مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

قال منصور بن الزبرقان (١) :

آل النبي ومن يحبهم

يتطامنون مخافة القتل

أمن النصارى واليهود وهم

من أمة التوحيد في أزل (٢)

وقال دعبل بن علي الخزاعي (٣) :

ألم تر أني مذ ثلاثين حجة

أروح وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسما

وأيديهم من فيئهم صفرات (٤)

وقال إبراهيم بن العباس [الصولي] (٥) لما ذكر المأمون عطاه لأهل البيت عليهم‌السلام في

__________________

(١) منصور بن الزبرقان بن سلمة بن شريك النمري ، أبو القاسم. المتوفى سنة ١٩٠ ه‍. كان فيه تشيع ، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي ، وبواسطة شيخه اتصل بالبرامكة وبني العباس ، ثم جرت بينهما وحشة ، فسعى به شيخه بتهمة التشيع للعلوية فغضب هارون وأرسل من يجيئه برأسه من بلدته (رأس العين) في الجزيرة ، فوصل الرسول في اليوم الذي مات فيه النمري وقد دفن ، فقال هارون : هممت أن أنبشه ثم أحرقه. انظر (الأعلام) ٧ / ٢٩٩ ، وانظر (أعيان الشيعة) ١٠ / ١٣٨ ـ ١٤١.

(٢) البيتان في (أعيان الشيعة) ١٠ / ص ١٤٠.

(٣) دعبل بن علي بن رزين الخزاعي ، أبو علي (١٤٨ ـ ٢٤٦ ه‍) ، شاعر أهل البيت ، ذب بشعره عنهم وهاجم ظالميهم ، وهجا الرشيد والمأمون والمعتصم والواثق من بني العباس وطال عمره ؛ فكان يقول : إن لي خمسين سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك.

ومناقبه وأخباره كثيرة ، من أوغر قلوبهم مديحه في آل البيت. له ديوان شعر مطبوع قدم له وجمعه عبد الصاحب الدخيلي ، وآخر جمعه عبد الكريم الأشقر وميز فيه بين شعره الصحيح وما أدخل عليه. انظر (معجم رجال الاعتبار وسلوة العارفين) (تحت الطبع).

(٤) الشعر من قصيدة تائية شهيرة لدعبل الخزاعي مطلعها :

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

لآل رسول الله بالخيف من منى

وبالركن والتعريف والجمرات

وهي كبيرة شهيرة. انظرها في ديوانه. وانظر عنه : (أعيان الشيعة) ٦ / ٤٠٠ ـ ٤٢٥.

(٥) هو في النسخ الموصلي ، وهو : إبراهيم بن العباس الصولي [١٧٦ ـ ٢٤٣ ه‍]. أبو إسحاق ، نشأ في بغداد وقربه بنو العباس ، وكان من كبار الكتاب. ذكر تشيعه صاحب (نسمة السحر) وقال : إنه استعمل التقية في أيام المتوكل وذكر له قصائد. وفي (الأغاني) ذكر له قصائده في الرضا في أيام المأمون. وأخباره كثيرة. انظر : (الأعلام) ١ / ٤٥ ، و (أعيان الشيعة) ٢ / ١٦٨ ـ ١٧٥.

١٦١

أيام علي بن موسى الرضا :

يمن عليكم بأموالكم

وتعطون من مائة واحدا (١)

فهذا رحمك الله بيان مقالتك ، والكافة من الإخوان قبلك ، أردنا الكشف والإيضاح لأحوال الأمة الظالمة ، للعترة القائمة الذين جعلوا الإمامة في غيرهم ، وأخرجوهم عن وراثة النبوة التي فضلهم الله ببقائها ، وسكنهم في رفيع فنائها ، والجهل رحمك الله بأحكام الإمامة باب الفتنة ومفتاح المحنة ؛ لأن الجهل بأحكامها كان السبب لهلاك من هلك ، والمعرفة بأربابها كان الذريعة لنجاة من سلك.

فإذا قد تقرر لك ذلك وعلمت أن جميع فرق الجبر على اختلاف أنواعها وتباين أوصافها مطبقة على أن إمامها هو القاعد اليوم على سرير الملك ببغداد ، وحاله ما ذكرنا وبعض أحواله لم نذكر ، وما من المكلفين المعتقدين إمامته إلا من يعلم بحاله أو يتمكن من علم ذلك.

[شرائط الإمامة]

فإن أردت زيادة يقين في ذلك تعرفه بالبرهان ، فقد علمت أن التكليف لا يتعلق بما لا يدخل تحت الإمكان ، وقد علمت أن فرض الإمامة عام وذلك مدع للإمامة ، وهذا موضع شبهة ، فلا بد أن يجعل الله تعالى إلى العلم بحاله طريقا ليكون هلاك

__________________

(١) البيت في أعيان الشيعة ، ضمن أبيات هي :

كفى بفعال امرئ عالم

على أهله عادلا شاهدا

أرى لهم طارفا مونقا

ولا يشبه الطارد التالدا

يمن عليكم بأموالكم

وتعطون من مائة واحدا

فلا حمد الله مستبصرا

يكون لأعدائكم حامدا

فضلت شيمك في معدد

كما فضل الولد الوالدا

١٦٢

من يهلك في أمره بعد إزاحة العلة بحالة تحصل على سبيل الجملة أو التفصيل ، وكل واحد من الأمرين كاف في زوال حكم التكليف عن المكلف ، هذا وقد أجمعت الزيدية والإمامية والمعتزلة وأكثر الأمة على وجوب الإمامة في كل عصر ، وأن لا بد من الإمام يجمع أمر المسلمين ، ويمنع بعضهم من بعض ، وينفذ الأحكام ، ويقيم الحدود ، ويغزو ديار الكفر ، ويقسم الفيء والغنائم والصدقات ، فهذا إجماع هذه الفرق وإن اختلفوا في بعض أحوال الإمام وفيما لأجله يحتاج إلى الإمام على إجماع هذه الفرق كلها أن لا بد من جمعه لخصال الفضل والصلاح ، وإن تعدى بعضهم إلى أن أوجب في حقه أكثر مما يشرط في حق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علم الغيب وما جرى مجراه ، وخالف في هذه الجملة أهل الحشو وقالوا : الإمامة ليست بفرض إن أصلح الناس نفوسهم ، وسد كل إنسان جذبته ، وقوم من تحت يده ، وإن تعذر ذلك حسن أن ينصب الناس إماما عادلا صالحا ؛ فالأمة عموما ضلّالها وصلّاحها مجمعة أن لا بد من صلاح الإمام ، وما خالف في ذلك إلا متأخري المتفقهة المتحيلون الذين أكلوا الدنيا بالدين ، ولبسوا للناس جلود الضأن من اللين ، فإنهم أجمعوا في الأصل خوفا من المكاشفة بالمقت على أن شرائط الإمام (١) الإسلام ، والذكورة ، والورع ، والعلم ، والكفاية ، ونسب قريش ، ثم قالوا بعد ذلك : لو تعذر وجود العلم والورع فيمن ادعى الإمامة وبايعه الأكثر ، وكان في صرفه إثارة لفتنة لا تطاق فإن إمامته تصح. قالوا : لأن ما يلقى المسلمون من الضرر يزيد على ما يفوتهم بضرر تقاضيه عن هذه الخصال ، فهذا كما ترى من علماء السوء يريدون استدرار عطيات هؤلاء المسميين بالإمامة من بني العباس ، وإنما أطبق الناس على ؛ هذا لأن أدلته ظاهرة من

__________________

(١) في (ب) : الإمامة.

١٦٣

الله تعالى ؛ لأن الله تعالى أمر بقطع السارق فقال تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] ، وأمر بإقامة الحد على الزناة فقال تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] ، وغير ذلك من الأمر بالجهاد ، وحرب المشركين ، وقتل المحاربين ، إلى غير ذلك من أحكام الدين ، وهو أمر والأمر يقتضي الوجوب ، والإجماع منعقد أن ذلك لا يكون إلا للأئمة ، فلا بد من إمام بأدلة نصوص الكتاب وبالإجماع ، وبعض ذلك كاف في صحة الاستدلال.

[مدعو الإمامة في عصر الإمام]

فإذا قد تقررت هذه الجملة والمدعي للإمامة اليوم في ديار الإسلام ثلاثة : صاحب المغرب ، وصاحب بغداد ، ونحن في هذه الديار ، فإذا بطلت إمامة اثنين صحت الإمامة لواحد ؛ إذ لا يجوز بقاء الأمة بغير إمام ، ولا تخل الأرض من الحجة طرفة عين.

وقد روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات ليس بإمام جماعة ولا لإمام جماعة في عنقه طاعة مات ميتة جاهلية» (١) وفي ذلك آثار كثيرة رواها آباؤنا عليهم‌السلام ، ورواها علماء الأمة ، ولم يختلف في ذلك أحد من علماء الأمة ، وفسر المرتضى الحديث المروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تخل الأرض من حجة إما ظاهرا مشهورا ، وإما باطنا مغمورا» (٢) ، فذكر أن الظاهر المشهور الإمام الشاهر سيفه ، الناصب لرايته. والباطن

__________________

(١) الحديث بلفظ : «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» ، وبلفظ : «من مات وليس عليه إمام جماعة فإن موته ميتة جاهلية» ، وبألفاظ أخرى مقاربة في (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٨ / ص ٥٦٣ ، وعزاه إلى عدة مصادر منها : مسلم في الإمارة ٥٨ ، والبيهقي في (السنن الكبرى) ٨ / ١٥٦ ، والطبري في (الكبير) ١٩ / ٣٣٥ ، والحاكم في (المستدرك) ١ / ٧٧.

(٢) أخرجه الطبرسي في (الاحتجاج) ج ١ ص ٨٨ من حديث طويل عن رسول الله.

١٦٤

المغمور : هو الصالح لذلك من العترة ، وإن منعه من الانتصاب خلاف الأمة.

[لا بد من إمام]

قال عليه‌السلام : فإنما أوتيت الأمة في ذلك من قبل نفسها لا من قبل [أهل] بيت نبيها ، وقال عليه‌السلام في كلامه لكميل بن زياد (١) : اللهم ، لا تخل الأرض من حجة لئلا تنقطع حجج الله وبيناته (٢).

وروينا في آثار كثيرة متظاهرة ورواها الأئمة عليهم‌السلام وعلماء المعتزلة أن على رأس كل مائة سنة حجة لا تتم إلا على حجة لله تعالى قائمة على خلقه.

[تنكر الأمة وكفرها]

روينا عن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة

__________________

(١) كميل بن زياد بن نهيك بن الهيثم بن سعد بن مالك النخعي الصهباني الكوفي ، وقيل : كميل بن عبد الله ، وقيل : كميل بن عبد الرحمن ، أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وأحد العباد ، والزهاد ، شهد معه صفين ، وكان شريفا ، مطاعا في قومه ، وقتله الحجاج ، روى عن أمير المؤمنين ، وابن مسعود ، وعثمان ، وعمر ، وأبي هريرة. وعنه : عبد الرحمن بن جندب الفزاري ، ومحمد بن مروان ، وعبد الرحمن بن عائش ، وأبو إسحاق السبيعي ، والأعمش ، وعبد الله بن يزيد الصهباني ، وسليمان بن عبيد الله بن سليمان الكندي ، وغيرهم. ذكره السيد صارم الدين ، وابن حابس ، وابن حميد ، في ثقات محدثي الشيعة ، ووثقه ابن معين ، والعجلي ، وابن سعد ، وقد حذفوا توثيقه من المطبوع. روى له السيد أبو طالب ، والنسائي في (اليوم والليلة) ، وعنه الكثير من قطع نهج البلاغة.

انظر : (معجم رجال الاعتبار وسلوة العارفين) ت ٦٩٩ ومنه : (طبقات الزيدية) خ ٢ / ٢٢٠ ، (الجداول) خ ، (تهذيب الكمال) ٢٤ / ٢١٨.

(٢) في (نهج البلاغة) : قصار الحكم ١٤٧ ، من كلام أمير المؤمنين لكميل بن زياد : اللهم ، بلى.

لا تخل الأرض من قائم لله بحجة ، إما ظاهرا مشهورا وإما خائفا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته.

١٦٥

من يجدد لها دينها» (١) وقد ثبت بإجماع علماء الأمة أن صدقة الحبوب والتمر والزبيب يجب صرفها إلى الإمام ، وكذلك واجبات المواشي ، وعلم ذلك من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة أن الواجب صرفه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن ما كان له في أيامه كان للإمام القائم مقامه من بعده ؛ لأن الله تعالى جمع لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمامة مع النبوة ، ولم يكن ذلك لأكثر الأنبياء ، وإنما كان لهم النبوة دون الإمامة ، وقد ثبت أن أكثر هؤلاء المعتقدين لإمامة صاحب بغداد لا يحملون إليه الحقوق ، وبعض الناس لا يراه أهلا لذلك ، فإذا لم يسلمها إلينا استحلالا لتأخيرها كان كافرا بذلك ، وإنما أردنا نبين لك تأكيد الأدلة وتظاهرها على كفر الأكثر من الأمة بالبرهان الجلي ، فتأمل ذلك بعين الفكرة لتنجو من الحيرة والحسرة ، فأكثر الخلق إنما أتي من إهمال النظر ، وجهل الأثر ، والاعتراض على الأئمة والعلماء ، ودعواهم لأنفسهم مع رفض أصول العلم.

وقد روينا بالإسناد الموثوق به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال في أهل بيته عليهم‌السلام : «قدموهم ولا تقدموهم ، وتعلموا منهم ولا تعلموهم ، ولا تخالفوهم فتضلوا ، ولا تشتموهم فتكفروا» والمعلوم أن من لا يعتقد إمامة قائم العترة يشتمه ؛ لأن عنده أنه ادعى ما لا صحة له ولا حقيقة ، فأما أئمة الضلال من الأموية والعباسية ، فأطلقوا العطايا السنية ، والأقطاع الواسعة ، والمواهب الجزلة لمن سب الذرية ، وأمروا المتشدقين بخطب العدوان بغشيان المواسم للطعن على الذرية الهادية المهدية.

من ذلك أن أبا جعفر المسمى بالمنصور لما قتل محمدا وإبراهيم ابني عبد الله بن

__________________

(١) الحديث أخرجه أبو داود برقم (٤٢٩١) ، والحاكم في (المستدرك) ٤ / ٥٢٢ ، كما في (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٣ / ٢١١ ، وعزته أيضا إلى (كنز العمال) برقم (٣٤٦٢٣) ، و (مشكاة المصابيح) برقم (٢٤٧) ، و (جمع الجوامع) برقم (٥١٦٩) ، وهو في (مناقب الشافعي) للبيهقي ١ / ٥٥ ، (فتح الباري) ١٣ / ٢٩٥ ، و (الدر المنثور) ١ / ٣٢١ ، صحيحة الألباني ٥٩٩ ، (كشف الخفاء) ١ / ٢٨٢ ، و (البداية والنهاية) ٦ / ٢٨٩ ، ٩ / ٢٠٦ ، ١٠ / ٢٥٣ ، وغيرها.

١٦٦

الحسن عليهم‌السلام أمر شيبة بن عقال يتقدم إلى المواسم لسب أهل البيت عليهم‌السلام فارتقى المنبر وقال : إن علي بن أبي طالب شق عصا المسلمين ، وخالف أمر رب العالمين ، وطلب أمرا ليس له ، فحرم أمنيته ، ومات بغصته ، وهؤلاء أبناؤه يقتلون ، وبالدماء يخضبون. قال فقام رجل من أوساط الناس فقال : نحمد الله بما هو أهله ، ونسأله الصلاة على محمد وأهله [أما ما قلت من خير فنحن أهله] (١) ، [و] أما ما قلت من شر ، فأنت به أولى ، وصاحبك أحرى ، يا من ركب غير راحلته ، وأكل غير زاده ، ارجع مأزورا غير مأجور ، ثم التفت إلى الناس فقال : ألا أنبئكم بأبين من ذلك خسرانا ، وأخف ميزانا ، من باع آخرته بدنيا غيره وهو (٢) هذا. ثم قعد. قال الراوي : فسألنا عنه فقيل : هو جعفر بن محمد عليهما‌السلام.

فقد صح لنا كفر أكثر هذه الأمة لو لم يكن لهم جرم إلا شتم العترة ، وهذه أمية أقامت السب لعلي (٣) عليه‌السلام وأهل بيته ـ سلام الله عليهم ـ على فروق المنابر ثمانين سنة ، ما ترك إلا في أيام عمر بن عبد العزيز وأيام يزيد المسمى بالناقص وهي تسعة شهور ، وأيام معاوية بن يزيد وهي أربعون يوما ، والكل من أهل الدنيا إلا القليل شاتم أو مصوب للشاتم ، فقد عمهم حكم الشاتم وهو الكفر ؛ لأنا روينا عن علي عليه‌السلام أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : «من سبك فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله ، ومن سب الله تعالى أدخله النار» (٤) ولا خلاف بين المسلمين أن سب الله

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) في (أ) : فهو

(٣) في (أ) : أقامت لسب علي.

(٤) الحديث أخرجه الإمام المرشد بالله في (الأمالي الخميسية) ١ / ١٣٦ بلفظ : «من سب عليا فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله ، ومن سب الله كبه الله على وجهه في النار».

وأخرجه ابن المغازلي الشافعي في (مناقب أمير المؤمنين) برقم (٤٤٧) ص ٢٤٤ طبعة ، منشورات دار مكتبة الحياة ، من حديث طويل عن عبد الله بن عباس بلفظ : «يا علي ، من سبك فقد سبني ، ومن سبني فقد سب الله ، ومن سب الله عزوجل كبه الله على منخره في النار». وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي برقم (١١٠١) من حديث طويل ، عن ابن عباس. قال المحمودي في تخريجه : وللحديث أسانيد كثيرة جدا (أوردها في صفحتين). انظر كتاب (مناقب أمير المؤمنين) ٢ / ٥٩٨ ـ ٦٠٠ ، وسيأتي تخريجه عن ابن عباس في رسائل الإمام القادمة.

١٦٧

تعالى ، وسب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفر ، وإن شتم البعض ورضي البعض ولم ينكر فالكل يكون شاتما حكما ، قال الله تعالى في ثمود : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) [الأعراف : ٧٧] ، فعمهم بالفعل ، والعاقر قدار بن سالف ومصدع بن سليم في نفر يسير معينين لم يتجاوز أحد من أهل العلم فيهم التسعة ، فعم الله سبحانه باسم الفعل وحكمه أمة من الأمم ؛ وو الله لإمام من أئمة الهدى أكرم على الله تعالى من تلك البهمة ، فقد قتلوا ورضيت الأمة ـ إلا القليل ـ بقتلهم ، فهذا نوع لو لم يكن إلا هو لكفرت به الأمة.

وروينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال في أهل بيته : «أنا سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم» (١) والمعلوم أن من حارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كافر لا محالة ، ومثلهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) أخرجه محمد بن سليمان الكوفي في (مناقب أمير المؤمنين) بلفظ : «أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم» ، قال السيد محمد باقر المحمودي في تخريجه : وللحديث أسانيد ومصادر جمة جدا ، ورواه الترمذي وابن ماجة في سننهما ، ورواه أحمد بن حنبل في كتاب (المسند والفضائل معا) ، ورواه أيضا ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، والطبراني في المعجم الكبير والصغير ، وله مصادر أخر يجد الباحث أكثرها في تعليق الحديث ١٦٢ ، وما بعده من ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام من (تأريخ دمشق) ص ٩٧. وأيضا رواه الحافظ ابن عساكر بأسانيد في الحديث ١٣٤ ، وما يليه من ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام من (تأريخ دمشق) ج ١٣ / ص ١٠٠ ـ ١٠٣ ، وقد أوردنا في تعليقها أكثر ما وجدناه من روايات حفاظ أهل السنة.

أقول (والكلام للمحمودي) : وقد أخرجت الحديث عن كتاب المسند والفضائل لأحمد ، وعن ترجمة تليد بن سليمان من تأريخ بغداد ج ٧ / ص ١٢٦ ، وعن مصادر أخر في تعليق الحديث ٣٧٢ في الباب (٨) من السمط الثاني من كتاب (فرائد السمطين) ج ٢ / ص ٢٤٢ ط (١) ، وهذا رواه الطبراني بأسانيد في الحديث (٩١) إلى (٩٣) من ترجمة الإمام الحسن ـ عليه‌السلام ـ تحت الرقم (٢٦١٩ ـ ٢٦٢١) ، من (المعجم الكبير) ج ٣ / ص ٣٠ طبعة بغداد ، قال : وهو في أحمد بن حنبل في أواسط مسند أبي هريرة من كتاب (المسند) ج ٢ / ص ٤٤٢ ، ورواه الحاكم في (المستدرك) ج ٣ / ص ١٤٩ ، والطبراني في مسند زيد بن أرقم برقم (٥٠٠٣٠ ، ٥٠٠٣١) من (المعجم الكبير) ج ٧ / ص ٢٧ طبعة بغداد ، وذكر مصادر أخرى.

انظر (مناقب أمير المؤمنين) ج ٢ / ص ١٥٦ ـ ١٥٨ برقم (٦٣٤) ، كما أورده أيضا برقم (٦٥٥) عن زيد بن أرقم ج ٢ / ١٧٨. قال المحمودي في تخريجه : ورواه ابن حبان في باب فضائل الحسن والحسين ، وعنه الهيثمي تحت الرقم (٢٢٤٤) من كتاب (مورد الضّمان) ، وقد أورد العلامة ـ

١٦٨

بباب السلم ـ والسلم هو الإسلام ـ فمن لم يتمسك بهم كفر حكما وإلا بطل التمسك وهو نبوي لا يجوز ذلك فيه ، ومثلهم بسفينة نوح وما تخلف عنها إلا الكافرون بالإجماع والنص ، وكذلك المتأخر عنهم من هذه الأمة يكون كافرا وإلا بطل التمثيل ولا يجوز بطلانه ؛ لأنه في الحكم كأنه من الله تعالى ، قال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ، ٤] ، وإنما يستعظم ـ رحمك الله تعالى ـ التكفير من يجهل أحكام الحرمات ، ويستصغر جرايم المجرمين والمجرمات ؛ وإلا فأي كفر أعظم من قتل ذرية الأنبياء ، وسلالة الأوصياء سلام الله عليهم الذين يأمرون الناس بالقسط ، ويقضون بالحق وبه يعدلون ، وكم قد ظهر من الآيات الدالة على الكفر إذا كان في الحديث أن لقاتل محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه‌السلام ثلث عذاب أهل جهنم ما ترى يكون حكمه ، وإذا كان قاتل يحيى بن زيد عليه‌السلام رأى في المنام كأنه قتل نبيا فخرج إلى أصحابه في المسجد وأخبرهم بمنامه ، وأمرهم بغل يده إلى عنقه ، فلما قام يحيى بن زيد عليه‌السلام قالوا له : لا غنى عن رميك ، وقد خرج هذا الخارجي فاخرج معنا لحربه ، فإذا فرغنا من حربه رددنا يدك إلى حالها الأولى. فخرج معهم فكان هو الرامي ليحيى بن زيد عليه‌السلام فصرعه ، وأجهز عليه سورة بن محمد الكندي فلما رجعوا من حربهم ردوا يده على حالها على غير شيء وقد تبت يداه ، وخسر آخرته ودنياه (١) ؛ لأن المعلوم لأهل العقول أن من آذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلمة متعمدا كفر بلا خلاف ، ومن المعلوم أن قتل ذريته ، أعظم من أذيته هذا مع السب لهم والتبري منهم والمباينة والمحاربة.

__________________

ـ الأميني للحديث مصادر تحت عنوان «الرأي العام في ابن حزم» من كتاب (الغدير) ج ١ / ص ٣٣٦ طبعة بيروت ، كما أورده الحافظ محمد بن سليمان الكوفي في (مناقب أمير المؤمنين) برقم (٦٤٨) ج ٢ / ص ١٦٩ ، بلفظ : «أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم» ومصادر الحديث جمة وكثيرة.

(١) انظر : كتاب (الحدائق الوردية في تأريخ أئمة الزيدية) ، ترجمة الإمام يحيى بن زيد. وانظر (اللآلئ المضيئة) للشرفي (خ) ، وغيرها.

١٦٩

وروى الإمام الأجل المتوكل على الله ـ عزوجل ـ أحمد بن سليمان بن الهادي إلى الحقعليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثا رفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال : «من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهوديا ، قال جابر : قلت : يا رسول الله وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» (١) ومن المعلوم أنه لا يحشر يهوديا إلا وهو كافر بلا مرية في ذلك.

وروينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من حاربني في المرة الأولى وحارب ذريتي في المرة الأخرى فهو من شيعة الدجال» والمعلوم لأهل العلم أن شيعة الدجال اليهود لعنهم الله لا يكون من شيعة الدجال إلا حكما ؛ لأن المعلوم لهم مخالفتهم نسبا ، ومعلوم أنهم كفار ، وما من ينزل عيسى بن مريم عليه‌السلام مددا للصالحين سببه تخفيف الوطأة في الكفر. فنسأل الله الثبات في الأمر ، فقد أدب الله تعالى أبانا رسول الله صلى الله عليه وعلى الطاهرين من آله بآداب شريفة يلزمنا القيام بها ، قال تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، وقال تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [آل عمران : ١٧٦] ، وقال تعالى : (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [المؤمنون : ٤١] ، وقال تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٨] كل هذا تحريض من رب العالمين لأوليائه ليشتد منهم الغضب على أعدائه ، فإذا أسقطنا أعظم أحكامهم ، ورفع عنهم أقبح أسمائهم بغير برهان ما يكون عذرنا عند الواحد المنان ، وقد بينا في هذه الرسالة أن الخطر في الترك كالخطر في الفعل ، وليس هذا من قولهم : لئن أخطئ في العفو أحب إليّ [من] أن أخطئ في العقوبة ؛ لأن هذا كلام في الإيمان والأحكام ، وهو من أصول الدين التي لا يسع جهلها ، ولا رخصة في

__________________

(١) أخرجه في (موسوعة الحديث النبوي) ٨ / ١٠ ـ ١١ ، وعزاه إلى تهذيب تأريخ ابن عساكر ٢ / ٦٩ ، وكتب أخرى تحاول أن تحط من قيمة الحديث.

١٧٠

إهمالها ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من لا يرحم لا يرحم» (١) والله عز من قائل يقول : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] ، وقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] ، وقال تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [البقرة : ١٥٩] ، وقال تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم : ٩] ، فكلما أورد أيدك الله تعالى بتوفيقه من لين ، وتهوين ، ورقة ، ورحمة ، ولطف ، وشفقة ، فإنما يراد بها المؤمنون الصالحون الذين يجب تكريمهم ويلزم تعظيمهم.

وأما أعداء دين الله ومخالفو عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والكاذبون على الله تعالى ، والرافضون لأئمة الهدى ، والسالكون مسالك الغي والردى ، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، وتمادوا في غيهم وفجورهم ، فتكفيرهم دين ، وسبهم سنة خاتم المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتخفيف عليهم وزر ، والتغليظ عبادة وأجر.

انظر رحمك الله كم المحق من المحقين ، والمؤمن من المؤمنين ، وهذا كلام غير متناقض للمتأملين ، وما يعقلها إلا العالمون ، فنسأل الله تعالى إسبال الستر ، وتيسير الأمر.

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيان أخي جابر

كم بين من شغله يتفقد حرمه وإعراضه ، وعنابه وإباضه ، وبين من شغله بطغيه واعتراضه ، وتجاوزه وإبغاضه :

يطرق إطراق الكرى

لكي يرى ما لا يرى

__________________

(١) أخرجه في (كنز العمال) برقم (٥٩٧١) بلفظ : «من لم يرحم لا يرحم» وعزاه إلى أحمد ، وأبي داود ، والترمذي ، عن أبي هريرة ، وهو بألفاظ مقاربة في مصادر كثيرة.

انظر (كنز العمال) ٣ / ١٦٢ ـ ١٦٧ (باب الرحمة بالضعفاء والأطفال والشيوخ) ، وانظر (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٨ / ٥٤٦.

١٧١

حدد مداه ليقطع ما أمره الله تعالى بوصله ، وليقضي على العلم بجهله ، ولينفي الفضل عن أهله ، (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] ، ويقول تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ، فكيف تثبت طاعة مع الخلاف والنزاع ، والاعتراض على ولي الأمر في الأفعال والأوضاع ، إنما هو فجر أو بجر.

[من روائع الإرشادات والحكم]

رحم الله امرأ تبصّر وتفكّر ، وعقل الأمر وتدبّر ، وسلّم لمن أمر بالتسليم له ، وسلك إلى الرشد سبيله ، أصل الاعتراض المرض ، كما أن أصل الشرق الحرض ، هل كان في الوصي المعصوم لقائل مقالة ، فقطع العباد المجتهدون (١) على كفره لا محالة ، بعد شهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعصمة ، وزوال الوصمة ، ما كان أحوج أهل الدين الصحيح ، إلى العمل بالجد والاجتهاد فيما وقع به من الباري سبحانه للنص الصريح ، في إعزاز الدين ، ومنابذة المعتدين ، أصلح شسع النعل ، وتأبد عن الإسلام بالحجارة والنبل ، وكن ضجيعا للحسام ، واصبر صبر الكرام ، فإنما هي شهقة وقد أفضيت إلى دار المقام ، فإما إلى سعادة دائمة ، وإما إلى شقوة لازمة ، كم بين الودع والورع ، والبازل والفزع ، أقبح الجهل ما وقع من مستنصر ، وأعظم الزلة ما كانت من غير مقصر ، هل بعد اليقين شك ، وهل مع المعرفة حك ، وإنما ينقد المجهول ، ويختلف فيما خالف الدليل ، أعيت الحيلة في تبصير القاطع على عمله ، والمدعي لتوحيد فهمه ، هل علمت خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلافا مستمرا إلا الأحبار ،

__________________

(١) لعله يقصد الخوارج.

١٧٢

وهل نازعه إلا من يعدّ نفسه في الأخيار ، أفهل كان في برهان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصور ، وفي جريه في الرشاد فتور ، اتهم نفسك لا إمامك ، وتقدم والصلاة أمامك ، لا تضرب وجه الجواد السابق لتصده عن الغاية ، فتكون للناس آية ، ما أحوج السلاح إلى الحملة ، والعلم إلى العملة ، يا طالب الدين لا بد من الآلة ، فإنها لا تقوم مقام الدرع الغلالة ، انصب وارغب ، ولا تتعب ولا تتعب ، فالدين منهج قويم ، وصراط مستقيم ، اليمين والشمال مضلة مزلة ، والوسط يوصلك بحبوحة الملة ، وينميك في الأصلة ، لا بد للمسافر من زاد ومزاد ، ولا بد للمقاتل من سلاح وعتاد ، انظر لنفسك ولا تعتد بالوكل ، ولا تعللها بليت ولعل ، فإن هول المطلع شديد ، والشاهد عليك عنيد ، إن من التكبير ما يكتب على صاحبه كبيرة ، فنسأل الله تعالى حسن البصيرة ، سبح ما استطعت بالكلمة أو الحركة ، ففي القليل مع الاستقامة البركة.

وقد روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يؤتى يوم القيامة بطوامير كأمثال الجبال فترجح بها صحيفة توازي إصبعين فلا تطلب أثرا بعد عين» (١) هل بعد الهداة لمهتد هداية ، وهل بعد الذرية الزكية لمرتاد غاية؟ من شك فيما أحلّوه ، كمن شك فيما أحلّه أبوهم ؛ لأنهم قفوه ، كما أن خلفهم يقفوهم ، إن لم يشتد على أعداء الله غضبهم ، فمن يشتد غضبه ، وإن لم يستطع على الظالم نهيهم فمن يسمو لهبه ، يكفيك من النهر الطالوتي غرفة وللاستقصاء من الحرفة ، ترك الدين ملا والشكا والمراد ، وأدرك الذين بلّوا حلوقهم بالغرفة الواحدة المراد ، من نصر الله لهم في الدنيا ورضاه يوم المعاد ، قليل من العلم يحتاج إلى كثير من العمل ، وإياك أن ينتظمك المثل ، (سعيت وحج الجمل) ، أين من شغله علاج دبر جواده ، ممن همه التعلل

__________________

(١) لم أجده بلفظه وله شواهد كثيرة.

١٧٣

في إيراده (١).

لو أن سلمى شهدت مطلي

تمنح أو تدلج أو تعلي

إذا لراحت غير ذات دل الإسلام عند المستحفظين به غض ، وأديمه لديهم أبيض نض ، وعند سواهم أسود اللون شاحب الجبين ، لا يعرف مع التوسم والتفرس إلا بعد حين ، وذلك لأنهم طلبوه في غير مطلبته ، فلم يتحصنوا بجنته ، للعلم أرباب ، وللدين نصاب ، آل محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم أربابه ، وفيهم نصابه ، إن أقدموا فاقدموا مصممين ، وإن أحجموا فكونوا من المحجمين ، إن التقدم على الإمام تأخر عن شريف المقام ، التأخر عنه عز وشرف ، والتقدم عليه شين وسرف ، من ذا يدلك إن تجاوزت الدليل ، ومن يرشدك إلى نهج السبيل ، إن عصيت المرشد العذول وقعت في الحاطمة ، إن اتهمت أبناء فاطمة ، سلام الله عليها وعليهم أجمعين ، أين المرشد من المغوي ، والمعوج من المستوي.

[عود إلى السبي]

لا والذي في السماء عرشه ، وفي الأرض سلطانه ، والحجة ما تقدم من البرهان دون اليمين ، ما كان ما أمرنا به من السبي إلا لتقوية قواعد الدين ، وإعزاز الإسلام والمسلمين ، وإذا كان للباطل صولة ، فلا بد للحق من دولة ، لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتل ما أمسى بيثرب يهودي له خطر إلا وهو يتوقع الهلاك ، فجاوز الدين السماك ، لا يكون للدين هيبة على الكفر ما لم

__________________

(١) يتأمل من النسخة (ج).

١٧٤

يتقدم القتل على الأسر ، وهل اتضع الإسلام بالسبا على عفة أربابه ، ألم تشمخ بذلك عوالي قبابه ، قال شاعرهم :

وكان يرى فينا من ابن سبية

إذا لقي الأبطال نضربهم هبرا

فما زادها فينا السباء نقيصة

ولا حطبت يوما ولا طبخت قدرا

ولكن خلطناها بحر نسائنا

فجاءت بهم بيضا جحاجحة غرا

إن شككت في أمر السبية فابحث عن قصة الحنفية ، يا ورع يا أورع ، أين أنت عن قصة الوصي الأنزع ، بالغت السنة في نتف الإبطين ، وغفلت عن قصة أبي السبطين ، ما كان أغنى الخيبة عن المشورة ، على حواء بأكل الشجرة ، حتى نزلت بها عقوبة الفجرة ، جعل الله سبحانه مسيرها على البطن والرأس ، وعادى الباري بينها وبين الناس ، وقد كانت في خلق الناقة ، في الحسن والرشاقة ، قال بعض الشعراء من أهل الكتب الشريفة ذكر فيها الحية :

وكانت الحية الرقشاء إذ خلقت

كما ترى ناقة في الخلق أو جملا

فلاطها الله إذ أطغت خليفته

طول الليالي ولم يجعل لها أجلا

تمشي على بطنها في الأرض ما عمرت

والترب تأكله حزنا وإن سهلا

هلك من كذب القطا (١) ، وركب في أمره متن الخطا ، ولو ترك القطا لنام ، فعلق رأسه اللجام :

فقلت لكأس ألجميها فإنما

حللت الكثيب من زرود ليفرغا

لا يصلح آخر هذا الدين إلا بما صلح به أوله ، ينبيك بأيام الصيف حرملة ، ألم

__________________

(١) القطا : طائر معروف سمي بذلك لثقل مشيه ، واحدته قطاة ، والمثل : لو ترك القطا لنام ؛ يضرب مثلا لمن يهيج إذا تهيّج. انظر (لسان العرب) ٣ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

١٧٥

تعلم قصة الأشعث الكندي في قصة رباب ، وذئاب ، وكلاب ، وغراب ، يبحث عن نساء من كندة ، كان لهن فيهم شأن من الشأن ، اختطفهن يوم النحير ، الكلاب والذئاب ، والذبان والغربان ، على منعهم ناقة تسمى (شذرة) نعوذ بالله من ورع يؤدي إلى الحسرة ، ما كان أحوجنا من مورد السؤال إلى المعرفة ، والنصرة نفس السجية ، التغرب بعد الهجرة ، قال الصادق الأمين عليه وعلى الطيبين من آله صلوات رب العالمين : «من جهّز غازيا أو خلفه في أهله كان له مثل أجره» (١) فما حاله إذا لسبه بملامه ، وطعنه بكلامه ، وثبط عنه بتشكيكه وإيهامه ، وعض كالمتأسف على إبهامه.

يا خاطر الماء لا معروف عندكم

لكن أذاكم إلينا رائح غاد

بتنا عرونا وبات البق يلبسنا

يشوي الفراخ كأن لا حي في الوادي

إني لمثلكم في سوء فعلكم

إن جئتكم أبدا إلا معي زادي

هذا الشاعر المسكين نادى من لسع البق والطوى ، فمن لنا بمثل حاله ، والبلوى بمثل خلاله ، ولما دعا نوح عليه‌السلام للحمامة بالزينة لنصحها له في أيام السفينة ، فقال فيها الشاعر:

وقد هاجني صوت قمرية

هتوف العشاء طروب الضحى

مطوقة كسيت حلية

بدعوة نوح لها إذ دعا

من الورق نواحة ناكرت

عشية أساء بذات الأضا

تغنت عليه بشجو لها

تهيج للصب ما قد مضى

فلم أر باكية قبلها

تبكي ودمعتها لا ترى

__________________

(١) الحديث بهذا اللفظ أخرجه ابن حبان ١٦١٩ ، وهو في (الترغيب والترهيب) ٢ / ٢٥٤ ، بلفظ مقارب ، وفي الترمذي برقم (١٦٢٩) ، وهو بألفاظ كثيرة متقاربة في عشرات المصادر. انظرها بموسوعة أطراف الحديث النبوي ٨ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

١٧٦

فانظر إلى هذا الشاعر مع إصابته في اللفظ ، وتبريزه في الفصاحة ، كيف خلط في المعنى تخليطا لا يغبى على أحكام أهل المعرفة بإحكام القول ، تبناها عنده هتوف ؛ وهو دلالة الواحد إذ هي طروب وهو دلالة الفرح ، وبينا هي نائحة إذ هي مغنية ؛ والنوح والغناء لا يجتمعان ، فتفكر في هذه المعان ، طلب المسترشد الإرشاد ، وضرب علينا الأسداد ، وقد كفى من تقدمنا وتقدمه من آبائنا عليهم‌السلام بالإشارة ، وفصلوا معنى العبارة المحققة والمستعارة ، فخرجوا منها علوما جمة ، وهدوا بها ضلال الأمة ، واستعانوا بها على كل مهمة ، وكشفوا بها كل غمة ، ونحن عملنا في مسألة واحدة ، رسالة حاشدة ، وسميناها (الرسالة الهادية بالأدلة البادية) ، وإنما قلنا ذلك لظهور أدلتها ، وقوة علتها ، وكنا قد قدمنا على الحادية ، وهي عند طالب الإرشاد لأبيه ، ليست أدلتها مسروقة ، ولا مناهلها مكدرة مطروقة ، يشهد لمنشئها بالمعرفة الجامعة ، والرواية الواسعة ، مبسوطة بالإسناد ، مؤيدا بالاستشهاد ، فلما تكرر السؤال من الأصحاب ، وحق كل محب أن يجاب ، أنشأنا هذه الرسالة وسميناها (بالدرة اليتيمة في تبيين أحكام السبي والغنيمة) على أشغال تبلبل البال الساكن ، وتلحق المقيم بالظاعن ، ثم لمن نتمكن فيها من البسط ، وإن كان فيها والحمد لله ما يغني عن الرحل والحط ، اعتراض البرق يدل على الحياء ، وإن تعذرت مشاهدة الرباب ، وقد قيل : إن السبع المثاني هي أم الكتاب ، فليتدبرها الإخوان بعين الإنصاف ، فلعلها ـ إن شاء الله تعالى ـ تنزل منزلة الألطاف ، وتعرف المسترشدين ما عرف أهل الأعراف ، فيكون ما فيها كاف شاف ، ومن الله نستمد التوفيق والعون بالله ، وصلى الله على محمد وآله وسلامه.

تمت الرسالة الموسومة (بالدرة اليتيمة في تبيين أحكام السبي والغنيمة)

والحمد لله على كل حال

وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله خير آل.

* * *

١٧٧
١٧٨

أجوبة مسائل

تتضمن

ذكر المطرفية وأحكامهم وغير ذلك له عليه‌السلام

وصلى الله على محمد الأمين

وعلى آله الطيبين

الطاهرين

١٧٩
١٨٠