرا أو عرضا ، لأنه كان يكون الكلام في ذلك الجسم والجوهر والعرض كالكلام في المقدور لأنه مقدور أيضا ، فإما أن يحتاج إلى فضل هذه حالة فيؤدي إلى القول بما لا نهاية له وذلك محال ، وقد أدى إليه القول بأن الفضل يكون كذلك ، فيجب أن يكون محالا ، لأن ما أدى إلى المحال فهو محال.

وهذا قول رجع به إلى التحقيق كان خلقا إذ لا يحسن أن يقال : هل تأخر المقدور عن القادر بجسم أو جوهر أو عرض؟ وما فرع من الكلام إن كان الفضل جسما أو جوهرا أو عرضا هو كلام عليه إذ كان بتلك المشابهة ، ولم يثبت بعد أنه بتلك المشابهة ، فالكلام في هذه المسألة راجع إلى الأولى ؛ لأنه قال : إن كان الفضل عرضا ، وقد تقدم في الأولى أنه ليس بعرض ، فإذا استحال الأصل استحال فرعه تبعا ، وقوله : إذا كان عرضا استحال وجوده لا في محل غير مسلم ، فإنا نجوز وجود بعض الأعراض لا في محل كما نذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وقوله : إن وجد العرض لا في محل كان قائما بنفسه ، إن أراد [بقائم] (١) بنفسه لا في محل فهذا تكرار وهو مذهب خصمه قد ألزمه إياه ، وإن أراد به يكون جوهرا ، فمن أين أن كل قائم بنفسه جوهر وكان ذلك يلزم في الباري أن يكون جوهرا ، ومعلوم خلافه.

__________________

(١) في (أ) : بقاء بنفسه.

٢٧٠

وقوله : إن المطيف (١) والفوق والتحت عرض ، غير مسلم ، لأن العرض هو الحادث الذي ليس بمتحيز ، وما ذكره ليس بموجود ولا حادث ، إن رجع بذلك إلى الجهات التي هي الفراغات ، وإن رجع به للأماكن فهي أجسام لا أعراض فيبطل ما ذكره وصح ما قلنا.

المسألة الثانية والعشرون [هل الفضل حادث أم قديم؟]

قال تولى الله هدايته : إن ثبت كونه غنيا في الوجود وجد به ، فهل كان حدوثه بعد فضل آخر تقدمه أو لا فضل ، فإن يكن بفضل آخر لزمه كإياه ، وإن كان لا فضل آخر بطل التأخر بفضل ، ووجب موجود مع الإله فيما لم يزل ، أو يخرج إلى التسلسل لكون التسلسل ممتدّا إلى الأول ، وما لا أول له مع ثبوت وجوده ، فهو قديم محض؟

الجواب : قد بطل بما قدمنا كونه غنيا وجد به وما يتبع الحدث من حلول وغيره ، وقد ثبت تقدم الباري على مقدوره كما قدمنا ، وثبت أن الفضل أن أحدهما لوجوده أول ، والآخر لا أول لوجوده ، وذلك فضل لا لبس فيه ، فإن قال : إن الباري سبحانه متقدم عليه بذلك رده الدليل ، ولكن لا يلزم إذا كان الباري سبحانه متقدما على مقدوره أن يكون مقدوره قديما معه ؛ لأن ما تقدم عليه غيره ثبت حدوثه ولم يثبت قدمه ، وإن أراد به لا يكون حادثا حتى يتقدمه من الفضول التي قدرها أشياء وحوادث ما لا نهاية له فذلك يحيل وجوده رأسا فضلا عن كونه حادثا ، وقد ثبت وجوده وحدوثه ، وإنما قلنا : يحيل وجوده ، لأنه لو لم يصح وجوده

__________________

(١) كذا في النسختين.

٢٧١

حتى يوجد ما لا نهاية له ، وقد بينا أن ما لا نهاية له هو ما لا غاية له يقف عندها ، فلو قدرنا وجوده لكان غاية قد وقف عندها ما قبلها ، وكان ما فيه من الحوادث متناهيا لوقوفه عنده ، يوضح ذلك ما نعلمه من أن الواحد منا لو قال : لا أدخل هذه الدار حتى أدخل قبلها ما لا نهاية له من الدور ، فإنه متى كان صادقا لم يحصل منه دخولها أصلا ، وقد أدى القول بإثبات فضول على الوجه الذي ذكره إلى المحال ، وهو تعذر وجود المقدور الذي قد قامت الدلالة على وجوده وبطلان تعذره ، وما أدى إلى المحال فهو محال يبطل القول بإثبات فضل على ما ذكره ، ولا يلزم من إثبات فضل على ما ذكره قدمه ، إذ لا يعني بالفصل بين القديم والمحدث سوى أن المحدث لوجوده أول وأن القديم لا أول لوجوده ، لأنا قد علمنا الفضل بين ما وجد منذ يومين وبين ما وجد منذ يوم ، فكيف لا يعلم الفضل بين القديم الذي لا أول لوجوده ولا غاية وبين المحدث الذي لوجوده أول وغاية ، وأكثر ما ذكرناه داخل تحت ما قدمنا ، لكنه كرر السؤال فكررنا الجواب.

المسألة الثالثة والعشرون [هل الله تعالى مريد بإرادة أم مريد بذاته؟ وما هو محل الإرادة]

قال تولى الله هدايته : ثم ننتقل إلى حكم كونه تعالى مريدا لالتقاء البشر والذهول فيقول : إنه تعالى مريدا لذاته أو مريدا بإرادة ، وإن كان ذلك يطرد في الحكمين اللذين قدمنا السؤال عنهما ، ولما كان الحكم واحد كان ما يجاب به في هذه المسألة مطّرد في الجملة ، فإن يكن تعالى مريدا لذاته فما الوجه في وجوب تخصيص المرادات ، وإن يكن مريدا [بإرادة](١) فهل الإرادة والذات حقيقة واحدة ، فيرجع القول إلى أنه مريدا للذات أو حقيقتان ، فيحصل من قولنا : ذات حقيقة

__________________

(١) في (أ) : بإيراده.

٢٧٢

يجردها الاعتبار الصادق ، وإرادة (١) حقيقة أخرى فثبت أن المثنوية بحقيقتين والمثنوية تبطل التوحيد والقدم (٢).

الجواب عندنا : إنه تعالى مريد ولا بد من ذلك لما ذكرنا ، لأنا لا نفصل بين التهديد والأمر والنهي إلا بعد إثباته تعالى مريدا ، ألا ترى أنه [لا] فرق بين قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣] ، وبين قوله سبحانه وتعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] ، لأن كل واحدة منهما صيغة أفعل ممن هو أعلى رتبة لو لا الإرادة في أحدهما والكراهة في الأخرى ، وكذلك لا فرق بين التهديد ؛ لأن كل واحد منهما صيغة لا تفعل ، ولا فرق بين ذلك إلا بالإرادة أو الكراهة (٣) ، فقد ثبت بما ذكرناه وذكره أنه لا بد من كونه مريدا ، فلا يخلو إما أن يكون مريدا لذاته أو لغيره ، وباطل أن يكون مريدا لذاته ؛ لأن ذاته مع المرادات على سواء ، فكان يجب أن يريد جميع المرادات ومن جملتها القبائح.

وقد ثبت أن الله تعالى كاره للقبائح ، فلا يجوز أن يريدها مع ذلك ، وإذا كان مريدا لغيره ، فالغير لا يخلو إما أن يكون مؤثرا على سبيل الصحة وهو الفاعل ، أو على سبيل الإيجاب ، وهو العلة ، باطل أن يكون مريدا بالفاعل ؛ لأنه لا فاعل للقديم تعالى ، لما تقدم بيانه ، وإذا كان مريدا لعلة فهي لا تخلو إما أن تكون معدومة أو موجودة ، لا يجوز أن يكون مريدا لعلة معدومة ؛ لأن ذلك يوجب أن نكون مريدين بها لفقد الاختصاص ، فكان يجب أن نكون مريدين لجميع ما أراداه تعالى ، ومعلوم أنه تعالى يريد ما لا نريده ، بل ما نكرهه كالعذاب وما شاكله ، ويريد ما لا

__________________

(١) في (ب) وازادة.

(٢) كذا في النسختين.

(٣) في (أ) : والكراهة.

٢٧٣

يخطر ببالنا ولا نعلمه ، وإذا كان مريدا لعلة موجودة فهي لا تخلو إما أن تكون قديمة أو محدثة ، لا يجوز أن يكون مريدا لعلة قديمة ؛ لأنه لا قديم سواه ، ولأنها لم تكن بأن توجب له كونه مريدا أولى من أن يوجب لها ذلك وذلك محال ، فلم يبق إلا أن يكون مريدا لإرادة محدثة وهو الذي نقوله ، وإذا كان كذلك فهي لا تخلو إما أن تحل أو لا تحل ، باطل أن تحل ؛ لأنها كانت لا تخلو إما أن تحله أو تحل غيره ، باطل أن تحله ؛ لأنه ليس بجوهر ولا جسم ، ولا يصح حلول العرض إلا في الجواهر والأجسام ، وباطل أن تحل غيره ؛ لأن الغير لا يخلو إما أن يتحيز عند الوجود أو لا يتحيز ، باطل أن تحل في غير المتحيز ، لأن أحدهما ليس بأن يكون حالا والآخر محلا أولى من العكس ، ولأن المعقول من الحلول وجود بجنب (١) الغير ، وذلك الغير متحيز ، وإذا حلت في المتحيز فلا يخلو إما أن يكون جمادا أو حيوانا ، لا يجوز أن تحل جمادا ؛ لأنه يؤدي إلى وجودها بحيث لا يظهر (٢) حكمها ، فلا ينفصل وجودها عن عدمها ، وحلولها في الجماد قد رفع اختصاصها بالقديم ، وإلا وجب أن يريد الشيء بإرادة تحل في بعض الجمادات في حال ما يكرهه بكراهة تحل في بعضها وذلك محال ، وإذا حلت حيوانا كانت إرادة له دون الباري تعالى لوجود الشرط والمصحح ، والموجب فقد رأيت بطلان حلولها ، ووجوب كونه مريدا بإرادة محدثة غير حالة ؛ لأن وجودها لا في محل غاية الممكن من الاختصاص به تعالى ، والعلة لا توجب إلا بشرط الاختصاص ، فمتى وجدت لا في محل كان لها من الاختصاص بالباري ما ليس لها من الاختصاص بغيره ، فيكون بأن يوجب له أولى من أن توجب لغيره ، ونحن نريد بالعلة في قولنا : لا تخلو إما أن يكون مريدا بالفاعل ، والعلة

__________________

(١) في (أ) بحث.

(٢) كذا في (ب) ، وفي (أ) : بحيث ما لا يظهر.

٢٧٤

الإرادة ، لأنه لا فرق بين قولنا : بالفاعل أو بإرادة ، وبين قولنا : أو العلة ، ولذلك مرادنا في نظائره ، ولا يلزم إذا كان مريدا بإرادة محدثة كما بينا ما ذكره من التثنية وإثبات قديمين ، لأنا أثبتنا محدثا ولم نثبت قديما ، ولا يلزم من إثبات محدث إثبات قديم مع الله ، والتثنية موضوعة لإفادة قديمين تصدر عنهما الحوادث ، فلا يلزم على ما قلنا ما قاله ، وما ذكره من أنه لو كان مريدا لذاته لعم المرادات جميعا لازم لمن يقول : إنه مريدا لذاته ، لكنا لا نقول : إنه مريدا لذاته ، بل يمنع من ذلك كما قدمنا ، وقد قسم في هذه المسألة وفي غيرها قسما غير حاصرة ، لكنّا اعتمدنا على اطراح المسامحة وتوخينا السمح في الأمور.

المسألة الرابعة والعشرون [في قيام الإرادة بالذات]

قال تولى الله هدايته : هل إذا حصل لنا الاعتبار الصادق وحقيقتين كما حصل لنا من اللون والمتلون حقيقتين ليست إحداهما الأخرى وليس اللون متجردا في الوجود عن المتلون بل في الاعتبار فقط ، وكذلك إرادتنا ، فإذا وجبت ذات وإرادة بكون كل واحدة منهما قائمة بنفسها غنية في وجودها عن الأخرى أو إحداهما في حكم وجودها قائمة بنفسها مفتقرة في وجودها إلى الأخرى ، أو تكافئا الحكم في فقد كل واحدة منهما مع قيامها بذاتها إلى الأخرى أو إحداهما مفتقر في وجودها إلى الأخرى وقائمة بها ، ونفرض أن تلك هي حقيقة الإرادة فتكون قائمة بالذات إذ لا يصح ذلك في الذات؟

الجواب : قد حصل لنا الاعتبار الصادق حقيقتين ، وهما الإرادة والمريد كما قدمنا في المسألة الأولى ولا يصح تمثلهما باللون والمتلون ، لأن اللون مستحيل

٢٧٥

وجوده لا في متلون ؛ لأنه يؤدي إلى خروجه عما هو عليه في ذاته من حيث أن مقتضى صفة ذاته هي أن تكون هيئة للمحل ، فكيف يجوز وجوده لا في محل ، وقد بينا استحالة حلول إرادة الباري سبحانه ، فلو قال قائل بخلوها أدى إلى خروجها عما هي عليه في ذاتها ؛ لأنها لما هي عليه في ذاتها لا توجب إلا بشرط الاختصاص ، واختصاصها بالباري ليوجب له كونه مريدا يقتضي بوجودها لا في محل ، إذ لا اختصاص في حقه أبلغ من ذلك ، وإنما وجب حلول الإرادة في الواحد منا لما قدمنا من أنها لا توجب إلا بشرط الاختصاص ، والاختصاص بالواحد منا لا يكون إلا بالحلول ، فلذلك أوجبنا حلول الإرادة في الواحد منا ، والإرادة محتاجة إلى الباري تعالى حاجة الفعل إلى الفاعل ، ووجودها لا في محل لا يوجب استغناءها عن الباري ، لأن العالم عندنا لا في محل وهو محتاج إلى الباري سبحانه ، وإنما قلنا : [بأنه] (١) لا في محل ، لأنه لو كان في محل لأدى إلى افتقار المحل إلى محل فيتصل ذلك بما لا نهاية له ، وذلك محال كما ذكرنا في نظائره ، ولا يجوز كون الباري تعالى محتاجا في وجوده إلى الإرادة ؛ لأنه واجب الوجود ، وواجب الوجود مستغن عن مؤثر في وجوده ، وقد بيّنا كيفية وجودها وقيامها بنفسها ، يعني أنها لا تحتاج إلى محل وإيجابها للباري كونه مريدا وأن قيامها بذاته بمعنى حلولها فيها محال ، لأنه ليس بمحل للأعراض بيانا يغني عن الإعادة.

المسألة الخامسة والعشرون [هل الإرادة قديمة وقائمة بذاته؟]

قال تولى الله هدايته : وهل إذا وجبت الحقيقتان : ذات وإرادة ، هل الذات والإرادة معا في القدم ، فيكون تعالى مريدا بإرادة قديمة وقائمة بذاته ، أو ليس

__________________

(١) سقط في (أ).

٢٧٦

كذلك ، وكيف يصح أن يكون القديم سواه شرطا في وجوده حتى يفتقر إلى ما هو به قائم ليكون موجودا بوجوده ، وقد استحق حكم القديم الحقيقي ، والقدم الحقيقي [القدم] (١) لا يلزمه الافتقار ويستحيل عليه سيما فقد الوجودية ، ولهذا لا يكون سواه شرطا في وجوده ؛ إذ لو جاز ذلك لاطرد في قدم الإله تعالى؟

الجواب : قد قدمنا القول في هذه المسألة حيث بينا استحالة كونه تعالى مريدا بإرادة قديمة ، وما ذكره من استحالة افتقارها لو كانت [قديمة] (٢) إلى الباري تعالى ، في وجودها لازم لمن قال بقدمها ، وتلزمه أيضا أن يكون مثلا للباري لمشاركتها له في القدم ، فلا يكون بأن توجب له صيغة المريد أولى من أن يوجبها لها ، فيؤدي كون الفاعل وعلة العلة فاعلا وذلك محال ، فما ذكره إنما يلزم الأشعرية ومن قال بقولهم من إخوانهم المجبرة القدرية.

فأما على قولنا في كونه مريدا فلا يلزم ما ذكره بحال من الأحوال.

المسألة السادسة والعشرون [هل الإرادة محدثة وقائمة بذاته]

قال تولى الله هدايته : أو هل الإرادة محدثة وقائمة بذاته ، لكون حدثها موجبا لحاجتها إلى أن يكون سواها شرطا في وجودها ، وقيامها بذات القديم يوجب كونها له إرادة ، أو لو قامت بذات سواه لكانت إرادة لمن قامت بذاته ، وكيف يصح أن يكون المحدث قائما بذات القديم ، فيكون ذات القديم تعالى محلا لحادث؟

الكلام في هذه المسألة : على نحو [الكلام في] (٣) المسألة التي دللنا فيها على

__________________

(١) في (أ) : العدم.

(٢) سقط من (أ).

(٣) سقط من (أ).

٢٧٧

وجوب كونه مريدا ، وكيفية وجود الإرادة ، فإنها محتاجة إلى الباري حاجة المحدث إلى المحدث ، والذي لأجله قلنا لا يجوز وجودها في بعض الأحيان هو لأنها كانت بأن تكون إرادة له أولى [من] (١) أن تكون إرادة للباري تعالى ، وقد بيّنا أنه لا بد من كونه مريدا بإرادة ؛ لاستحالة فقدان كونه مريدا ، واستحالة كونه مريدا لذاته ، أو بالفاعل ، وقد ثبت أنه لا بد من وجود الإرادة ، وبيّنا استحالة كونها قديمة ، ومع وجودها وبطلان قدمها لا بد من حدوثها ، وقد بطل كونها موجودة في محل محدث من عرض أو جوهر أو جسم (٢) ، ولا يجوز حلولها في القديم سبحانه ، لأنه ليس بمحل الأعراض ، فبقي أنها لا في محل ، ولا يجوز القول بأن الباري شرط في وجود الإرادة ؛ لأن الشرط هو ما صحح وجود المشروط ، ولم يكن له تأثير في وجوده ، وصحة وجود المشروط غير الوجود ، فالمصحح غير الفاعل ؛ لأن المصحّح لا يخرج المصحح من العدم إلى الوجود والفاعل [مختص] (٣) بذلك والفرق بينهما ظاهر ، ولعله سلك في ذلك طريقة التجوز ، ولكن لا يجوز إجراء المجاز عليه سبحانه إلا بإذن شرعي ، ولا إذن شرعي ، فلا يجوز إطلاقه.

المسألة السابعة والعشرون [هل إرادة الله موجودة بلا محل؟]

قال تولى الله هدايته : هل يصح أن تكون الإرادة محدثة ولا قائمة بذات سواه ، وليست بجسم ولا جوهر ، والعرض لا يستقل بنفسه ، فيغني عن محل مع دعوى الحدوث؟

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) في (ب) : من عرض وجوهر وجسم.

(٣) في (أ) : يختص.

٢٧٨

الجواب : قد قامت الدلالة على وجودها لا في محل ، والدلالة لا تقوم على ما ليس بصحيح ، فصح وجودها لا في محل.

وقوله : العرض لا يجوز وجوده إلا في محل ، دعوى مجردة عن البيان والبصيرة ، وما المانع من وجود بعض الأعراض لا في محل؟ وكيف يدّعى المانع مع [قيام وجود] (١) قيام الدلالة على وجودها لا في محل؟ فإن قال : ليست أسماء العرض إلا في محل ، فالمرجع بذلك إلى مصالحته لنفسه ، ويجب حينئذ اتباع الدليل ، فما دل عليه كان الاصطلاح على التسمية فرعا عليه ، وقد ذهب بعض العلماء إلى قريب مما ذكره في أنه لا بد في العرض من أن يحل ، [وإيجابه] (٢) للأدلة إلى الباري مريدا بإرادة محدثة يستحيل حلولها ، فسمّى إرادة الباري معنى ، وقال : يجوز وجود المعنى لا في محل ، ونحن سمينا الإرادة عرضا ؛ لأن حقيقة العرض ثابت فيها ، ولم يمنع مانع من ذلك ، وقلنا : بأنها لا في محل ؛ لأن الأدلة ساقت إلى ذلك.

المسألة الثامنة والعشرون [هل أحدث الله إرادته وهل يوصف الشيء بما لم يحدثه؟]

قال تولى الله هدايته : وهل هي إن ادّعى حدثها يكون محدثها الله تبارك وتعالى أو سواه ، فإن يكون سواه أحدثها ، فكيف يصح أن يوصف بما أحدثه سواه حتى يكون مريدا ، وإن يكن هو محدثها فكيف يصح أن توصف ذاته بأعيان محدثاته ، وإنما يوصف بالإيجاد دون الأعيان؟

الجواب عندنا : إنه لا يجوز أن يكون محدثها سواه تعالى ، وأنه لا بد من أن

__________________

(١) زيادة في (أ).

(٢) في (أ) : والحا به ، وفي (ب) : والحابه. ويمكن أن تكون : وإلجائه. أو وإيحائه.

٢٧٩

يحدثها القديم سبحانه ؛ لأجل أن كل قادر سواه لا يقدر على الاختراع ، وهو أن يوجد الفعل ابتداء لا في محل قدرته ، لكونه قادرا لقدرة ، ووجود الإرادة لا في محل لا يصح إلا على جهة الاختراع ، ولا يقدر على الاختراع إلا الله سبحانه لكونه قادرا لذاته ، فلزمه (١) ألّا يقدر على إيجاد الإرادة في غير محل إلا هو سبحانه ، فأما قوله : كيف توصف الذات بما أحدثه غيره؟ فذلك غير مستحيل ، كما أنا نصف الواحد منا بأنه موجود وبأنه عالم بالضروريات ، وإن كان الموجد له والفاعل للعلم [الضروري] (٢) فيه الله سبحانه ، فقد رأيت كيف وصف بما فعله غيره ووجوب الصفة له لأجل فعل غيره ، فقد بطل القول بأنه لا يجوز أن يوصف بما فعله غيره ، وإن كانت إرادة الباري تعالى عندنا لا تجوز أن يكون فاعلها سواه لما قدمنا.

وأما صحة وصف ذاته بأعيان محدثاته ، إذا لم تكن الصفة ذاتية وكانت معنوية ، فلا مانع من ذلك وهو شائع فلا معنى لإنكاره ، ألا ترى أن الواحد منا يقف كونه عالما بعلمه استدلالا على علم يوجده ، وكذلك كونه مريدا على إرادة يحدثها ، فهلا جاز في الباري تقدس مثله ، وهو أن يكون مريدا بإرادة يحدثها ، وقد قامت الأدلة على ذلك وجه لمخالفته.

المسألة التاسعة والعشرون [هل أحدث الله إرادته بإرادة أخرى]

قال تولى الله هدايته : وأيضا فإن كان هو يحدثها (٣) ، فهل أحدثها بإرادة أخرى سبقت ومرّ إلى التسلسل ، أو أحدثها ولا إرادة ، فيحصل عنه إحداث مراد ولا إرادة؟

__________________

(١) في (ب) : فلهذا.

(٢) سقط من (أ).

(٣) في (ب) : محدثها.

٢٨٠