مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المنصور بالله عبدالله بن حمزة

مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزه - ج ١

المؤلف:

المنصور بالله عبدالله بن حمزة


المحقق: عبدالسلام بن عباس الوجيه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٥
الجزء ١ الجزء ٢

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وحده وصلواته على محمد وآله وسلامه.

[مقدمة عن المطرفية]

اعلم أيدك الله وهداك ، وحاطك وتولاك أن الفرقة الغوية ، الضالة الشقية ، المسماة بالمطرفية ، قطع الله دابرها ، وبت أواصرها ، وألحق أولها أواخرها ، قد جعلت بغض الذرية الطاهرة لها بضاعة ، ورفض الأئمة الهادية سلام الله عليهم عادة وصناعة ، وبنت أمورها على التلبيس والتدريس ، وزادت في مسالكها على مسالك اللعين إبليس ؛ لأن إبليس لعنه الله وأخزاه ، وكبته وأقصاه (١) ، ما زاد على تكثير سواد المشركين وإغرائه لهم بمعاداة أهل الدين ، ووعده لهم بأنه جار لهم ، ومحارب معهم لمن رام حربهم من العالمين ، وهؤلاء لعظم عداوتهم وغلبة شقاوتهم تولوا الدفاع عن الظالمين ، وصاروا مقدمة لجنود الآثمين ، ويقفوا محالهم بالأيمان البالغة أن اعتقادهم اعتقاد المحقين.

[كذبهم عن اعتقادهم]

فكما حكى الله تعالى عن إخوانهم المنافقين بقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] ، فكذبهم الباري تعالى في أمر ظاهره الصدق وهو الشهادة بالنبوة لخاتم المرسلين ، وإنما كذبهم تعالى لشهادتهم بأمر يعلم من حالهم اعتقاد

__________________

(١) في (أ) : ويقعوا.

١٨١

خلافه ، فهل علمت أن الفرقة الملعونة تعتقد خلاف ما أظهرت أم لا؟ وهل علم المسلمون المناظرون لهم المعاشرون ضرورة من اعتقادهم خلاف ما أظهروه في هذه المدة بألسنتهم أم لا؟.

فقد ضربنا لدحضهم لدرن كفرهم بما (١) كذبهم مثالا فقلنا : هم بمنزلة من يروم غسل الغائط بالبول ، ويروم بذلك التطهير ، فهل يقع عند المسلمين شك في أنه يزداد تنجيسا [وترجيسا] (٢) ، وتخبيثا وتدنيسا ، وقد صارت مسائلهم تتكرر ، وهو سؤال من لا يتبصر ، إن أتاهم الحق لم يقبلوه ، وإن ألزموا البرهان لم يعقلوه ، فهم كما قال الله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] ، وإنما نفى تعالى سمعهم وعقلهم ، وإن كانوا على الحقيقة سامعين عاقلين ، ولهذا ألزمهم الحجة كما لزمت العقلاء ، ولهذا تعينت عليهم الفريضة ، ولكنهم لما لم يقبلوا ما سمعوا صاروا كأنهم لم يسمعوا ، و [لما] (٣) لم ينقادوا لأحكام عقولهم نفى تعالى أن يعقلوا فصاروا أضل من الأنعام ؛ لأنه الذي استقر عليه المثال لأنه قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤] ، ثم أضرب عن ذلك بحرف الإضراب فقال تعالى : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] وقد علمت وعلمت الكافة مخالفتهم لأئمة الهدى الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين.

[ابتداء أمر المطرفية وموقف الآل منهم]

فهم شر البرية ، وأعداء الذرية الزكية ، وكان أول ناجم في مذهبهم الخبيث

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولعله بماء كذبهم.

(٢) سقط من (أ).

(٣) في (ب) : وإنما.

١٨٢

أحدثه شيخ من رءوس ضلالتهم يقال له : أبو الغوازي (١) ، وكان من أهل قاعة (٢) في البون ، وأنكر عليه من كان في عصره من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان أعلم أهل زمانه في ذلك العصر من آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشريف العالم الفاضل زيد بن علي (٣) من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وهو الذي أظهر مذهب الزيدية بصنعاء ، وإليه ينسب دار الشريف المعروفة هنالك ، ورد

__________________

(١) أبو الغوازي .. هكذا في النسخ ، وفي هجر الأكوع : إبراهيم بن أبي الغواري ، وهو من بني عبد الحميد ونسبه في بني مالك ، كان من كبار علماء المطرفية.

ذكر في (التمييز بين الإسلام ومذاهب المطرفية الطغام).

(٢) قاعة : قرية صغيرة ، آهلة بالسكان من عزلة عيال حاتم ، من ربع ذرحان من جبل عيال يزيد ، قال إسماعيل الأكوع : وتقع في أعلى وادي قاعة ، المعروف بوادي الهجرة ، المتصل بوادي حمير ، في أعلى قاع حقل البون من جهة الغرب ، وتبعد عن مدينة عمران غربا بنحو اثني عشر كيلومترا تقريبا ، وعن صنعاء بأكثر من ستين كيلومترا ، ويوجد فيها مسجد متقن البناء ، ولعله من بناء يحيى بن حمزة وهو من طراز مساجد أخيه الإمام عبد الله بن حمزة (مؤلف هذا الكتاب) ، ووصفها ابن أبي الرجال في كتابه (مطلع البدور) بقوله : بلدة من محاسن البلاد ، غربي البون ، وقد كانت عامرة آهلة ، ثم خربتها همدان وانتقم الله منهم ثم عمرت وسكنها بعد ذلك طوائف مطرفية ومخترعة ، روى ثعلب أحمد الزيدي فيما رواه عنه محمد بن أبي الخير بن زريون الصنعاني المعاصر للإمام أحمد بن سليمان أن عبد الملك بن وهيب خرّب قاعة وأذل أهلها لأنهم قتلوا أهله ... ، إلى أن يقول : فلم يلبث أن خرج علي بن محمد الصليحي وذلل بني وهيب وكان قيس بن وهيب سيد همدان في عصره ، فقتله بحاز ودوخ البلد ثم عمرت قاعة إلى الآن ، والله أعلم.

قلت : وقد اجتمع في هجرة قاعة أكثر من ستمائة شخص من زعماء المطرفية لملاقاة الإمام عبد الله بن حمزة ومناظرته ، على رأسهم يحيى بن منصور بن المفضل وأخوه محمد بن منصور الملقب بالمشرقي ، وكان من أشدهم تعصبا للمطرفية ، ولكن الإمام كان حينها يجهز الجيوش إلى الجوف فبقوا في قاعة ، حتى دخلها الأمير يحيى بن حمزة سنة ٦٠٣ ه‍ ، وتمكن من القضاء على المطرفية.

هجر الأكوع ٤ / ص ٢٣٠٣ ، وفي رسائل الإمام عبد الله بن حمزة المعدة للنشر ما يوضح القضية ويرد على غمز ولمز الأكوع وغيره.

(٣) الشريف زيد بن علي بن الحسين بن الحسن بن محمد بن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، ذكره ابن أبي الرجال في ترجمة زيد بن علي بن الحسين إمام الزيدية بالمذهب الجامع بصنعاء. وقال : هو صاحب كتاب الرد على عامر بن عبد الله الظليمي فيما طعن فيه على الهادي إلى الحق. قال السيد أحمد الحسيني في (مؤلفات الزيدية) : في كتاب بسيط.

انظر (أعلام المؤلفين الزيدية) ت (٤٣٠) ، وانظر (مطلع البدور) (خ).

١٨٣

عليهم وأخزاهم ، وتصنيفه عليهم عندنا موجود مشهور ، وكذلك العابد من ولد الهادي عليهما‌السلام يعرف بالعابد عبد الله بن المختار بن الناصر (١) عليهم‌السلام فإنه رد عليهم ردا شافيا ، وكذلك الشريف الأجل الإمام العالم عماد الدين الحسن بن محمد المهول من ولد الهادي له عليهم تصنيف مشهور يبين فيه كفرهم ومكرهم ، وكذلك الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح بن الحسين الناصر [الديلمي] (٢) له عليهم تصنيف سماه (الرسالة المبهجة في الرد على الفرقة الضالة المتلجلجة) وكذلك الشريف [الإمام] الفاضل النفس الزكية والسلالة المرضية حمزة بن أبي هاشم (٣) الإمام

__________________

(١) عبد الله بن المختار (القاسم) بن الناصر للحق أحمد بن الإمام الهادي يحيى بن الحسين. من أعلام القرن الرابع الهجري ، عالم كبير ، حافظ ، أمير ، سياسي. قال ابن أبي الرجال : الشريف الكبير الحافظ لعلوم آل محمد ، وكان للعلم لم يتعلق بغيره. وقال السيد إبراهيم بن القاسم في (الطبقات) : كان أفقه أهل عصره وناحيته من آل الرسول ، يروي عن أبي الحسين الطبري ، ويوسف بن أبي العشيرة ، وأبي الوقار الطائي ، عن الإمام المرتضى محمد بن يحيى. وذكره ابن أبي الرجال فتاوى نقلها العلامة يحيى بن محمد بن جعفر بن أحمد بن محمد بن أبي رزين الصعدي سنة ٤٣٠ ه‍ ، قال ابن أبي الرجال : منها ما هو على أصل يحيى ـ عليه‌السلام ـ ، ومنها ما هو استنباط من كلام الأئمة ، ومنها ما يدل على رجوعه إلى نفسه لكمال الأهلية.

انظر (أعلام المؤلفين الزيدية) ت (٦٢٤) و (مطلع البدور) (خ) ٢ / ٤٥.

(٢) الإمام الناصر لدين الله ، أبو الفتح الناصر بن الحسين بن محمد بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام الديلمي المنشأ إمام مجتهد ، مجاهد ، نشأ في جيلان ، وأخذ العلم ودعا لنفسه بالإمامة هناك سنة ٤٣٠ ه‍ ، وأخفق فساح في الأرض ودخل مكة وانتقل منها إلى صعدة سنة ٤٣٧ ه‍ ، فدعا بها لنفسه ثم سار إلى صنعاء فملكها وجعل محل إقامته في ذيبين ، واختط حصن ظفار ، وقوي في عهده نفوذ الصليحيين ، وقاتله الصليحي حتى قتل شهيدا في معركة ببلاد عنس سنة ٤٤٤ ه‍ ، وقيل : سنة ٤٥٠ ه‍. وله مؤلفات منها : (البرهان في تفسير غريب القرآن) تفسير مشهور مخطوط ، ومنها مسائل الشريف القاسم بن العباس (مخطوط) وكتاب دعوته ، ذكره في (الحدائق الوردية) ، وكتاب (الرسالة المنهجة في الرد على فرقة الضلال المتلجلجة) رد فيه على المطرفية ، ذكره المؤلف هنا ، وزبارة في (أئمة اليمن) ١ / ٩٠ ، والسيد مجد الدين المؤيدي في (التحف) ص ١٤٥ طبعة رقم (٢).

وعنه وعن مؤلفاته ومصادر ترجمته انظر (أعلام المؤلفين الزيدية) ترجمة (٨١٣).

(٣) قال ابن أبي الرجال : الأمير الكبير حمزة بن أبي هاشم الحسن ، كنيته النفس الزكية ابن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم. قال ابن أبي الرجال : قال ابن فند ، وابن المظفر : قام محتسبا وليس بإمام وشهد بفضله المؤالف والمخالف ، وقد ذكره الإمام ـ

١٨٤

الحسن بن عبد الرحمن له عليهم رد ، والإمام الأجل المتوكل على الله عزوجل ، أحمد بن سليمان بن الهادي عليه‌السلام له عليهم ردود عظيمة ، ظاهرة موجودة في أرض اليمن ، منتشرة في أقطار البلاد منها : كتاب يسمى (١) : (تبيين كفر المطرفية) ورسالة تسمى : (الرسالة العامة) وكتاب سماه : (كتاب المطاعن) ؛ لأنهم طعنوا على الإمام ، فرد عليهم ، وكتاب سماه : (العمدة في الرد على المطرفية المرتدة ومن وافقوا من أهل الردة) فإنه بين فيه مشاركتهم للثنوية ، والمجوس ، والطبائعية ، واليهود ، والنصارى ، ثم بين ما شاركوا فيه الفرق الضالة من أهل الانتساب إلى الإسلام من المجبرة القدرية ، والمرجئة النابتة ، والنواصب الشقية ، والخوارج الردية ، ثم بين بعد ذلك ما خالفوا فيه جميع العقلاء من البرية الإسلامية والكفرية.

فأما حالنا وحال القوم ، وحال من هو في أيامنا من علماء آل الرسول كشيخي آل الرسول الداعيين إلى الله : شمس الدين وبدره ، ورأس الإسلام وصدره ، عضدي أمير المؤمنين يحيى ومحمد ابني (٢) الهادي عليهم‌السلام فرأي الكفر في المطرفية معلوم ، وكتاب العمدة عندنا موجود ، وقد صرح فيه بأن أحكامهم أحكام أهل دار الحرب ، وأن مكامنهم التي سموها هجرا حكمها حكم دار الحرب ، وقضى بتحريم مناكحتهم وموارثتهم ، وأكل ذبائحهم ، وقبرهم في مقابر الإسلام والمسلمين. إلى غير ذلك من أحكام المشركين ، والكتاب عندنا مشهور موجود ، وفيه من حربهم ما شهد به قبح اعتقادهم ، وخبث مذهبهم ، وقد رددنا عليهم من الردود ما هو

__________________

ـ المتوكل أحمد بن سليمان في بعض رسائله على المطرفية في جملة من ذكر من أهل البيت الذين أنكروا على المطرفية ، وذكر له وقعاته مع الصليحيين سنة ٤٥٩ ه‍ ، وهو جد المؤلف ـ عليه‌السلام.

انظر (مطلع البدور) لابن أبي الرجال (خ) ١ / ص ٣٥٦.

(١) في (أ) : يسمي.

(٢) سيأتي ذكرهما وترجمتهما في رسائل الإمام القادمة.

١٨٥

موجود ، وفيها أكثر هذه المسائل مسطور ، فما نذكر ما نذكر إلا على وجه التأكيد ، فنقول وبالله التوفيق :

[حكم مقلد المطرفية]

سأل أيده الله تعالى قال : إذا كان [دار] (١) الكفر لا يعرف إلا بدليل شرعي قاطع من كتاب الله أو سنة متواترة ، وقد علمنا كفر من ناظرناه من المطرفية ، فما الحجة في جميع ذلك على كفر مقلده أو محبه أو محسن الظن به والشاك في كفره؟.

الكلام في ذلك : أن الكفر لا يعلم إلا بدليل كما ذكر السائل ، والدليل قد يكون عقليا ، وقد يكون شرعيا ، وقد رفع السائل الإشكال في كفر المطرفية ؛ وأما شكه في كفر المقلد لهم والمعلوم أن الله تعالى قد نص على كفر المقلدين ، فكيف تصور السائل هذا السؤال والله تعالى يقول حاكيا عن المشركين : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، ولم يقبل عذرهم.

وأما كفر محبه فقد روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «المرء مع من أحب وله ما اكتسب» (٢) وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول ، فيجري مجرى الأصول ، ولا يكون معه إلا في الحكم ، فأما المكان فيختلف بالمشاهدة ، فلو لا الحمل على ما قلنا أخرج الكلام النبوي عن المعنى.

__________________

(١) زيادة في (أ).

(٢) أخرجه بهذا اللفظ كما في (موسوعة أطراف الحديث النبوي) البخاري ٨ / ٤٨ ـ ٤٩ ، ومسلم في البر والصلة ١٦٥ ، وأبو داود برقم (٥١٢٧) ، والترمذي برقم (٢٣٨٦) ، وأحمد بن حنبل ١ / ٣٩٢ ، ٣ / ١٠٤ ، ١١٠ ، ١٥٩ ، ٢٠٠ ، ٢١٣ ، ٢٢٢ ، ٢٢٨ ، ٢٦٨ ، والطبراني في الصغير ١ / ٥٨ ، ٢ / ١٣٠ ، وفي الكبير ٨ / ٦٥ ، ٧٠ ، والدار قطني ١ / ١٣٢ ، وهو في (مجمع الزوائد) ١ / ٢٨٦ ، ٩ / ٣٦٤ ، ١٠ / ٢٨٠ ، ٢٨١ ، وذكر في الموسوعة مصادر أخرى كثيرة. انظر الموسوعة ٨ / ٦٦٥.

١٨٦

وروينا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أحب عمل قوم شرك معهم في عملهم» (١).

وأما محسن الظن به فإجماع الأئمة والأمة منعقد على أن من أحسن الظن في اليهود والنصارى فإنه ينسلخ من الإسلام ، ويخرج من الدين ، والمطرفية باعتقادها الخبيث أقبح حالا من اليهود والنصارى ، وكذلك الكلام في الشاك في كفره ؛ لأن من شك في كفر اليهود والنصارى فهو شاك في نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن شك في نبوته فهو كافر بلا خلاف بين المسلمين في ذلك ، فهل بقي وجه للسؤال ، وما بعد الحق إلا الضلال.

[حكم معاوية وأتباعه]

وسألت : هل معاوية لعنه الله كافر؟ فما الحجة على كفره ، وإن ثبت كفره فهل حكم أصحابه كحكمه أم لا؟ فلم لم يسر فيهم علي عليه‌السلام سيرة الكفار من سبي وغيره ، وهل يكون حكم من مال إليه أو حارب معه وإن لم يصوبه في حرب علي عليه‌السلام ولا لحبه ولا لطلب دنيا أو أنس متقدم أو لكون الجهة جهته فلم ينتقل؟

__________________

(١) لم أجده بلفظه ، وله شواهد كثيرة بلفظ : «من أحب قوما حشر معهم» ، عزاه في (موسوعة أطراف الحديث) إلى تفسير ابن كثير ٤ / ٤٢ ، و (كشف الخفاء) ٢ / ٣٠٨ ، وبلفظ : «من أحب قوما حشره الله في زمرتهم» ، وعزاه إلى الطبراني في (الكبير) ٣ / ٣ ، و (مجمع الزوائد) ١٠ / ٢٨١ ، و (كنز العمال) برقم (٢٤٦٧٨) ، و (كشف الخفاء) ٢ / ٣٠٩ ، وبلفظ : «من أحب قوما على أعمالهم حشر معهم يوم القيامة» ، وعزاه إلى (إتحاف السادة المتقين) ٩ / ٦٦٥ ، و (تأريخ بغداد) ٥ / ١٩٦ ، وبلفظ : «من أحب قوما على أعمالهم حشر يوم القيامة في زمرتهم» ، وعزاه إلى (إتحاف السادة المتقين) ٨ / ٧٢ ، و (كنز العمال) برقم (٢٤٧٣٠) ، و (تأريخ بغداد) ٥ / ١٩٦ ، و (العلل المتناهية) ٢ / ٤٣٣ ، و (الكامل في الضعفاء) لابن عدي ٦ / ٥٣٤٨ ، وبلفظ : «من أحب قوما ووالاهم حشر معهم يوم القيامة» ، وعزاه إلى (إتحاف السادة المتقين) ٩ / ٦٦٥ ، و (المغني) للعراقي ٤ / ٣٤١. وانظر (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٨ / ٣٠ ، ٣١.

١٨٧

الكلام في ذلك : إن معاوية عندنا أهل البيت كافر ولم يعلم في ذلك خلافا من سلفنا الصالح سلام الله عليهم والحجة على كفره أنه رد ما علم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة ، والراد لما علم من دينه ضرورة كافر بالإجماع من الأئمة والأمة ، وإنما قلنا : إنه رد ما علم ضرورة ؛ لأن المعلوم من فعله ضرورة ادعاء إخوة زياد بن أبيه ، وقد ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (١) فقال : الولد للعاهر ولا يضره عهره ، فكفر بذلك وبأشياء أخر ، ولكن هذا كاف في هذا الباب وأوضح لأولي الألباب ، وحكم أصحابه كحكمه بلا خلاف ؛ لأن الله تعالى يقول : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] ، وأما أن عليا عليه‌السلام لم يسبهم فإنما وقع الحرب بينه وبينهم بصفين بين الشام والعراق ، وإن كانت داخلة في تخوم الشام ، ولم يلتق فيها إلا الرجال مصلتين بالسيوف والرماح ، ولو أن عليا عليه‌السلام تمكن منهم ولم يسب ؛ فللإمام أن يسبي وأن يدع ، ولم نتشدد إلا لغموض الأحكام في المنتسبين إلى الإسلام ، من كفرة الأنام ، لالتباس ذلك على العوام ، فليس في تركه السبي حجة لاحتمال الحال ؛ ولأن كفر معاوية لم نقطع به إلا بعد موت علي عليه‌السلام ؛ لأنه لم يدع زيادا إلا بعد موت علي وولده الحسن عليهما‌السلام ، وقد انقطعت الحرب يوم ذلك بظهوره على الأمر وعدم المحارب له ، وليس كون سبب الكفر حمية أو طلب دنيا أو محبة دار تسقط حكم الكفر.

__________________

(١) أخرجه معظم أصحاب الحديث ، وسيأتي تخريج بعض مصادره في رسائل قادمة. وممن أخرجه : البخاري ٥ / ١٩٢ ، ٨ / ١٤٠ ، ٢٠٥ ، وأبو داود برقم (٢٢٧٣) ، وابن ماجة برقم (٢٠٠٦ ، ٢٠٠٧) ، والترمذي برقم (١١٥٧) ، وأحمد بن حنبل ١ / ، ٥٩ ، ٦٥ ، ٢ / ٢٣٩ ، ٣٨٦ ، ٤ / ١٧٦ ، ١٨٧ ، ٥ / ٢٦٧ ، وعشرات من المصادر انظر بعضها في (موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف) ١٠ / ٤٩٠ ـ ٤٩١.

وللمزيد من المعلومات حول معاوية ومحبيه وأتباعه انظر كتاب (النصائح الكافية لمن تولى معاوية) وهو كتاب مشهور مطبوع للسيد محمد بن عقيل الحضرمي الشافعي رحمه‌الله.

١٨٨

فاعلم ذلك موفقا ، وأهل العلم لا يجهلون هذا المقدار.

[حكم العارف ببطلان المطرفية المساير لهم]

وسألت عن رجل من المصانع صحيح الاعتقاد ، عارف ببطلان قول المطرفية ، وهو شاك في إمامة الإمام لشبهة عرضت له من تصرفات العمال أو إكراه الإمام لأخذ أكثر من العشر ، ولم يعلم جواز ذلك من كتاب وسنة ، ولا من سيرة الأئمة عليهم‌السلام ولا هو محب أيضا لمن ظهر منه اعتقاد التطريف ، وهو محب للمشرقي (١) ، ومحسن الظن فيه ؛ لما ظهر من صحة اعتقاده ، ولم يعلم منه خلاف ما أظهر ، وحارب معه ، قال : للدفع عن نفسه وماله ، وما حكمه في جميع هذه الأمور ، وسواء كان مصوبا للمشرقي وأصحابه وما فعلوه أم لا؟

الكلام في هذه المسائل : إنها ملفقة ، وأرجاؤها مشققة ، لأنه سأل عن رجل من المصانع صحيح الاعتقاد ؛ وكيف يصح اعتقاد من عاشر الكفار ، وجعل دارهم له دار قرار ، هذا سؤال من لا يعرف الأحكام ، ولا يتحقق بعرفان أصول الإسلام.

[الشك في الإمام لبعض التصرفات]

فأما ما شكه في إمامة الإمام لأجل تصرف العمال فمن أعجب العجاب ، ومن لا يمتري لأجله في خطأ مورد الشبهة أولو الألباب ، أفليس عمال النبي والوصي صلوات الله عليهما وعلى الطيبين من آلهما حدثت منهم الحوادث الكبار ، المنتهية إلى سفك الدماء ، وركوب الدهماء ، فلم يقدح ذلك في النبوة والإمامة ؛ فكيف يكون ذلك شبهة في حق إمام زمانه ، لو لا متابعته لشيطانه ، وما إكراه [الإمام

__________________

(١) تقدم وهو محمد بن منصور بن المفضل.

١٨٩

للناس] (١) على [تسليم] (٢) أكثر من الزكاة ، فهلا شك في متابعته للشقي المشرقي لهذه الغلة ، والمعلوم منه ومن سلفه المطرفية الإكراه لمن قدروا عليه على المغارم ، والضيف وسائر أنواع الكلف ؛ وما إمارة الشك إذا أخذ أكثر من العشر من جعل الله له الولاية العامة في الأهل والمال والتصرف ، في جميع الأحوال ، قال أصدق القائلين : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] ، وإذا كان أولى بنفس المؤمن من نفسه فولايته على ماله بطريقة الأولى أولى ، ولا خلاف أن للإمام ما كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا ما خصه الله به من فضل النبوة ، ولأنا نعلم ويعلم أهل العلم [أن ولي اليتيم متى علم أو غلب في ظنه أن دفع قسط من مال اليتيم يؤدي إلى دفع الظالم عن ماله واجتنابه وجب عليه عند أهل العلم] (٣) [والعقل] أن يدفع ذلك القسط ، ويسلم جملة المال ، ويكون مسيئا إن لم يفعل. وللشيخ عند الإمام بمنزلة اليتيم عند الولي وإن كان الخوف من فساد الدين كان دفع المال بالجواز أولى ؛ لأن المال يترك للدين في شرع الإسلام ، والدين لا يترك للمال بحال من الأحوال ، وإذا (٤) كان أشك لأنه لم يعلم فالجهل لا يكون عذرا ، وكذلك ما جحد الكفار الصانع إلا لفقد علمهم به.

وأما أنه لم يجد ذلك في سير أحد من الأئمة عليهم‌السلام فعنه جوابان :

أحدهما : أنه لم يعرف سير الأئمة عليهم‌السلام ولا طلبها فكيف يجد ما لم يطلب ولا يقف عليه ، وهذا كما قال الله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) [يونس : ٣٩] ، فلم يخلص ذلك من عهده ما لزمهم ؛ وإنما قلنا ذلك لأنه موجود في كتب سائر الأئمة عليهم‌السلام فإن الهادي عليه‌السلام أخذ المعونة من أهل صنعاء ،

__________________

(١) سقط من (أ) ، وهو في (ب).

(٢) سقط من (أ) ، وهو في (ب).

(٣) سقط من (أ) ، وهو في (ب).

(٤) في (ب) : وإن.

١٩٠

ولم يفرضها إلا كبار منهم وشيوخهم وعمهم بذلك ، ولأن بني عبد المدان ذكروا في كتابهم أن الهادي عليه‌السلام عقد لنا بأنه لا معونة علينا ولا سلف ، والهادي لا يعقد لهم بترك الزكاة ، فهذا دليل على أن المتروك غير الزكاة ، والسلف هو استقراض الزكاة من أربابها قبل حلول وقتها ، كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمه العباس ؛ ولأن المؤيد عليه‌السلام قال : وأقول : إن من له فضل مال يجب عليه إخراجه في سبيل الله تعالى ، ويكون آثما إن لم يفعل ، والقاسم بن عليعليه‌السلام أخذ المعونة من البلاد التي استقرت عليها ولايته غير مرة ، فإن كان لا يرون [إمامته] (١) فذلك من أحداثهم المقوية لكفرهم ونفاقهم ، الجالبة لعنادهم الذرية الزكية ، وشقاقهم للأئمة ظاهر مع الأول والآخر.

[الجمع بين النقيضين]

ثم قال : ولا هو محب لمن ظهر منه اعتقاد التطريف ، وهو محب للمشرقي ، ومحسن الظن فيه لما ظهر من صحة اعتقاده ولم يعلم منه خلاف ما أظهر ، فكان قوله هذا من أطرف فصول مسألته هذه الملفقة ، كيف يبغض أهل التطريف ويحب الشقي المشرقي وهو رأسهم وسنانهم ، وسيفهم ولسانهم ، وإن كان [سيفا ذو شبا ولسانا باقليا ، ولكن هذا السوار لمثل هذا المعصم.

وأما قوله : لما ظهر من صحة اعتقاده ؛ فأي صحة اعتقاد لمن ظاهر أهل التطريف ، ومال إلى التحريف ، وإنكار المعلوم من مذهبه ومذهبهم ضرورة يحمل الكافة على العلم بكذبه وانقطاع سببه ، ولأن المعلوم من حال الشقي أنه بنى أمره على الكذب من أول وهلة ، فمن ذلك ما اشتهر اشتهار الشمس ، واستغنى بجهره عن الهمس ، وذلك أنه ادعى الإمامة وهو غير مستحق لها ، وذكر أنه وجد كنوز

__________________

(١) سقط من (أ) ، وهو في (ب).

١٩١

دقيانوس ـ وهي ودائع آل قبير ـ قبرها وبعثها ودفنها [ونبثها] (١) ، وبها فطوقته العار طوق الحمامة ، لما استوعب من الوديعة وادعى [من] (٢) الإمامة ، قال : ولم يعلم منه خلاف ما أظهر ؛ وقد قدمنا أن المعلوم منه ضرورة خلاف ما أظهر ، ولا شك في ولاية المطرفية وكونه [لهم] (٣) إماما بزعمه وزعمهم ، ومذهبهم معلوم مشهور توالت به الأعصار والدهور.

وأما قوله : وحارب معه للدفع عن نفسه وماله. فهذا سؤال نازح عن العلم ، شاسع عن الفهم ؛ وهل يجوز لأحد من المسلمين محاربة الإمام فيفتقر إلى الدفع عن نفسه وماله أوليس الهجرة واجبة عليه إلى دار إمامه ، وإن لم يكن إمام وجبت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام في جميع ليالي العصور والأيام ، فلا يفتقر ذلك إلى وجود الإمام ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وفي المؤمن والكافر لا يتراءى ناراهما» (٤) والمراد بذلك المساكنة وإلا فإنا جنة المسلمين نار المشركين للحرب واجبة عليهم ، ونارهم متقابلة ، وذلك من الفضائل ومتاجر الثواب ، وهذا لو كان

__________________

(١) في (أ) : وبينها ، وفي (ب) : ونبتها.

(٢) سقط من (أ).

(٣) سقط من (أ).

(٤) في (ب) : لا تراءى نارهما ، والحديث لم أجده بلفظه وهو بلفظ : «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك ، قيل : يا رسول الله لم؟ قال : لا تتراءى ناراهما» في كتاب (المبسوط) للشيخ الألوسي ج ٢ ص ٢٤ ص ٢٥ ، وفي (شرح الأزهار) ج ٤ ص ٥٢٨ بلفظ : «المسلم والكافر لا تتراءى ناراهما» ، وفي كتاب (المسند) للإمام الشافعي ص ٤٩ من حديث طويل : «ألا إني بريء من كل مسلم مع مشرك ، قالوا : يا رسول الله لم؟ قال : لا تتراءى ناراهما» ، وكذلك في كتاب (الأم) للشافعي بنفس اللفظ ج ٦ ص ٣٧ ، وفي المجموع في شرح المهذب ج ١٩ ص ٢٦٣ ، قال : وفي طريق آخر ، ولم يذكر فيه عن جرير ، وقال : وهذا أصح ، وأخرجه أبو داود في كتاب (الجهاد) عن جرير ، والنسائي عن معاوية ، وابن ماجة عن جرير ، ونكتفي بهذا فهو في مصادر أخرى عديدة.

١٩٢

عذرا لجاز حرب النبي والوصي والإمام الهادي المهدي صلوات الله عليهم أجمعين ، لأنهم الذين طلبوا الناس نفوسهم ، وأموالهم ، وأولادهم ، فكان عذر أعدائهم يكون مقبولا ، وعلى الصحة محمولا ، وهذا ما لا يقول به مسلم ، وهو يكون والحال هذه كافر لموالاته ومساكنته للمشركين ، وسواء كان مصوبا أو مخطئا للكافرين فإنه كافر بولايتهم ؛ لمظاهرته لهم على غوايتهم ، قال الله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٨ ، ١٣٩] ، ومعلوم أن النفاق أعظم أنواع الكفر ، وجعل صفتهم الموجبة لنفاقهم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، فتفهم ذلك موفقا إن شاء الله تعالى.

[كذب المشرقي]

وسألت : ما الدليل على صحة كفر المشرقي مع الذي أظهر في المحافل من صحة الاعتقاد إذا لم يعلم منه خلاف ما أظهر؟

الكلام في هذه المسألة قد تقدم الكلام في الأولى على معناه ، وذلك أنه قال : ظهر منه من صحة الاعتقاد ما لم يعلم خلافه.

الجواب : أن المسألة منتقضة من أولها ؛ لأن المشرقي لم يظهر منه صحة الاعتقاد ، بل ظهر منه كذب صريح يعلمه كل ذي عقل صحيح ، والمعلوم منه خلافه ؛ لأن كلامه في المحافل يحكي مذهب الحق ويحلف عليه أنه اعتقاده واعتقاد شيعته المطرفية ، والمعلوم ضرورة لجميع أهل الحق من مذهبهم خلاف ما أظهره ، فكيف يصدق إذا جاء بخلاف المعلوم فما هو إلا كما قال الله سبحانه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [التوبة : ٧٤] ، وكما قال

١٩٣

تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] ، فقضى بكذبهم وإن قالوا الحق ؛ لأن المعلوم من مذهبهم خلاف ما أظهروا فما الحال في هذا إلا واحدة. فتأمل هذه المسألة تجد الأمر كما قلنا (١).

[حكم من بايع المشرقي]

وسألت : ما حكم من بايع المشرقي وحارب معه لما ظهر منه وصوبه وأحبه ، أو حارب ولم يصوب ولا أحب ، لكن للوجوه المتقدمة في أصحاب معاوية؟

الكلام في ذلك : إن حكم من بايع المشرقي كافر شقي ، وتصويبه كفر ، وكذلك حبه والحرب زائد على ذلك ؛ لأنه يتضمن النصرة والولاية ، فجمع وجوه القبح في نصرته ؛ لأنا قد بينا كفر المشرقي وأهل مقالته ومباهتتهم ومباهتته في ضلالته ، وحكم تابعه حكمه ، فلا يصح التبري عنه في دار الآخرة ، وقد حكاه الله تعالى ولم يسقط حكمه ، فقال سبحانه: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة : ١٦٦] ، فلم يبرئهم سبحانه من ذلك ، ولا نفى عنهم الكفر بالانتفاء عنه ، وكذلك حكم من حارب معه ولم يصوبه ولا أحبه ، فإن

__________________

(١) في حاشية الأصل (أ) ما لفظه : الحمد لله وحده ، ما ذكره إمام الأئمة المنصور بالله عليه‌السلام في ذكر المشرقي ، فقد روي بإسناد موثوق به إليه أنه كتب إلى المنصور بالله عليه‌السلام بعد أن صنف المنصور عليه‌السلام هذا الكتاب : إن عقيدتي عقيدتك إلا في المطرفية فليس ذلك ، وليس عقيدتي عقيدة المطرفية ، وحكي أن المشرقي بعد أن توفي المنصور بالله عليه‌السلام أنه تاب عن محاربته على يد أخيه يحيى بن منصور ، والحمد لله رب العالمين على توبة أهل هذا البيت. حكى لنا ذلك كله والدي السيد العلامة يحيى بن عبد الله بن زيد بن عثمان الوزير رحمه‌الله تعالى ، عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن زيد بن عثمان بن عبد الإله الوزير بن الهادي الحسني العلوي غفر الله له ذنوبه وستر عيوبه بحق محمد وآله ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله. تمت ص ٢١٤ من المخطوط.

١٩٤

حكمه يجري عليه ظاهرا ، دليل ذلك ما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عمه العباس ، وقد قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنا إنما خرجنا كارهين مع قريش ، وذلك المعلوم منهم ، وبغاضتهم لقريش معلوم لعداوتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإجماعهم عليه بالعداوة في حقه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما ظاهر أمرك فكان علينا» (١) فلم يعذرهم بالفداء ، ولا خلصهم بالمن ، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) [الأنفال : ٧٠] فلم يجعل للكراهة لهم والبغاضة حكما في المظاهرة لهم والكون من جملتهم ، وقد تقدم الكلام في أصحاب معاوية.

[الدليل على كفر أهل المصانع]

وسألت : ما الحجة على كفر أهل المصانع ، ومنهم من لا يعرف اعتقاد المطرفية ، ولا يحب من قال به ، وما الطريق إلى العلم أنهم قد تمالوا على حبهم؟.

الكلام في ذلك : إن الدليل على كفر أهل المصانع من وجوه :

من ذلك تماليهم على منع الصدقة ، وإظهارهم في المجامع والمحافل بشهادة الثقات أنا في بلاد لا تحتمل الزكاة ، فكان ردا لما علم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة وهو كفر بالاتفاق.

الوجه الثاني : متابعتهم للشقي المشرقي وإخوانه المطرفية ، والله عز من قائل

__________________

(١) أخرجه أحمد بن حنبل ١ / ٣٥٣ من حديث طويل ، وفيه : «وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك» ، وهو في طبعة مؤسسة التأريخ العربي دار إحياء التراث برقم (٣٣٠٠) عن ابن عباس. وهو في (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٢ / ٣١٥ وعزاه إلى من سبق ، وإلى (البداية والنهاية) ٣ / ٢٩٩.

١٩٥

يقول حاكيا عن إبراهيم عليه‌السلام : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم : ٣٦] ، فجعل حكم تابعه حكمه ، والظاهر من أهل المصانع المتابعة للمشرقي الشقي ، والمطرفية المرتدة الغوية ، فلا وجه لمعرفة اعتقاد المطرفية ومحبتهم ؛ لأن من ظاهر الكافر وجعله إماما فهو كافر ، وسواء كان محبا له أو مبغضا ، متدينا بدينه أو مقلدا ، ولا يحتاج إلى العلم بأن الكل من المصانع قد تمالوا على حب المشرقي والمطرفية يكفي في ذلك حب الأكثر وظهور الحال في المتابعة ؛ وهذا معلوم ضرورة أن الكل تلقاه بالقبول ، وأظهر البشر به والبشاشة ، وتحملوا المؤن في حقه ، وأنفقوا طائفة من أموالهم في تقوية ضلاله وكفره ، فما بقيت الحاجة إلى الإحاطة بعلم أحوالهم مغطة (١) وجه ، والحكم للظاهر والأعم للأكثر ، ونحن نعلم بتواطؤ الآثار (٢) أنه قد كان بقي في دار الشرك من يحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محبة شديدة كبني هاشم المتخلفين عن الهجرة ومن قال بقولهم ، وكخزاعة فإنهم كانوا عيبة سر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلمهم وكافرهم ، ومعلوم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفرق بين أحكامهم وأحكام المشركين ، بل جعل الحكم واحدا.

[سبي امرأة لا تعتقد اعتقادهم]

وسألت : عن حكم المرأة التي تكون في المصانع من أهلها أو من سواهم وصادف في كونها هنالك ، وهي تعتقد الحق ولا تحب المطرفية ، ولا تعرف اعتقادهم هل يجوز سبيها؟

الكلام في ذلك : إن المرأة التي تكون من أهلها حكمها حكمهم ؛ لأن الظاهر

__________________

(١) في النسخ ، في (أ) : معطه بدون نقاط ، وفي (ب) : فقطة ولعلها الأصح.

(٢) كذا في النسخ وبدون نقط.

١٩٦

من حال نساء أهل البلاد أنها لا تخالفهم ، وإن خالفت واحدة فإنما يكون نادرا ولا حكم للنادر ، فإن علم من حالها أنها مخالفة للمطرفية في اعتقادهم فلا يخلو :

إما أن تكون متمكنة من الهرب أو غير متمكنة ، فإن كانت متمكنة من الهرب ولم تهرب فحكمها حكمهم في الكفر ولا ينفعها اعتقادها للحق مع ذلك من جريان ظاهر الحكم عليها ، وإن كانت من غير أهلها وجاءتهم مكرهة مغصوبة فحكمها حكم المسلمين ، ولا يجوز سبيها عند الظهور ، وإن وصلتهم مختارة فحكمها حكمهم وكفرت بذلك.

وأما قوله (١) : وهي لا تحب المطرفية ولا تعرف مذهبهم ؛ فهذا كلام متناقض كيف تبغض تدينا أو تحب من لا تعرف اعتقاده ، فإن كان ذلك فهو تشبه وهو لا حكم له كالاستثقال والاستحلال (٢).

[حكم والي الإمام غير المجاهد]

وسألت : عن السلطان إذا كان يأخذ من الرعية ما لا يجوز ورجع إلى طاعة الإمام فأقره على ما في يده ، وأجاز له أن يقبض له منهم ما أمره به بنية الجهاد في سبيل الله ، وبقي على تصرفه ، ولم يجاهد. هل يجوز للإمام أن يقره على ذلك؟ فما الحجة عليه من كتاب أو سنة أو سير الأئمة عليهم‌السلام؟

الكلام في ذلك : إن الإمام ناظر في صلاح الدين والأمة ، فإذا تاب إليه السلطان ورأى من الصلاح إقراره على ما في يده جاز ذلك ؛ لأن له أن يتألفه بالمال سواء كان من بيت المال أو مما في أيدي الرعية لا فرق بين ذلك ، وشرط الجهاد يلزم

__________________

(١) في (أ) : قولهم.

(٢) في (ب) : الاستحلاء.

١٩٧

الإمام ، فإن فرط الناس فيه فالجرم عليهم ، فإذا أخذ السلطان بالجهاد والتألف يكون لوجهين : إما لنصرة المتألف للمسلمين ، وإما لدفع شره عنهم ، فإذا حصل أحد الوجهين أجزى في جواز التألف.

[اجتهاد الإمام]

وأما التحكم في الحجة أنها تكون من الكتاب والسنة أو من سير الأئمة عليهم‌السلام فهذا أمر لا يلزم في باب العلم ، وإلزامه سهو من السائل أو جهل بصورة الحال ؛ لأن الأصل من الكتاب والسنة أن الله تعالى جعل للإمام ولاية عامة على الكل في المال والنفس ، وللولي أن يتحرى المصالح ، فهذا أصل الجواز.

وأما فروعه وعيونه فلا يلزم ذلك ، وقد فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام أشياء لا يعرف أصلها من كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها : أخذه لمال المحتكر وقسمه نصفين حرق نصفه وترك نصفه في بيت المال فقال : لو ترك لي أمير المؤمنين مالي لربحت مثل عطاء أهل الكوفة ـ وجند الكوفة مائة ألف مقاتل ـ فانظر هذا المال ما أجسمه ، فأين يوجد مثل هذا في الكتاب أو في السنة! وهل مرجعه إلا إلى أن له الولاية العامة وتجري المصالح بجهده ، ولما مر عليه‌السلام بقوم يلعبون بالشطرنج أمر فارسا من فرسانه فرمى بعظامها وحرق رقعتها ، وأمر أن يقام كل واحد منهم معقولا على فرد رجل إلى صلاة الظهر فقالوا : يا أمير المؤمنين لا نعود. قال : وإن عدتم عدنا. فهل هذا في الكتاب أو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فعله فيكون سنة ؛ هذا ما لا يعلم.

ولما ضرب عبد الملك بن مروان الدينار والدرهم وكرهت ذلك الروم ، وتهددوا المسلمين بإفساد النقود ؛ لأن ذكر الله تعالى في الدينار والدرهم غاظهم ، فشاور

١٩٨

عبد الملك بن مروان علي بن الحسين عليه‌السلام فأشار عليه بمنع المسلمين من المبايعة بنقود المشركين في جميع ديار الإسلام ، فلم يتم لهم كيدهم ، وعز الإسلام بذلك فهل هذا في كتاب أو سنة ؛ أو ليس السنة جارية بجواز المبايعة بنقود المشركين إلى أيام عبد الملك بن مروان ، وعلي بن الحسين عليه‌السلام قدوة في الإسلام ، وإمام في الحلال والحرام ، ومن لا يتمارى في فضله. ولما أراد عمر التوسيع في الحرم الشريف اشترى دور قوم فهدمها ، وكره آخرون فهدم عليهم ، وترك أثمانها في بيت المال ، ولم ينكر [ذلك] (١) عليه أحد من الصحابة ، فجرى مجرى الإجماع. فهل كان هذا سبق في كتاب أو سنة ، أو هو نظر لمن اعتقد أن له النظر في صلاح دين الأمة.

وأما عطاء السلطان فقد أقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأبيض بن جمال جبل الملح بمأرب حتى قال بعض الناس : يا رسول الله دريت ما أعطيته قال : «وما أعطيته؟ قال : أعطيته العد الذي لا ينقطع. فرجع عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٢) وأقطع رجلا من ربيعة لسؤاله إياه ذلك الدهناء ، وكانت امرأة تميمية قد لقيها في طريقه وقد أبدع بها وكلّ بعيرها فحملها خلفه فلما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [قالت :

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) أخرجه ابن حبان (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان) برقم (٤٤٩٩) ، بسنده عن شمير بن عبد المدان ، عن أبيض بن حمال ، أنه وفد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستقطعه فأقطعه الملح ، فلما أدبر قال رجل : يا رسول الله ، أتدري ما أقطعته؟ إنما أقطعته الماء العدّ. قال : فرجع فيه وقال : سألته عما يحمى من الأراك. فقال : ما لم تبلغه أخفاف الإبل. قال محقق الإحسان : وأخرجه الطبراني في الكبير برقم (٨١٠) ، عن أبي خليفة بهذا الإسناد. وأخرجه أبو داود برقم (٣٠٦٤) في الخراج والإمارة باب في إقطاع الأرضين ، والترمذي في (الأحكام) ١٣٨٠ ، باب ما جاء في القطائع ، وحميد بن زنجويه في الأموال ، برقم (١٠١٧) ، وأبو عبيد في الأموال (٦٨٤) ، والدارقطني ٤ / ٢٢١ ، ٢٤٥ ، والبغوي برقم (٢١٩٣) ، ويحيى بن آدم في الخراج (٣٤٦) ، وابن ماجة (٢٤٧٥) في الرهون ، وابن سعد ٥ / ٣٨٢ ، والطبراني ٨٠٨ ، كلهم بأسانيد عن أبيض بن حمال. انظر (الإحسان) ١٠ / ٣١٥ طبعة مؤسسة الرسالة.

١٩٩

يا رسول الله ، أتدري ما أعطيته؟] (١) مراد الخيل ، ومرابع الشاء ومسارح الإبل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه» (٢) قال الربيعي : أراني كحامل جيفة ، والله لو علمت بقولك لتركتك حيث لقيتك. فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأطعم عمرو بن فلان طعمة معلومة من زبيب وحبوب من خيوان والقرى والقرطية بشأن من جوف المحورة (٣) ، فكانت عليه وعلى نسله من بعده يأخذونها إلى قريب من أيام الهادي عليه‌السلام بمديدة يسيرة ، فهذه أمور يعلمها أهل العلم ، وجهل الجهال بها لا يرفع أحكامها ، ويسقط جوازها ؛ لأن العلم هو الحاكم على الجهل ليس الجهل الحاكم على العلم ؛ والفرقة الضالة الغوية ، المرتدة الشقية ، المسماة بالمطرفية ، أرادت ما لم يرد الله تعالى تكون هي المحللة والمحرمة لا الأئمة ، وأن يقف أئمة الهدى على مبلغهم من العلم ، ولو كان ذلك كذلك لخرج الأئمة عن الإمامة ، وما استحقوا حكم الزعامة ، وقد كان الناصر عليه‌السلام أقر قوما من أهل اليمن

__________________

(١) سقط من (أ).

(٢) أخرجه الإمام المرشد بالله في (الأمالي الخميسية) من حديث طويل ٢ / ١٨٠ ، ولم يذكر فيه الحكاية ، وهو بألفاظ متعددة ومتقاربة في مصادر كثيرة.

انظر : (موسوعة أطراف الحديث النبوي) ٨ / ٦٧٤.

(٣) خيوان : بلدة مشهورة من بلاد همدان. قال الحجري : ومن بلاد حاشد خيوان ، كما قال الهمداني ، وهي اليوم بين حاشد وسفيان من بكيل.

قال في (معجم البلدان) : خيوان بفتح أوله وتسكين ثانيه وآخره نون مخلاف باليمن ومدينة بها. وقال الهمداني في صفة الجزيرة : وخيوان أرض خيوان بن مالك ، وهي من غرر بلد همدان وأكرمه تربة وأطيبه ويسكنها المعيديون ، والرضوانيون ، وبنو يغنم ، وآل أبي عشن ، وآل أبي حجر ، من أشراف حاشد ، وبها قبر الجدين بكيل وحاشد ، ولم يزل بها فارس وشاعر ، فمن شعرائهم ابن أبي البلس ، وهو القائل في الإمام يحيى بن الحسين الرسي :

لو أن سيفك يوم سجدة آدم

قد كان جرد ما عصى إبليس

وجوف المحورة : اسم يطلق على جوف مراد. الإكليل ج ١٠ / ص ٨١. وبقية أسماء الأماكن لم أجدها.

٢٠٠