مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

ونفي المعاصي عن الرحمن ، ونفي القدماء الذين جعلوها مع الله تعالى فسموها (١) صفات ؛ فأثبتوا أكثر من قديم واحد ، فما الكفر عند أهل التحصيل إلا هذا.

[موقف الأئمة من المجبرة والمشبهة]

وأما الحكاية عن القاسم والهادي والناصر عليهم‌السلام في اعتقادات القوم فلا بد من ذكرها.

وأما ما ذكر من استظهار الهادي عليه‌السلام على المجبرة والمشبهة فلم يسب أحدا ولا ذكر في سيرته ، فأنا ذاكر في ذلك (٢) برهانا شافيا.

فأما سيرته عليه‌السلام فما في أيدينا منها جزءا من عشرين جزءا أوله أيام ووقعات معلومة. منها جملة ما ذكر في سيرته ، منها حروبه مع القرامطة نيف وسبعون وقعة ما ذكر منها في سيرته عليه‌السلام وقعة واحدة ، وبعض حروب بني الحارث ؛ ولما نزل إلى بلاد المجبرة في الجيش كان قد تقدم إظهارهم لطاعته ملوكهم الحكميون ورعاياهم ، فأي سبي والحال هذه (٣).

__________________

(١) في (ب) : وسموها.

(٢) في (ب) : فأنا ذاكر لك.

(٣) هنالك سيرة للإمام الهادي ، تأليف علي بن محمد العباسي العلوي ، طبع سنة ١٩٧٢ م ، تحقيق سهيل زكار ، وهنالك سيرة أخرى ذكر إنها خطية ولم تصل إلينا ؛ تأليف محمد بن سليمان الكوفي. كما أن هناك سيرة للإمام الناصر أحمد بن الإمام الهادي ، للمؤرخ عبد الله بن عمر الهمداني من أعلام القرن الرابع ، وهو كذلك لم يصل إلينا ، وسيرة الإمام الهادي تجدها مبثوثة في كتب التأريخ ، خاصة ما يتعلق بأئمة الزيدية ، مثل : (الإفادة في تأريخ الأئمة السادة) للإمام أبي طالب ، (المصابيح) لأبي العباس الحسني ، (الحدائق الوردية) لابن حميد ، (مآثر الأبرار) للزحيف ، (اللآلئ المضيئة) للشرفي ، (المقصد الحسن) لابن حابس ، (النفحة العنبرية) لأبي علامة ، و (أئمة اليمن) لزبارة.

انظر كتاب (الإمام الهادي مجاهدا وواليا وفقيها) تأليف عبد الفتاح شائف نعمان طبعة أولى سنة ١٤١٠ ه‍.

١٠١

ولما غدروا فيه عليه‌السلام كان نهاية أمر القتال عمن بقي من عسكره ، والتخلص بأنفسهم ونفسه ، فأي موضع سبي هذا وأكثر قصصهم ساقطة عن سيره عليه‌السلام.

وأما سائر المغارب فلم يتحقق له عليه‌السلام فيها سلطان ولا حروب ، وكذلك الناصرعليه‌السلام استظهر غاية الاستظهار ولم يذكر في سيرته جزء من أجزاء كثيرة من حوادث حروبه عليه‌السلام ، بل هي ساقطة ذاهبة ، لأنه استولى على اليمن جملة ، ودانت له ملوكه فلم يبق إلى السبي طريق ، وما ذكر من تفصيل هذه الجملة في سيرة الناصر عليه‌السلام كلمة واحدة ، فأما يوم نغاش (١) فإنما كان اللقاء بين جيشين مجردين لا حريم معهما ولا نساء ولا قرى ، فلما نصر الله الحق قتلوا مقبلين ومدبرين ، وأجهز على جرحاهم فلم يكن ذلك موضع سبي على هذه الصورة ، ولأن السبي ليس بواجب على الأئمة ، بل لهم أن يسبوا ولهم أن يتركوا ، وإنما كان يتحقق القول وتلزم الحجة على المقلد أنه لو وجد الأئمة عليهم‌السلام [قالوا :] (٢) إن الفرق المرتدة المدعية للإسلام متى كانت لها شوكة فلا سبي عليها ، ولا يكون حكم دارها دار الكفر ، فلو وجد ذلك لصح به التعلق وكان القول بغيره خلاف واقع بين الأئمة ، وكان لا يستنكر وكنا نطلب ممن قال بقولهم البرهان على قوله ، ولا نخطيه ولا نضلله ما لم يتضح لنا خلافه للأمة والأئمة عليهم‌السلام وهذا بعيد

__________________

(١) نغاش : موضع في جبل عيال يزيد شمالي عمران ، إليه ينسب يوم نغاش بين الإمام الناصر أحمد بن الهادي يحيى بن الحسين الرسي وبين عبد الحميد المنتاب في أول القرن الرابع. ووقعة نغاش هي الوقعة الفاصلة بين الإمام وإخوان القرامطة كما وصفها المؤرخون فإن النصر كان حليف جند الإمام وقتل أكثر جيش عبد الحميد المنتاب. قيل : إن قتلى القرامطة في وقعة نغاش وصل إلى ما يقرب من الخمسة آلاف قتيل.

انظر (مجموع بلدان اليمن وقبائلها) ٢ / ٧٤٣ ، (الإمام الهادي واليا وفقيها ومجاهدا) ص ٢٣٤.

(٢) سقط من (أ).

١٠٢

حصوله جدا والأحوال المجملة ، وقد علمنا أن حرمة الأنبياء عليهم‌السلام متشابهة وإن كان لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضل على الجميع ، فمخالفهم كافر كمخالفه ، ومتابعهم مؤمن كمتابعه ، ولهم من الوعد وعليهم من الوعيد مثلما لأمته. فهل يتوسع لنا أن نقول بأنا نستعظم أن نطلق على من يشهد أن لا إله إلا الله وأن موسى وعيسى نبيا الله ، وأن ما جاءا به حق من عند الله ، وأن دينهم دين الله ولم يخالف إلا في جحدان نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون داره دار حرب [فلئن لم نسمع هذا فما الاحتراز من إثبات دار حرب] (١) ما هذا بأبعد من هذا ؛ لأن المشبه ناف للصانع تعالى ، وهو كعابد الوثن لأن ربه الذي اعتقد إلهيته بزعمه جسم ـ تعالى الله عن قوله ـ فهو ناف للباري جل وعلا لفظا ومعنى ، ونفيه في الجرم والعظم أكبر من نفي نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك المجبر المضيف القبائح إلى الله تعالى ، والمخازي ، وتكذيب الأنبياء عليهم‌السلام وقتلهم ، يكون في الجرم عقلا وشرعا أقبح من نفي نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل أضافوا نفي نبوته إلى الله تعالى ، ونفوها عن المكذبين الكافرين من خلقه. فتأمل هذا النكير موفقا إن شاء الله تعالى ، لأن المتقرر من أصول المجبرة الذي لا يختلفون فيه وإن اختلفوا في غيره أن كل حادث في العالم فهو فعله تعالى وخلقه واختراعه لا فاعل له سواه ، ولا محدث إلا إياه. والأشعرية يرجعون إلى مذهب الجهمية ضرورة ، ويزيدون عليهم في الكفر أيضا ، وإنما يستعظم تكفيرهم الأنس بخلافه وأن أحكام الأئمة عليهم‌السلام لم تجر بمثله ، وقد بينا لك أنهم لم يستظهروا استظهارا عاما فتنفذ أحكامهم ، فقد قال علي عليه‌السلام : لو ثني لي الوساد لقد غيرت أشياء.

ولقد احتج من ينصر المذاهب المخالفة للشيعة بأن عليّا عليه‌السلام لو كان لا يرى بإمامة أبي بكر وعمر لنقض أحكامهما في فدك وغيره.

__________________

(١) سقط من (ب) ، ومن (أ) وهو في حاشيته وقال : صح الأصل.

١٠٣

قلنا : أما في غيره فليس له أن ينقض إلا ما خالف الكتاب والسنة وأحكامهما في الشرائع لم يعلم خروج شيء منها من هذا ، وأما أمر فدك فهو له ولولديه وهما معصومان لا يخالفان المعصوم ، وللإنسان ترك حقه لغرض من الأغراض ، وللإمام أن يترك ما يجوز له من السبي وغيره ، وقد فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سبي أو طاس (١) ، وسبي بني المصطلق(٢) ، وغيرهم ما فعل ، وترك سبي قريش يوم الفتح وهو له طلق حلال ، وسماهم الطلقاء ـ معناه العتقاء من الرق ـ.

[موقف الإمام أحمد بن سليمان]

وأما الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه‌السلام ودخوله زبيد فإنما كان باستدعاء الحبشة له مستنصرين به عليه‌السلام على ابن مهدي وأطاعوه طاعة وامتثلوا أوامره ، ولهذا أمرهم بقتل ملكهم فساعدوه ، وامتثلوا أمره ، وملك عليهم سواه ، فسمعوا له وأطاعوه فلم يبق للسبي والحال هذه طريق (٣).

__________________

(١) أوطاس : واد في ديار هوازن كانت فيه وقعة حنين في السنة الثامنة للهجرة بعد الفتح. انظر سيرة ابن هشام. وقيل : وطاس موضع على ثلاث مراحل من مكة.

وعن يوم أوطاس وسبي أوطاس انظر : (وسائل الشيعة) للحر العاملي ج ١٤ ص ٥١٥ ، و (مستدرك الرسائل) للنوري ج ١٥ / ص ٨ ، و (سنن النسائي) ج ٦ ص ١١٠ ، و (مسند أحمد) ج ٣ ص ٧٢ وص (٨٤ ، ٨٧ ، وج ٤ ص ٤١٢ ، ومسلم ج ٤ ص ١٧١ ، وسنن أبي داود ج ١ ص ٤٧٧ ، ٤٧٨ وغيرها.

(٢) وغزوة بني المصطلق معروفة مشهورة لا داعي لمتابعتها في المصادر الكثيرة.

(٣) علي بن مهدي بن محمد الحميري الرعيني ، متوفى سنة ٥٥٤ ه‍ ، كان في بداية أمره من رجال الوعظ ، من قرية العنبرة من سواحل زبيد ، وكان يحج كل سنة ، وقوي أمره سنة ٥٤٥ ه‍ ، وأخذ يغير على قرى تهامة ويرتفع على الجبال ، ونشبت بينه وبين حاتم بن عمران حروب ، واستولى على زبيد قبل وفاته بشهرين ، أخذها من المتوكل على الله أحمد بن سليمان ، واستمر على حاله هذه إلى أن توفي ، وكان أصحابه يسمون المهللة لكثرة التهليل فيهم ، ورأيه رأي الخوارج.

انظر (الأعلام) ٥ / ٢٥.

١٠٤

وأما صنعاء فإنما دخلها بالحجاز والكل جند الصليحي ، وطلعهم مع أصحابهم وكان سلامة أهل درب صنعاء باجتهادهم وعنايتهم كما فعل ابن أبي سلول في بني قينقاع واستيهابهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرضى والكره ؛ فكان لا يتمكن من السبي ، ولو قدر عليه لفعله ـ إن شاء الله تعالى ـ إلا أن يتركه لغرض فهو غير متهم في النظر سلام الله عليه وآله وله أن يفعل وأن لا يفعل لا حرج في واحد من الأمرين ؛ لأن السبي ليس مما يجب بل الخيار إلى الإمام ، وقد أحدث في تلك الحال سبيت [منهن بعد الخليفة] (١) إلى بلاد زبيد وسواها فلم ينكر ذلك ، ولا ظهر ما يدل على كراهته ، وإن كان لم يفش ولا يشع.

ولما ظهر ابن مهدي في تهامة وأنكر المنكرات الظاهرة على الحبشة ، وقتل النساء والأطفال وأمر بالصلاة والصيام والتسبيح ، وسميت أصحابه المهللة ـ لكثرة الذكر ـ وقام في وجهه الأمير قاسم بن غانم ، وكان متدينا احتاج في حربه إلى الولاية والفتوى فولّاه الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه‌السلام واتفق هو والقاضي شمس الدين (٢) على فتواه بجواز قتل مقاتلة عرب تهامة وسبى ذراريهم ، فأغار إلى وادي عين وسبي وقتل ، وكذلك إلى المهجم (٣) وقتل وسبى وراحت السبايا إلى الشام ووطئهن المسلمون من الشرف والموال بحكم السبي ، ومنهم اليوم كثير أحياء ممن شاهد الفعل وعلم الفتوى ، ولصحة الرسالة التي

__________________

(١) سقط من (ب) : وهو في (أ) حاشية.

(٢) القاضي شمس الدين : هو القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام ، وقد تقدمت ترجمته.

(٣) المهجم بلدة خاربة في وادي سردد ، من أعمال الزيدية ، وهي تقع شرقي الزيدية فيما بينها وبين جبل ملحان ، لم يبق من آثارها غير المنارة في بقعة المهجم ، وفيه كان قتل الداعي علي بن محمد الصليحي وأخيه عبد الله على يد بني نجاح سنة ٤٧٣ ه‍.

انظر (معجم بلدان اليمن وقبائلها) ١ / ٣٩٨.

١٠٥

تضمنت الفتوى كنا نعلمها في سناع (١) وذلك لقرب العهد معلوم ، وأفتوا بأن دارهم دار حرب ، وصرحوا بذلك وصوبنا ما قالوا وما أفتوا به ؛ لأنه الحق الذي نعلمه ويعلمه العلماء ، ولقد أفتى عليه‌السلام في المطرفية الكفرة بهذه الفتوى ، وصرح بذلك في رسالة سماها : (الواضحة الصادقة في بيان ارتداد الفرقة المارقة) (٢) وذكر فيها أن دارهم دار حرب ، وذكر في كتاب (العمدة في الرد على المطرفية المرتدة ومن وافقوا من أهل الردة) وهو كتاب موجود عندهم فيما نظن في الناحية ، وهو اليوم في اليمن نسخ كثيرة بعضها بخط الإمام عليه‌السلام ، وأصل (٣) كتاب (العمدة) رسالة الإمام عليه‌السلام وشرح الرسالة من القاضي شمس الدين أيده الله تعالى ، فاجتمع الإمام والعالم وهما قدوة العصر وبعده ، ولو لم نقف على ذلك منهما لعلمنا صحة ما علمنا ، وقلنا بما قلنا ، لكون أصوله عندنا معلومة من فعل السلف رضوان الله عليهم أجمعين ولكن ذلك زيادة بيان وصقل برهان ، وتصفية أذهان ، وتقوية إيمان.

قال في فصل في آخر كتاب (العمدة) : نذكره بغير زيادة ولا نقصان وهو مسموع من الإمام عليه‌السلام والعالم رضي الله عنه بل معلوم ضرورة بتواتر النقل.

__________________

(١) سناع : بفتح السين والنون ثم عين مهملة ، هي قرية ناحية البستان قريبة من حدة ، وقد كانت من قرى العلم المشهورة ، وهي تشابه حدة في الغيول والأشجار ، وفيها قبر القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام بن يحيى الأبناوي البهلولي ، المتوفى سنة ٥٧٣ ه‍ ، ويسكن سناع من الأشراف بنو المطاع من ولد العباس بن علي.

انظر (مجموع بلدان اليمن وقبائلها) ١ / ١٢١ ، ٢ / ٤٣٠.

(٢) لم نجدها مخطوطة بهذا الاسم ، ولعلها المذكورة باسم (رسالة في الرد على المطرفية) ـ خ ـ نسخة منها في الجامع الكبير ، وأخرى بالجامعة العربية برقم (٣١٥٣).

(٣) في (ب) : أو أصل.

١٠٦

قال الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه‌السلام فأما سائر أهل البيت عليهم‌السلام ومن يعتزى إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام نسبا ومذهبا فإنه مخالف لهؤلاء المطرفية الطبعية الذين لبسوا أقوالهم على الناس ، وأوهموهم أنهم من جملة الإسلام ، بل أوهموا الخلق أنهم متبعون لأهل البيت عليهم‌السلام ، واعتزلوا إلى شعاب سموها هجرا ، وحكموا فيها بغير ما أنزل الله ؛ فأولئك هم الكافرون ، وظنوا أنهم تميزوا بها عن بلاد العوام ، ولم يشعروا أنهم أخرجوها من جملة الإسلام ؛ فإن الصحيح من مذاهب أهل البيت عليهم‌السلام أن دار الكفر وهي دار الحرب التي يحكم على ساكنها بحكم الكفار من حرمة المناكحة ، والذبيحة ، وتنجيس الرطوبة ، وقطع موارثة المسلمين ، والمنع من الدفن في مقابر الإسلام ، وإباحة دماء أهلها ، والغزو لها ، وحل اغتنام أموالها ، وحرمة السكنى فيها ، وغير ذلك من أحكام دار الحرب.

فأقول : إنما أراد السبي ولم يصرح بلفظه وإلا فما بقي من حكم دار الحرب لم يصرح به سواه ، بل لو قال : هي دار حرب فاقتصر ، لدخل جميع أحكامها تحت هذه اللفظة ، وإنما الأئمة لا يقولون ولا يفعلون إلا ما قدروا على إظهاره ، وتمكنوا منه ؛ لأنه تكليف والتكليف لا يقع إلا بالممكن فلنرجع إلى الرسالة.

قال عليه‌السلام : ودار الحرب هي القرية أو الناحية التي يتمسك فيها أهلها بخصلة من خصال الكفر ، ولا يمكنون أحدا من السكنى فيها إلا بأن يظهر التمسك بما يدينون به من ذلك ، وأن يكون ممن يظهر شيئا من ذلك على ذمة أو جوار ، فمتى كانت الناحية أو القرية بهذا الوصف كانت دار حرب. هذا هو الصحيح والمقرر من مذاهب العترة الطاهرة.

قال عليه‌السلام : وإنما قلنا ذلك لما علم من حال مكة فإنها كانت من قبل الفتح

١٠٧

دار حرب ؛ وإنما كانت كذلك لاختصاصها بما ذكرناه من أن أهلها كانوا مظهرين للكفر بحيث لا يمكنون أحدا من السكنى فيها إلا بأن يظهره ، أو يكون على ذمة منهم أو جوار ، فكانت لأجل ذلك دار حرب وهذا بعينه حال هذه الهجرة التي غلبت عليها هؤلاء المطرفية ، فإنهم قد أظهروا فيها من خصال الكفر ما قدمنا ذكره ، حتى صاروا لا يمكنون أحدا من السكنى فيها معهم إلا بأن يكون مطابقا لهم عليها أو يكون متظاهرا لموافقتهم ، وإن أبطن خلاف ما هم عليه لم يستطع أن يظهره لا بذمة ولا بغير ذمة ؛ فإن لم يزد حال هذه الهجرة التي غلبوا عليها (كوقش) وما جرى مجراها على مكة لم ينقص عنها ، وفي ذلك لحوق أماكنهم هذه بدار الحرب ، ولزوم ما ذكرناه عند من نظر بعين البصيرة لأن الإمام عليه‌السلام والعالم رضي الله عنه ذكرا ما قدمنا ، وحكينا أن ذلك مذهب العترة الطاهرة عليهم أفضل السلام ورأيهم ولا شك عندنا في ذلك.

[موقف القاسمية والهادوية]

وأما حكايتنا عن القاسم والهادي والناصر عليهم‌السلام : بأن دار المجبرة والمشبهة دار حرب فهي من أجلى الحكايات ، وأوضح الروايات ، وذلك أن رواتها أئمة وعلماء لا يمكن حصرهم في رسالتنا هذه ، وإنما نذكرهم جملة وذلك أن الجيل (ناصرية) (١) إلا القليل ، وسهول الديلم (قاسمية) (٢) إلا القليل ، وجبال الديلم (يحيوية) (٣) إلا القليل ، ولا يعلم من هؤلاء خلاف على اختلاف أغراضهم وهم ألوف لا ينحصر أعدادها إلا لخالقها في جواز غزو المجبرة والمشبهة والباطنية وقتل مقاتلتهم ، وسبي ذراريهم ،

__________________

(١) الناصرية : أتباع الإمام الناصر الأطروش عليه‌السلام ، المقلدين له في اجتهاداته الفقهية.

(٢) القاسمية : هم أتباع الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي عليه‌السلام ، المقلدون له.

(٣) اليحيوية : هم أتباع الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم عليه‌السلام ، المقلدون له.

١٠٨

ويروون ذلك عن الأئمة الثلاثة سلام الله عليهم أجمعين ومذاهب الأئمة عليهم‌السلام في الفتاوى ما صحت لنا إلا عن رواية المذكورين ، وهم علماء أهل ضبط وتفتيش وتوثيق في الرواية ، ويختلفون في أشياء كثيرة ، ولا يختلفون أن هذا رأي الأئمة الثلاثة عليهم‌السلام في المجبرة القدرية ، والمشبهة الجبرية ، ويغزوهم ليلا ونهارا ، ويختطفون ذراريهم سرا وجهارا ، ويبيعونهم في أسواق المسلمين ظاهرا ، ويشتريهم الصالحون ؛ وما فعلوا ذلك إلا بفتوى علمائهم وأئمتهم وسائرهم ، ونحن عالمون لذلك منهم فيما مضى وازددناه في هذه المدة علما بذلك ممن وصلنا منهم من الصالحين ، ولم تجر طرائق أهل العلم بأن يتحكم السائل في الدليل ويقول : اجعله موضع كذا وكذا ، بل فيه أن يكون صحيحا موصلا إلى ما يوصل إليه مثله ، إن كان في الاعتقاد أن يوصل إلى العلم ، وإن كان في الأعمال الشرعيات أوصل إلى غالب الظن ، وصح به العمل دينا سماويا وحكما مرضيا.

وأما قول القائل : إن ترك السبي أولى للعاقبة وإن صح جوازه لئلا يقتدي به أهل الضلال ويجعلونه أصلا ، فأكثر الظلمة ما تركوه إلا لاستشناعه من الغير كيوم (براقش) وسواه ؛ فهذا أيدك الله تعالى خارج من هذا الباب في السؤال والجواب ، فلا بد من الكلام فيه إنما هذه مشورة ورأي وليس إذا رأى غير الإمام رأيا وإن كان صالحا وجب على الإمام الرجوع إليه ، بل على الإمام أن يعمل برأيه وما يؤديه إليه نظره ، وإن خالف رأي كثير من أصحابه ، وقد تقرر في علوم الأئمة من خصال الإمام التي يختص بها أن يكون شديد الغضب على أعداء الله ، ولا تأخذه في الله لومة لائم ؛ فإذا كان ذلك كذلك فبما ذا يشتد غضب الإمام إلا بإجراء أحكام الله ، والانتقام لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، ولا تمنعه من ذلك لومة لائم ، ولا شتم شاتم ، وأحكام الله تعالى فيهم سبي النساء وقتل المقاتلة ، ولو كان الإسلام ضعيفا لكان الإمساك أصوب إلا أنه قد قوي والحمد لله أن سلم من تضعيف أهله له ،

١٠٩

ومن كان يقدر على إنفاذ هذه الأحكام التي خلعت قلوب أعداء الله من صدورهم ، وزلزلت أقدامهم ، وحملت أكثرهم على إنكار مذهبه ، والتأدب بغير أدبه.

تنبئك (١) البيض الرقاق والأسل

وطعن أبناء النبي في الوهل

فبذلك عزّ الإسلام ، وذلّ الجرم والإجرام.

[بحث مفيد في تغيير المنكرات وعدمه على حسب الأحوال]

قال الناصر الأطروش عليه‌السلام (٢) في كتاب (المسفر) رواية العالم يوسف بن أبي الحسن بن أبي القاسم الجيلاني (٣) من علماء الزيدية بالجيل والديلمان عنه بالكتابة منه ومن المحمدين ويحيى بن شهراقيم (٤) الناقل عنهم هذا قول الإمام الناصر عليه‌السلام ، فإذا كثر ناصروه واشتدت أسرته ولم يخش فسادا ، ولا رأى لينا في إمضاء الأحكام ، وإنكار المنكر والآثام ، ومنع الفاسق والظالم ، أمضى الأمر مجتهدا

__________________

(١) في (أ) ، (ب) : توبك.

(٢) الإمام الناصر الأطروش تقدمت ترجمته في تحقيق كتاب (العقد الثمين) للإمام عبد الله بن حمزة عليه‌السلام.

(٣) يوسف بن أبي الحسن بن أبي القاسم الجيلاني ، تلميذ الشيخ أبي منصور علي بن أصفهان تلميذ صاحب (المغني) ، وأبو يوسف بن علي له كتاب إلى عمران بن الحسن معروف وصل إليه سنة ٦٠٩ ه‍ ، قال في (الطبقات) : قال في سيرة الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة : كان يوسف فاضلا عالما ، له علم واسع ، ومعرفة دين ، ورغبة في الخير. وهو من السابقين إلى بيعة المنصور بالله ، وصل إليهم رسل الإمام محمد بن أسعد ، ومحمد بن قاسم ، ويحيى بن بصير ، وذلك في سنة ٦٠٥ ه‍.

والمحمدان هما :

١ ـ محمد بن أسعد بن علاء بن إبراهيم العنسي ، داعي الإمام المنصور بالله إلى الجيل والديلم في سنة ٦٠٣ ه‍.

٢ ـ محمد بن القاسم ، لم أميزه.

(٤) ابن سهر في (أ) ، وابن شهراقيم في (ب).

١١٠

غير وان ، ولا مرتقبا خوفا إذا كانت شوكته قوية ، وصحت من كل أصحابه لطاعته النية ، ولا يكون فضا غليظا ينفر عنه الناس ؛ لأن الله تعالى قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [البقرة : ١٥٩] ولا يقيم حدا عند ملاقات العدو لئلا تنفر قلوب أصحابه ، فإنه لا يأمن أن يكون لمن قام عليه الحد أسرة وأخدان (١) وأقارب تضعف نياتهم عن صدق المصاع (٢) ، ومكافحة الجلاد ، غضبا لما نزل بصاحبهم أو يخاف مع ذلك على نفسه منهم لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أمر أن لا تقام الحدود في الحروب وعند مواجهة العدو (٣).

وقال عليه‌السلام : ويصير من أصحابه على ما يراه من معاصيهم لله تعالى التي لا يتمكن من تغييرها إذا كانت غير مظاليم الخلق ، فأما إن كانت هي مظالمهم فلا يسعه إلا تغييرها مع القدرة والانحياز عن فاعلها كما روى عنه الحسن بن أحمد أنه عليه‌السلام عزم على المهرب إلى البيت وهي بلد (بالاستندارية) كما هرب محمد بن إبراهيم (٤) عليه‌السلام لما كثر ظلم أصحابه لأهل (لاولج) بلد بالديلم.

قال الناصر عليه‌السلام : فأما المعاصي التي هي غير المظالم فليس عليه جناح منها إذا لم يمكن تغييرها لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) [المائدة : ٤١] فإن هؤلاء قد

__________________

(١) في (أ) : أحداث.

(٢) هكذا في النسخ ويتأمل.

(٣) في (موسوعة أطراف الحديث) ٧ / ١٧٤ ، عن (نصب الراية) ٣ / ٣٤٣ بلفظ : «لا تقام الحدود في دار الحرب».

(٤) محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب [١٧٣ ـ ١٩٩ ه‍] ، كان من أكمل أهل زمانه وأشجعهم ، ثار أيام المأمون العباسي ، وكان بيعته في سنة وفاته ، لم يلبث إلا شهرين ثم مرض أو دسّ إليه السمّ ودفن في الكوفة.

المصادر : (مقاتل الطالبيين) ص ٤٢٤.

١١١

أظهروا الإقرار والإيمان كما أظهر أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمره تعالى بالصبر على ما عاين مما غمه وأحزنه من الفريقين ، ولا يمكن تغييره إلا بأن يأتيه اليقين ، وهو الحق الذي وعده من نصره ، فإن التدبير في حفظ البيضة واجتماع الكلمة من العسف والحرب. قال عليه‌السلام : وليكن إنكار المنكر على حسب إمكانه بالكلام إذا غلب في ظنه أنه ينفع ، وبالسوط إذا كان القول لا يمنع ، ثم السيف إذا أمكنه ولم يكن من أنكر عليه مرتدعا فإنه كالطبيب كما يتيسر من الدواء ولا يهجم على الكي والقطع إلا إذا أعياه الداء ، فإن أجزأ الدواء وإلا الكي ، وآخر المعروف بالسيف حتى يتجلى له الأمر ، فيمضي الحدود كما أمر الله تعالى ، ولا تأخذه رأفة بأحد ، ولا رقة عليه فإن ذلك فساد في الدين ، وزوال طاعته عن إمرة المؤمنين.

وروى عنه محمد بن زيد الحسني (١) عليه‌السلام أنه قال : اشتدوا ـ رحمكم الله ـ على الفاسقين ، وأغلظوا فإنكم إنما تؤتون من الضعف والونية ، فلا تشتغلوا بقول من يقول : ارحموا أهل البلاد ومن لا يرحم لا يرحم ، فإن الله سبحانه يقول : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] ، وقال سبحانه في بني إسرائيل لما كان الرجل يرى أخاه على الذنب فينهاه ولا يمنعه ذلك من مجالسته ومؤاكلته : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) [المائدة : ٧٨].

فهذا فصل ذكرناه وإن كان بعض ما فيه لا يتعلق بغرضنا فهو لا يتعرى من

__________________

(١) محمد بن زيد الحسني : لعله محمد بن زيد بن إسماعيل بن الحسن العلوي الحسني صاحب طبرستان والديلم ، ولي الإمرة بعد وفاة أخيه الحسن بن زيد (سنة ٢٧٠ ه‍) ، وكانت في أيامه حروب وفتن ، وطالت إمرته ، وكان شجاعا فاضلا في أخلاقه ، عارفا بالأدب والشعر والتاريخ ، أصابته جراحات في واقعة له مع (محمد بن هارون) من أشياع إسماعيل الساماني على باب جرجان فمات من تأثيرها.

١١٢

الفائدة ، وما يتعلق بما نحن بصدده إلا التشدد على الفاسقين في إمضاء أحكام الله تعالى عليهم عند الإمكان ، والكافرون بذلك أولى عند أهل العلم ، ولو لا قدرتنا ما أمضينا من الأحكام ما أمضينا ، وسائر ما ذكر عليه‌السلام مفيد وليس من هذا الباب ، ولكن فيه للمتأمل أنا حملنا نفوسنا في إصلاح ظواهر الأصحاب في حال الضعف ما لم يكن يلزمنا عند أهل العلم طلبا لرضى رب العالمين ، وتقوية لقواعد الدين ؛ ولا يعرف حسن سيرنا العارفون إلا بعد لحوقنا برب العالمين ، يستقبحون ما استحسنوا من الطعن ، ويستحسنون ما استقبحوا من الأعمال ، فإن كان ذلك لا بد من كونه قالوا ما قال علي عليه‌السلام :

واثكلها قد ثكلته أروعا

أبيض يحمي السرب أن يفزعا

وبذلك جرت عادات أهل الأعصار (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢] (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) [فاطر : ٤٣].

وأما ما ذكره صاحب الكتاب ـ أيده الله ـ من مخافة اقتداء الضلال ، فلو ترك العلماء ما يقضي به العلم مخافة إنكار الجهال أو تقبيحهم ، أو اقتداء بهم لضاعت السنن ، واستقبح الحسن ، والعلم حاكم على الجهل ، وليس الجهل بحاكم على العلم.

وأما (الغز) وتركهم لأهل (براقش) (١) فإنما فعلوا ذلك لما جرى بأسباهم في ذمار فخلينا سبيلها ، ونسائهم في (صنعاء) فكذلك ، ونسائهم في (المهجم) ؛ وإلا فقد أخذوا نساء (مذحج) لما طلعوا بلادها ، وصاح صائح سلطانهم : بأن من أرادت

__________________

(١) براقش : بلدة خاربة في ناحية الجوف ، وهي من المدن القديمة التي كانت لملوك حمير ، فيها حصن وبناء عجيب ، وكتابات كثيرة باللغة الحميرية ، وهي مشهورة في كتب التأريخ ، خصوصا تأريخ اليمن قبل الإسلام ، وكثيرا ما يقترن اسمها بمدينة معين.

انظر (معجم بلدان اليمن وقبائلها) ١ / ١٠٦ ، ١٠٧.

١١٣

الخروج فإنها في ذمة السلطان ؛ وهذا أظهر من أن يخفى أو يمكن إنكاره ، فما قرعهم من ذلك إلا ظهور دولة الحق.

وأما أحكام الدين فلا بد من إجرائها على المستحقين ، ولو تركنا السبي خوف اقتدائهم في ذلك فلنترك أخذ الحقوق لمثل ذلك ، فهذا لا وجه له لكن ما فعلناه فهو حق فلنا أن نفعله ، وما فعلوه فهو ظلم [وليس لهم فعله وسواء كان فعلهم أخف وأشق فهو ظلم] (١) وعدوان ، وسواء كان فعلنا أغلظ أو أشق فهو طاعة وإيمان ، ولو ترك الدين لأجل استبشاع المستبشعين لما ظهر دين رب العالمين ، فإنه في ابتدائه أنكره جميع العالمين ، وعنّفوا لأجله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) [هود : ٧٢] ، و (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٧٦] ، و (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون : ٢٤] ، فلم يمنعه ذلك من إظهاره وإمضائه حتى رجعوا إليه ، وعكفوا بغير اختيارهم عليه ؛ فإذا قد تقررت هذه الجملة فلنبدأ بذكر الردة وأحكامها على وجه الاختصار لضيق الوقت ، وتراكم الأشغال ، وظننا أن السائل ممن تغنيه الإشارة الدالة على ما إذا طلبه وجده متمكنا إن شاء الله تعالى.

[الردة وأحكامها]

اعلم ـ أيدك الله تعالى بتوفيقه ولا أخلاك من تسديده ـ أن الردة في الأصل : هي الرجوع ، ولا فرق في اللغة بين قولك : ارتددت أو قولك : رجعت ، ثم صارت في الشرع الشريف تفيد رجوعا مخصوصا ، وهو الرجوع من الإيمان إلى الكفر ، فإذا سمع أهل الشرع قول القائل : ارتد فلان سبق إلى أفهامهم أنه رجع من الإسلام إلى الكفر ، وذلك معلوم في كتب الفقه ، فهذا معنى الردة جملة فلنذكر ما

__________________

(١) سقط من (أ).

١١٤

يقع به الارتداد.

اعلم أن الردة على ثلاثة أوجه : إما بالرجوع عن جملة الإسلام إلى ملة من ملل الكفر أي ملة كانت فهذه ردة بلا خلاف.

وإما الزيادة في الدين ما ليس فيه ، فهذه ردة بلا خلاف كما فعله بنو حنيفة فإنها ارتدت عن الإسلام وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن ما جاء به حق من عند الله لا شك فيه ، وزادوا بأن مسيلمة قد أشرك في الأمر ، وما أخلوا بشيء من الإسلام الذي تقرر من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أفنتهم سيوف الحق وسبيت ذراريهم.

[ردة المطرفية]

وعند المطرفية أخزاهم الله أن جميع المكلفين قد اشتركوا في النبوة ، وإنما تأخروا عن ذلك لتركهم ما وجب عليهم ، ولتقصيرهم فيما أمروا ؛ فقد زادوا على ردة بني حنيفة ، وكذلك فردة المجبرة والمشبهة هي بالزيادة ؛ لأنهم سلموا جملة الإسلام ، وزادوا فيه أن الله جسم ، وأنه يرى ، وأن الله قضى بالمعاصي وأرادها وفعلها ، وهي قبيحة ، والإسلام متقرر أن أفعاله تعالى كلها حسنة ، وأنه لا يفعل القبيح ، ولا يخل بالواجب ؛ فهذه ردة بالزيادة أيضا ، بل هي أقبح من ردة بني حنيفة ؛ لأن عند بني حنيفة أن دعوى مسيلمة النبوة من عنده ، وأن الله صدقه في دعاويه ، والمجبرة عندهم أن الدعوى والتصديق كله من الله تعالى ؛ فعندهم تنبي مسيلمة من الله تعالى ، ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله ، فالكل في الصحة والبطلان عندهم على سواء ، فزادوا على ردة المرتدين ، وكفر الكافرين.

١١٥

وأما الردة بالنقصان فكردة (البدعية) (١) فرقة تدعي الإسلام ، ولها أقاويل ردية منها : أن المفروض من الصلوات ثلاث لا غير ؛ فردوا ما هو معلوم ضرورة من دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك (الصباحية) (٢) قالوا : إن سبي أبي بكر لأهل الردة ضلالة ، وأن الصحابة أجمعوا على الضلالة فكفرهم المسلمون بذلك ، وكمن يرد شيئا مما علم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة كترك الصلاة والصيام ، والحج والجهاد ، وأن ذلك أو بعضه غير واجب في الأصل ، أو أن المراد به غيره ؛ فهذه كردة (الباطنية) (٣) ومن نحا نحوها.

__________________

(١) البدعية : قال في (موسوعة الفرق الإسلامية) صفحة (١٥٣) : يقول صاحب (بيان الأديان) : هم فرقة من الخوارج من أصحاب يحيى بن أصرم ، يقطعون بأنهم من أهل الجنة. ويقول ابن المرتضى : تقول البدعية بأن الصلاة ثلاث ركعات وليست ركعة وركعتين. وروى نشوان الحميري أنهم يقولون : الصلاة ركعتان بالعشيّ ، وركعتان بالغداة.

يقر البدعية بوجود نبي ، بيد أنهم يكفرون من يقرأ الخطبة في عيد الفطر والأضحى. ويقولون بقطع يد السارق من الكتف ، ويحرّمون أخذ الجزية من المجوس ، ولا يجوزون أكل السمك إلّا بعد ذبحه ، ويجوّزون الحج في جميع أشهر السنة ، ويأمرون الحائض بالصوم. عن «بيان الأديان» ص ٤٩ ، (الحور العين) ص ١٧٨ ، (المنية والأمل) ص ١٣٠.

(٢) الصباحية : قال في (موسوعة الفرق الإسلامية) ص ٣٤٩ : فرقة تنسب إلى رجل يدعى : أبا الصّباح السّمرقنديّ ، يعتقدون بقدم الخلقة مع الله تعالى ويقولون : إن الله ينظر إلى عباده دائما ولا يغفل عنهم طرفة عين أبدا ، وعدو الله هو إبليس ، ولا يزال مشغولا بعمله في الإغواء. يحرّم هؤلاء ذبائح أهل الكتاب ، والنكاح من نسائهم ، ويقولون : لقد أخطأ أبو بكر في قتل أهل الردة وأسرهم ، والمسلمون شركاؤه في الضلال بقتله مانعي الصّدقات ، ويقول هؤلاء : كيف يمكن أن نسمي قاتل عثمان مظلوما ؛ لأنه لا يجوز قتل أحد إلا بثلاثة ذنوب : إما يكون مرتدا أو زانيا ، أو قاتلا. ويوجب هؤلاء اتباع كلّ من يدعي الإمامة ، ويفوز في عمله. ويقولون : أخطأ عليّ في قتال معاوية. عن (المنية والأمل) ص ١٢٠.

(٣) الباطنية : وهي فرقة من الشيعة. يقولون : لكلّ شيء ظاهر وباطن ، ولهذا السبب يؤوّلون الآيات القرآنية والأحاديث ، ولا يعتبرون ظاهرها صحيحا بل ينظرون إلى باطنها. وقيل : إنّه بسبب غموض المعاني حيث لا يتسنى لجميع الناس فهم بواطنها ، يحتاج الناس إلى الإمام أو المعلّم ليؤول الظاهر ويوضح الباطن. ويطلق لقب الباطنية على الإسماعيلية بشكل خاص ، ويعد القرامطة والخرّمدينيّة منهم أيضا.

١١٦

فإذا تقررت هذه الجملة وقع الكلام في الجهة التي يحكم فيها بالردة على أي صورة تكون وبالله التوفيق.

[فنقول وبالله التوفيق] (١) : كل جهة كان أحد هذه الوجوه الثلاثة الأغلب عليها فإنها تكون أرض ردة بلا إشكال ، وإنما بقي فيها يقول بغير تلك المقالة إلا أن الغلبة لمن يقول بها وهو الأظهر ؛ فإنا نعلم أن مكة حرسها الله تعالى وطهّرها قبل الهجرة كانت كلمة الكفر فيها الأظهر والأقوى ، وكانت كلمة الإسلام فيها ظاهرة أيضا ، إلا أن القوة والشوكة لكفار قريش لكثرتهم ، فكانت الدار دار حرب بلا خلاف ، وإن كان من بني هاشم وأهل البيوت العالية من قريش من يظهر دين الإسلام بلا ذمة ولا جوار ، ولا محاشاة من أحد ، ولكن الغالب الكفر ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما احتاج إلى جيرة أحد من قريش في تبليغ الرسالة ، وتسفيه أحلامهم ، وسب أصنامهم وآبائهم حتى مات عمه أبو طالب فاحتاج إلى التقوي بجوار (مطعم بن عدي) (٢) والكل منا يعلم أنه لا يقدر على تسفيه أحلام المجبرة ،

__________________

(١) سقط من (ب).

(٢) مطعم بن عدي : قال في (الأعلام) ج ٧ ص ٢٥٢ : المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، من قريش رئيس بني نوفل في الجاهلية ، وقائدهم في حرب (الفجار) بكسر الفاء وتخفيف الجيم (سنة ٣٢ ق. ه ، ٥٩١ م) وهو الذي أجار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما انصرف عن أهل الطائف وعاد متوجّها إلى مكة ، ونزل بقرب (حداء) فبعث إلى بعض حلفاء قريش ليجيروه في دخول مكة ، فامتنعوا ، فبعث إلى (المطعم بن عدي) بذلك ، فتسلح المطعم وأهل بيته وخرج بهم حتى أتوا المسجد ، فأرسل من يدعو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للدخول ، فدخل مكة وطاف بالبيت وصلى عنده ، ثم انصرف إلى منزله آمنا. وهو الذي أجار سعد بن عبادة وقد دخل مكة معتمرا ، وتعلقت به قريش ، فأجاره مطعم ، وأطلقه. وكان أحد الذين مزقوا الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم. وعمي في كبره ، ومات قبل وقعة بدر ، وله بضع وتسعون سنة. وفيه يقول حسان من قصيدة :

فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا

من الناس أبقى مجده اليوم مطعما

وفيه الحديث ، في البخاري : «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى ـ يعني أسارى بدر ـ لتركتهم له».

المصادر عن : نسب قريش ص ١٩٨ ، ٢٠٠ ، ٤٣١ ، والسيرة لابن هشام ، طبعة الحلبي ٢ : ١٥ ، ١٩ ، ٢٠ وإمتاع الأسماع ١ : ٢٦ ، ٢٨ وانظر فتح الباري ، طبعة بولاق ٧ : ٢٤٩.

١١٧

وسبهم ، وعيب دينهم ، وكذلك المطرفية إلا بذمة أو جوار ، وربما لا يعصم ذلك من شرهم فهم أقبح حالا من الكفار الأصليين ؛ فإذا كانت لهم شوكة فهي تكون دار حرب بلا إشكال ؛ لأن دار الحرب هي التي تكون الغلبة فيها للكفر ، كما أن دار الإسلام تكون الغلبة فيها للإسلام ، ودار الكفر لا تكون دار كفر بأن تجمع أنواع الكفر ولا [يقل] (١) بذلك قائل ، ودار الإسلام لا تكون دار إسلام بأن تجمع أنواع الإسلام ولا بذلك قائل ؛ فإن المراد الأظهر والأكثر كما قدمنا أصله. فتأمل ذلك تجده كما قلنا بغير زيادة ولا نقصان في المعنى ، لمن تأمله ونظر فيه بعين النصفة ؛ وذلك لأن التحديد بما ذكرناه صحيح لا ينتقض على أصله المجمع عليه في أمر مكة حرسها الله تعالى قبل الفتح ؛ فإن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه [وآله وسلم] كانت فيها ظاهرة ، ويقع فيها الجدال والحجاج على أعيان الملأ ، وكانت الغلبة للكفر وأهله فكانت دار حرب قبل الفتح بلا خلاف مما وجدت في هذه الصورة ، وإن ظهرت فيها الشهادتان فهي دار حرب بلا خلاف وإلا انتقض الأصل وانتقاضه خروج من الدين ، ولم يختلف أحد من أهل العدل الأكابر من الأئمة عليهم‌السلام ومن علماء الأمة من الزيدية والمعتزلة أن المجبرة كفار ؛ فأما المشبهة فلا كلام أن كفرهم ثابت بلا نزاع وإنما اختلفوا في تكفير من لا يكفرهم ، أو في تكفير من [لا يكفر] لا يكفرهم ؛ فهذا الذي وقع فيه النزاع لا غير ، وإذا كان ذلك كذلك وقد تقررت هذه الجملة.

قلنا : بأن المجبرة والمطرفية ومن جرى مجراهم كفار أصلا ودارهم دار حرب قطعا وليسوا بالمرتدين ، وإنما نقول : مرتدين تقريبا وتلقينا ؛ لأن المرتد هو من كان مسلما فكفر ، وهؤلاء لم يعرفوا من آبائهم وآباء آبائهم إلا الكفر لقولهم بالجبر والقدر ، والإرجاء والتطريف والتشبيه ؛ فإن كان الإسلام قد عم أرضهم فيما سبق ،

__________________

(١) زيادة في (أ).

١١٨

فلا يكون أعم مما سبق في مكة حرسها الله تعالى لأنها أرض قبلة أنبياء الله سبحانه ما خلا موسى وعيسى ، ومهبط وحي الله ، وأول بيت وضع في أرض الله ، وأسست على التقوى ، وكل نبي انتقم الله قومه هاجر إليها وعبد الله ومن اتبعه من المؤمنين فيها حتى يلقى الله ، وهي بيت آدم عبد الله ، وإبراهيم خليل الله ، وإسماعيل ذبيح الله ، فلما غلب عليها الكفار كانت دار حرب ودار كفر ، وكون آبائهم على الإسلام لا تبلغ درجة النبوة ؛ فأبناء الأنبياء لما كفروا حكم عليهم بالكفر ، ولم يختلف في الحكم بالكفر على الكافر متى كان بالغا ؛ وإنما اختلف في الصغير إذا نطق بالكفر وتعلق به هل يحكم بردته أم لا؟ فأما الكبير فلا خلاف بين الأمة فضلا عن الأئمة عليهم‌السلام في ذلك فقد صار من ذكرنا من هذه الفرق كافرا بالاتفاق من أكابر علماء [أهل] (١) العدل ، وكفره متوارث عن آبائه ، والدار دارهم ، والغلبة لهم ، فهي دار كفر مستبين ، ودار حرب بيقين ، وإنما قدرنا المسائل في الابتداء على أبلغ الوجوه بأن قلنا : إنهم ارتدوا عن الإسلام بما ارتكبوا من الأجرام ، وإلا فكفرهم أصلي ، وشركهم جلي بنص القرآن وتحقيق أئمة علماء [أهل] (٢) الإيمان قال الله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ، ٧] فسماهم مشركين بمنع الزكاة فهذا اسم منصوص عليه شرعي وهو (٣) عمدة المسلمين في حرب كثير من العرب وسبيهم مع اعترافهم بجملة الإسلام ، إلا أنهم منعوا الزكاة ، وهذا معلوم ضرورة لأهل العلم أن أبا بكر ما حارب إلا أهل الردة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن الردة كانت بأنواع : أحدها منع الصدقة مع الاعتراف بجميع خصال الإيمان ، وقال تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤] ، وقال تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) سقط من (أ).

(٣) في (ب) : وهي.

١١٩

بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت : ٥٤] ، وقال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧] فسمى تارك الحج كافرا ، وقال تعالى : (لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٤١] ، قسمهم قسمين ممحص وممحوق.

[دار الفسق وأحكامها]

فنحن أيدك الله بتوفيقه أخرجنا وحققنا في أن جعلنا قسما ثالثا فاسقا وإلا فالأصل الإيمان والكفر ، وكل آية يوجد فيها اسم الكفر [واسم] (١) الفسق فلأن الفسق أحد أسماء الكافر بالإجماع ؛ لأن عندنا أن الكفر يدخل تحته الفسق ؛ لأن أكفر الكافرين إبليس عليه اللعنة فسماه الله تعالى فاسقا ، وذلك ظاهر في قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف : ٥٠] فسماه فاسقا ، وقال تعالى : (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٤٥] بعد ذكره الكفار فكان تجريد اسم الكفر لهم ، وأصل الفسق الخروج عن الدين وهم بلا بد خارجون ، فنحن أخرجنا الفساق عن أمر قد كانوا داخلين فيه ، وجعلنا لهم بالعلم المبين اسما وحكما ، وإلا فكانت الظواهر من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد التهمتهم ، والأحكام من ظواهر كلام الأئمة عليهم‌السلام قد اصطلمتهم ؛ فإن رام رائم إخراج الكفار عن الاسم والدار كان هذا زيادة في الحد وهو نقصان في المحدود.

فأما فعل الأئمة عليهم‌السلام فهو محتمل وجائز ، وأما فتاويهم سلام الله عليهم فهي مقصورة على ما مست إليه الحاجة ودعت إليه الضرورة ، وأعمال الدين إنما استقامت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثين سنة ، ولهذا احتجت العامة بما روي عن

__________________

(١) سقط من (أ).

١٢٠