مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

[معنى وصف الله بالعالم]

سألت أيدك الله تعالى عن معنى وصفنا الله تعالى بأنه عالم واختلاف الناس في ذلك.

اعلم أن من الناس من قال : إنه تعالى عالم بعلم ، ومنهم من نفى ذلك عن الله تعالى وقال : بل هو العالم لذاته ، ومن قال : إنه عالم بعلم اختلفوا.

فمنهم من قال : علمه ذاته ، ومنهم من قال : هو عالم بعلم قديم كما يقوله الصفاتية من الكلابية (١) والأشعرية (٢) ، ومنهم من قال : إنه عالم بعلم محدث كما تقوله الكرامية (٣) ، ولا بد من إبطال ما ذهب إليه المخالفون ثم ينتهي الدليل

__________________

(١) الكلابية : قال في (موسوعة الفرق الإسلامية) : أصحاب أبي عبد الله بن كلاب الذي كان يقول : لله كلام غير مسموع ولم يسمع جبريل من الله شيئا وإنما بلغه الأنبياء لم يسمعه من الله ، بل كان قد ألهم ، وأوصل ذلك إلى الأنبياء بدون كلام سمعه. وعند ما قال الله للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، فهو لم يتكلم بل ألهمهم ، على غرار إلهام النحل ، كما ورد في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) النحل : ٧٠. وقال الكلابية : كلام الله ـ تعالى ـ هو معنى أزلي قائم بذاته تعالى ، مع أنّه شيء واحد : توراة ، إنجيل ، زبور ، وفرقان ، وأنّ هذا الذي نسمعه ونتلوه حكاية كلام الله تعالى ، وفرقوا بين الشاهد والغائب.

ملاحظة : إن ابن كلّاب هذا كان أحد المتكلمين في عصر المأمون. وذكر ابن النديم في (الفهرست) أن له مناظرات مع عبّاد بن سليمان. وقيل : سمّي ابن كلّاب لأنه كان يخطف الذي يناظره ، ونقل أنّ اسمه : عبد الله ، في حين ذكره صاحب هذه الموسوعة : (أبو عبد الله المقرب). عن (مقالات الإسلاميين ١ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦) ، (مذاهب الإسلاميين ١ / ١٦٥ ـ ٤٧٣) ، (الفرق والتواريخ) ، نسخة مخطوطة.

(٢) الأشعرية : أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، المولود في البصرة سنة ٢٦٠ ه‍ ، والمتوفى في بغداد سنة ٣٢٤ ه‍ ، وهو من أحفاد أبي موسى الأشعري ، كان تلميذ أبي علي الجبائي حتى الأربعين من عمره ودرس عليه أصول المعتزلة وطرق استدلالها ، بعد ذلك اعترض على أستاذه واختلف معه وفارقه مع أنه كان زوج أمه وأعلن تخليه عن الاعتزال في مسجد البصرة سنة ٣٠٠ ه‍ كما قيل ، وأبو الحسن الأشعري كان على مذهب الشافعي في فروع الفقه وكان يوفق بين مبادئ الأدلة الكلامية وعقائد من يسمون أهل السنة ، فأسس بذلك المذهب الأشعري لهؤلاء في مقابل مذهب الاعتزال ، ونسب إلى مذهبه بعد ذلك الباقلاني ، وابن فورك ، والغزالي ، والرازي ، والإيجي ، والتفتازاني. وللمزيد حول آراء الأشعرية.

انظر (موسوعة الفرق الإسلامية) ص ١٠٩ ـ ١١٣.

(٣) الكرامية : فرقة ممن تسموا بأهل السنة ، أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام بن عرّاف بن خزامة بن براء المتوفّى سنة ٢٥٥ ه‍. كان من أهل سجستان وأبوه كان حارسا لأشجار الكروم ـ

٣٢١

إلى ما ذهبنا إليه.

المذهب : أنه تعالى لا يجوز أن يكون عالما بعلم ؛ لأنه [كان] (١) لا يخلو ذلك العلم إما أن يكون هو أو غيره ، باطل أن يكون هو لاستحالة أن يكون الواحد أشياء كثيرة ، لأن ما لزم في العلم لزم في سائر الصفات من الحياة والقدرة والقدم ، ولأنك تقول فينبني [عن] (٢) ذات وصفة وتقول : علمه ذاته ، فلا يكون الذات بأن تكون الموصوفة والعلم الصفة أولى من أن يكون العلم الموصوف ، والذات الصفة ، ولا تميز الصفة عن الموصوف ، وذلك لا يجوز ؛ ولأن دليل العلم غير دليل القدرة ، ودليل القدرة غير دليل الحياة ، ودليل الحياة غير دليل [القدم] (٣) ، فلو كانت هذه الصفات هي الموصوف لما اختلف الدليل ولكان ما أوصل العلم به من الدلالة يوصل إلى سائر الصفات ومعلوم خلافه.

وما يؤخذ من إطلاق الأئمة عليهم‌السلام من أن علمه ذاته ، فمعناه أنه عالم لذاته ولا شيء سواه لأجله استحق كونه عالما ، ولا يجوز غير ذلك ؛ لأن النصارى لم تثلث إلا بإثباتها لذات وصفتين ، الصفتان الذات في قولها والذات الصفتان ، فقالت الباري

__________________

لذلك عرف بابن كرّام. أقام في مكة خمس سنين ، توجه بعدها إلى نيسابور وفيها حبسه طاهر بن طاهر عبد الله ، وبعد أن أطلقه ، ذهب إلى الشام ، ثم عاد ثانية إلى نيسابور ، فحبسه محمد بن طاهر. وبعد أن أفرج عنه سنة ٢٥١ ه‍ ، توجه تلقاء القدس وفيها مات ، وكان محمد بن كرام من المجسّمة ، ويقول : إن لله جسما وأعضاء وهو يجلس ويتحرك. وقد أخذ ابن كرّام بعض آيات القرآن التي تصف الله على المعنى الظاهري ، مغاليا في الصفات ، وكان على عكس المعتزلة فيما يخص الحركة حيث كان يمثلها كرد فعل. وكان السلطان محمود الغزنوي فاتح الهند من أتباعه ، كما يذكر المقدسي أن خانقهات الكراميّة ومجالسهم كانت تقام في بيت المقدس حتى عصره أي : حتى سنة ٣٧٥ ه‍.

وللمزيد حول آراء الكرامية ، انظر (موسوعة الفرق الإسلامية) ص ٤٢١ ـ ٤٢٣.

(١) زيادة في (ب).

(٢) في (ب) : على.

(٣) في (أ) : القديم.

٣٢٢

ـ تعالى عن ذلك ـ ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، فعبروا بأقنوم الأب عن ذات الباري تعالى ، وأقنوم الابن عن العلم ، وأقنوم روح القدس عن الحياة ، وقالوا : هو واحد على الحقيقة وثلاثة على الحقيقة ، فقال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) [المائدة : ٧٣] ، فمن جعل لله صفات هي هو زاد على مقالة النصارى كما ترى فالخطر عظيم.

قلنا : ولا يقال في الباري تعالى : إنه عالم بعلم ؛ لأن ذلك لا يخلو إما أن يكون موجودا أو معدوما ولا يجوز أن يكون عالما بعلم معدوم ؛ لأن العدم مقطعة الاختصاص ، فلو أوجب له العلم لأوجب لنا ، ومعلوم خلافه ، ولا يجوز أن يكون عالما بعلم موجود ، لأنه كان لا يخلو إما أن يكون لوجوده أول ، أو لا أول لوجوده ، فإن كان لا أول لوجوده فهو القديم ولا قديم سوى الله تعالى ؛ لأنه كان يكون مثلا لله تعالى ولا مثل له على ما ذلك مقرر في مسألة واحدة ، ولا يجوز أن يكون عالما بعلم محدث ؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون أحدثه ، وإحداث العلم لا يصح من غير العالم لأنه من قبل الفعل المحكم ، فكان يستغني بالعلم الذي يصح به حدوث العلم عن إحداث علم به يعلم ، ولا يصح إحداثه من غير فعل ؛ لأن غيره لا يكون إلا من فعله تعالى ويكون محكما ، ولا يصح الفعل المحكم إلا من العالم فكان يستغني بذلك عن إحداث عالم محدث له علما ، ولأن إحداث العلم في الغير مستحيل ، لأن من سواه تعالى قادر بقدرة ، والقادر بقدرة لا يقدر على إحداث العلم في غيره ، لأنه لا يفعل في غيره إلا بالاعتماد ، والاعتماد لا يولد العلم ، فبطل أن يكون عالما بعلم محدث ، وبطل أن يكون عالما بعلم قديم.

ومذهبنا أنه تعالى عالم لذاته ، والدليل على ذلك أنه لا يخلو إما أن يكون عالما أو

٣٢٣

غير عالم ، باطل أن يكون غير عالم ؛ لأن الأفعال قد صحت منه تعالى محكمة ، والأفعال لا توجد محكمة إلا من عالم ، وإذا كان عالما فلا يخلو إما أن يكون عالما بعلم أو عالما لذاته ، لا يجوز أن يكون عالما بعلم ، كما قدمنا من أنه كان لا يخلو إما أن يكون موجودا أو معدوما ؛ والموجود لا يخلو إما أن يكون محدثا أو قديما ، والأقسام كلها باطلة ، فلم يبق إلا أنه عالم لذاته تعالى ، ومعنى ذلك أن ذاته الموجبة لكونه عالما ولسائر صفاته تعالى من دون معاني ، كما نقول في الواحد منّا : إنه عالم بعلم وحي بحياة ، ولو لا ذلك لما كان حيا عالما.

فهذه الصفات ثابتة فينا لمعاني ، وثابتة في الباري تعالى لذاته ، ولذلك وجب كونه عالما بجميع المعلومات ، ما كان ، وما يكون وما لم يكن كيف كان يكون ، وما كان لو لم يكن كيف كان يكون ، لأن ذاته مع المعلومات على سواء ، فلا يخلو إما أن يعلمها لذاته أو لا يعلمها ؛ لأنه قد صحّ كونه عالما بوجود الفعل المحكم من قبله ، والفعل المحكم لا يوجد إلا من عالم ، وباطل أن يعلم البعض دون البعض لفقد المخصص ، لأنّا إنما علمنا شيئا دون شيء لأنّا عالمون بعلم فلا يتعلق العلم إلا بمعلوم على الوجه الذي يصح به.

فإن سأل وقال : هل لله علم أو ليس له علم؟

قلنا : إن أردت أن له معلوما فهو عالم بجميع المعلومات وذلك شائع في اللغة ، يقال: علم أهل البيت عليهم‌السلام وعلم أبي حنيفة ، وعلم الشافعي معناه معلومهم ، وإن أردت علما به يعلم ولو لا هو لما علم ، فذلك لا يجوز على الله تعالى لما قدمنا ، بل العالم لذاته الغني عن كل ذات.

وأما قولهم : هل العلم شيء أو غير شيء فهذا فرع على أنه تعالى عالم بعلم ،

٣٢٤

وقد بيّنا بطلانه ؛ لأن الشيء هو ما يصح العلم به والخبر عنه وإن انفرد ، والله تعالى أجل الأشياء ، والعلم صفة من صفاته لا يصح العلم بها منفردة ، وإنما نعلم الباري تعالى على ما هو عليه من الصفات ، والعلم بها ينبي على العلم به ولا [يصح] (١) العلم بالصفة دون الموصوف.

مسألة [في الحركة والسكون]

قال أيده الله تعالى : وإذا كان الجسم متحركا لم يسكن هل عدمت الحركة بعد وجود السكون فيكونان قد اجتمعا ، لأن ليس هناك حالة يسمى الجسم فيها غير متحرك ولا ساكن ، وإن كان هناك حالة فقد خلا ، وإن كان على قول من يقول : إنهما كون واحد فعند أن حرّك الجسم يسمى متحرّكا ، وعند سكونه يسمى ساكنا ، وكأن الفاعل لم يحدث إلا التسمية.

الجواب عن ذلك : إن الطارئ بعد الجاري ، فمتى تحرك وطرأ عليه السكون بطلت الحركة عند حدوث الطارئ بلا فصل.

وقوله : قد اجتمعا لا يتصور كيف يصح اجتماع ما عدم مع عدمه وذلك في حالة واحدة ، وإنما كان يلزم اجتماعها لو قيل ببقاء الحركة عند حصول السكون ، أو السكون عند حصول الحركة ، فإذا قيل بعدمه فلا سؤال في الطارئ لم يحكم دون الجاري (٢) ، ولو كان ذلك يؤدي إلى المحال لما وقع كما نعلمه عيانا ، فهذا [على] (٣) ما أمكن على قدر الوقت والفراغ.

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) في النسخ : الحلوى ، ولعل ما أثبتناه الصحيح.

(٣) زيادة في (أ).

٣٢٥

مسألة في التكليف

ويصير ذلك بمثابة من ألقى غيره في الماء ليحصل له عشرة آلاف دينار لا يحصل إلا بإلقائه في الماء ، ثم ألقى إليه حبلا ليرقى فيه ولا مانع من التعلق فيه والنجاة به ، ثم فرط في ذلك فإن اللائمة [لتفريطه] (١) ؛ لأنه أوتي من قبل نفسه لا من قبل من عرّضه للنفع.

مسألة [في الإحباط]

إذا أطاع الإنسان طاعات كثيرة ثم عصى معصية كبيرة ثم تاب ومات هل يعود له ثواب طاعاته التي تحبطها الكبيرة أم لا؟

الجواب عن ذلك : إنه إذا عصى كبيرة ثم تاب رجع له ثواب الطاعة من يوم التوبة إلى غير نهاية ويسقط ما بين التوبة والعصيان من الأوقات فلا يستحق فيها شيئا.

مسألة [في عدل الله وعقوبة الظالم]

عن فعل الظالم وما يقع منه من قتل النفوس وأخذ الأموال وإدخال الغموم على العباد في أنواع تصرفاته التي يجب فيها الإنصاف من الله تعالى سبحانه ؛ إذ قد وعد بذلك والعدل والحكمة تقتضي بوجوبه ، وقلت : كم يكون له من الأعراض حتى توفى هذه الخلائق؟

__________________

(١) كذا في (أ) ، وفي (ب) : في تفريطه.

٣٢٦

الجواب عن ذلك : إن الله تعالى [بعدله] (١) وحكمته لم يمكّن أحدا من المكلفين من الإضرار بالغير إلا وهو قادر على الانتصاف للمظلوم من ظالمه ، ولا يجوز أن يقع الانتصاف للمظلوم بتعذيب الظالم ، لأنه لا نفع له في ذلك فلا بد من وصول نفع إليه ، ولا نفع في الآخرة إلا ما يستحقه الظالم (٢) من العوض ، والمستحق على الله تعالى من العوض لا بد أن يوفى على ذلك أضعافا مضاعفة ، بحيث لو خير العبد بين حصول الألم أو الحادثة التي توجب تضاعف الغم ، وكشف له الغطاء عن العوض لاختار نزول الحادثة والألم لمكان ذلك العوض ، وقد علمنا أنه لو أعطي في ولده قناطير مقنطرة من الذهب لاختار الولد عليها ، وكذلك لو اشتد به الألم وقيل له : البرء يحصل بالخروج من الممالك الخطيرة لسمح بها لحصول العافية ، فلا بد أن يكون عند الله سبحانه في مقابلة ذلك ما يوفي عليه أضعافا مضاعفة وإن قلّ في نفوسنا ، والذي يجب عليه للعباد هو مقدار ما نقصهم به من غير زيادة على ذلك ، فلا بد [من] (٣) أن يوفي الله سبحانه المظلوم من الظالم ، ولا يجوز أن يمكّنه من الظلم ما لم يكن له ما يوفي خصومه ؛ لأنه لا يجوز أن يخيّر الله سبحانه [من] (٤) عبده لأنه يكون إغراء بالمعاصي ، ولا يجوز إهماله وتركه من الإنصاف لمثل ذلك ، ولا يجوز تعذيبه للآخر لأنه لا ينتفع بعذابه ، فلم يبق إلا ما قلنا ، والعوض يكون للعاصي والمطيع لأن الله تعالى عدل في الجميع ، وكل ألم أو غم لا يكون عقوبة لا بد فيه من عوض وإلا كان ظلما ، ولا يكون عقوبة إلا أن يعلم الله سبحانه المكلف بأن هذا عقوبة ، كما قال الله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] لأن

__________________

(١) في (ب) : لعدله.

(٢) كذا في النسختين ولعله : المظلوم.

(٣) سقط من (ب).

(٤) زيادة في (ب).

٣٢٧

إيصال الضرر إليهم من غير إشعار بأنه مستحق يؤدي إلى اعتقادهم في الله سبحانه وتعالى القبيح ، وأنه أخذهم بما لا يجب عليهم ، ولا يجوز من الله سبحانه تعرض العباد لاعتقاد القبيح.

فإن قيل : ومتى يحصل العوض للكافر والفاسق فما نفعه له؟

قلنا : يسقط منه من العقاب بقدره.

قالوا : فهل يلتذ بذلك؟

قلنا : لا ، وليس المراد لذته ، المراد استيفاء حقه ، كما أن الإنسان لو كان عليه للغير قيراط أو مثقال ودفعه إليه خرج من عهدة ما لزمه ، وإن لم تظهر نفاعة صاحب الحق فالمراد وصول حقه إليه ، ومثال ذلك أن يكون يستحق في كل وقت مائة جزء من العذاب ويسقط عنه العوض الذي كان استحقه جزء في كل وقت فيعذب بتسعة وتسعين جزءا إلى نهاية استيفاء عوضه ، ثم يرجع عليه المائة الجزء كما كانت أولا فهو في حالة استيفاء العوض يعذب ، وبعد استيفائه معذب ، وقد علمنا وصول حقه إليه ، فهذا هو العدل اللائق بالحكمة ، ولا يتسع الوقت لأكثر من هذا في هذه المسألة ، وإنما قلنا لا بدّ من تضاعف العوض الحاصل من قبل الله تعالى إلى حد يختار جميع العقلاء الضرر النازل لمكان ذلك العوض يقع من الله سبحانه وتعالى على العبد بغير مراضاة وهو حكيم ، فلو أنه أعطى مقدار الألم لكان ذلك عبثا ينافي الحكمة ، كما لا يجوز أن يحرق أحدنا ثوبا لصاحبه يساوي دينارا ، ثم يعطيه دينارا ، فإن كسر له إبرة لغرض صحيح ، ثم أعطاه عشرة دنانير لم يعد ظالما عابثا ؛ لأنه أعطاه ما لا يختلف العقلاء أنه أصلح له.

٣٢٨

مسألة [فيمن ينوي الظلم ولا يتمكن من فعله]

فيمن ينوي الظلم والعناد ولا يتمكن من ذلك لعذر يحول. هل يكون للنية عليه عقاب كالقول ، أم ليس العقاب إلا بالفعل ولا تأثير للنية في ذلك؟

والجواب عن ذلك : إن الأفعال تنقسم إلى : أفعال القلوب ، وأفعال الجوارح ؛ والتعبد ورد بترك القبيح من الأمرين جميعا ، قال الله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : ١٢] وهو من أفعال القلوب فمن نوى فعل الفساد وفعل القبيح ولم يتركه إلا لمانع فإنه يأثم لأجل ذلك ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى» (١) ، ولذلك قوله : «نية المؤمن خير من عمله» (٢) إلى غير ذلك ، ولأن اعتقاد الكفر يوجب الخلود في النار بالإجماع وإن لم يفعل العبد شيئا بجوارحه (٣).

__________________

(١) الحديث مشهور ، وهو في أغلب المصادر الحديثية.

انظر عنه (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٣ / ٥١٣ ، و (الترغيب والترهيب) ١ / ٥٦ ـ ٥٧ ، وهو في البخاري ١ / ٢ ، ٨ / ١٧٥ ، ٩ / ٢٩ ، وأبي داود ٢٢٠١. والترمذي ١٦٤٧ ، والنسائي في الطهارة ب ٥٩ ، والأيمان والنذور ب ١٩ ، وابن ماجة ٤٢٢٧ ، والإمام المرشد بالله في (الأمالي الخميسية) ١ / ٩ ، وعشرات المصادر غيرها.

(٢) حديث : «نية المؤمن خير من عمله».

أورده في (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ١٠ / ٩٢ ، وعزاه إلى الطبراني في (الكبير) ٦ / ٢٢٨ ، (إتحاف السادة المتقين) ١٠ / ١٥ ، (تهذيب تأريخ دمشق) لابن عساكر ٤ / ٣٥٥ ، وفي (حلية الأولياء) ٣ / ٢٥٥ ، وفي (تأريخ بغداد) ٩ / ٢٣٧ ، وفي (كشف الخفاء) ٢ / ٤٣٨ ، وغيرها.

(٣) في الأصل (أ) حاشية : ومن الأدلة قوله تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ، إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) ، فوعد الجزاء لمن كسب الإثم ظاهرا وباطنا ، عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن عثمان لطف الله به.

٣٢٩

[الرد على من يقول بأن النبوة والإمامة جزاء على الأعمال]

مسألة

في قول من يقول : إن النبوة والإمامة جزاء على الأعمال ، ويحتج بقوله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨] ، وبقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ، وزعم المخالف أن هذه الآية تدل على أن النبوة فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنها لو كانت فعل الله لما حسن خطابه لنبيه بذلك [وذلك] (١) أيضا سائغ في اللغة في قولهم : نبا ينبو ، فهو ناب.

الكلام في ذلك : إن النبوة لو كانت فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكانت إنباء لإبانة فعل من أفعاله ، وإلا فالمسلمون يفعلون مثله من صوم وصلاة ، وحج وجهاد ، وغير ذلك من فعل الجوارح ، وعدل وتوحيد ، وتصديق ، ووعد ووعيد ، وغير ذلك من سائر الاعتقادات ، وكان لا بدّ أن يكون الكل نبيا أو بعض نبي ، أو إماما أو بعض إمام ، وهذا لم يقل به أحد من العقلاء مؤمنهم ولا كافرهم.

وأما الحجة بقوله تعالى : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨] ، فما في هذا الظاهر من دلالة على أن النبوة ثواب ، ولو كانت جزاء على الأعمال ، فالجزاء فعل المجازي لكانت فعل الله تعالى على هذا التأويل ، كما أن الثواب فعل المثيب لا فعل المثاب ، وكذلك الآيات التي فيها ذكر المحسنين ، كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف : ٢٢ ، الأنعام : ٨٤] ، وما شابهه لا ظاهر في ذلك يدل على ما ذهب إليه المخالفون في الدين ، فإن قالوا إلا

__________________

(١) سقط من (أ).

٣٣٠

التأويل فنحن أولى به منهم لكوننا أهله ، فنحن نقول : ثواب الدنيا هو الذكر الجميل ، وثواب الآخرة هو المنازل في الجنة ، وذلك مستقيم ؛ لأن الثواب يقترن به التعظيم والإجلال وهو يجب من نابي الفعل ، وقد تأخرت الملاذ والمنافع إلى دار الآخرة عن دار التكليف ، فبقي الإجلال والتعظيم في هذه الدنيا ، والثواب المستحق هو ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة فيما بعد ، ولو لا عمى بصائر القوم بالخذلان لما جرءوا في هذا الميدان.

وأما احتجاجهم بقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] ، فهو أبعد عن المراد ، وأنأى عن السداد.

والكلام في ذلك : إن الله تعالى قد علم أن نبيه لا يشرك ، وإنما جعل [ذلك] (١) تمثيلا بما المعلوم خلافه ليقول المسلمون : إذا كان نبيه وهو نبيه إذا أشرك حبط عمله فكيف بنا ولسنا مثله في حاله.

وأما ظاهر الآية فإن ذكر النبوة فيها أو الدلالة على أنها عمل ، لو لا أن الله تعالى وكل القوم إلى أنفسهم فتاهوا في الضلالة وخبطوا في الجهالة فنسأل الله التوفيق.

والنبوة هي الرسالة بحيث لا فرق بينهما كالجلوس والقعود ، لا نقول : هو نبي وليس برسول ، ولا رسول فليس بنبي ، وهي فعل المرسل لا إشكال في ذلك ، وكذلك الإمامة فعل الأمر بها لشخص من الأشخاص كما في علي عليه‌السلام وولديه ، أو لمن وجدت فيه صفته كما في سائر الأئمة من أولادهما ، فتلك إمامة بالنص وهذه بالصفة كما يقول : من كانت صفته كذا وكذا فقد أمرهم بكذا وكذا ؛ لأن الله تعالى أمر بالجهاد ، وإقامة الحدود ، وإنفاذ الأحكام ، وتجييش

__________________

(١) سقط من (أ).

٣٣١

الجيوش ، وذلك لا يكون إلا برئيس ، فأعلم الله تعالى به مجملا ، فقال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) [الرحمن : ٣٣] ، فهذا مجمل احتجنا فيه إلى البيان ، فقال تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس: ٣٥] ، فوقع بعض بيان فأتى قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور : ٥٥] ، فجمع قوله تعالى : (آمَنُوا) جميع الاعتقادات ، وقوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) جميع الأعمال في الطاعات ، والله لا يخلف الميعاد ، فالخلافة لمن هذه حاله ، فإذا اجتمع العلم والسخاء والشجاعة والورع والزهد والقوة على تدبير الأمر وعند ذلك يحصل الفضل لا محالة تجب كلمتين من الآية (١).

قلنا : لأن الله تعالى أمر بمودتهم خصوصا وبمودة المؤمنين عموما ، وحض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآيات المعلومة على اتباعه حضا شديدا ، فأفاد ذلك ثبوت الإمامة لهم دون غيرهم ؛ لأنه قد حصل فيهم [ما] (٢) لم يحصل في غيرهم ، فلو كان اتباعهم بالظن إلا أنه الأقوى لقوة أمارته لما جاز العدول إلى غيرهم فكيف وهو ثابت بالعلم.

وأما احتجاجه بالتصريف في : نبا ، ينبو ، فهو نابي ، فهذا أبعد وأبرد ؛ لأن التصريف يصح في أفعال الله تعالى بالإجماع كقولنا : طال ، يطول ، طولا فهو طويل ، وسمن ، يسمن ، سمنا فهو سمين ، وحسن ، يحسن حسنا فهو حسين ، وذلك إنما يثبت في ثبات النبوة الذي هو الارتفاع ، فإن كان ذلك فالله [سبحانه] (٣)

__________________

(١) في (ب) : لا تحاله تحت كلمتين من الآية.

(٢) سقط من (أ).

(٣) في (ب) : تعالى.

٣٣٢

الذي رفعه فالرفع فعل الرافع لا المرفوع ، وإن كان معنى الإخبار والإعلام فالله تعالى الذي أخبره وأعلمه بالغيوب بغير واسطة بشر وذلك معنى الرسالة ، فلو كانت النبوة تصح بمطلق الرفعة أو الإخبار والإعلام لكان الكل نبيا ، فاعلم ذلك.

مسألة [إسقاط التوبة للعقاب]

قال أيده الله : جرت المراجعة في مسألة إسقاط التوبة للعقاب هل تسقط بنفسها أو بثوابها؟

قلنا : بل بنفسها إذ لو كانت بثوابها أدى إلى [أن] (١) يكون ثواب توبة المشرك أعظم من ثواب الأنبياء من حيث أن ثواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسقط بعقاب شركه ؛ وعقاب شركه يسقط بثواب التوبة فيجب أن يكون أكثر منه أو يتساويا ، قال المعترض : إنما يلزم لو كان عقاب شرك النبي مثل عقاب شرك غيره ، فأما وقد علمنا أن النبي لو وقع منه الشرك كان عقابه يزيد على عقاب شرك غيره ممن ليس بنبي أضعافا مضاعفة لعظم موقع معصيته وكذلك طاعاته.

الجواب عن ذلك : إن التوبة تسقط الذنوب بنفسها ويبقى ثواب فعلها فضلة عليها فلا يتوجه السؤال.

وأما قول المعترض : إن عقاب معصية النبي تضاعف أضعافا كثيرة [فلو] (٢) وقفنا ذلك على دليل العقل لقضينا بأن عقاب شركه ومعصيته تكون أخف حكما من معصية غيره ؛ لأن من عصى عقيب طاعات كثيرة أهون في العقل موقعا ممن أساء بلا سابقة إحسان له ، وإنما ورد أن مضاعفة الثواب والعقاب لأهل الفضل والشرف

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) في (أ) : فلم ، وهو خطأ.

٣٣٣

كما ورد في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ولا نعلم من الحسنات كبيرة إلا التوبة ، والكبيرة يشترك في حكمها الأنبياء عليهم‌السلام وغيرهم من الطاعة والمعصية ، فاعلم ذلك ، على قدر الاشتغال في الخاطر.

مسألة [في تائب لا يقف عن الفكر في المعصية]

عن التائب الذي لا ينتزع من قلبه تصور المعصية والفكر فيها إلا أنه قد أضرب عنها وألزم نفسه ألّا يعاود إليها؟

الجواب عن ذلك : أمر لا يتمكن المكلف من دفعه عن النفس لا يتعلق به التكليف ، بل يسقط حكمه عن العبد ؛ لأن الله سبحانه إنما كلّف العبد ما يمكنه دون ما لا يمكنه ، ولو لا تلك الخواطر لما صحّ التكليف ، لأنها الأصل في مشقة الترك ، ولو لا تردد الداعي إلى الفعل لم يكن في الترك ثواب ، ولكن هجر المعاصي طاعة كما أنه لا ثواب لنا في هجر ما تكرهه نفوسنا ، وإنما تصح توبته بالاستمرار على الامتناع من القبيح ومنع النفس عن ذلك ، ولا يكون لما يتردد في القلب حكم إن لم يمكنه دفعه.

مسألة [فيمن تاب وعليه حقوق]

فيمن تاب وعليه دين للخالق والمخلوقين من دماء وأموال ، وكان قبل وفاته أو في خلالها قد تاب وأصلح وعلم منه المولى تبارك وتعالى أن لا مرجع إلى ما تاب عنه ، ولا مال له فيقضي ، ولا يوصي بالقضاء فيه ، غير أن الأرض داثرة لا تحرث كيف الحديث فيه وفي خلاصة؟

٣٣٤

الجواب عن ذلك : إنه إذا تاب وعلم الله تعالى صدق توبته غفر له ذنوبه وتجاوز عن سيئاته، فإن كان لا مال له ولم يجد ما يقضي قضى الله سبحانه عنه يوم القيامة من أعواضه المستحق على الله تعالى ، يزيد المؤمن في نعمته ويسقط عن العاصي من عقابه ويقدر ما استحق على صاحبه ، والله تعالى يعلم قدر ذلك.

مسألة [فيمن يستحق الشفاعة]

في شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن هي من الخلق ، هل لأهل النار المستحقين ، [أم لأهل التقصير] (١) أم لأهل الجنة يزدادوا نعما إلى نعمهم وشرفا إلى شرفهم؟

الجواب : إن الشفاعة لا تكون لمن يستحق النار من الفسّاق والكفّار ، لقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] ، وهم ظالمون بالإجماع ، وقد نفى الله سبحانه طاعة شفيعهم ، فلا يجوز أن يشفع لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إن أطيع أثبتنا ما أخبر الصادق سبحانه بنفيه وذلك لا يجوز ، وإن لم يطع كان تصغيرا لمنزلته وذلك لا يجوز ، ولا مخلص من ذلك إلا [القضاء] (٢) بأنه لا شفاعة لهم ، وإنما تكون للمؤمنين ليزدادوا نعيما إلى نعيمهم ، كما يشفع إلى السلطان في الزيادة في رواتب الأمراء ورفعهم من منزلة إلى ما هو أعلى منها.

مسألة [فيمن عمل صالحا ثم ختم عمره بكبيرة]

فيمن نصف عمره أو ثلثه أو شيء منه بما يرضي الله تعالى ، ثم عصى ومات

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) سقط من (أ).

٣٣٥

على معصيته تلك ، هل تدخله تلك المعصية نار جهنم ويحبط عمله في قادم عمره ، [أو] (١) هو مثاب على الحسن معاقب على القبيح؟

الجواب عن ذلك : إن الأعمال بخواتمها ، فإن ختم عمله بالتوبة هدمت ما تقدم وإن كافرا ، وإن ختمه بكبائر المعاصي أسقطت ما قبلها ، على أنه لا بد من الحساب بالحسن والقبيح ، ولكن الكبيرة من الحسنات ـ ولا نعلمها إلا التوبة ـ تستغرق أجزاؤها أجزاء المعصية ويبقى منها فضلة ، وكذلك الكبيرة من المعاصي تستغرق أجزاؤها الطاعة وتبقى فضلة.

مسألة [هل لأهل الجنة رغبة إلى الشهوات]

في أهل الجنة هل الدواعي متوفرة لهم إلى الطعام والشراب والنكاح وغيره ، قال : فإن كانت الدواعي باقية وجازت عليهم كان هناك شيء من الألم والمضرة ، قال : وإن لم يجز عليهم فكيف يلتذون بغير داع؟

الجواب عن ذلك : إن الدواعي في الآخرة أقوى منها في الدنيا إلى جميع المشتهيات والملاذ ، ولو لا ذلك لما كملت اللذة ، ولا تمت النعمة ، ولا يلحقهم ألم ولا مشقة ؛ لأن المشقة إنما تلحق من دعاه الداعي ولم يجد مشتهاه أو لم يتمكن من نيله ، فأما مع وجدانه والتمكن منه فإن ذلك أتمّ اللذة وأكمل النعمة ، وذلك معلوم ظاهر لمن يريده.

__________________

(١) في (ب) : أم.

٣٣٦

[مسائل القرطاسين]

وأما مسائل القرطاسين فمتشعبة منتشرة ، ولعل ما يحتويان عليه يتحصل في أربعة فصول ، وإن كان يدخل بعض الفصول في بعض.

الفصل الأول : الكلام في طريق الإمامة.

الفصل الثاني : في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه في ذلك.

الفصل الثالث : في إبطال سائر ما يدعى طريقا لها سوى ما نذهب إليه.

الفصل الرابع : الكلام في أحكام المخالفين ومنازلهم ، وبذلك نرجو تمام الغرض بالجواب إن شاء الله تعالى.

[الكلام في طريق الإمامة]

أما الفصل الأول : فاعلم أن الخلاف في الصدر الأول وقع في طريق الإمامة فقال قوم: طريقها النصّ من الله تعالى ومن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذه طريقتنا ومن وافقنا من الإمامية وإن خالفوا في كيفية وقوع النص في ذلك على ما تجده مشروحا إن شاء الله تعالى ، وقال آخرون : طريقها العقد والاختيار ، وهذه طريقة المعتزلة ومن قال بقولها ، ثم حدث بعد ذلك تفاصيل.

وأما بعد الصدر الأول فاعلم أن رأينا أن طريق الإمامة بعد الأئمة الثلاثة الذين هم : أمير المؤمنين ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام هي الدعوة والخروج مع كمال الخصال المعتبرة في ذلك ، عند جمهور المعتزلة طريقها العقد والاختيار أولا وآخرا مع أنهم ما خالفونا في إمامة أحد من آبائنا على كافتهم السلام لكن ادعوا ثبوتها

٣٣٧

بالاختيار ، وإن كان قد وقع العقد لكثير منهم عليهم‌السلام على وجه التأكيد وإن كان ما ذكرنا هو الأصل في ذلك.

وذهبت الخوارج ومن قال بقولها إلى أن طريق الإمامة الصلاح في الدين وأنها جزاء على العمل.

وذهبت الحشوية ومن رأى برأيها أن طريقها القهر والغلبة.

وذهب من [أراد] (١) طلب التفرقة بين أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أنها تستحق بالإرث من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليروم بذلك ثبوتها لولد العباس ـ رضي الله عنه ـ فهذا بزعمه ما يتحصل من ذكر الخلاف في المسألة ، ولم يتعرض لمذهب الإمامية مع أنهم يقولون : [إن] (٢) طريقها النص الجلي في الأئمة الثلاثة ، وفيهم من يدعي ذلك النص أيضا في تمام اثني عشر من أولاد الحسين عليه‌السلام.

ومنهم من يتوخى [طريقا أخرى] (٣) لكن ما يبطل عليهم به أن النص الجلي لم يرد ، يأتي على سائر ما يدعونه في ذلك أولا [وآخرا] (٤) ، والله ولي التوفيق.

[الكلام في صحة ما نذهب إليه في الإمامة]

وأما الفصل الثاني : وهو الكلام في صحة ما نذهب إليه من ذلك فاعلم أنا نذكر هاهنا الدلالة على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام وولديه عليهما‌السلام ولنا في ذلك طرق ، ونقتصر منها على ما لا بد منه ، فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ

__________________

(١) زيادة في (ب).

(٢) سقط من (ب).

(٣) في (ب) : طرقا أخر.

(٤) في (ب) : وأخيرا.

٣٣٨

اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) [المائدة : ٥٥] ، وهو عليه‌السلام المراد بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) بإجماع العترة على ذلك ، وعلى أنه الذي آتى الزكاة راكعا واستفاض بذلك الخبر ، ونحن نرويه بالإسناد الصحيح ، فأثبت الله تعالى له الولاء على الكافة كما أثبتها لنفسه ولرسوله عليه‌السلام وهي ملك التصرف فيهم والرئاسة عليهم ، كما يقال : هذا ولي المرأة واليتيم والدار الذي يملك التصرف فيه ، وكذلك ولي العبد والأمة وذلك ظاهر في اللغة من معنى هذه اللفظة ، وإجماع أهل البيت حجة لقوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج : ٧٨] ، وهو سبحانه لا يختار للشهادة من يعلم إجماعهم على ضلالة ، وقد خرج سائر ولد إبراهيم من هذا الظاهر الإجماع وبقي أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [داخلين] (١) تحته ، وإلا عري اللفظ عن الفائدة وذلك لا يجوز ، فثبت بذلك كله أنه عليه‌السلام هو الإمام ، وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعلي مولاه» بعد قوله: «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه» (٢) [ومولى] (٣) تستعمل بمعنى أولى وهو أحد حقائقه ، قال الله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد : ١٥] معناه هي أولى بكم ، فيكون عليه‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، كما كان ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد روي ذلك بالإسناد عن الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام وقد سئل عن معنى الخبر؟ فقال عليه‌السلام : سئل عنها والله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «الله مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه ، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من

__________________

(١) كذا في (ب) ، وفي (أ) : داخل.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) في (ب) : ولا تستعمل بمعنى أولى ، وهو خطأ.

٣٣٩

أنفسهم لا أمر لهم معي ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي فعلي مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معه» (١) وهذا نص كما ترى فيما ذكرناه وذلك يفيد الإمامة فثبتت إمامته بذلك ، وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام في مواطن عدة : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (٢) فأثبت له جميع منازل هارون من موسى إلا النبوة ، ومن منازل هارون من موسى ـ عليهما‌السلام ـ استحقاق الخلافة لقوله تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف : ١٤٢] ، والإجماع على أنه لو بقي بعده لكان أحق الخلق بالتصرف في أمته ، ومن منازله منه الشركة في الأمر وشد الأزر لقوله تعالى حكاية عن موسى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه : ٢٩ ـ ٣١] ، فأجاب الله سبحانه سؤاله فقال : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦] ، ولا شك أن الخلافة في الحياة

__________________

(١) حديث الغدير حديث مشهور أخرجه الإمام محمد بن سليمان الكوفي في (مناقب أمير المؤمنين) بأرقام (١٠١ ، ٨٤١ ، ٨٤٦ ، ٨٥٠ ، ٨٥٢ ، ٨٥٥ ، ٨٦٥ ، ٨٦٧ ، ٨٧٠ ، ٨٧١ ، ٨٧٧ ، ٨٧٨ ، ٨٨١ ، ٨٨٤ ، ٨٨٦ ، ٨٩١ ، ٨٩٣ ، ٨٩٤ ، ٨٩٩ ، ٩٠٩ ، ٩١٥ ، ٩٣١ ، ٩٣٥ ، ٩٣٦ ، ٩٤٠ ، ٩٤١ ، ٩٤٦ ، ٩٤٩) ، وأخرجه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني في (الأمالي الصغرى) بتحقيقنا ص ٩٠ رقم (١١) ، وقد أوردنا له تخريجا مطولا من ٩٠ ـ ٩٣ نفس المصدر. وانظر تخريجات المحمودي للأحاديث السابقة في (مناقب أمير المؤمنين) ، وانظر أيضا : كتاب (العمدة) لابن البطريق من ص ٩٢ ـ ١١٩ ، و (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٨ / ٥٣٠ ـ ٥٣١ ، و (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) ج ١٥ / برقم (٦٩٣٠ ، ٦٩٣١) ، ومناقب ابن المغازلي من ٢٩ ـ ٣٦ ، و (الأمالي الخميسية) ١ / ١٤٥ ، ١٤٦ ، (لوامع الأنوار) ٤١ ـ ٤٦ ، وفي الحديث وطرقه كتب ورسائل وبحوث وفصول يصعب استيفاؤها.

(٢) حديث المنزلة ، حديث مشهور ، أخرجه الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني في (الأمالي الصغرى) برقم (٢٠) ص ١٠٤ ، ١٠٥ ، وقد أوردنا الكثير من مصادره في تحقيقنا لهذا الكتاب. انظر ص ١٠٥ ، ١٠٦ ، وهو في (مناقب أمير المؤمنين) لمحمد بن سليمان الكوفي تحت أرقام (٤١٦ ، ٤١٩ ، ٤٢١ ، ٤٢٤ ، ٤٢٥ ، ٤٢٨ ـ ٤٣١ ، ٤٣٤ ، ٤٤٨ ، ٤٤٩ ، ٤٥٦ ، ٤٦٠ ، ٤٦٣ ، ٤٧٠ ، ٤٧٧ ـ ٤٨٢ ، وفي (مناقب ابن المغازلي) ٣٧ ـ ٤٣. وانظر (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٢ / ٥٤٤ ، وكتاب (العمدة) لابن البطريق ص ١٢٤ ـ ١٣٨.

٣٤٠