زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

قال الحسن ، وأبو العالية. والثالث : نبيّهم ، قاله أنس بن مالك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومجاهد في رواية. والرابع : كتابهم ، قاله عكرمة ، ومجاهد في رواية. ثم فيه قولان : أحدهما : أنه كتابهم الذي فيه أعمالهم ، قاله قتادة ، ومقاتل. والثاني : كتابهم الذي أنزل عليهم ، قاله الضّحّاك ، وابن زيد. فعلى القول الأول يقال : يا متّبعي موسى ، يا متّبعي عيسى ، يا متّبعي محمّد ؛ ويقال : يا متّبعي رؤساء الضّلالة. وعلى الثاني : يا من عمل كذا وكذا. وعلى الثالث : يا أمّة موسى ، يا أمّة عيسى ، يا أمّة محمّد. وعلى الرابع : يا أهل التّوراة ، يا أهل الإنجيل ، يا أهل القرآن. أو يا صاحب الكتاب الذي فيه عمل كذا وكذا.

قوله تعالى : (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) معناه : يقرءون حسابهم ، لأنهم أخذوا كتبهم بأيمانهم. قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي : لا ينقصون من ثوابهم بقدر الفتيل ، وقد بيّنّاه في سورة النّساء (١).

قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : (أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) مفتوحتي الميم ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم بكسر الميمين ، وقرأ أبو عمرو : «في هذه أعمي» بكسر الميم ، «فهو في الآخرة أعمى» بفتحها.

وفي المشار إليها ب (هذِهِ) قولان (٢) : أحدهما : أنها الدنيا ، قاله مجاهد. ثم في معنى الكلام خمسة أقوال : أحدها : من كان في الدنيا أعمى عن معرفة قدرة الله في خلق الأشياء ، فهو عمّا وصف له في الآخرة أعمى ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : من كان في الدنيا أعمى بالكفر ، فهو في الآخرة أعمى ، لأنه في الدنيا تقبل توبته ، وفي الآخرة لا تقبل ، قاله الحسن. والثالث : من عمي عن آيات الله في الدنيا ، فهو عن الذي غيب عنه من أمور الآخرة أشدّ عمى. والرابع : من عمي عن نعم الله التي بيّنها في قوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) إلى قوله : (تَفْضِيلاً) فهو في الآخرة أعمى عن رشاده وصلاحه ، ذكرهما ابن الأنباري. والخامس : من كان فيها أعمى عن الحجّة ، فهو في الآخرة أعمى عن الجنّة ، قاله أبو بكر الورّاق. والثاني : أنّها النعم. ثم في الكلام قولان : أحدهما : من كان أعمى عن النّعم التي ترى وتشاهد ، فهو في الآخرة التي لم تر أعمى ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : من كان أعمى عن معرفة حقّ الله في هذه النّعم المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ولم يؤدّ شكرها ، فهو فيما بينه وبين الله ممّا يتقرّب به إليه أعمى (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ، قاله السّديّ. قال أبو عليّ الفارسيّ : ومعنى قوله : (فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أي : أشدّ عمى ، لأنه كان في الدنيا يمكنه الخروج عن عماه بالاستدلال ، ولا سبيل له في الآخرة إلى الخروج من عماه. وقيل : معنى العمى في الآخرة : أنه لا يهتدي إلى طريق الثواب ، وهذا كلّه من عمى القلب. فإن قيل : لم قال : (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) ولم يقل : أشدّ عمىّ ، لأنّ العمى خلقة بمنزلة الحمرة ، والزّرقة ، والعرب تقول : ما أشدّ سواد زيد ، وما أبين زرقة عمرو ، وقلّما يقولون : ما أسود زيدا ، وما أزرق عمرا؟ فالجواب : أنّ

__________________

(١) سورة النساء : ٤٩.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله ٨ / ١١٨ : وأولى الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : معنى ذلك : ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن حجج الله على أنه المنفرد بخلقها وتدبيرها ، وتصريف ما فيها ، فهو في أمر الآخرة التي لم يرها ، ولم يعاينها ، وفيما هو كائن فيها أعمى وأضلّ سبيلا. يقول : وأضل منه في أمر الدنيا التي عاينها ورآها.

٤١

المراد بهذا العمى عمى القلب ، وذلك يتزايد ويحدث منه شيء بعد شيء ، فيخالف الخلق اللّازمة التي لا تزيد ، نحو عمى العين ، والبياض ، والحمرة ، ذكره ابن الأنباري.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) في سبب نزولها أربعة أقوال (١) :

(٩٠٦) أحدها : أنّ وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : متّعنا باللات سنة ، وحرّم وادينا كما حرّمت مكّة ، فأبى ذلك ، فأقبلوا يكثرون مسألتهم ، وقالوا : إنّا نحبّ أن تعرف العرب فضلنا عليهم ، فإن خشيت أن يقول العرب : أعطيتهم ما لم تعطنا ، فقل : الله أمرني بذلك ؛ فأمسك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ودخلهم الطّمع ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس. وروى عطيّة عن ابن عباس أنهم قالوا : أجلنا سنة ، ثم نسلم ونكسر أصنامنا ، فهمّ أن يؤجلهم ، فنزلت هذه الآية.

(٩٠٧) والثاني : أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نكفّ عنك إلّا بأن تلمّ بآلهتنا ، ولو بأطراف أصابعك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما عليّ لو فعلت والله يعلم إنّي لكاره»؟ فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير ، وهذا باطل لا يجوز أن يظنّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ما ذكرنا عن عطيّة من أنه همّ أن ينظرهم سنة ، وكلّ ذلك محال في حقّه وفي حق الصحابة أنهم رووا عنه.

(٩٠٨) والثالث : أنّ قريشا خلوا برسول الله ليلة إلى الصّباح يكلّمونه ويفخّمونه ، ويقولون : أنت سيّدنا وابن سيّدنا ، وما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون ، ثم عصمه الله من ذلك ، ونزلت هذه الآية ، قاله قتادة.

____________________________________

(٩٠٦) واه بمرة. أخرجه الطبري ٢٢٥٤٠ عن عطية العوفي عن ابن عباس مختصرا بإسناد فيه مجاهيل ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٨١ بدون إسناد عن عطاء عن ابن عباس ، فالخبر واه جدا فالسورة مكية ، وتحريم مكة كان في حجة الوداع ، والحديث ليس بشيء لخلوه عن الإسناد.

(٩٠٧) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٢٢٥٣٦ عن سعيد بن جبير مرسلا ، ومع إرساله فيه يعقوب القمي ، وشيخه جعفر بن أبي المغيرة ، وكلاهما غير قوي.

(٩٠٨) باطل. أخرجه الطبري ٣٣٥٣٧ عن قتادة مرسلا ، فهو ضعيف ، والمتن باطل بهذا اللفظ فإن قريشا لم تقل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنت سيدنا.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله ٨ / ١١٩ : والصواب من القول أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره ، وذلك هو الافتراء على الله. ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان ، والاختلاف فيه موجود فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره. حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عني بذلك منه.

٤٢

(٩٠٩) والرابع : أنهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اطرد عنك سقاط الناس ، ومواليهم ، وهؤلاء الذين رائحتهم رائحة الضّأن ، وذلك أنهم كانوا يلبسون الصّوف ، حتى نجالسك ونسمع منك ، فهمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل ما يستدعي به إسلامهم ، فنزلت هذه الآيات. حكاه الزّجّاج ؛ قال : ومعنى الكلام : كادوا يفتنونك ، ودخلت «إن» واللام للتّوكيد. قال المفسّرون : وإنما قال : (لَيَفْتِنُونَكَ) ، لأنّ في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن.

قوله تعالى : (لِتَفْتَرِيَ) أي : لتختلق (عَلَيْنا غَيْرَهُ) وهو قولهم : قل الله أمرني بذلك ، (وَإِذاً) لو فعلت ذلك (لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي : والوك وصافوك.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) على الحقّ ، لعصمتنا إيّاك (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) أي : هممت وقاربت أن تميل إلى مرادهم (شَيْئاً قَلِيلاً) قال ابن عباس : وذلك حين سكت عن جوابهم ، والله أعلم بنيّته. وقال ابن الأنباري : الفعل في الظاهر للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الباطن للمشركين ، وتقديره : لقد كادوا يركنونك إليهم ، وينسبون إليك ما يشتهونه مما تكرهه ، فنسب الفعل إلى غير فاعله عند أمن اللّبس ، كما يقول الرجل للرجل : كدت تقتل نفسك اليوم ، يريد : كدت تفعل فعلا يقتلك غيرك من أجله ؛ فهذا المجاز والاتساع وشبيه بهذا قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١) ، وقول القائل : لا أرينّك في هذا الموضع.

قوله تعالى : (إِذاً لَأَذَقْناكَ) المعنى : لو فعلت ذلك الشيء القليل (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ) أي : ضعف عذاب الحياة (وَضِعْفَ) عذاب (الْمَماتِ) ، ومثله قول الشاعر :

واستبّ بعدك يا كليب المجلس (٢)

أي : أهل المجلس. وقال ابن عباس : ضعف عذاب الدنيا والآخرة. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما ، ولكنه تخويف لأمّته ، لئلّا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه.

قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) في سبب نزولها قولان (٣) :

(٩١٠) أحدهما : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا قدم المدينة ، حسدته اليهود على مقامه بالمدينة ، وكرهوا

____________________________________

(٩٠٩) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير كما في «الدر» ٣ / ٣٥٢ وهذا مرسل ، فهو ضعيف ، ولا يصح في هذا الباب شيء.

(٩١٠) باطل. ذكره الواحدي عن ابن عباس في «أسباب النزول» ٥٨٤ بدون إسناد وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وهذا القول ضعيف ، لأن الآية مكية. اه والصواب أنه باطل ، فالسورة مكية ، وكيد اليهود وحسدهم كان في

__________________

(١) سورة البقرة : ١٣٢.

(٢) هو عجز بيت لعدي بن ربيعة وصدره : «نبئت أن النار بعدك أوقدت». كما في «الحماسة» ٢ / ٩٢٩. ومعنى قوله : أوقدت نيران الحرب لمقتل كليب.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله ٨ / ١٢١ : وأولى القولين عندي بالصواب ، قول قتادة ومجاهد ، وذلك أن قوله (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) في سياق خبر الله عزوجل عن قريش وذكره إياهم ، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر فيوجه قوله (إِنْ كادُوا) إلى أنه خبر عنهم.

٤٣

قربه ، فقالوا : يا محمّد أنبيّ أنت؟ قال : نعم ، قالوا : فو الله لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء ، وأنّ أرض الأنبياء الشّام ، فإن كنت نبيّا فائت الشّام ، فنزلت هذه الآية ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير : همّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشخص عن المدينة ، فنزلت هذه الآية. وقال عبد الرّحمن بن غنم : لمّا قالت له اليهود هذا ، صدّق ما قالوا ، وغزا غزوة تبوك لا يريد إلّا الشّام ، فلما بلغ تبوك ، نزلت هذه الآية (١).

(٩١١) والثاني : أنهم المشركون أهل مكّة همّوا بإخراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكّة ، فأمره الله بالخروج ، وأنزل هذه الآية إخبارا عمّا همّوا به ، قاله الحسن ، ومجاهد. وقال قتادة : همّ أهل مكّة بإخراجه من مكّة ، ولو فعلوا ذلك ما نوظروا ، ولكنّ الله كفّهم عن إخراجه حتى أمره بالخروج. وقيل : ما لبثوا بعد ذلك حتى بعث الله عليهم القتل ببدر.

فعلى القول الأول ، المشار إليهم : اليهود ، والأرض : المدينة. وعلى الثاني : هم المشركون ، والأرض : مكّة ، وقد ذكرنا معنى «الاستفزاز» آنفا (٢) ، وقيل : المراد به ها هنا : القتل ، ليخرجوه من الأرض كلّها ، روي عن الحسن.

قوله تعالى : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «خلفك». وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «خلافك». قال الأخفش «خلافك» في معنى خلفك ، والمعنى : لا يلبثون بعد خروجك (إِلَّا قَلِيلاً) أي : لو أخرجوك لا ستأصلناهم بعد خروجك بقليل ، وقد جازاهم الله على ما همّوا به ، فقتل صناديد المشركين ببدر ، وقتل من اليهود بني قريظة ، وأجلى النّضير. وقال ابن الأنباري : معنى الكلام : لا يلبثون على خلافك ومخالفتك ، فسقط حرف الخفض. وقرأ أبو رزين ، وأبو المتوكّل : «خلّافك» بضمّ الخاء ، وتشديد اللام ، ورفع الفاء. قوله تعالى : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) قال الفرّاء : نصب السّنّة على العذاب المضمر ، أي : يعذّبون كسنّتنا فيمن أرسلنا. وقال الأخفش : المعنى : سنّها سنّة. وقال الزّجّاج : انتصب بمعنى

____________________________________

المدينة ، وانظر «تفسير القرطبي» ١٠ / ٢٦١ بتخريجنا.

(٩١١) عزاه الواحدي في «الأسباب» ٥٨٦ لمجاهد وقتادة والحسن. وأخرجه الطبري ٢٢٥٥٠ و ٢٢٥٥١ عن قتادة مرسلا بنحوه. وأثر مجاهد لم أره بهذا اللفظ مسندا وكذا أثر الحسن ، وإنما أخرجهما الطبري ٢٢٥٥٢ و ٢٢٥٥٣ عنهما بلفظ : «لو أخرجت قريش محمدا لعذبوا بذلك».

__________________

(١) واه بمرة. أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٥ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥ وابن أبي حاتم وابن عساكر كما في «الدر» ٤ / ٣٥٢ عن عبد الرحمن بن

غنم ، وهذا مرسل ، وإسناده ضعيف لضعف أحمد بن عبد الجبار. وقال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» ٢ / ٦٨٦ : لم أجده ، وذكره السهيلي في «الروض» عن عبد المجيد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم ... فذكره اه. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٨٥ بدون سند عن عبد الرحمن بن غنم. ورد الحافظ ابن كثير هذا في «تفسيره» ٣ / ٧٠ وقال : والأظهر أن هذا ليس بصحيح فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود ، وإنما غزاها امتثالا لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) وغزاها ليقتص وينتقم لأهل مؤتة من أصحابه والله أعلم.

قلت : الخبر منكر شبه موضوع. فالسورة مكية والخبر مدني ، وبعيد أن يصغي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهود.

(٢) سورة الإسراء : ٦٤.

٤٤

«لا يلبثون» وتأويله : إنّا سننّا هذه السّنّة فيمن أرسلنا قبلك أنهم إذا أخرجوا نبيّهم أو قتلوه ، لم يلبث العذاب أن ينزل بهم.

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) أي : أدّها (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي : عند دلوكها. وذكر ابن الأنباري في «اللام» قولين : أحدهما : أنها بمعنى «في». والثاني : أنها مؤكّدة ، كقوله تعالى : (رَدِفَ لَكُمْ) (١). وقال أبو عبيدة : دلوكها : من عند زوالها إلى أن تغيب. وقال الزّجّاج : ميلها وقت الظّهيرة دلوك ، وميلها للغروب دلوك. وقال الأزهريّ : معنى «الدّلوك» في كلام العرب : الزّوال ، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار : دالكة ، وإذا أفلت : دالكة ، لأنها في الحالين زائلة. وللمفسّرين في المراد بالدّلوك ها هنا قولان (٢) : أحدهما : أنه زوالها نصف النهار.

(٩١٢) روى جابر بن عبد الله قال : دعوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن شاء من أصحابه ، فطعموا عندي ، ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» ؛ وهذا قول ابن عمر ، وأبي برزة ، وأبي هريرة ، والحسن ، والشّعبيّ ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعبيد بن عمير ، وقتادة ، والضّحّاك ، ومقاتل ، وهو اختيار الأزهري. قال الأزهريّ : لتكون الآية جامعة للصّلوات الخمس ، فيكون المعنى : أقم (٣) الصلاة من وقت زوال الشمس

____________________________________

(٩١٢) حسن. أخرجه الطبري ٢٢٥٨٣ عن جابر به ، وإسناده ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وفيه راو لم يسمّ. وكرره برقم ٢٢٥٨٤ عن جابر بسند ليّن لأجل نبيح العنزي فإنه مقبول كما في «التقريب» فهذا يقوي ما قبله ، وقد ورد تفسير الدلوك بالزوال عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وهو الصحيح ، والله أعلم.

__________________

(١) سورة النمل : ٧٢.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله ٨ / ١٢٦ : وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قول من قال : الصلاة التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإقامتها عند غسق الليل ، هي صلاة المغرب دون غيرها. لأن غسق الليل هو إقبال الليل وظلامه وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس.

(٣) فائدة : قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٢ / ١١ ـ ١٢ : وتجب جميع الصلوات بدخول وقتها في حق من هو أهل الوجوب فأما أهل الأعذار ، كالحائض والمجنون والصبيّ والكافر ، فتجب في حقه بأول جزء أدركه من وقتها بعد زوال عذره. وبهذا قال الشافعي ، رحمه‌الله. وقال أبو حنيفة ، رحمه‌الله : يجب تأخّر وقتها إذا بقي منه ما لا يتسع لأكثر منها ، لأنه في أول الوقت يتخيّر بين فعلها وتركها ، فلم تكن واجبة كالنافلة.

ولنا ، أنه مأمور بها في أول الوقت بقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) والأمر يقتضي الوجوب على الفور ، فلو أدرك جزءا من أول وقتها ثم جنّ ، أو حاضت المرأة لزمها القضاء إذا أمكنها. وقال الشافعي وإسحاق : لا يجب القضاء بما دون مضي زمن يمكن فعلها فيه ، كما لو طرأ العذر قبل دخول الوقت.

٤٥

إلى غسق الليل ، فيدخل فيها الأولى ، والعصر ، وصلاتا غسق الليل ، وهما العشاءان ، ثم قال : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) ، فهذه خمس صلوات.

والثاني : أنه غروبها ، قاله ابن مسعود ، والنّخعيّ ، وابن زيد ، وعن ابن عباس كالقولين ، قال الفرّاء : ورأيت العرب تذهب في الدّلوك إلى غيبوبة الشمس ، وهذا اختيار ابن قتيبة ، قال : لأنّ العرب تقول : دلك النّجم : إذا غاب ؛ قال ذو الرّمّة :

مصابيح ليست باللّواتي تقودها

نجوم ولا بالآفلات الدّوالك (١)

وتقول في الشمس : دلكت براح (٢) ، يريدون : غربت ، والناظر قد وضع كفّه على حاجبه ينظر إليها ، قال الشاعر :

والشّمس قد كادت تكون دنفا

أدفعها بالرّاح كي تزحلفا (٣)

فشبّهها بالمريض الدّنف ، لأنها قد همّت بالغروب كما قارب الدّنف الموت ، وإنما ينظر إليها من تحت الكفّ ليعلم كم بقي لها إلى أن تغيب ، ويتوقّى الشّعاع بكفّه. فعلى هذا ، المراد بهذه الصّلاة : المغرب. فأمّا غسق الليل فظلامه. وفي المراد بالصّلاة المتعلّقة بغسق الليل ثلاثة أقوال : أحدها : العشاء ، قاله ابن مسعود. والثاني : المغرب ، قاله ابن عباس. قال القاضي أبو يعلى : فيحتمل أن يكون المراد بيان وقت المغرب ، أنه من غروب الشمس إلى غسق الليل. والثالث : المغرب والعشاء ، قاله الحسن.

قوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) المعنى : وأقم قراءة الفجر. قال المفسّرون : المراد به : صلاة الفجر. قال الزّجّاج : وفي هذا فائدة عظيمة تدلّ على أنّ الصلاة لا تكون إلّا بقراءة ، حين سمّيت الصلاة قرآنا. قوله تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً).

(٩١٣) روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تشهده ملائكة الليل ، وملائكة النهار».

قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) قال ابن عباس : فصلّ بالقرآن. قال مجاهد ، وعلقمة ، والأسود : التّهجّد بعد النّوم. قال ابن قتيبة : تهجّدت : سهرت ، وهجدت : نمت. وقال ابن الأنباري :

____________________________________

(٩١٣) صحيح. أخرجه الترمذي ٣١٣٥ والنسائي ١ / ٢٤١ وفي «التفسير» ٣١٣ وابن ماجة ٦٧٠ وأحمد ٢ / ٤٧٤ والطبري ٢٢٥٩٤ من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي : حسن صحيح. وصححه الحاكم ١ / ٢١١ على شرطهما ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا.

وهو في الصحيحين عنه مرفوعا بلفظ : «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً). أخرجه البخاري ٦٤٨ و ٤٧١٧ ومسلم ٨٤٩ والنسائي في «التفسير» ٣١٣ وابن حبان ٢٠٥١ من حديث أبي هريرة. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ١٤٥٤ و ١٤٥٥ بتخريجنا.

__________________

(١) في «اللسان» : أفل : غاب وإذا غابت الشمس فهي آفلة ، وكذلك القمر يأفل : إذا غاب.

(٢) في «اللسان» : براح : اسم للشمس ، سميت بذلك لانتشارها وبيانها. وبراح : بكسر الباء ، وهي باء الجر ، وهو جمع راحة وهي الكف. ومن قال : دلكت الشمس براح : أنها كادت تغرب.

(٣) البيت للعجّاج كما في ديوانه : ٨٢ و «اللسان» ـ زحلف ـ ويقال للشمس إذا مالت للمغيب قد تزحلفت.

٤٦

التّهجّد ها هنا بمعنى : التيقّظ والسّهر ، واللغويون يقولون : هو من حروف الأضداد ؛ يقال للنّائم : هاجد ومتهجد ، وكذلك للسّاهر ، قال النّابغة :

ولو أنّها عرضت لأشمط راهب

عبد الإله صرورة متهجد

لرنا لبهجتها وحسن حديثها

ولخاله رشدا وإن لم يرشد (١)

يعني بالمتهجّد : السّاهر ، وقال لبيد :

قال هجدنا فقد طال السّرى (٢)

أي : نومنا. وقال الأزهريّ : المتهجّد : القائم إلى الصلاة من النّوم : وقيل له : متهجّد ، لإلقائه الهجود عن نفسه ، كما يقال : تحرّج وتأثّم.

قوله تعالى : (نافِلَةً لَكَ) النّافلة في اللغة : ما كان زائدا على الأصل.

وفي معنى هذه الزّيادة في حقّه قولان (٣) : أحدهما : أنها زائدة فيما فرض عليه ، فيكون المعنى : فريضة عليك ، وكان قد فرض عليه قيام الليل ، هذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير. والثاني : أنها زائدة على الفرض ، وليست فرضا ؛ فالمعنى : تطوّعا وفضيلة. قال أبو أمامة ، والحسن ، ومجاهد : إنما النّافلة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة. قال مجاهد : وذلك أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، فما زاد على فرضه فهو نافلة له وفضيلة ، وهو لغيره كفّارة. وذكر بعض أهل العلم : أنّ صلاة الليل كانت فرضا عليه في الابتداء ، ثم رخّص له في تركها ، فصارت نافلة. وذكر ابن الأنباري في هذا قولين : أحدهما : يقارب ما قاله مجاهد ، فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تنفّل لا يقدّر له أن يكون بذلك ماحيا للذّنوب ، لأنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وغيره إذا تنفّل كان راجيا ، ومقدّرا محو السيئات عنه بالتّنفّل ، فالنّافلة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيادة على الحاجة ، وهي لغيره مفتقر إليها ، ومأمول بها دفع المكروه. والثاني : أنّ النّافلة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته ، والمعنى : ومن الليل فتهجّدوا به نافلة لكم ، فخوطب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخطاب أمّته.

قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) «عسى» من الله واجبة ، ومعنى «يبعثك» يقيمك (مَقاماً مَحْمُوداً) وهو الذي يحمده لأجله جميع أهل الموقف. وفيه قولان :

أحدهما : أنه الشّفاعة للناس يوم القيامة ، قاله ابن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وابن عمر ، وسلمان الفارسيّ ، وجابر بن عبد الله ، والحسن ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.

والثاني : يجلسه على العرش يوم القيامة. روى أبو وائل عن عبد الله أنه قرأ هذه الآية ، وقال :

__________________

(١) في «اللسان» : الشمط في الشعر : اختلافه بلونين من سواد وبياض. والصّرورة : الذي لم يأت النساء كأنه أصرّ على تركهن.

(٢) هو صدر بيت وعجزه : «وقدرنا إن خنا الدهر غفل».

(٣) قال الطبري رحمه‌الله ٨ / ١٣٠ : وأولى القولين بالصواب في ذلك ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان الله تعالى قد خصّه بما فرض عليه من قيام الليل ، دون سائر أمته وهو قول ابن عباس. وأما ما ذكر عن مجاهد في ذلك ، فقول لا معنى له ، وذلك لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكر عنه أكثر ما كان استغفارا لذنوبه بعد نزول قول الله عزوجل عليه (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ).

٤٧

يقعده على العرش ، وكذلك روى الضّحّاك عن ابن عباس ، وليث عن مجاهد.

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) وقرأ الحسن ، وعكرمة ، والضّحّاك ، وحميد بن قيس ، وقتادة ، وابن أبي عبلة بفتح الميم في «مدخل» و «مخرج». قال الزّجّاج : المدخل ، بضمّ الميم : مصدر أدخلته مدخلا ، ومن قال : مدخل صدق ، فهو على أدخلته ، فدخل مدخل صدق ، وكذلك شرح «مخرج» مثله. وللمفسّرين في المراد بهذا المدخل والمخرج أحد عشر قولا (١) : أحدها : أدخلني المدينة مدخل صدق ، وأخرجني من مكّة مخرج صدق.

(٩١٤) روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة ، ثم أمر بالهجرة ، فنزلت عليه هذه الآية. وإلى هذا المعنى ذهب الحسن في رواية سعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن زيد. والثاني : أدخلني القبر مدخل صدق ، وأخرجني منه مخرج صدق ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : أدخلني المدينة ، وأخرجني إلى مكّة ، يعني : لفتحها ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع : أدخلني مكّة مدخل صدق ، وأخرجني منها مخرج صدق ، فخرج منها آمنا من المشركين ، ودخلها ظاهرا عليها يوم الفتح ، قاله الضّحّاك. والخامس : أدخلني مدخل صدق الجنّة ، وأخرجني مخرج صدق من مكّة إلى المدينة ، رواه قتادة عن الحسن. والسادس : أدخلني في النبوّة والرّسالة ، وأخرجني منها مخرج صدق ، قاله مجاهد ، يعني : أخرجني ممّا يجب عليّ فيها. والسابع : أدخلني في الإسلام ، وأخرجني منه ، قاله أبو صالح ؛ يعني : من أداء ما وجب عليّ فيه إذا جاء الموت. والثامن : أدخلني في طاعتك ، وأخرجني منها ، أيّ : سالما غير مقصّر في أدائها ، قاله عطاء. والتاسع : أدخلني الغار ، وأخرجني منه ، قاله محمّد بن المنكدر. والعاشر : أدخلني في الدّين ، وأخرجني من الدنيا وأنا على الحقّ ، ذكره الزّجّاج. والحادي عشر : أدخلني مكّة ، وأخرجني إلى حنين ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. وأما إضافة الصّدق إلى المدخل والمخرج ، فهو مدح لهما. وقد شرحنا هذا المعنى في سورة يونس (٢).

قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي : من عندك (سُلْطاناً) وفيه ثلاثة أقوال (٣) : أحدها : أنه التّسلّط على الكافرين بالسّيف ، وعلى المنافقين بإقامة الحدود ، قاله الحسن. والثاني : أنه الحجّة البيّنة ، قاله مجاهد. والثالث : الملك العزيز الذي يقهر به العصاة ، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري : وقوله تعالى : (نَصِيراً) يجوز أن يكون بمعنى منصرا ، ويصلح أن يكون تأويله ناصرا.

____________________________________

(٩١٤) حسن. أخرجه الترمذي ٣١٣٩ وأحمد ١٩٤٨ والحاكم ٣ / ٣ والطبري ٢٢٦٤٤ من حديث ابن عباس وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي! وقال الترمذي : حسن صحيح! مع أن مداره على قابوس بن أبي ظبيان ، وهو لين الحديث ، لكن ورد معناه من مرسل الحسن ، أخرجه الطبري ٢٢٦٤٥ ومن مرسل قتادة ٢٢٦٤٧.

__________________

(١) قال الطبري ٨ / ١٣٧ : وأشبه هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك ، قول من قال : معنى ذلك : وأدخلني المدينة مدخل صدق ، وأخرجني من مكة مخرج صدق. اه ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ٧٧.

(٢) سورة يونس : ٢.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله ٨ / ١٣٨ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك أمر من الله تعالى نبيّه بالرغبة إليه في أن يؤتيه سلطانا نصيرا له على من بغاه وكاده ، وحاول منعه من إقامته فرائض الله في نفسه وعباده. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ٧٧.

٤٨

قوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) فيه أربعة أقوال (١) : أحدها : أنّ الحقّ : الإسلام ، والباطل : الشّرك ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : أنّ الحقّ : القرآن ، والباطل : الشيطان ، قاله قتادة. والثالث : أنّ الحقّ : الجهاد ، والباطل : الشّرك ، قاله ابن جريج. والرابع : الحقّ : عبادة الله ، والباطل : عبادة الأصنام ، قاله مقاتل. ومعنى «زهق» : بطل واضمحلّ. وكلّ شيء هلك وبطل فقد زهق ، وزهقت نفسه : تلفت.

(٩١٥) وروى ابن مسعود أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكّة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فجعل يطعنها ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).

فإن قيل : كيف قلتم : إنّ (وَزَهَقَ) بمعنى بطل ، والباطل موجود معمول عليه عند أهله؟

فالجواب : أنّ المراد من بطلانه وهلكته : وضوح عيبه ، فيكون هالكا عند المتدبّر النّاظر.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢))

قوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) «من» ها هنا لبيان الجنس ، فجميع القرآن شفاء. وفي هذا الشفاء ثلاثة أقوال : أحدها : شفاء من الضّلال ، لما فيه من الهدى. والثاني : شفاء من السّقم ، لما فيه من البركة. والثالث : شفاء من البيان للفرائض والأحكام. وفي «الرّحمة» قولان : أحدهما : النّعمة. والثاني : سبب الرّحمة. قوله تعالى : (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ) يعني المشركين (إِلَّا خَساراً) لأنهم يكفرون به ، ولا ينتفعون بمواعظه ، فيزيد خسرانهم.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) قال ابن عباس : الإنسان ها هنا : الكافر ، والمراد به الوليد بن المغيرة. قال المفسّرون : وهذا الإنعام : سعة الرّزق ، وكشف البلاء. (وَنَأى بِجانِبِهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : «ونأى» على وزن «نعى» بفتح النون والهمزة. وقرأ ابن عامر : «ناء» مثل «باع». وقرأ الكسائيّ ، وخلف عن سليم عن حمزة : «وناء» بإمالة النون والهمزة. وروى خلّاد عن سليم : «نئي» بفتح النون ، وكسر الهمزة ، والمعنى : تباعد عن القيام بحقوق النّعم ،

____________________________________

(٩١٥) صحيح. أخرجه البخاري ٢٤٧٨ و ٤٢٨٧ و ٤٧٢٠ ومسلم ١٧٨١ والترمذي ٣١٣٨ والنسائي في «التفسير» ٣١٧ وابن حبان ٥٨٦٢ والطبراني ١٠٤٢٧ والبيهقي ٦ / ١٠١ من حديث ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٤٦٣ بتخريجنا.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله ٨ / ١٣٩ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يخبر المشركين أن الحق قد جاء وهو كل ما كان لله فيه رضا وطاعة ، وأن الباطل قد زهق ، يقول : وذهب كل ما كان لا رضا لله فيه ولا طاعة مما هو له معصية وللشيطان طاعة ، وبذلك جاء القرآن والتنزيل ، وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الشرك بالله ، أعني على إقامة جميع الحق ، وإبطال جميع الباطل.

٤٩

وقيل : تعظّم وتكبّر. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي : نزل به البلاء والفقر (كانَ يَؤُساً) أي : قنوطا شديد اليأس ، لا يرجو فضل الله. قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) فيها ثلاثة أقوال : أحدها : على ناحيته ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير. قال الفرّاء : الشّاكلة : النّاحية ، والجديلة ، والطّريقة ، سمعت بعض العرب يقول : وعبد الملك إذ ذاك على جديلته ، وابن الزبير على جديلته ، يريد : على ناحيته. وقال أبو عبيدة : على ناحيته وخليقته. وقال ابن قتيبة : على خليقته وطبيعته ، وهو من الشّكل. يقال : لست على شكلي ، ولا شاكلتي. وقال الزّجّاج : على طريقته ، وعلى مذهبه. والثاني : على نيّته ؛ قاله الحسن ، ومعاوية بن قرّة. وقال الليث : الشّاكلة من الأمور : ما وافق فاعله. والثالث : على دينه ، قاله ابن زيد. وتحرير المعنى : أنّ كلّ واحد يعمل على طريقته التي تشاكل أخلاقه ، فالكافر يعمل ما يشبه طريقته من الإعراض عند النّعم واليأس عند الشدة ، والمؤمن يعمل ما يشبه طريقته من الشّكر عند الرّخاء والصّبر عند البلاء ، والله يجازي الفريقين. وذكر أبو صالح عن ابن عباس : أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) ، وليس بشيء.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) في سبب نزولها قولان :

(٩١٦) أحدهما : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بناس من اليهود ، فقالوا : سلوه عن الرّوح ، فقال بعضهم : لا تسألوه ، فيستقبلكم بما تكرهون. فأتاه نفر منهم ، فقالوا : يا أبا القاسم : ما تقول في الرّوح؟ فسكت ، ونزلت هذه الآية ، قاله ابن مسعود.

(٩١٧) والثاني : أنّ اليهود قالت لقريش : سلوا محمّدا عن ثلاث ، فإن أخبركم عن اثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبيّ ؛ سلوه عن فتية فقدوا ، وسلوه عن ذي القرنين ، وسلوه عن الرّوح. فسألوه عنها ، ففسّر لهم أمر الفتية في الكهف ، وفسّر لهم قصة ذي القرنين ، وأمسك عن قصة الرّوح ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء عن ابن عباس.

وفي المراد بالرّوح ها هنا ستة أقوال : أحدها : أنه الرّوح الذي يحيا به البدن ، روى هذا المعنى العوفيّ عن ابن عباس. وقد اختلف الناس في ماهية الرّوح ، ثم اختلفوا هل الرّوح النّفس ، أم هما شيئان فلا يحتاج إلى ذكر اختلافهم لأنه لا برهان على شيء من ذلك وإنما هو شيء أخذوه عن الطّبّ

____________________________________

(٩١٦) صحيح. أخرجه البخاري ١٢٥ و ٤٧٢١ و ٧٢٩٧ و ٧٤٥٦ و ٧٤٦٢ ومسلم ٤ / ٢١٥٢ والترمذي ٣١٤١ والنسائي في «التفسير» ٣١٩ وأبو يعلى ٢٥٠١ والطبري ٢٢٦٧٥ و ٢٢٦٧٦ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ١٢٤ من حديث ابن مسعود. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٤٦٤ و «أحكام القرآن» ١٤٤٨ بتخريجنا.

(٩١٧) ضعيف. أخرجه البيهقي في «الدلائل» ٢ / ٢٦٩ ـ ٢٧١ من طريق ابن إسحاق قال : حدثني رجل من أهل مكة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مطولا ، وفيه راو لم يسم. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٩٠ نقلا عن المفسرين بنحوه. وفي «الوسيط» ٣ / ١٢٥ عن ابن عباس بدون إسناد. وهو بهذا اللفظ ضعيف. أما السؤال عن الروح فقد صح من حديث ابن مسعود الحديث المتقدم.

__________________

(١) سورة التوبة : ٥.

٥٠

والفلاسفة؟ فأمّا السّلف ، فإنهم أمسكوا عن ذلك ، لقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، فلمّا رأوا أنّ القوم سألوا عن الرّوح فلم يجابوا ، والوحي ينزل ، والرّسول حيّ ، علموا أنّ السّكوت عمّا لم يحط بحقيقة علمه أولى. والثاني : أنّ المراد بهذا الرّوح ؛ ملك من الملائكة على خلقة هائلة ، روي عن عليّ عليه‌السلام ، وابن عباس ، ومقاتل. والثالث : أنّ الرّوح : خلق من خلق الله عزوجل صوّرهم على صور بني آدم ، رواه مجاهد عن ابن عباس. والرابع : أنه جبريل عليه‌السلام ، قاله الحسن ، وقتادة. والخامس : أنه القرآن ، روي عن الحسن أيضا. والسادس : أنه عيسى ابن مريم ، حكاه الماوردي. قال أبو سليمان الدّمشقي : قد ذكر الله تعالى الرّوح في مواضع من القرآن ، فغالب ظنّي أنّ النّاقلين نقلوا تفسيره من موضعه إلى موضع لا يليق به ، وظنّوه مثله ، وإنما هو الرّوح الذي يحيى به ابن آدم. وقوله تعالى : (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي : من علمه الذي منع أن يعرفه أحد.

قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) في المخاطبين بهذا قولان (١) : أحدهما : أنهم اليهود ، قاله الأكثرون. والثاني : أنهم جميع الخلق ، علمهم قليل بالإضافة إلى علم الله عزوجل ، ذكره الماوردي. فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٢)؟ فالجواب : أنّ ما أوتيه الناس من العلم ، وإن كان كثيرا ، فهو بالإضافة إلى علم الله قليل.

(وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))

قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) قال الزّجّاج : المعنى : لو شئنا لمحوناه من القلوب والكتب ، حتى لا يوجد له أثر ، (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) أي : لا تجد من يتوكّل علينا في ردّ شيء منه ، (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) هذا استثناء ليس من الأوّل ، والمعنى : لكنّ الله رحمك فأثبت ذلك في قلبك وقلوب المؤمنين.

وقال ابن الأنباري : المعنى : لكنّ رحمة من ربّك تمنع من أن تسلب القرآن ، وكان المشركون قد خاطبوا نساءهم من المسلمين في الرّجوع إلى دين آبائهم ، فهدّدهم الله عزوجل بسلب النّعمة ، فكان ظاهر الخطاب للرّسول ، ومعنى التّهدّد للأمّة. وقال أبو سليمان : «ثم لا تجد لك به» أي : بما نفعله بك ، من إذهاب ما عندك «وكيلا» يدفعنا عمّا نريده بك. وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : يسرّى على القرآن في ليلة واحدة ، فيجيء جبريل من جوف الليل ، فيذهب به من صدورهم ومن بيوتهم ، فيصبحون لا يقرءون آية ، ولا يحسنونها (٣). وردّ أبو سليمان الدّمشقي صحة هذا الحديث بقوله عليه الصّلاة والسلام :

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٨ / ١٤٤ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : خرج الكلام خطابا لمن خوطب به ، والمراد به جميع الخلق ، لأن علم كلّ أحد سوى الله ، وإن كثر هو في علم الله قليل.

(٢) سورة البقرة : ٢٦٩.

(٣) هذا الأثر أخرجه الطبراني في «الكبير» ٨٧٠٠ عن ابن مسعود ، ورجاله رجال الصحيح ، غير شداد بن معقل ، وهو ثقة قاله الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٣٢٩ ـ ١٢٤٦٥. ولبعضه شواهد في المرفوع. عند أبي يعلى ٦٦٣٤ من حديث أبي هريرة «أول ما يرفع من هذه الأمة الحياء والأمانة وآخر ما يبقى منها الصلاة ...» وفيه أشعث بن

٥١

(٩١٨) «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا» ، وحديث ابن مسعود مرويّ من طرق حسان ، فيحتمل أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد بالعلم ما سوى القرآن ، فإنّ العلم ما يزال ينقرض حتى يكون رفع القرآن آخر الأمر (١).

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨))

قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) قال المفسّرون : هذا تكذيب للنّضر بن الحارث حين قال : «لو شئنا لقلنا مثل هذا». والمثل الذي طلب منهم : كلام له نظم كنظم القرآن ، في أعلى طبقات البلاغة. والظّهير : المعين.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ) قد فسّرناه في هذه السّورة (٢) ، والمعنى : من كلّ

____________________________________

(٩١٨) صحيح. أخرجه البخاري ١٠٠ من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهّالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». وأخرجه البخاري ٧٣٠٧ ومسلم ٢٦٧٣ والترمذي ٢٦٥٢ وابن ماجة ٥٢ وأحمد ٢ / ١٦٢ و ٢ / ٢٠٣ والطيالسي وابن حبان ٤٥٧١ من طرق عن عبد الله بن عمرو بن العاص به.

__________________

براز ، وهو متروك قاله الهيثمي ٧ / ٣٢١. وعند الطبراني في «الصغير» ٣٨٧ من حديث عمر بنحو حديث أبي هريرة وفيه حكيم بن نافع وثقه ابن معين ، وضعفه أبو زرعة وبقية رجاله ثقات اه قاله الهيثمي.

(١) ورد في هذا المعنى خبر مرفوع غير قوي. أخرج ابن ماجة ٤٠٤٩ والحاكم ٤ / ٤٧٣ و ٥٤٥ والخطيب في تاريخه ، والبيهقي كما في «الدر» ٤ / ٣٦٤ من حديث حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة فيسرى على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله. وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة». قال له ـ صلة بن زفر أحد رواة هذا الحديث ـ : ما تغني عنهم لا إله إلا الله! وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ، فأعرض عنه حذيفة ، ثم ردّدها ثلاثا ، كل ذلك يعرض عنه حذيفة. ثم أقبل عليه حذيفة فقال : يا صلة! تنجيهم من النار ، ثلاثا. صححه الحاكم على شرط مسلم ، وسكت عنه الذهبي في الرواية الأولى ، ووافقه في الرواية الثانية ، وقال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح ، رجاله ثقات ... اه وهو في صحيح ابن ماجة ٣٢٧٣ ، ومع ذلك هو معلول حيث أخرجه الحاكم ٤ / ٥٠٥ بإسناد صحيح لكن جعله موقوفا ، وهو أصح. وانظر «تفسير القرطبي» ٤٠٧٧ بتخريجنا.

(٢) سورة الإسراء : ٤١.

٥٢

مثل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) يعني أهل مكّة (إِلَّا كُفُوراً) أي : جحودا للحقّ وإنكارا.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً).

(٩١٩) سبب نزول هذه الآية وما يتبعها ، أنّ رؤساء قريش ، كعتبة ، وشيبة ، وأبي جهل ، وعبد الله بن أبي أميّة ، والنّضر بن الحارث في آخرين ، اجتمعوا عند الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمّد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه : إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلّموك ، فجاءهم سريعا ، وكان حريصا على رشدهم ، فقالوا : يا محمّد ، إنّا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدّين ، وسفّهت الأحلام ، وفرّقت الجماعة ، فإن كنت إنما جئت بهذا لتطلب مالا ، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثر مالا ، وإن كنت إنما تطلب الشّرف فينا ، سوّدناك علينا ، وإن كان هذا الرّئيّ الذي يأتيك قد غلب عليك ، بذلنا أموالنا في طلب الطّبّ لك حتى نبرئك منه ، أو نعذر فيك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن تقبلوا منّي ما جئتكم به ، فهو حظّكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم». قالوا : يا محمّد ، فإن كنت غير قابل منّا ما عرضنا ، فقد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أشدّ عيشا منّا ، سل لنا ربّك يسيّر لنا هذه الجبال التي ضيقت علينا ، ويجري لنا أنهارا ، ويبعث من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب ، فإنه كان شيخا صدوقا ، فنسألهم عمّا تقول : أحقّ هو؟ فإن فعلت صدّقناك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بهذا بعثت ، وقد أبلغتكم ما أرسلت به» ؛ قالوا : فسل ربّك أن يبعث ملكا يصدّقك ، وسله أن يجعل لك جنانا ، وكنوزا ، وقصورا من ذهب وفضّة تغنيك ؛ قال : «ما أنا بالذي يسأل ربّه هذا» ؛ قالوا : فأسقط السماء علينا كما زعمت بأنّ ربّك إن شاء فعل ؛ فقال : «ذلك إلى الله عزوجل» ؛ فقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا ، وقال عبد الله بن أبي أميّة : لا أؤمن لك حتى تتّخذ إلى السماء سلّما ، وترقى فيه وأنا أنظر ، وتأتي بنسخة منشورة معك ، ونفر من الملائكة يشهدون لك ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حزينا لما رأى من مباعدتهم إيّاه ، فأنزل الله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) ... الآيات ، رواه عكرمة عن ابن عباس.

قوله تعالى : (حَتَّى تَفْجُرَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «حتى تفجّر» بضمّ التاء ، وفتح الفاء ، وتشديد الجيم مع الكسرة. وقرأ عاصم ، وحمزة والكسائيّ : «حتى تفجر» بفتح التاء ، وتسكين الفاء ، وضمّ الجيم مع التّخفيف. فمن ثقّل ، أراد كثرة الانفجار من الينبوع ، ومن خفّف ، فلأنّ الينبوع واحد. فأمّا الينبوع : فهو عين ينبع الماء منها ؛ قال أبو عبيدة : وهو يفعول ، من نبع الماء ، أي : ظهر وفار. قوله تعالى : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي : بستان (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) أي : تفتحها وتجريها (خِلالَها) أي : وسط تلك الجنّة. قوله تعالى : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ) وقرأ مجاهد ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، وحميد ، والجحدريّ : «أو تسقط» بفتح التاء ، ورفع القاف «السماء» بالرّفع.

____________________________________

(٩١٩) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٢٧١٩ عن ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس به ، وإسناده ضعيف ، فيه راو لم يسمّ ، وكرره الطبري ٢٢٧٢٠ عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد وإسناده ضعيف لجهالة محمد هذا.

٥٣

قوله تعالى : (كِسَفاً) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «كسفا» بتسكين السين في جميع القرآن إلّا في الرّوم (١) فإنهم حرّكوا السين. وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين ، وفي باقي القرآن بالتّسكين. وقرأ ابن عامر ها هنا بفتح السين ، وفي باقي القرآن بتسكينها. قال الزّجّاج : من قرأ «كسفا» بفتح السين ، جعلها جمع كسفة ، وهي : القطعة ، ومن قرأ «كسفا» بتسكين السين ، فكأنهم قالوا : أسقطها طبقا علينا ؛ واشتقاقه من كسفت الشيء : إذا غطّيته ، يعنون : أسقطها علينا قطعة واحدة. وقال ابن الأنباري : من سكّن قال : تأويله : سترا وتغطية ، من قولهم : قد انكسفت الشمس : إذا غطّاها ما يحول بين النّاظرين إليها وبين أنوارها.

قوله تعالى : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : عيانا ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، وابن جريج ، ومقاتل. وقال أبو عبيدة : معناه : مقابلة ، أي : معاينة ، وأنشد الأعشى :

نصالحكم حتّى تبوءوا بمثلها

كصرخة حبلى يسّرتها قبيلها

أي : قابلتها. ويروى : وجّهتها ، يعني : بدل يسرتها.

والثاني : كفيلا أنك رسول الله ، قاله أبو صالح عن ابن عباس ، واختاره الفرّاء ، قال : القبيل ، والكفيل ، والزّعيم ، سواء ؛ تقول : قبلت ، وكفلت ، وزعمت. والثالث : قبيلة قبيلة ، كلّ قبيلة على حدتها ، قاله الحسن ، ومجاهد. فأمّا الزّخرف ، فالمراد به الذّهب ، وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في سورة يونس (٢) ، و (تَرْقى) : بمعنى «تصعد» ؛ يقال : رقيت أرقى رقيّا.

قوله تعالى : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً) قال ابن عباس : كتابا من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان يصبح عند كلّ واحد منّا يقرؤه.

قوله تعالى : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) قرأ نافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : «قل». وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : «قال» ، وكذلك هي في مصاحف أهل مكّة والشّام ، (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) ، أي : أنّ هذه الأشياء ليست في قوى البشر.

فإن قيل : لم اقتصر على حكاية «قالوا» من غير إيضاح الرّدّ؟

فالجواب : أنه لمّا خصّهم بقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) فلم يكن في وسعهم ، عجّزهم ، فكأنه يقول : قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدلّ على نبوّتي ، ومن ذلك التّحدّي بمثل هذا القرآن ، فأمّا عنتكم فليس في وسعي ، ولأنهم ألحّوا عليه في هذه الأشياء ، ولم يسألوه أن يسأل ربّه ، فردّ قولهم بكونه بشرا ، فكفى ذلك في الرّدّ.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦))

__________________

(١) سورة الروم : ٤٨.

(٢) سورة يونس : ٢٤.

٥٤

قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) قال ابن عباس : يريد أهل مكّة. قال المفسّرون : ومعنى الآية : وما منعهم من الإيمان (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) وهو البيان والإرشاد في القرآن (إِلَّا أَنْ قالُوا) قولهم في التّعجّب والإنكار : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً)؟ وفي الآية اختصار ، تقديره : هلّا بعث الله ملكا رسولا ، فأجيبوا على ذلك بقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي : مستوطنين الأرض. ومعنى الطّمأنينة : السّكون ؛ والمراد من الكلام أنّ رسول كلّ جنس ينبغي أن يكون منهم. قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً) قد فسّرناه في الرّعد (١) (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) قال مقاتل : حين اختصّ الله محمّدا بالرّسالة.

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

قوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) قرأ نافع ، وأبو عمرو بالياء في الوصل ، وحذفاها في الوقف. وأثبتها يعقوب في الوقف ، وحذفها الأكثرون في الحالتين. قال ابن عباس : من يرد الله هداه (فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) يهدونهم.

قوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يمشّيهم على وجوههم ، وشاهده ما روى البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» من حديث أنس بن مالك أنّ رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال :

(٩٢٠) «إنّ الذي أمشاه على رجليه في الدنيا ، قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة». والثاني : أنّ المعنى : ونحشرهم مسحوبين على وجوههم ، قاله ابن عباس. والثالث : نحشرهم مسرعين مبادرين ، فعبّر بقوله تعالى : «على وجوههم» عن الإسراع ، كما تقول العرب : قد مرّ القوم على وجوههم : إذا أسرعوا ، قاله ابن الأنباري.

قوله تعالى : (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) فيه قولان : أحدهما : عميا لا يرون شيئا يسرّهم ، وبكما لا ينطقون بحجّة ، وصمّا لا يسمعون شيئا يسرّهم ، قاله ابن عباس. وقال في رواية : عميا عن النّظر إلى ما جعل الله تعالى لأوليائه ، وبكما عن مخاطبة الله تعالى ، وصمّا عمّا مدح به أولياءه ، وهذا قول الأكثرين. والثاني : أنّ هذا الحشر في بعض أحوال القيامة بعد الحشر الأول. قال مقاتل : هذا يكون حين يقال لهم : (اخْسَؤُا فِيها) (٢) فيصيرون عميا بكما صمّا لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.

____________________________________

(٩٢٠) صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٦٠ و ٦٥٢٣ ومسلم ٢٨٠٦ والنسائي في «الكبرى» ١١٣٦٧ وأحمد ٣ / ٢٢٩ وأبو يعلى ٣٠٤٦ وأبو نعيم في «الحلية» ٢ / ٣٤٣ وابن حبان ٧٣٢٣ من طرق عن أنس بن مالك ، به.

__________________

(١) سورة الرعد : ٤٣.

(٢) سورة المؤمنون : ١٠٨.

٥٥

قوله تعالى : (كُلَّما خَبَتْ) قال ابن عباس : أي : سكنت. قال المفسّرون : وذلك أنهم تأكلهم ، فإذا لم تبق منهم شيئا وصاروا فحما ولم تجد شيئا تأكله ، سكن ، فيعادون خلقا جديدا ، فتعود لهم. وقال ابن قتيبة : يقال : خبت النار : إذا سكن لهبها. فاللهب يسكن ، والجمر يعمل ، فإن سكن اللهب ، ولم يطفأ الجمر ، قيل : خمدت تخمد خمودا ، فإن طفئت ولم يبق منها شيء ، قيل : همدت تهمد همودا. ومعنى (زِدْناهُمْ سَعِيراً) : نارا تتسعّر ، أي تتلهّب. وما بعد هذا قد سبق تفسيره (١) إلى قوله تعالى : (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي : على أن يخلقهم مرّة ثانية ، وأراد ب «مثلهم» إيّاهم ، وذلك أنّ مثل الشيء مساو له ، فجاز أن يعبّر به عن نفس الشيء ، يقال : مثلك لا يفعل هذا ، أي : أنت ، ومثله قوله تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) (٢) وقد تمّ الكلام عند قوله تعالى : (مِثْلَهُمْ) ، ثم قال : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) يعني : أجل البعث (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي : جحودا بذلك الأجل. قوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) قال الزّجّاج : المعنى : لو تملكون أنتم ، قال المتلمس :

ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي

نصبت لهم فوق العرانين ميسما (٣)

المعنى : لو أراد غير أخوالي.

وفي هذه الخزائن قولان : أحدهما : خزائن الأرزاق. والثاني : خزائن النّعم.

فيخرج في الرّحمة قولان : أحدهما : الرّزق. والثاني : النّعمة. وتحرير الكلام : لو ملكتم ما يملكه الله عزوجل لأمسكتم عن الإنفاق خشية الفاقة. (وَكانَ الْإِنْسانُ) يعني : الكافر (قَتُوراً) أي : بخيلا ممسكا ؛ يقال : قتر يقتر ، وقتر يقتر : إذا قصّر في الإنفاق. وقال الماوردي : لو ملك أحد من المخلوقين من خزائن الله تعالى ، لما جاد كجود الله تعالى ، لأمرين : أحدهما : أنه لا بدّ أن يمسك منه لنفقته ومنفعته. والثاني : أنه يخاف الفقر ، والله تعالى منزّه في جوده عن الحالين.

ثم إنّ الله تعالى ذكر إنكار فرعون آيات موسى ، تشبيها بحال هؤلاء المشركين ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ) وفيها قولان : أحدهما : أنها بمعنى المعجزات والدّلالات ، ثم اتّفق جمهور المفسّرين على سبع آيات منها ، وهي : يده ، والعصا ، والطّوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضّفادع ، والدّم ، واختلفوا في الآيتين الآخرتين على ثمانية أقوال : أحدها : أنهما لسانه والبحر الذي فلق له ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ؛ يعني بلسانه : أنه كان فيه عقدة فحلّها الله تعالى له. والثاني : البحر والجبل الذي نتق فوقهم ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثالث : السّنون ونقص الثّمرات ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، والشّعبيّ ، وعكرمة ، وقتادة. وقال الحسن : السّنون ونقص الثّمرات آية واحدة. والرابع : البحر والموت أرسل عليهم ، قاله الحسن ، ووهب. والخامس : الحجر والبحر ، قاله سعيد بن جبير. والسادس : لسانه وإلقاء العصا مرّتين عند فرعون ، قاله الضّحّاك. والسابع : البحر والسّنون ، قاله محمّد بن كعب. والثامن : ذكره محمّد بن إسحاق عن محمد بن كعب أيضا ، فذكر السّبع الآيات الأولى ، إلّا أنه جعل مكان يده البحر ، وزاد الطّمسة والحجر ، يعني قوله تعالى : (اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ).

__________________

(١) الإسراء : ٤٩.

(٢) سورة البقرة : ١٣٧.

(٣) في «اللسان» : نقيصتي : ظلمي ـ العرانين : الأنوف ـ والميسم : آلة الوسم بالنار.

٥٦

والثاني : أنها آيات الكتاب.

(٩٢١) روى أبو داود السجستاني من حديث صفوان بن عسّال ، أنّ يهوديا قال لصاحبه : تعال حتى نسأل هذا النبيّ ، فقال الآخر : لا تقل : إنه نبيّ ، فإنه لو سمع ذلك ، صارت له أربعة أعين ، فأتياه فسألاه عن تسع آيات بيّنات ، فقال : «لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النّفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا ، ولا تأكلوا الرّبا ، ولا تمشوا بالبريء إلى السّلطان ليقتله ، ولا تسحروا ، ولا تقذفوا المحصنات ، ولا تفرّوا من الزّحف ، وعليكم خاصّة يهود ألّا تعدوا في السّبت» ، قال : فقبّلا يده ، وقالا : نشهد أنّك نبيّ.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

قوله تعالى : (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) قرأ الجمهور : «فاسأل» على معنى الأمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما أمر أن يسأل من آمن منهم عمّا أخبر به عنهم ، ليكون حجّة على من لم يؤمن منهم. وقرأ ابن عباس : «فسأل بني إسرائيل» ، على معنى الخبر عن موسى أنه سأل فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل. (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ) أي : لأحسبك (يا مُوسى مَسْحُوراً) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : مخدوعا ، قاله ابن عباس. والثاني : مسحورا قد سحرت ، قاله ابن السّائب. والثالث : ساحرا ، فوضع مفعولا في موضع فاعل ، هذا مرويّ عن الفرّاء ، وأبي عبيدة. فقال موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ) قرأ الجمهور بفتح التاء. وقرأ عليّ عليه‌السلام بضمّها ، وقال : والله ما علم عدوّ الله ، ولكنّ موسى هو الذي علم ، فبلغ ذلك ابن عباس ، فاحتجّ بقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١). واختار الكسائيّ وثعلب قراءة عليّ عليه‌السلام ، وقد رويت عن ابن عباس ، وأبي رزين ، وسعيد بن جبير ، وابن يعمر. واحتجّ من نصرها بأنه لمّا نسب موسى إلى أنه مسحور ، أعلمه بصحّة عقله بقوله تعالى : «لقد علمت» ، والقراءة الأولى أصحّ ، لاختيار الجمهور ، ولأنه قد أبان موسى من المعجزات ما أوجب علم فرعون بصدقه ، فلم يردّ عليه إلّا بالتّعلل والمدافعة ، فكأنه قال : لقد علمت بالدليل والحجّة «ما أنزل هؤلاء» يعني الآيات. وقد شرحنا معنى «البصائر» في سورة الأعراف (٢).

____________________________________

(٩٢١) ضعيف. أخرجه الترمذي ٢٧٣٣ و ٣١٤٤ والنسائي ٣٥٤١ و ٨٦٥٦ في «الكبرى» وابن ماجة ١٧٠٥ والحاكم ١ / ٩ من حديث صفوان بن عسال ، وإسناده ضعيف ، مداره على عبد الله بن سلمة ، قال شعبة عن عمر بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة حدثنا ، وإنا لنعرف وننكر وكان قد كبر ، وقال البخاري : لا يتابع على حديثه ـ وقال أبو حاتم والنسائي : يعرف وينكر اه «الميزان» ٤٣٦٠. وفي الحديث بعض الألفاظ المنكرة وقد نبه عليها الحافظ ابن كثير ، عند هذه الآية.

__________________

(١) سورة النحل : ١٤.

(٢) سورة الأعراف : ٢٠٣.

٥٧

قوله تعالى : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ) قال أكثر المفسّرين : الظّنّ ها هنا بمعنى العلم ، على خلاف ظنّ فرعون في موسى ، وسوّى بينهما بعضهم ، فجعل الأول بمعنى العلم أيضا. وفي المثبور ستة أقوال : أحدها : أنه الملعون ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال الضّحّاك. والثاني : المغلوب ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثالث : النّاقص العقل ، رواه ميمون بن مهران عن ابن عباس. والرابع : المهلك ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال أبو عبيدة ، وابن قتيبة. قال الزّجّاج : يقال : ثبر الرجل ، فهو مثبور ، إذا أهلك. والخامس : الهالك ، قاله مجاهد. والسادس : الممنوع من الخير ؛ تقول العرب : ما ثبرك عن هذا ، أي : ما منعك ، قاله الفرّاء.

قوله تعالى : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) يعني : فرعون أراد أن يستفزّ بني إسرائيل من أرض مصر. وفي معنى (يَسْتَفِزَّهُمْ) قولان : أحدهما : يستأصلهم ، قاله ابن عباس. والثاني : يستخفّهم حتى يخرجوا ، قاله ابن قتيبة. وقال الزّجّاج : جائز أن يكون استفزازهم إخراجهم منها بالقتل أو بالتّنحية. قال العلماء : وفي هذه الآية تنبيه على نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه لمّا خرج موسى فطلبه فرعون ، هلك فرعون وملك موسى ، فكذلك أظهر الله نبيّه بعد خروجه من مكّة حتى رجع إليها ظاهرا عليها. قوله تعالى : (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد هلاك فرعون (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) وفيها ثلاثة أقوال : أحدها : فلسطين والأردن ، قاله ابن عباس. والثاني : أرض وراء الصّين ، قاله مقاتل. والثالث : أرض مصر والشّام. قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) يعني : القيامة (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي : جميعا ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن قتيبة. وقال الفرّاء : لفيفا ، أي : من ها هنا ومن ها هنا. وقال الزّجّاج : اللفيف : الجماعات من قبائل شتّى.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) الهاء كناية عن القرآن ، والمعنى : أنزلنا القرآن بالأمر الثّابت والدّين المستقيم ، فهو حقّ ، ونزوله حقّ ، وما تضمّنه حقّ. وقال أبو سليمان الدّمشقي : «وبالحق أنزلناه» أي : بالتّوحيد ، «وبالحق نزل» يعني : بالوعد والوعيد ، والأمر والنّهي.

قوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) قرأ عليّ عليه‌السلام ، وسعد بن أبي وقّاص ، وأبيّ بن كعب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو رزين ، ومجاهد ، والشّعبيّ ، وقتادة ، والأعرج ، وأبو رجاء ، وابن محيصن : «فرّقناه» بالتشديد. وقرأ الجمهور بالتّخفيف.

فأمّا قراءة التّخفيف ، ففي معناها ثلاثة أقوال : أحدها : بيّنّا حلاله وحرامه ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : فرقنا فيه بين الحقّ والباطل ، قاله الحسن. والثالث : أحكمناه ، وفصّلناه ، كقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (١) ، قاله الفرّاء. وأما المشدّدة ، فمعناها : أنه أنزل متفرّقا ، ولم ينزل جملة واحدة. وقد بيّنّا في أوّل كتابنا هذا مقدار المدّة التي نزل فيها.

__________________

(١) سورة الدخان : ٤.

٥٨

قوله تعالى : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) قرأ أنس ، والشّعبيّ ، والضّحّاك ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وأبان عن عاصم ، وابن محيصن : بفتح الميم ؛ والمعنى : على تؤدة وترسل ليتدبّروا معناه.

قوله تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) هذا تهديد لكفّار مكّة ، والهاء كناية عن القرآن. (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وفيهم ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم ناس من أهل الكتاب ، قاله مجاهد. والثاني : أنهم الأنبياء عليهم‌السلام ، قاله ابن زيد. والثالث : طلّاب الدّين ، كأبي ذرّ ، وسلمان ، وورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو ، قاله الواحديّ.

وفي هاء الكناية في قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِ) قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى القرآن ، والمعنى : من قبل نزوله. والثاني : ترجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن زيد. فعلى الأوّل (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) القرآن. وعلى قول ابن زيد (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) ما أنزل إليهم من عند الله.

قوله تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) اللام ها هنا بمعنى «على». قال ابن عباس : قوله «للأذقان» أي : للوجوه. قال الزّجّاج : الذي يخرّ وهو قائم ، إنما يخرّ لوجهه ، والذّقن : مجتمع اللّحيين. وهو عضو من أعضاء الوجه ، فإذا ابتدأ يخرّ ، فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذّقن. وقال ابن الأنباري : أول ما يلقى الأرض من الذي يخرّ ، فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذّقن. وقال ابن الأنباري : أول ما يلقى الأرض من الذي يخرّ قبل أن يصوّب جبهته ذقنه ، فلذلك قال : «للأذقان» ويجوز أن يكون المعنى : يخرّون للوجوه ، فاكتفى بالذّقن من الوجه كما يكتفى بالبعض من الكلّ ، وبالنّوع من الجنس. قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) نزّهوا الله تعالى عن تكذيب المكذّبين بالقرآن ، وقالوا : (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا) بإنزال القرآن وبعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَمَفْعُولاً) واللام دخلت للتّوكيد. وهؤلاء قوم كانوا يسمعون أنّ الله باعث نبيّا من العرب ، ومنزل عليه كتابا ، فلمّا عاينوا ذلك ، حمدوا الله تعالى على إنجاز الوعد ، (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) كرّر القول ليدلّ على تكرار الفعل منهم. (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) أي : يزيدهم القرآن تواضعا. وكان عبد الأعلى التّيميّ يقول : من أوتي من العلم ما لا يبكيه ، لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه ، لأنّ الله تعالى نعت العلماء فقال : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) إلى قوله تعالى : (يَبْكُونَ) (١).

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ

__________________

(١) فائدة : قال الإمام الموفق رحمه‌الله في «المغني» ٢ / ٤٥٣ : فصل : فأما البكاء والتأوه والأنين الذي ينتظم منه حرفان ، فما كان مغلوبا عليه لم يفسد الصلاة ، وما كان من غير غلبة ، فإن كان لغير خوف الله أفسد صلاته ، قال أبو عبد الله بن بطة ، في الرجل يتأوه في الصلاة : إن تأوه من النار فلا بأس. والتأوه ذكر مدح الله تعالى الباكين بقوله تعالى : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ). وروي عن عبد الله بن الشّخير ، عن أبيه ، أنه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. ولم أر عن أحمد في التأوه شيئا ، ولا في الأنين والأشبه بأصوله : أنه متى فعله مختارا أفسد صلاته. وقال في البكاء الذي لا يفسد الصلاة : ما كان من غلبة.

والنصوص عامة تمنع من الكلام كله ، ولم يرد في التأوه والأنين ما يخصّهما ، والمدح على التأوه لا يوجب تخصيصه.

٥٩

 بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية. هذه الآية نزلت على سببين ، نزل أوّلها إلى قوله تعالى : (الْحُسْنى) على سبب ، وفيه ثلاثة أقوال (١) :

(٩٢٢) أحدها : أنّ رسول الله تهجّد ذات ليلة بمكّة ، فجعل يقول في سجوده : «يا رحمن ، يا رحيم» ، فقال المشركون : كان محمّد يدعو إلها واحدا ، فهو الآن يدعو إلهين اثنين : الله ، والرّحمن ، ما نعرف الرّحمن إلّا رحمن اليمامة ، يعنون : مسيلمة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(٩٢٣) والثاني : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكتب في أوّل ما أوحي إليه : باسمك اللهمّ ، حتى نزل : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٢) فكتب : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، فقال مشركو العرب : هذا الرّحيم نعرفه ، فما الرّحمن؟ فنزلت هذه الآية ، قاله ميمون بن مهران.

(٩٢٤) والثالث : أنّ أهل الكتاب قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّك لتقلّ ذكر الرّحمن وقد أكثر الله في التّوراة هذا الاسم ، فنزلت هذه الآية ، قاله الضّحّاك.

فأما قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ). فنزل على سبب ، وفيه ثلاثة أقوال :

(٩٢٥) أحدها : أن رسول الله كان يرفع صوته بالقرآن بمكة فيسبّ المشركون القرآن ومن أتى به

____________________________________

(٩٢٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٢٨٠١ وابن مردويه كما في «أسباب النزول» ٧٠٥ للسيوطي واللفظ بدون ذكر مسيلمة كلاهما عن ابن عباس ، وفي إسناده الحسين بن داود «سنيد» وهو ضعيف.

وأخرجه الطبري ٢٢٨٠٢ عن مكحول مرسلا. وفيه ذكر مسيلمة وهو باطل فالسورة مكية ، وأمر مسيلمة كان قبل وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقليل. وانظر «تفسير ابن كثير» ٣ / ٨٩ و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ٤٠٨٣ و ٤٠٨٤ وكلاهما بتخريجنا.

(٩٢٣) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٩٤ عن ميمون بن مهران مرسلا هكذا بلا سند ، وهو باطل ، لأن السورة مكية. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٤٠٨٥ بتخريجنا.

(٩٢٤) باطل. عزاه المصنف رحمه‌الله للضحاك ، وهو بدون إسناد ، ومع ذلك مراسيل الضحاك واهية ، وراويته جويبر بن سعيد ذاك المتروك. والسورة مكية ، وأخبار يهود مدنية.

(٩٢٥) صحيح. أخرجه البخاري ٤٧٢٢ و ٧٤٩٠ و ٧٥٢٥ و ٢٥٤٧ ومسلم ٤٤٦ ، ١٤٥١ والترمذي ٣١٤١ والنسائي في «التفسير» ٣٢٠ وأحمد ١ / ٢٣ عن ابن عباس ، في قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : نزلت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختف بمكة كان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي : بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن (وَلا تُخافِتْ بِها) عن أصحابك فلا تسمعهم (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) لفظ البخاري. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٤٥١ بتخريجنا.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٨٩ : يقول الله تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عزوجل ، المانعين من تسميته بالرحمن : (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لا فرق بين دعائكم له باسم «الله» أو باسم «الرحمن» فإنه ذو الأسماء الحسنى.

(٢) سورة النمل : ٣٠.

٦٠