مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] فبان أنما ذكره إنما يلزم على المسامحة ، وهو أن يكون الباري تعالى عن ذلك غائبا بخطابه بغير موجود ، وإلا فيلزمهم ما هو أعظم من ذلك عند الله ، وهو أن يكون الكلام إلها ثانيا ، وربا متعاليا ، إذا حققوا قدمه ، وقالوا : لا أول لوجوده ، وذلك يخرجه عن كونه كلاما ، فأما نحن فنذهب إلى أن الله تعالى لما اصطفى موسى للرسالة واجتباه بالنبوة وتلاح له بالنور من جانب الطور الأيمن في البقعة المباركة ، وأوفض إليه موسى منصدا (١) بالاقتباس جذوة أو شهاب ، كما ذكر سبحانه في الكتاب ، فلما جزع الوادي المقدس أحدث القديم تعالى في الشجرة كلاما أفهم به كليمه مراده إفهاما ، وأورثه ذلك في الآخرين تبجيلا وإكراما ، وتشريفا وإعظاما ، فخلع النعلين ، وألقى العصا ، وأخرج اليد من غير سوء بيضاء ، فسار إلى فرعون وملائه بتسع آيات بينات ، فصار كليم الله من بين النبيين سلام الله عليهم أجمعين إذ أسمعه كلاما لا بواسطة حي سواه ، في أول ما أرسله واجتباه ، وقربه وناجاه ، وسائر الرسل كرم الله وجوههم ، وأعلى في دار كرامته منازلهم ، كان الكلام ينتهي إليهم تنزيلا على لسان الروح الأمين ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى إخوانه الملائكة المقربين ـ فكانت تلك فضيلة خص الله بها موسى صلى الله عليه وهو بها جدير ، وذلك فضل يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم الكبير.

المسألة الثانية والأربعون [في كلام الله أيضا]

قال تولى الله هدايته : وهل إن كان محدثا وهو معنى فقط فلا يصح إحداثه إلا في محل ويعرضه قلب أمين الوحي جبريل صلى الله عليه ، وإذا كان هكذا فهو كلام

__________________

(١) في (أ) : منصدا ، وفي (ب) : متصدرا.

٣٠١

من قام بقلبه كالحكم في حدث الإرادة وله اختصاص بمحله لا تعدوه إلى محل آخر ، وهكذا كل قائم بغيره يجري على حكم الاختصاص ، فيلزم من ذلك أن معنى ما نقرؤه من القرآن ليس هو كلام الله وينتفي عن الإله تعالى حكم الاستناد في إحداثه إليه ، كاستناد [ما في جميع] (١) العالم من الأعراض إلى أنه محدثها في محالها التي لا قوام لها إلا فيها وبها يوصف كالسواد الذي صفة لمحله حتى قيل أسود ، فيكون بهذا كلام البشر لا كلام الله ، وفي ذلك تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخروج عن الملة ، أفتنا يرحمك الله.

الجواب : قد بينا فيما سبق الكلام على حدثه فلا معنى لترداد ذكره ، وبينا أنه ليس بمعنى زائد على الأصوات والحروف ، وما ذكره من الإلزام متفرع على أنه معنى زائد عليها ، وعلى أنه صفة للمتكلم وليس بفعل من أفعاله بما تقدم فلا صحة ، فإذا بطل الأصل بطل الفرع تبعا ؛ إذ صحة الفرع مبنية على صحة أصله ، وبطل الأصل الذي هو كونه معنى زائدا على ما ذكرنا وكونه صفة للمتكلم ، حيث بينا أنه فعل من أفعاله فيما تقدم ، فلا صحة للفرع الذي فرعه عليه ، وقياسه للكلام على الإرادة لا يصح ؛ لأن الإرادة توجب للجملة إذا حلت في قلب الحي ، وإن لم تحل أمالها في جميع أجزائه على سبيل الشياع ، وليس كذلك الكلام ؛ لأنه لا يوجب للمتكلم حالا فلو حل قلب الأمين لم يوجب له صفة كونه متكلما ، غير أن الكلام ليس بمعنى في النفس كما قدمنا ، وليس مرادنا التطويل وبقية [النب] (٢) ينبي عن صدق البارق وإصابة النو.

وقد بينا فيما تقدم أن هذا الموجود بين أنباء كلام الله ، وبينا كيفية إضافته إليه

__________________

(١) في (ب) : جميع ما في.

(٢) في (أ) ، (ب) : النبيون ، ولكن بدون نقاط.

٣٠٢

من حيث [الإنشاء] (١) وقررنا بضرب المثال [في] (٢) المنشد والقصيدة. وهذا هو الجواب عما سألت أرشدك الله.

المسألة الثالثة والأربعون [هل العرش والكرسي متباينان أم متماثلان؟]

قال تولى الله هدايته : إن الله سبحانه [نبّأنا] (٣) في كتابه العزيز بأن له عرشا وكرسيا بقوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ) [البقرة : ٢٥٥] ، وقوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ) [الحاقة : ١٧] ، فهل العرش هو الكرسي؟ فتكون الأسماء على واحد كالصارم والحسام أو ذاتان ، وإن كانا ذاتين فهل هما متماثلان؟ أو متباينان على الإطلاق أو متماثلان من وجه ومتباينان بآخر؟ وما الذي به تماثلا؟ وما الذي به تباينا؟.

الجواب : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في معنى العرش والكرسي ، فمنهم من قال : العرش ملكه تعالى ، والكرسي علمه ، وهؤلاء جروا على أصل اللغة ، وما فسروهما به شائع في اللغة شياعا يغني عن الاستشهاد ، ويكون قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] معناه يقوم بتدبير الملك ويتولى حساب الخلائق في موقف العرض الذي لا حكم فيه لغيره ، فيكون الحمل هاهنا مجازا كما يقال : فلان يحمل ملك فلان إذا كان يلي تدبيره ، ويتولى سياسته ، ويقوم بصلاحه ، ويتحمل أثقاله ، والثمانية يراد بهم الملائكة عليهم‌السلام ويحتمل أن ثمانية أشخاص ، ويحتمل أن يكون ثمانية آلاف أو ثمانية أصناف ولا مانع من ذلك ، ويكون تورية الله لهم ذلك من جملة ثوابهم لما يدخل عليهم في ذلك من السرور والجذل والحبور ، ولا

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) سقط من (أ).

(٣) في (أ) : نبأ.

٣٠٣

تلحقهم سآمة ، ولا يرهقهم ملل ، وكيف ذلك وقد خصهم بكرامته.

ألا ترى أن كثيرا من الناس إذا تولى شيئا من أمر السلطان يجد حالا ومزية يستصغر عندها بذل ماله وروحه لما يجد من محبة الزلفة ولذة الكرامة ، فكيف بمن لا يشبه ملوكه البشر تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا.

وهذا التأويل مروي عن جماعة [من] (١) أئمة آل الرسول عليهم‌السلام ويحملون قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس : ٣] على أن المراد به استولى على الملك ، والاستواء بمعنى الاستيلاء كما قال البعيث (٢) شعرا :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

فالحمد للمهيمن الخلاق

يريد ببشر بشر بن مروان بن الحكم (٣) ، وبالاستواء الاستيلاء ، يريد استولى على العراق بغير طعن ولا ضرب ، ومن العلماء من ذهب إلى أن العرش والكرسي خلقان من خلق الله عظيمان ساميان على السماوات السبع محيطان بها وبالأرض ، وعمدتهم في ذلك ما روي عن الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما الكرسي في جنب العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاة ، وما السماوات والأرض في جنب الكرسي إلا كالكرسي في جنب العرش» (٤) ويكون فائدة إفراده بذكر الاستيلاء عليه ، وإن

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) كذا في النسخ.

(٣) بشر بن مروان بن الحكم بن أبي العاص القرشي ، المتوفى سنة ٧٥ ه‍ ، عن نيف وأربعين سنة.

أمير ، ولي البصرة والكوفة لأخيه عبد الملك سنة ٧٤ ه‍ ، وهو أول أمير مات بالبصرة.

انظر (معجم رجال الاعتبار وسلوة العارفين) ، ومنه (الأعلام) ٢ / ٥٥.

(٤) لم أجده بلفظه وأورده بلفظ : «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» أورده بهذا اللفظ الذهبي في (العلو للعلي الغفار). قال السيد حسن بن علي السقاف : (موضوع) رواه البيهقي في (السنن) ٩ / ٤ ، وأبو نعيم في (الحلية) ١ / ١٦٨ ، وابن عدي في (الكامل في الضعفاء) ٧ / ٢٦٩٩ ، وابن حبان في صحيحه ٢ / ٧٧ ـ ٣٦١.

٣٠٤

كان مستوليا على غيره أنه إذا قدر على العرش وملكه مع عظمه فبأن يقدر على ما دونه أولى وأحرى.

ويكون هذا نازلا منزلة قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] يريد الإعادة ، فكأنه إذا قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر ، ممثلا لهم بما يقرب إلى أفهامهم ، وإلا فليس على قدرته عزيز ولا عسير تعالى عن ذلك ، ويكون معنى الثمانية أحد الوجوه التي قدمنا ، ويكون ويحمل عرش ربك الحمل الحقيقي الذي هو بمعنى الإقلال ، وقد ورد في الحديث : «تحت ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله رجل خرج من بيته فأسبغ الطهور ، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله [فهلك] فيما بينه وبين ذلك ، ورجل قام في جوف الليل بعد ما هدأت العيون فأسبغ الطهور ، ثم قام إلى بيت من بيوت الله ، فهلك فيما بينه وبين ذلك» (١) والظل لا يكون إلا لجسم كثيف عال ، ويجب حمله على حقيقته ؛ لأنه لا ملجئ إلى تأويله ، ويكون حمل الملائكة له بحيث لا يلحقهم تعب ولا نصب ، بل يزدادون بذلك محلا ، ويحوزون به [شرفا] (٢) ويستلحقون به لذة ، ويحسون (٣) به سرورا وراحة.

وكلامنا في هذه المسألة إنما يقع مع من أثبت إلها قادرا ، عدلا حكيما ، يعلم أن أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون.

فأما من نفى الباري على هذا الحد ، وتأول الشريعة على غير معانيها التي وضعت لها ، وفسر العرش والكرسي والأفلاك بالأملاك ، وفسر الأملاك بغير ما

__________________

(١) حديث تحت ظل العرش. رواه الإمام الهادي في الأحكام.

(٢) سقط من (أ).

(٣) في (أ) و (ب) : ويحتسون.

٣٠٥

نطقت به الشريعة من الكتاب والسنة ؛ فالواجب أن ينتقل معه الكلام إلى إثبات الصانع وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز ، ونضرب عن هذه المسألة رأسا (١) حتى ننتهي إليها ، وقد تقررت قواعدها ، وقامت شواهدها.

وأما قوله : هل هما متماثلان إلى آخر كلامه ، فمن قال : إنهما جسمان فرقتان :

فرقة تقول بتماثل الأجسام ، وفرقة تأبى ذلك ، ونحن نقول بتماثلهما ، ومعنى ذلك أن كل واحد منهما سد مسد الآخر فيما يرجع إلى صفة الذاتية فعلى هذا [هما] (٢) متماثلان.

وأما قوله : أو متماثلان من وجه ومختلفان من وجه ، فهذا سؤال لا وجه له على التحقيق ونحن في ميدانه ؛ لأنهما إذا تماثلا امتنع اختلافهما ، وإذا اختلفا امتنع تماثلهما ، وإن أراد الاختلاف والمماثلة اللغويين فذلك شائع ، وهما مختلفان في التركيب والتقدير ، والترتيب والتصوير ؛ لأن أحدهما فوق الآخر وأعظم من الآخر ، وتأليفه غير تأليف الآخر ، وهذا عند أهل اللغة اختلاف ، وإن كانت الذوات متماثلة ، فهذا ما احتمله هذا الموضع من الكلام في هذه المسألة.

المسألة الرابعة والأربعون [هل للعرش والكرسي حقيقة في الوجود؟]

قال تولى الله هدايته : أو هل [ذلك] (٣) في القول ولا حقيقة عين في الوجود كالاسم الفارغ وهو الذي [لا] (٤) تعلق له بوجود ، وهذا غير جائز على الله تعالى

__________________

(١) في (ب) : رأينا.

(٢) سقط من (أ).

(٣) سقط من (أ).

(٤) سقط من (أ).

٣٠٦

أن يثبت في كتابه العزيز ما لا حقيقة له وما شهد به كتابه تعالى ، فلا سبيل إلى دفعه فبحصول وجودهما إن وجبا ذاتان أو واحدة فهل هما أجسام أو أعراض في أجسام أو جواهر؟

الجواب : ما نطق به الكتاب العزيز فلا رادّ له ، فمن نطقت بالتوحيد شفتاه ، واتصلت بربه سبحانه معرفته ، وكيف نردّ ما ورد به وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، وحقيقة ما ذكر منهما في كتابه سبحانه ـ أعني عن العرش والكرسي ـ ما قدمنا في المسألة الأولى فلا معنى لتكرار ذلك.

المسألة الخامسة والأربعون [هل لهما لون ومقدار وهيئة؟]

قال تولى الله هدايته : إن كانا جسمين فهل هما كالأجسام المرتبة فيكون لهما لون ومقادير وهيئة ، إذ قد يلزمك أيها الأخ أيدك الله بيان ذلك إن كنت تدرك الحقيقة ، مطلوب محدث أدرك شرائطه ولوازمه ، وإلا فكانت دعوى الوقوف [على] (١) حقيقة ما يجب [له] (٢) وينتفي عنه محال ، وإن ينفيا عنهما ذلك فليسا كالأجسام المرئية ولا لون ولا مقادير ولا هيئة ، فليسا بأجسام لانتفاء شروط الأجسام عنهما.

الجواب : قد بينا الكلام في حقيقتهما وكيفية إثباتهما عند العلماء ، فمن قال : [إنهما] (٣) جسمان فإنه يذهب إلى أن الطريق إليهما السمع ، وقد ورد الكتاب

__________________

(١) في (أ) : في الحقيقة.

(٢) سقط من (أ).

(٣) في (ب) : هما.

٣٠٧

والسنة بذكرهما جميعا ، ومقاديرهما ما ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما قدمنا ذكره من الخبر.

فأما ذكر في لونهما وهيئتهما فلم يرد السمع بشيء من ذلك ، وليس وجود الجوهر والأجسام مضمنا بوجود الألوان كما هو مضمن بوجود الأكوان ، حتى يلزم إذا لم يكن لهما لون خروجهما عن الجسمية ، وقد ذهب بعض أهل العلم أن الماء لا لون له ؛ ووجه ما ذكره عندنا قوي وشاهده المشاهدة من حيث أن اختلاف لونه مانع لاختلاف ألوان الأواني ، فلو كان له في نفسه لون وجب ثبوته ، ولم يلزم باختلاف ألوان الآنية اختلافه كما في سائر المائعات ، وبعد فإنه لا دليل يتوهم على أنه لا يجوز وجود الجسم إلا ملونا إلا مجرد الواجدان (١) ، وأهل التحصيل يأبونه ، وكفى بالمذهب فسادا لئلا يقوم عليه دليل ، وهما أعني العرش والكرسي مثلما نشاهده من الأجسام على المماثلة الحقيقة التي قدمنا ، وإن كان يجوز اختلاف الألوان والهيئات والتركيبات ولا يحيط بمعرفة ذلك على التفصيل إلا الله سبحانه ، فما أخبرنا به ورسوله فنحن به مؤمنون.

المسألة السادسة والأربعون [هل للعرش والكرسي جسم جماد أم حي؟]

قال تولى الله هدايته : إن كان المدلول بهذين الاسمين واحدا أو اثنين ، فهل أحدهما أو كلاهما جسم جمادي إن وجب كونهما أجساما ، أو جسم حيواني بهيمي ، أو حي ناطق عاقل دراك يعقل أن له خالقا أوجده.

الجواب : قد بينا أن الطريق إلى ثبوتهما السمع عند من قال : إنهما

__________________

(١) كذا في النسختين.

٣٠٨

جسمان ، ولا دلالة في السمع تدل على كونهما [حيين] (١) بهيميين ، أو ناطقين عاقلين دراكين ، وما كان طريقه السمع لم يجز إثباته إلا على الوجه الذي ورد به ، ولم يرد السمع بشيء من ذلك ، أعني الحياة وما يتبعها من نطق وغيره فيجب الاقتصار على ما ورد به.

وأما من يتأول الشريعة على غير دين الإسلام فأولى أن يقبل معه الكلام كما قدمنا ، فهذا هو الكلام في هذه المسألة ومن الله نستمد التوفيق والهداية.

المسألة السابعة والأربعون [معنى قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)]

قال تولى الله هدايته : قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] ما معنى ذلك؟ وهل قوله وسع لفظة مقصود بها إحاطة الأجسام بعضها ببعض فيكون كرسيه تعالى مكانا للسماوات والأرض ، أو مقصود بها إحاطة علم فيكون حيا عاقلا عالما إذا كان جسما حيوانيا ، فهل يلزمه ما يلزم الأجسام الحيوانية الدنياوية من تغذية وغيرها كالإنسان والطير وما سوى ذلك ، أو كالحيوان الدنياوي فيكون كالملائكة على رأي من يرى أن الملائكة أجسام ، فيكون ملكا مقربا ، أو جسما لا كالحيوان المتغذي كالشمس والقمر وما جانسهما.

الجواب : قد بينا اختلاف العلماء في العرش والكرسي على قولين ، ونحن نبين معنى قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] على كل واحد منهما على وجه الاختصار.

اعلم أن من يذهب إلى أن معنى الكرسي العلم يحمل قوله تعالى : (وَسِعَ

__________________

(١) في (أ) ، (ب) : حبر.

٣٠٩

كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] على أن المراد به إحاطة علمه تفصيلا وجملة بما في السماوات والأرض ، حتى [لا] (١) يغادر منهما ولا مما فيهما ذبابا ولا نملة ، فعلمه بما فوق السماوات والأرض كعلمه بما تحتهما وبما في جوفيهما ، وعلمه بما جن عليه الليل كعلمه بما أشرق عليه النهار ، فأتبع سبحانه التمدح بإحاطته بهما أنهما لا [يؤده] (٢) حفظهما حفظا ؛ لأن التمدح لا يقع بحفظ ما لم يعلم ، فلما أخبر أنه عالم بهما أخبر أنه حافظ لهما ، ومن قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) أي علمه.

قولهم : علم فلان واسع إذا كان مستدركا للغوامض ، عارفا بالدقائق ، فلما كان علمه ليس من علم المخلوقين بسبيل ، وكيف وهو لا يفتقر إلى برهان ولا دليل ، وطرد الآفات عليه تبارك وتقدس مستحيل ، ساغ أن يقول : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] أي أحاط علما بالسماوات والأرض.

وقوله سبحانه في العلم وسع وإن كان مجازا من حيث أن حقيقته في الأجسام شايع ؛ لأنه سبحانه خاطب العرب بلغتهم وهم يخاطبون بالحقيقة والمجاز ، وذلك يقتضي (٣) بأن خطابه على طريقهم ، ولأن المجاز قد ورد في خطابه على طريقتهم ، ولأن المجاز قد ورد في خطابه تعالى في قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ) [يوسف : ٨٢] ، والمراد أهل القرية وأهل العير ؛ لأن العير الإبل وهي بهائم لا تفهم ولا تجيب ، والقرية منازل وأبنية جماد والجواب منها أبعد وسؤالها لا يتوهم ، فثبت أن المراد واسأل أهل القرية وأهل العير. والمجاز : ما أفيد به ما لم يوضع له ، وإنما استعير له ولم يسبقه إلى الإفهام بنفسه ، فإذا ثبت أنه تعالى قد خاطب بالمجاز

__________________

(١) في (ب) : لم.

(٢) في (ب) : لا توودانه.

(٣) في (ب) : وذلك يقتضي جريان خطابه.

٣١٠

خلافا لما تذهب إليه الحشوية فلا معنى لقول من يقول : كيف قال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي علمهما على التفصيل والجملة ، والعلم لا يتوهم فيه السعة ؛ لأنا نقول خاطب بذلك سبحانه على جملة التوسع والمجاز ، وخطابه بالمجاز جائز دليله ما قدمنا ، فلما كان علمه بهما بحيث لا يغادر شيئا منهما صار كأنهما داخلان في إثباته متغلغلان في قيعانه وهو محيط بهما وحائز لهما جاز أن يتجوز في ذلك سبحانه بقوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

وأما قوله : إذا كان المراد به إحاطة علم كان حيا عالما عاقلا يعني العلم ، فذلك قول لا وجه له ولا خفاء بسقوطه ؛ لأنه إذا قيل : علم فلان محيط بكذا وكذا لم يسبق إلى الأفهام ، ولا يخطر في الأوهام ، أن علمه عالم عاقل حي ؛ لأن علمه عرض ، والعلم والحياة والعقل مستحيلة عليه ؛ ولأن ذلك لو جاز فيه أدى إلى التسلسل.

فأما الباري تعالى فلا يتصور الإلزام في حقه لاستحالة كونه عالما بعلم فيقال : هل ذلك العلم عالم أم لا؟ فلا وجه لما ذكره على كل حال ، وقد بينا فيما تقدم أن الطريق إلى جسمانية العرش [والكرسي] (١) السمع ، ولا دلالة فيه تدل على أنهما حيان فيستحيل سؤاله عن التعدي وتوابعه لاستحالة الحياة.

وأما قوله سبحانه : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] على قول من يقول : إن الكرسي جسم على ما قدمنا ، فإنه يحمل قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] على حقيقته ؛ لأن السماوات والأرض عنده في جنب الكرسي كما ورد في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كحلقة ملقاة في فلاة ، ولا شك في كون الفلاة واسعة للحلقة وأمثالها ، وذلك تشبيه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصغر السماوات والأرض في جنب الكرسي كالحلقة في جنب الفلاة ، ولا يقتضي ذلك كون

__________________

(١) سقط من (أ).

٣١١

الكرسي قرار الأرض ، كما أن قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٩] على شكل البيض والاستدارة ، وإنما شبههن بالبيض في الوضاءة والصقالة ؛ لأن التشبيه عند العرب يقع لوجه ، والخطاب بلغتهم من الله ومن رسوله ، فمن هناك تشبيه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بالفلاة في السعة والإحاطة ، وهو عند من ذهب إلى أنه جسم فوق السماوات والأرض حاف من أعلاهما ، وقوله سبحانه لا يفيد كونه مكانا لهما ؛ لأن المكان ما يستقر عليه الكائن ، ولم يدل دليل على أنه كذلك ، ولفظ وسع قد يستعمل فيما يحيط من الجهات العلى.

ألا ترى أنه يقال : وسع المغفر رأس الرجل وإن كان فوقه وأمثال ذلك كثيرة ، فعلى هذا ذكره تعالى للكرسي ووسعه للسماوات والأرض إبانة لقدرته وإيضاحا لعظمته ، بحيث أن الكرسي في هذا الحد من العظم والعرش فوقه في ذلك ، ولم يشغله حفظهما عن حفظ السماوات والأرض ، بخلاف ملوك البشر فإنه إذا اتسعت مملكته وقلت أعوانه شغلته جهة عن جهة ، فأخبر تعالى أنه لا يلهيه شأن عن شأن ، ولا يشغله مكان عن مكان ، ولا يفتقر إلى أعوان تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فهذا هو الكلام في هذه المسألة ومن الله نستمد الهداية.

المسألة الثامنة والأربعون [الحكمة من خلق العرش والكرسي]

قال تولى الله هدايته : بهذا الإجماع ونص الكتاب والأدلة النظرية أن الله عزوجل لم يخلق شيئا عبثا ، وانتفاء العبث يوجب أنه تعالى خلق كل مخلوق أوجده لمراد مقصود على وجوب الحكمة والإتقان ، فما المراد بالعرش والكرسي إن كانا أجساما جمادية وهو تعالى منزه عن الجلوس والمكان ، ولما انتفى العبث والجلوس والمكان لزم مراد غير ذلك ، فما هو ذلك المراد الذي من أجله خلقا وقد قال تبارك وتعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، فوجب

٣١٢

القصد وانتفاء العبث.

الجواب : اعلم أن الواجب على المكلف أن يعلم أن الله تعالى لا يفعل فعلا إلا لحكمة تحسن ، وإن لم يعرف وجب عليه التسليم ولم تلزمه المناقشة عن الوجه.

ألا ترى أنا لو هجمنا على آلة صانع قد قضينا له بالحكمة في صناعته فرأينا اختلاف تقديرها وحجومها في الصغر والكبر ، والغلظ والرقة أنا نقضي أنه ما فعل شيئا منها على ذلك الوجه إلا لغرض يخصه ، وإن لم نعرف ذلك الغرض فالباري سبحانه أولى بتسليم الحكمة له ، والقضاء بأنه لا يفعل إلا ما يتعلق به الصلاح ، ويلازمه الحسن ، وقد بينا أن الكلام في هذه المسألة لا يقع إلا مع من أثبت للعالم إلها قادرا عدلا حكيما لا يفعل فعلا إلا لحكمة ، وقد انتفى كون خلقهما عبثا ، فهذا هو الكلام في هذه المسألة على وجه الجملة.

وأما الكلام على وجه التفصيل فنقول : إن المراد بخلقهما اعتبار المكلفين من الملائكة وغيرهم من المتعبدين ، فاعتبار الملائكة بما يعاينوه فيهما من آثار الصنعة ، ومواقع الحكمة ، وطرائق القدرة ، فيكونون مع ذلك أقرب إلى فعل الطاعة والانقياد للعظمة ، ولا شك أن الفعل الذي يكون مقربا للمكلف من فعل الطاعة وترك المعصية حسن تحكم بحسنه العقول السوية.

وأما الجن والإنس فتعلقت مصلحتهم بأن يعلموا من جهة السمع أن له سبحانه عرشا وكرسيا في مقدار من الجسمية عظيم ، وأنه حافظ لهما ، وممسك لهما أن يزولا عن أماكنهما ، وأن ينحطا على ناحيتهما بغير علاقة ولا عمد ، مع أنهما في غاية من العظم ولم يشغله ذلك عن حفظ السماوات والأرض وما بينهما ، ولا آده ـ بمعنى هاضه وبهضه ـ حفظهما ، وهو العلي عن ظلم عباده ، العظيم عن لحوق السآمة ، ولا شك أن العاقل إذا سمع بعظم اقتدار ملكه وشدة حفظه لملكه مع سعته

٣١٣

وانتشاره أنه يكون أقرب إلى مطاوعته ، وأبعد عن مخالفته ، خيفة من سطوته ، وطلبا لفظه وعطيته ، فلما علم سبحانه أن صلاح المكلفين في ذلك أوجده على مقدار ما يعلمه من الصلاح ، فاضطر سبحانه الملائكة إلى مشاهدته ، وأخبر الجن والإنس به على لسان نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذا هو المراد الذي سأل عنه في خلق العرش والكرسي ، لأنه سبحانه لما أراد من المكلفين العبادة اقتضت الحكمة وجوب اللطف المقرب مما أراد ، ولم يكن سبحانه ليحل ما يجب في الحكمة فعله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، هذا خبر أتينا على آخر كتابنا وابتدأنا باسم الله وانتهينا إلى حمده ، وهو أهل الحمد ومستحقه ، ومولاه ووليه ، لما خصنا به من الهداية ، ومنحنا من الكرامة ، وأمدنا به من العصمة ، وحبانا به من ولادة نبيه الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الأكرمين فأنى بعدها منه فضال دونها المنن ، ونعمة صافية الزبل والردن ، إذ وصل حبلنا مما لا يخشى انقطاعه ، وأحلنا طودا من المجد معشبة تلاعه ، كما ورد عن النبي العربي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل نسب منقطع إلا نسبي وسببي» (١) ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، فحمدا له حمدا ، وشكرا له شكرا ، إذ جعلنا الأدلة إلى دينه ، واجتبانا لقمع الباطل وشياطينه ، قال رسوله المكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام وليا من أهل بيتي يعلن الحق وينوره ، ويرد كيد الكائدين» (٢) فاعتبروا يا أولي الأبصار ، ومعاذ الله أن أتصدر

__________________

(١) سيأتي تخريجه في رسائل قادمة.

(٢) رواه الإمام الناطق بالحق أبو طالب عليه‌السلام في أماليه ، بسنده إلى جعفر الصادق ، إلى أمير المؤمنين بلفظ : «إن عند كل بدعة تكون بعدي يكاد بها الإيمان وليا من أهل بيتي موكلا يذب عنه ، يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله».

انظر (تيسير المطالب في أمالي الإمام أبي طالب) ص ٩٢ ، وهو في (لوامع الأنوار) للسيد مجد الدين المؤيدي ج ١ / ١٤ ، ١٥ ، عن أمالي أبي طالب. قال : ورواه السيوطي ، عن أبي نعيم في (الحلية) وأبو نصر السجزي في (الإبانة) بلفظ : «إن عند كل بدعة يكاد بها الإسلام وأهله وليا صالحا يذب عنه ويتكلم بعلاماته».

٣١٤

لافتخار ، وكيف والنهي وارد عنه ، ولكني ما أورد ما أورد إلا إظهارا للنعمة والأمر وارد به. قال عز من قائل : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) [الأعراف : ٦٩ ، ٧٤] أي نعمه ، فلما لم يذكروا عاقبهم على ترك ذكر الآلاء ، نعوذ بالله أن نكون من العاصين فيرهقنا العقاب ، أو نتعدى الحدود فينزل بنا العذاب ، ونسأل الله أن يرزقنا متابعة السلف الصالح من آبائنا ، ويجعل ذلك الظاهر من إتياننا ، والباطن من ضمائرنا ، الذين قرنهم بكتابه العزيز على لسان نبيه الكريم في خطابه للأمة ، وقد شكوا عليه بعد وفاته مخافة الغمة ، حيث يقول : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليا الحوض» (١) لن لنفي الضلال آخر الأبد وورود الحوض يوم القيامة ، وليس بعد ذلك تكليف فمثلهم بسفينة نوح العاصمة ، وجعل مخالفتهم المغرقة القاصمة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاة تبلغه الرضى : «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى» (٢) وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو

__________________

(١) سبق تخريجه في أول (الرسالة الهادية).

(٢) حديث السفينة سبق أن أوردناه ، نقلا عن محقق (الفلك الدوار) ص ١٠ ، و (الإرشاد) للإمام القاسم ص (٥٥) في الجزء الأول من (المصابيح في تفسير أهل البيت) ص ٤٨ وقلنا : أخرجه الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه‌السلام في (الأحكام) ٢ / ٥٥٥ بلاغا ، والإمام أبو طالب في (الأمالي) ١٠٥ ، والإمام المرشد بالله في (الأمالي الخميسية) ١ / ١٥١ ، ١٥٦ ، وابن المغازلي الشافعي في (المناقب) ١٣٣ ، والحموئي في (فرائد السمطين) ٢ / ٢٤٦ رقم (٥١٩) ، والطبراني في (الكبير) ٣ / ٤٥ ، برقم (٢٦٣٦) ، والحاكم في (المستدرك) ٣ / ١٥١ ، ٢ / ٣٤٧ ، عن أبي ذر الغفاري ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) ٤ / ٣٠٦ ، والطبراني في (الكبير) ١٢ / ٣٤ ، برقم (١٤٣٨٨) ، وابن المغازلي الشافعي في المناقب ١٣٢ ، والطبري في (ذخائر العقبى) ٢٠ ، وقال : أخرجه الملا عن ابن عباس ، وأخرجه الإمام المرشد بالله في (الأمالي الخميسية) ١ / ١٥٤ ، والطبراني في (الصغير) ٢ / ٨٥ ، برقم (٨٥٢) ، عن أبي سعيد الخدري ، وأخرجه الإمام علي بن موسى الرضا في (الصحيفة) ٤٦٤ ، والطبري في (ذخائر العقبى) ٢٠ عن علي ، وقال : أخرجه ابن السري ، وأخرجه الخطيب البغدادي في (تأريخ بغداد) ١٢ / ٩١ ، عن أنس بن مالك. وأخرجه ابن المغازلي الشافعي في المناقب ٢٣٣ ، عن سلمة بن الأكوع.

٣١٥

إلا وحي يوحى ، هلكت أمة نوح إلا من ركب السفينة ، كذلك أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا من تمسك بالعترة ، وكيف يكونون [كذلك] (١) وأهل ذلك ومجالستهم كمجالس [الداوي] (٢) إن لم يفده من عطره أفاده من ريحه ونشره ، ومجالس غيرهم كمجالس صاحب الكير إن لم تحرقه شراره ، لم يسلم من نتنه وأواره ، نزل الوحي في منازلهم ، واختلفت الملائكة إلى ديارهم ، وكرعت العلماء من آثارهم ، ميمونة طلعتهم ، محمودة نقيلتهم ، مرضية سيرتهم ، العدل سجيتهم ، والإحسان طبيعتهم ، والكرم شنشنتهم ، أتباعهم خير الأتباع ، وشيعتهم خير الأشياع ، كما ورد في الخبر عن خيرة البشر ، فيما روي عن العلي : «خلقتكم من طينة عليين» يعني محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين ـ صلوات الله عليهم أجمعين وآلهم الطيبين ـ «وخلقت شيعتكم منكم إنهم لو ظهر على أعناقهم السيوف لم يزدادوا لكم إلا حبا ، أولئك نعم الأتباع لنعم المتبوعون» أنصار الدين ، وأعصار ذخرتهم شفاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ورد في الحديث المنقول ، حيث يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ذخرت شفاعتي لثلاثة من أمتي : رجل قضى لأهل البيت حوائجهم لما احتاجوا إليه ، ورجل أحبهم بقلبه ولسانه ، ورجل ضارب بين أيديهم بسيفه» فهلم أيها الأخ ومن وقف على هذا الكلام إلى حضرتهم للسلوك في زمرتهم ، والدخول في جماعتهم ، لتفوز فوزا عظيما ، وتنال في الآخرة ملكا جسيما ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

فصل

قد صدرت الأجوبة عما ورد [من] (٣) الأسئلة ، كارعة في مواردها ، قاصدة إلى

__________________

(١) في (ب) كذلك.

(٢) في (ب) : الداري.

(٣) زيادة في (ب).

٣١٦

مقاصدها ، متجانفة عن الحال المزري ، بقرينة رائعة [الا صبط] (١) في عرينه لا يقعقع لها بالشن فترتاع ، ولا تنزوي عن المصاع فتنصاع ، عارضة جبينها للاختبار ، حاسرة برقعها للنظار ، قائدة للوذعي بزمام للانصاف ، مال المسيف وغير المستاف ، ووسمتها ب (الجوهرة الشفافة ، رادعة الطوافة) ، يتخذها ذو البصيرة ذخيرة ، أغنى له عند النضال ، من الزرد المدال ، تنطق بلسان النصيحة ، وتنبي عن العقيدة الصحيحة ، تمت إلى الشيء بعرى أداحيها ، وترقى إلى تفرع مناهيها ، داعية للألمعي بصفحات معانيها ، معربة (٢) للمدعي بضباة مواضيها ، محكمة المباني ، واضحة المعاني ، محصدة المثاني ، يشهد لسان فضلها على كرم نجارها ، وشدة عزمها على نجدة أنصارها ، وسحوب قرطاسها على بعد مغارها ، أمرتها بعصف الشمال ، وشد الصبا ، حتى تنيخ بديار الأدباء تطمس مخارق النوق ، وتروع فراخ الأنوق ، إن اتصلت بمعالم (٣) قرت وسرت ، وإن ألمت بمجاهل (٤) فرت ضرت ، يعيبها من عابها والجهل عاذره ، ويلومها لمن لامها لا عزّ ناصره ، وأرجو أن تكون داعية للمسترشد إلى بحث أهل الأصول ، ومراجعة ذوي العقول ، وأمرتها بالاندراج في مدارج الطوافة ، والأدراع لامة العفافة (٥) لو قرعت سمع كثير لنسي [ثانية] (٦) وأفرد للعدل والتوحيد رويته ، ولم يسهل للريان مقلته ، وكانت مجالسة العلماء هجيراه وطينته ، ويوجب فيها الاقتصار على ما يغني ، ويتجنب الإكثار الذي يعني ، علما بأن روائح العنبر يدل على (عنقه) (٧) من شافه ، وأن معادن الجوهر تستدعي إليه من سمع أوصافه ، وأن الحياء من شام برقه انتجعه ، وأن الهدى من تنوّر ناره اتبعه.

__________________

(١) كذا في النسخ.

(٢) في (ب) : مغربلة.

(٣) كذا في النسختين.

(٤) في (ب) : بجاهل.

(٥) في (ب) : القصافة ، وفي (أ) : العفافة.

(٦) في (أ) و (ب) : بدون نقاط ، وهي كلمة غير مفهومة. ولعلها بائيته.

(٧) في (ب) : عبقه.

٣١٧

ولو لا أن يظن بنا غلوّ

لزدنا في المقال من استزاد

ونار بني علي من وردت عليه من أريب وعالم لبيب بمعبوده ومقصوده ، وثر بأنه بركوعه وسجوده أن لا يضرب عن الإصدار بها صفحا ، ويستدل على نهارها من ليل الاستبداد جنحا ، انسخ ولا حرج ولا ضير ولا تحذف منها حرفا ، فقد جعلتها من المرسلات عرفا ، وحبستها في سبيل الله ناقة حرفا ، تركض في الأرض طولا وعرضا ، وتطوي السباسب نصّا ونهضا ، إلى أن ترد إلى الحق واضح المحجة ، وأن الأرض لا تخلو لله من حجة ، (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود : ٨٨].

والسلام على كافة إخوان الوفاء ، وخلان الصفاء ورحمة الله وبركاته

وصلى الله على محمد وآله وسلم

* * *

٣١٨

هذه مسائل متفرقة

مما سئل عنه عليه‌السلام وجوابها

٣١٩
٣٢٠