زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

أنّ ذلك لله تعالى وحده. وقرأ قتادة ، وعاصم الجحدريّ ، وابن يعمر : «كلّ قد علم» برفع العين وكسر اللام «صلاته وتسبيحه» بالرّفع فيهما.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤))

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) أي : يسوقه (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي : يضمّ بعضه إلى بعض ، فيجعل القطع المتفرّقة قطعة واحدة. والسّحاب لفظه لفظ الواحد ، ومعناه الجمع ، فلهذا قال : (يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي : يجعل بعض السّحاب فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) وهو المطر. قال اللّيث : الودق : المطر كلّه شديدة وهينه. قوله تعالى : (مِنْ خِلالِهِ) وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، والضّحّاك : «من خلله» والخلال : جمع خلل ، مثل : جبال وجبل. (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) مفعول الإنزال محذوف ، تقديره : وينزّل من السماء من جبال فيها من برد بردا ، فاستغنى عن ذكر المفعول للدّلالة عليه. و «من» الأولى ، لابتداء الغاية ، لأنّ ابتداء الإنزال من السماء ، والثانية ، للتّبعيض ، لأنّ الذي ينزّله الله بعض تلك الجبال ، والثالثة ، لتبيين الجنس ، لأنّ جنس تلك الجبال جنس البرد ، قال المفسّرون : وهي جبال في السماء مخلوقة من برد. وقال الزّجّاج : معنى الكلام : وينزّل من السماء من جبال برد فيها ، كما تقول : هذا خاتم في يدي من حديد ، المعنى : هذا خاتم حديد في يدي. قوله تعالى : (فَيُصِيبُ بِهِ) أي : بالبرد (مَنْ يَشاءُ) فيضرّه في زرعه وثمره. والسّنا : الضّوء ، (يَذْهَبُ) وقرأ مجاهد ، وأبو جعفر : «يذهب» بضمّ الياء وكسر الهاء. (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي : يأتي بهذا ، ويذهب بهذا (إِنَّ فِي ذلِكَ) التّقليب (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي : دلالة لأهل البصائر والعقول على وحدانيّة الله وقدرته.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥))

قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «والله خالق كلّ دابّة من ماء» وفي الماء قولان : أحدهما : أنّ الماء أصل كلّ دابّة. والثاني : أنه النّطفة ، والمراد به : جميع الحيوان المشاهد في الدنيا. وإنما قال : «فمنهم» تغليبا لما يعقل. وإنما لم يذكر الذي يمشي على أكثر من أربع ، لأنه في رأي العين كالذي يمشي على أربع ، وقيل : لأنه يعتمد في المشي على أربع. وإنما سمّى السّائر على بطنه ماشيا ، لأنّ كلّ سائر ومستمرّ يقال له : ماش وإن لم يكن حيوانا ، حتّى إنه يقال : قد مشى هذا الأمر ، هذا قول الزّجّاج. وقال أبو عبيدة : إنما هذا على سبيل التشبيه بالماشي ، لأنّ المشي لا يكون على البطن ، إنما يكون لمن له قوائم ، فإذا خلطوا ما له قوائم بما لا قوائم له ، جاز ذلك ، كما يقولون : أكلت خبزا ولبنا ، ولا يقال : أكلت لبنا.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ

٣٠١

وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢))

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ).

(١٠٣٧) قال المفسّرون : نزلت في رجل من المنافقين يقال له : بشر كان بينه وبين يهوديّ حكومة ، فدعا اليهوديّ المنافق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحكم بينهما ، فقال المنافق لليهوديّ : إنّ محمّدا يحيف علينا ، ولكن بيني وبينك كعب بن الأشرف ، فنزلت هذه الآية.

قوله تعالى : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني المنافقين (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد قولهم : آمنّا (وَما أُولئِكَ) يعني المعرضين عن حكم الله ورسوله (بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ) أي : إلى كتابه (وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الرّسول (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) ومعنى الكلام : أنهم كانوا يعرضون عن حكم الرّسول عليهم ، لعلمهم أنّه يحكم بالحقّ ؛ وإن كان الحقّ لهم على غيرهم ، أسرعوا إلى حكمه مذعنين ، لثقتهم أنه يحكم لهم بالحقّ. قال الزّجّاج : والإذعان في اللغة : الإسراع مع الطاعة ، تقول : قد أذعن لي ، أي : قد طاوعني لما كنت ألتمسه منه. قوله تعالى : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : كفر (أَمِ ارْتابُوا) أي : شكّوا في القرآن؟ وهذا استفهام ذمّ وتوبيخ ، والمعنى : إنهم كذلك ، وإنما ذكره بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ في ذمّهم ، كما قال جرير في المدح :

ألستم خير من ركب المطايا (١)

أي : أنتم كذلك. فأمّا الحيف ، فهو : الميل في الحكم ؛ يقال : حاف في قضيّته ، أي : جار (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : لا يظلم الله ورسوله أحدا ، بل هم الظّالمون لأنفسهم بالكفر والإعراض عن حكم الرّسول.

ثم نعت المؤمنين ، فقال : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) قال الفرّاء : ليس هذا بخبر ماض ، وإنّما المعنى : إنّما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعوا أن يقولوا سمعنا. وقرأ الحسن ، وأبو الجوزاء : «إنما كان قول المؤمنين» بضمّ اللام. وقرأ أبو جعفر ، وعاصم الجحدريّ ، وابن أبي عبلة : «ليحكم بينهم» برفع الياء وفتح الكاف. قال المفسّرون : والمعنى : سمعنا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطعنا أمره ، وإن كان ذلك فيما يكرهونه. قوله تعالى : (وَيَخْشَ اللهَ) أي : فيما مضى من ذنوبه (وَيَتَّقْهِ) فيما بعد أن يعصيه. وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائيّ ، وورش عن نافع : «ويتّقهي» موصولة بياء. وروى قالون

____________________________________

(١٠٣٧) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٤٥ بدون إسناد ، وتقدم في سورة النساء عند الآية : ٦٧ باستيفاء.

__________________

(١) هو صدر بيت وعجزه : «وأندى العالمين بطون راح».

٣٠٢

عن نافع : «ويتّقه فأولئك» بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء. وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «ويتّقه» جزما.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) قال المفسّرون : لمّا نزل في هؤلاء المنافقين ما نزل من بيان كراهتهم لحكم الله ، قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا ، فكيف لا نرضى حكمك؟! فنزلت هذه الآية. وقد بيّنّا معنى (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) (١) ، (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) من أموالهم وديارهم ، وقيل : ليخرجنّ إلى الجهاد (قُلْ لا تُقْسِمُوا) هذا تمام الكلام ؛ ثمّ قال : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) قال الزّجّاج : المعنى : أمثل من قسمكم الذي لا تصدقون فيه طاعة معروفة. قال ابن قتيبة : وبعض النّحويين يقول : الضمير فيها : لتكن منكم طاعة معروفة ، أي : صحيحة لا نفاق فيها. قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) هذا خطاب لهم ، والمعنى : فإن تتولّوا ، فحذف إحدى التّاءين ، ومعنى التّولّي : الإعراض عن طاعة الله ورسوله ، (فَإِنَّما عَلَيْهِ) يعني : الرّسول (ما حُمِّلَ) من التّبليغ (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) من الطّاعة ؛ وذكر بعض المفسّرين أنّ هذا منسوخ بآية السيف ، وليس بصحيح. قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) يعني : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تَهْتَدُوا) ، وكان بعض السّلف يقول : من أمّر السّنّة على نفسه قولا وفعلا ، نطق بالحكمة ، ومن أمّر البدعة الهوى على نفسه قولا وفعلا ، نطق بالبدعة ، لقوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦))

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ).

(١٠٣٨) روى أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث أبيّ بن كعب ، قال : لمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، كانوا لا يبيتون إلّا في

__________________

(١٠٣٨) أخرجه الحاكم ٢ / ٤٠١ والطبراني في «الأوسط» ٧٠٢٥ والواحدي في «أسباب النزول» ٦٤٧ والبيهقي في «الدلائل» ٣ / ٦ ـ ٧ من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب. وإسناده لين. مداره على علي بن حسين بن واقد ، وهو لين الحديث ، ضعفه أبو حاتم ، وقال النسائي وغيره : ليس به بأس. وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٢٣٧ : رجاله ثقات اه. وانظر «أحكام القرآن» ١٦١٠.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥٣.

٣٠٣

السّلاح ، ولا يصبحون إلّا في لأمتهم ، فقالوا : أترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنّين لا نخاف إلّا الله عزوجل؟! فنزلت هذه الآية. قال أبو العالية : لمّا أظهر الله عزوجل رسوله على جزيرة العرب ، وضعوا السلاح وأمنوا ، ثم قبض الله نبيّه ، فكانوا آمنين كذلك في إمارة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنّعمة ، فأدخل الله عزوجل عليهم الخوف فغيروا ، فغيّر الله تعالى ما بهم. وروى أبو صالح عن ابن عباس : أنّ هذا الوعد وعده الله أمّة محمّد في التّوراة والإنجيل.

(١٠٣٩) وزعم مقاتل أنّ كفار مكّة لمّا صدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين عن العمرة عام الحديبية ، قال المسلمون. لو أنّ الله تعالى فتح علينا مكّة ، فنزلت هذه الآية.

قوله تعالى : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) أي : ليجعلنّهم يخلفون من قبلهم ، والمعنى : ليورثنّهم أرض الكفار من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكّانها. وعلى قول مقاتل : المراد بالأرض مكّة. قوله تعالى : (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وقرأ أبو بكر عن عاصم : «كما استخلف» بضمّ التاء وكسر اللام ؛ يعني : بني إسرائيل ، وذلك أنه لمّا هلكت الجبابرة بمصر ، أورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم. قوله تعالى : (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) وهو الإسلام ، وتمكينه : إظهاره على كلّ دين ، (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) وقرأ ابن كثير ، وأبو بكر ، وأبان ، ويعقوب : «وليبدلنّهم» بسكون الباء وتخفيف الدال (مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) لأنهم كانوا مظلومين مقهورين ، (مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) لأنهم كانوا مظلومين مقهورين ، (يَعْبُدُونَنِي) هذا استئناف كلام في الثّناء عليهم ، (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) بهذه النّعم ، أي : من جحد حقّها. قال المفسّرون : وأوّل من كفر بهذه النّعم قتله عثمان.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) قرأ ابن عامر ، وحمزة وحفص ، عن عاصم : «لا يحسبنّ» بالياء وفتح السين. وقرأ الباقون بالتاء وكسر السين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

قوله تعالى : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) في سبب نزولها قولان :

(١٠٤٠) أحدهما : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجّه غلاما من الأنصار يقال له : مدلج بن عمرو إلى

____________________________________

(١٠٣٩) عزاه المصنف لمقاتل ، ومقاتل ساقط الرواية ليس بشيء.

(١٠٤٠) لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٤٨ عن ابن عباس بدون إسناد. وقال الحافظ ابن حجر في

٣٠٤

عمر بن الخطّاب وقت الظّهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر على حالة كره عمر رؤيته عليها ، فقال : يا رسول الله ، وددت له لو أنّ الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(١٠٤١) والثاني : أنّ أسماء بنت مرثد كان لها غلام ، فدخل عليها في وقت كرهته ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل. ومعنى الآية : ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ؛ وفيهم قولان (١) : أحدهما : أنه أراد الذّكور دون الإناث ، قاله ابن عمر. والثاني : الذّكور والإناث ، رواه أبو حصين عن أبي عبد الرّحمن. ومعنى الكلام : ليستأذنكم مماليككم في الدّخول عليكم. قال القاضي أبو يعلى : والأظهر أن يكون المراد : العبيد الصغار والإماء الصغار ، لأنّ العبد البالغ بمنزلة الحرّ البالغ في تحريم النّظر إلى مولاته ، فكيف يضاف إلى الصبيان الذين هم غير مكلّفين؟!

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) وقرأ عبد الوارث : «الحلم» بإسكان اللام (مِنْكُمْ) أي : من أحراركم من الرجال والنساء (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي : ثلاثة أوقات ؛ ثم بيّنها فقال : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) وذلك لأنّ الإنسان قد يبيت عريانا ، أو على حالة لا يحبّ أن يطّلع عليه فيها (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي : القائلة (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) حين يأوي الرجل إلى زوجته ، (ثَلاثُ عَوْراتٍ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم : «ثلاث عورات» برفع الثاء من «ثلاث» ، والمعنى : هذه الأوقات هي ثلاث عورات ، لأنّ الإنسان يضع فيها ثيابه ، فربما بدت عورته. وقرأ حمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم : «ثلاث عورات» بنصب التاء ؛ قال أبو عليّ : جعلوه بدلا من قوله : «ثلاث مرّات» والأوقات ليست عورات ، ولكنّ المعنى : أنها أوقات ثلاث عورات ، فلمّا حذف المضاف أعرب بإعراب المحذوف. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي وسعيد بن جبير والأعمش «عورات» بفتح الواو (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) يعني المؤمنين الأحرار (وَلا عَلَيْهِمْ) يعني الخدم والغلمان (جُناحٌ) أي : حرج (بَعْدَهُنَ) أي بعد مضيّ هذه الأوقات في أن لا يستأذنوا ، فرفع الحرج عن الفرقين (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي : هم طوافون عليكم (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي : يطوف بعضكم وهم المماليك على بعض وهم الأحرار.

____________________________________

«تخريج الكشاف» ٣ / ٢٥٣ : هكذا نقله الثعلبي والواحدي والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما بغير سند اه. فالخبر لا أصل له ، يعني : لا إسناد له. وانظر «أحكام القرآن» ١٦٢١ بتخريجنا.

(١٠٤١) كذا ذكره الواحدي في «الأسباب» ٦٤٩ عن مقاتل بدون إسناد ، وهذا معضل ، وهو بدون إسناد.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٣٧٧ : هذه الآيات اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض.

وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض ، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال : الأول من قبل صلاة الغداة ، لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي : وقت القيلولة ، لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأنه وقت نوم فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال ، لما يخشى من أن يكون الرجل مع أهله ، أو نحو ذلك من الأعمال. وإذا دخلوا في غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك ، وقد أذن لهم في الهجوم.

٣٠٥

فصل : وأكثر علماء المفسّرين على أنّ هذه الآية محكمة ، وممّن روي عنه ذلك ابن عباس ، والقاسم بن محمّد ، وجابر بن زيد ، والشّعبيّ. وحكي عن سعيد بن المسيّب أنها منسوخة بقوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) والأول أصح ، لأن معنى هذه الآية : وإذا بلغ الأطفال منكم ، أو من الأحرار الحلم ، (فَلْيَسْتَأْذِنُوا) ، أي : في جميع الأوقات في الدّخول عليكم (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : كما استأذن الأحرار الكبار ، الذين هم قبلهم في الوجود ، وهم الذين أمروا بالاستئذان على كلّ حال ؛ فالبالغ يستأذن في كلّ وقت ، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث. قوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) قال ابن قتيبة : يعني : العجّز ، واحدها : قاعد ، ويقال : إنما قيل لها : قاعد ، لقعودها عن الحيض والولد ، وقد تقعد عن الحيض والولد ومثلها يرجو النّكاح ، ولا أراها سمّيت قاعدا إلّا بالقعود ، لأنها إذا أسنّت عجزت عن التّصرّف وكثرة الحركة ، وأطالت القعود ، فقيل لها : «قاعد» بلا هاء ، ليدلّ حذف الهاء على أنه قعود كبر ، كما قالوا : «امرأة حامل» ، ليدلّوا بحذف الهاء على أنه حمل حبل ، وقالوا في غير ذلك : قاعدة في بيتها ، وحاملة على ظهرها. قوله تعالى : (أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) أي : عند الرجال ؛ ويعني بالثياب : الجلباب والرّداء والقناع الذي فوق الخمار ، هذا المراد بالثياب ، لا جميع الثياب ، (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي : من غير أن يردن بوضع الجلباب أن ترى زينتهنّ ؛ والتّبرّج : إظهار المرأة محاسنها ، (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) فلا يضعن تلك الثياب (خَيْرٌ لَهُنَ) ، قال ابن قتيبة : والعرب تقول : امرأة واضع : إذا كبرت فوضعت الخمار ، ولا يكون هذا إلّا في الهرمة. قال القاضي أبو يعلى : وفي هذه الآية دلالة على أنه يباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال ، وأما شعرها ، فيحرم النظر إليه كشعر الشابّة.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) في سبب نزولها خمسة أقوال :

(١٠٤٢) أحدها : أنه لمّا نزل قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (١) تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزّمنى والعمي والعرج ، وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل ، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطّيّب ، والمريض لا يستوفي الطعام ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.

____________________________________

(١٠٤٢) أخرجه الطبري ٢٦٢١٩ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به ، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين علي وابن عباس. والراجح هو الآتي ، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ٣ / ٤٢١ بتخريجنا.

__________________

(١) سورة النساء : ٢٩.

٣٠٦

(١٠٤٣) والثاني : أنّ ناسا كانوا إذا خرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم ، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا ممّا في بيوتهم إذا احتاجوا ، فكانوا يتّقون أن يأكلوا منها ، ويقولون : نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيّبة ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن المسيّب.

والثالث : أنّ العرجان والعميان كانوا يمتنعون عن مؤاكلة الأصحّاء ، لأنّ الناس يتقذّرونهم ، فنزلت هذه الآية ، قاله سعيد بن جبير ، والضّحّاك (١). والرابع : أنّ قوما من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمون المريض والزّمن ، ذهبوا به إلى بيوت آبائهم وأمّهاتهم وبعض من سمّى الله عزوجل في هذه الآية ، فكان أهل الزّمانة يتحرّجون من أكل ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير مالكه ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد (٢). والخامس : أنها نزلت في إسقاط الجهاد عن أهل الزّمانة المذكورين في الآية ، قاله الحسن ، وابن زيد (٣).

فعلى القول الأول يكون معنى الآية : ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه ، ولا في الأعرج ، وتكون «على» بمعنى «في» ، ذكره ابن جرير. وكذلك يخرّج معنى الآية على كلّ قول بما يليق به. وقد كان جماعة من المفسّرين يذهبون إلى أنّ آخر الكلام «ولا على المريض حرج» وأن ما بعده مستأنف لا تعلّق له به ، وهو يقوّي قول الحسن ، وابن زيد.

قوله تعالى : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) فيه ثلاثة أقوال (٤) : أحدها : أنها بيوت الأولاد. والثاني : البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم ، فيكون الخطاب لأهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل

____________________________________

(١٠٤٣) حسن. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦٥٣ من طريق مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلا ، ومراسيل سعيد جياد. وله شاهد من مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أخرجه الطبري ٢٦٢٢٤. وله شاهد موصول عن عائشة رضي الله عنها ، أخرجه البزار ٢٢٤١ «كشف». وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٢٣٨ / ٧ : رجاله رجال الصحيح.

ـ الخلاصة : مرسل سعيد مع مرسل عبيد الله إذا انضم إليهما الموصول رقى بهما إلى درجة الحسن في أقل تقدير ، وهذا القول أرجح الأقوال ، ومع ذلك باقي الأقوال لا تعارضه ، بل تشهد لبعضه ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه الطبري ٢٦٢٢٠ عن الضحاك مرسلا.

(٢) أخرجه الطبري ٢٦٢٢١ و ٢٦٢٢٢ عن مجاهد مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف ، لكن هذه الروايات متقاربة ، سواء ما تقدم أو ما يأتي. وانظر أحكام القرآن ٣ / ٤٢٠ بتخريجنا.

(٣) أخرجه الطبري ٢٦٢٢٥ عن عبد الرحمن بن زيد ، وهذا معضل ، وابن زيد واه ، والصواب في ذلك الحديث ١٠٦٢.

(٤) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٣٧٩ : وقوله تعالى : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إنما ذكر هذا ، وهو معلوم ، ليعطف عليه غيره في اللفظ ، وليساوي به ما بعده في الحكم. وتضمن هذا بيوت الأبناء ، لأنه لم ينصّ عليهم. ولهذا استدل من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه ، وقد جاء في المسند والسنن ، من غير وجه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنت ومالك لأبيك» ، وقوله (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ) إلى قوله (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) هذا ظاهر ، وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما.

٣٠٧

عليه منزله ، ونسبها إليهم لأنهم سكّانها. والثالث : أنها بيوتهم ، والمراد أكلهم من مال عيالهم وأزواجهم ، لأنّ بيت المرأة كبيت الرجل. وإنما أباح الأكل من بيوت القرابات المذكورين ، لجريان العادة ببذل طعامهم لهم ؛ فإن كان الطعام وراء حرز ، لم يجز هتك الحرز.

قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه الوكيل ، لا بأس أن يأكل اليسير ، وهو معنى قول ابن عباس. وقرأها سعيد بن جبير ، وأبو العالية : «ما ملّكتم» بضمّ الميم وتشديد اللام مع كسرها على ما لم يسمّ فاعله ، وفسّرها سعيد فقال : يعني القهرمان الذي بيده المفاتيح. وقرأ أنس بن مالك ، وقتادة ، وابن يعمر : «مفتاحه» بكسر الميم على التّوحيد. والثاني : بيت الإنسان الذي يملكه ، وهو معنى قول قتادة. والثالث : بيوت العبيد ، قاله الضّحّاك.

قوله تعالى : (أَوْ صَدِيقِكُمْ). قال ابن عباس :

(١٠٤٤) نزلت هذه في الحارث بن عمرو ، خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غازيا ، وخلّف خالد بن زيد على أهله ، فلمّا رجع وجده مجهودا ، فقال : تحرّجت أن آكل من طعامك بغير إذنك ، فنزلت هذه الآية. وكان الحسن وقتادة يريان الأكل من طعام الصّديق بغير استئذان جائزا.

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) في سبب نزول هذا ثلاثة أقوال (١) :

(١٠٤٥) أحدها : أنّ حيّا من بني كنانة يقال لهم : بنو ليث كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، فربّما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصّباح إلى الرّواح ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة والضّحّاك.

والثاني : أنّ قوما من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلّا مع ضيفهم ، فنزلت هذه الآية ، ورخّص لهم أن يأكلوا جميعا أو أشتاتا ، قاله عكرمة (٢). والثالث : أنّ المسلمين كانوا يتحرّجون من مؤاكلة أهل الضّرّ خوفا من أن يستأثروا عليهم ، ومن الاجتماع على الطّعام ، لاختلاف الناس في مآكلهم وزيادة بعضهم على بعض ، فوسّع عليهم ، وقيل : «ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا» أي : مجتمعين «أو أشتاتا» أي : متفرّقين ، قاله ابن قتيبة.

____________________________________

(١٠٤٤) ذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٨٠٧ وقال : أخرجه الثعلبي في «تفسيره» عن ابن عباس ، ولم أقف على إسناده ، وتفرّد الثعلبي به دليل وهنه.

(١٠٤٥) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٦٢٣٧ عن قتادة مرسلا و ٢٦٢٣٥ عن الضحاك مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف. ولا يصح في سبب نزول هذه الآية خبرا ، وإنما ذكرت على سبيل الإرشاد والإباحة. وانظر «أحكام القرآن» ٣ / ٤٢٥ بتخريجنا.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٩ / ٣٥٥ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله وضع الحرج عن المسلمين ، أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا ، أو أشتاتا متفرقين إذا أرادوا ، وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوف من الأغنياء الأكل مع الفقير وبسبب غير ذلك ، ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر ، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه. والصواب التسليم لما دل عليه ظاهر التنزيل ، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل.

(٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٦٢٣٨ عن عكرمة مرسلا ، فهو ضعيف.

٣٠٨

قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) فيها ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنها بيوت أنفسكم ، فسلّموا على أهاليكم وعيالكم ، قاله جابر بن عبد الله ، وطاوس ، وقتادة. والثاني : أنها المساجد ، فسلّموا على من فيها ، قاله ابن عباس. والثالث : بيوت الغير ، فالمعنى : إذا دخلتم بيوت غيركم فسلّموا عليهم ، قاله الحسن. قوله تعالى : (تَحِيَّةً) قال الزّجّاج : هي منصوبة على المصدر ، لأنّ قوله : (فَسَلِّمُوا) بمعنى : فحيّوا وليحيّ بعضكم بعضا تحيّة ، (مِنْ عِنْدِ اللهِ) قال مقاتل : (مُبارَكَةً) بالأجر ، (طَيِّبَةً) أي : حسنة.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢))

قوله تعالى : (وَإِذا كانُوا مَعَهُ) يعني : مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي : على أمر طاعة يجتمعون عليها ، نحو الجهاد والجمعة والعيد ونحو ذلك (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).

(١٠٤٦) قال المفسّرون : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة ، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر ، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يراه ، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم ، فالأمر إليه في ذلك. قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده.

قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) أي : لخروجهم عن الجماعة إن رأيت لهم عذرا.

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ) فيه ثلاثة أقوال (٢) : أحدها : أنه نهي عن التّعرّض

____________________________________

(١٠٤٦) ذكره الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٣١ نقلا عن المفسّرين ، ولم أقف على إسناده فهو مما لا أصل له ، والمراد في ذلك الجهاد ، ويدخل في ذلك كل أمر جامع ، لكن سياق الآيات وسباقها يشير إلى الجهاد.

وانظر تفسير الطبري ٢٦٢٥٧ و ٢٦٢٥٨ و ٢٦٢٥٩.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٩ / ٣٥٨ : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال معناه : فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين ، فليسلم بعضكم على بعض. (تَحِيَّةً) بمعنى : تحيّون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية ، فكأنه قال : فليحيي بعضكم بعضا تحية من عند الله.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٩ / ٣٦٠ : وأولى التأولين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله ابن عباس ، وذلك أن الذي قبل قوله (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) نهي من الله

٣٠٩

لإسخاط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه إذا دعا على شخص فدعوته موجبة ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم أمروا أن يقولوا : يا رسول الله ، ونهوا أن يقولوا : يا محمّد ، قاله سعيد بن جبير ، وعلقمة ، والأسود ، وعكرمة ، ومجاهد. والثالث : أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتّأخّر إذا دعاهم ، حكاه الماوردي. وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وأبو المتوكّل ، ومعاذ القارئ : «دعاء الرسول نبيّكم» بياء مشدّدة ونون قبل الباء.

قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ) التّسلّل : الخروج في خفية. واللّواذ : أن يستتر بشيء مخافة من يراه. والمراد بقوله «قد يعلم» التّهديد بالمجازاة. قال الفرّاء : كان المنافقون يشهدون الجمعة فيذكرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعيبهم بالآيات التي أنزلت فيهم ، فإن خفي لأحدهم القيام قام ، فذلك قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أي : يلوذ هذا بهذا ، أي : يستتر ذا بذا. وإنما يقال : «لواذا» لأنها مصدر «لاوذت» ، ولو كان مصدرا ل «لذت» لقلت : لذت لياذا ، كما يقال : قمت قياما. وكذلك قال ثعلب : وقع البناء على لاوذ ملاوذة ، ولو بنى على لاذ يلوذ ، لقيل : لياذا. وقيل : هذا كان في حفر الخندق ، كان المنافقون ينصرفون عن غير أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختفين. قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى الله عزوجل ، قاله مجاهد. والثاني : إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله قتادة. وفي «عن» قولان : أحدهما : أنها زائدة ، قاله الأخفش. والثاني : أنّ معنى «يخالفون» : يعرضون عن أمره. وفي الفتنة ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : الضّلالة ، قاله ابن عباس. والثاني : بلاء في الدّنيا ، قاله قاله مجاهد. والثالث : كفر ، قاله السّدّيّ ، ومقاتل.

قوله تعالى : (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فيه قولان : أحدهما : القتل في الدنيا. والثاني : عذاب جهنّم في الآخرة. قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي : ما في أنفسكم ، وما تنطوي عليه ضمائركم من الإيمان والنّفاق ؛ وهذا تنبيه على الجزاء على ذلك. والله أعلم بالصّواب.

__________________

المؤمنين. أن يأتوا من الانصراف عنه ، في الأمر الذي يجمع جمعهم ، ما يكرهه ، والذي بعده وعيد للمنصرفين بغير إذنه عنه ، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه ، أن يضطره إلى الدعاء عليهم ، أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء.

٣١٠

سورة الفرقان

قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة في آخرين : هي مكّيّة (١). وحكي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا : إلّا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة ، وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله تعالى : (غَفُوراً رَحِيماً) (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

قوله تعالى : (تَبارَكَ) قد شرحناه في سورة الأعراف (٣) ، والفرقان : القرآن ، سمّي فرقانا ، لأنه فرق به بين الحقّ والباطل. والمراد بعبده : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لِيَكُونَ) فيه قولان :

أحدهما : أنه كناية عن عبده ، قاله الجمهور. والثاني : عن القرآن ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (لِلْعالَمِينَ) يعني الجنّ والإنس (نَذِيراً) أي : مخوّفا من عذاب الله.

__________________

(١) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٣ / ٥ : سورة الفرقان مكية كلها في قول الجمهور. ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن ، وذكر مطاعن الكفار في النبوة ، والرد على مقالاتهم وجهالاتهم.

(٢) الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠.

(٣) الأعراف : ٥٤. قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٣٨٣ : يقول الله تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزّله على رسوله الكريم من القرآن العظيم ، كما قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) وقال ها هنا : (تَبارَكَ) وهو تفاعل من البركة المستقرة الدائمة الثابتة (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) فعل من التكرر والتكثر كما قال : (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة ، والقرآن نزل منجما مفصلا آيات بعد آيات ، وأحكاما بعد أحكام ، وسورا بعد سور. وهذا أبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ولذلك سمّاه ها هنا الفرقان ، لأنه يفرق بين الحق والباطل. والحلال والحرام ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد.

٣١١

قوله تعالى : (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : سوّاه وهيّأه لما يصلح له ، فلا خلل فيه ولا تفاوت. والثاني : قدّر له ما يصلحه ويقيمه. والثالث : قدّر له تقديرا من الأجل والرّزق.

ثم ذكر ما صنعه المشركون ، فقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) يعني : الأصنام (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي : وهي مخلوقة (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا) أي : دفع ضرّ ، ولا جرّ نفع ، لأنها جماد لا قدرة لها (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً) أي : لا تملك أن تميت أحدا ، ولا أن تحيي أحدا ، ولا أن تبعث أحدا من الأموات ؛ والمعنى : كيف يعبدون ما هذه صفته ، ويتركون عبادة من يقدر على ذلك كلّه؟!

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أنزله الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : مشركي قريش ؛ وقال مقاتل : وهو قول النّضر بن الحارث من بني عبد الدّار (إِنْ هَذا) أي : ما هذا ، يعنون القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) أي : كذب (افْتَراهُ) أي : اختلقه من تلقاء نفسه (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) قال مجاهد : يعنون اليهود ؛ وقال مقاتل : أشاروا إلى عدّاس مولى حويطب ، ويسار غلام عامر بن الحضرمي ، وجبر مولى لعامر أيضا ، وكان الثلاثة من أهل الكتاب.

قوله تعالى : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً). قال الزّجّاج : المعنى فقد جاءوا بظلم وزور فلمّا سقطت الباء ، أفضى الفعل فنصب ، والزّور : الكذب. (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) المعنى : وقالوا : الذي جاء به أساطير الأولين ، وقد بيّنّا ذلك في (الأنعام) (١). قال المفسّرون : والذي قال هذا هو النّضر بن الحارث. ومعنى (اكْتَتَبَها) أمر أن تكتب له. وقرأ ابن مسعود ، وإبراهيم النّخعيّ ، وطلحة بن مصرف : «اكتتبها» برفع التاء الأولى وكسر الثانية ، والابتداء على قراءتهم برفع الهمزة ، (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) أي : تقرأ عليه ليحفظها لا ليكتبها ، لأنه لم يكن كاتبا ، (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي : غدوة وعشيّا. (قُلْ) لهم يا محمّد : (أَنْزَلَهُ) يعني : القرآن (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي : لا يخفى عليه شيء (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩))

قوله تعالى : (وَقالُوا) يعني المشركين (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) أنكروا أن يكون الرسول بشرا يأكل الطعام ويمشي في الطّرق كما يمشي سائر الناس يطلب المعيشة ؛ والمعنى : أنه ليس بملك ولا ملك ، لأنّ الملائكة لا تأكل ، والملوك لا تتبذّل في الأسواق ، فعجبوا أن يكون مساويا للبشر لا يتميّز عليهم بشيء ؛ وإنما جعله الله بشرا ليكون مجانسا للذين أرسل إليهم ، ولم يجعله ملكا يمتنع

__________________

(١) الأنعام : ٢٥.

٣١٢

من المشي في الأسواق ، لأنّ ذلك من فعل الجبابرة ، ولأنه أمر بدعائهم ، فاحتاج أن يمشي بينهم. قوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) وذلك أنهم قالوا له : سل ربّك أن يبعث معك ملكا يصدّقك ويجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا ؛ فذلك قوله تعالى : (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي : ينزّل إليه كنز من السماء (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي : بستان يأكل من ثماره. قرأ ابن كثير ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «يأكل منها» بالياء ، يعنون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «نأكل» بالنون ، قال أبو عليّ : المعنى : يكون له علينا مزيّة في الفضل بأكلنا من جنّته. وباقي الآية مفسّر في (بني إسرائيل) (١).

قوله تعالى : (انْظُرْ) يا محمّد (كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) حين مثّلوك بالمسحور ، وبالكاهن والمجنون والشاعر (فَضَلُّوا) بهذا عن الهدى (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) فيه قولان :

أحدهما : لا يستطيعون مخرجا من الأمثال التي ضربوها ، قاله مجاهد ، والمعنى أنهم كذّبوا ولم يجدوا على قولهم حجّة وبرهانا. وقال الفرّاء : لا يستطيعون في أمرك حيلة.

والثاني : سبيلا إلى الطاعة ، قاله السّدّيّ.

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤))

ثم أخبر أنه لو شاء لأعطاه خيرا مما قالوا في الدنيا ، وهو قوله : (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) يعني : لو شئت لأعطيتك في الدنيا خيرا ممّا قالوا ، لأنه قد شاء أن يعطيه ذلك في الآخرة. (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «ويجعل لك قصورا» برفع اللام. وقرأ أبو عمرو ، ونافع ، وحمزة ، والكسائيّ ، وحفص عن عاصم : «ويجعل» بجزم اللام. فمن قرأ بالجزم ، كان المعنى : إن يشأ يجعل لك جنّات ويجعل لك قصورا. ومن رفع ، فعلى الاستئناف المعنى : وسيجعل لك قصورا في الآخرة. وقد سبق معنى «اعتدنا» (٢) ومعنى «السّعير» (٣).

قوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال السّدّيّ عن أشياخه : من مسيرة مائة عام.

فإن قيل : السّعير مذكّر ، فكيف قال : «إذا رأتهم»؟ فالجواب : أنه أراد بالسّعير النار.

قوله تعالى : (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً) فيه قولان : أحدهما : غليان تغيّظ ، قاله الزّجّاج. قال المفسّرون : والمعنى أنها تتغيّظ عليهم فيسمعون صوت تغيّظها وزفيرها كالغضبان إذا غلا صدره من الغيظ. والثاني : يسمعون فيها تغيّظ المعذّبين وزفيرهم ، حكاه ابن قتيبة.

قوله تعالى : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) قال المفسّرون : تضيّق عليهم كما يضيّق الزّجّ على الرّمح ، وهم قد قرنوا مع الشياطين. والثّبور : الهلكة. وقرأ عاصم الجحدريّ ، وابن السّميفع : «ثبورا» بفتح الثاء.

__________________

(١) الإسراء : ٤٧.

(٢) النساء : ٣٧.

(٣) النساء : ١٠.

٣١٣

قوله تعالى : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) قال الزّجّاج : الثّبور مصدر ، فهو للقليل والكثير على لفظ الواحد ، كما تقول : ضربته ضربا كثيرا ، والمعنى : هلاككم أكثر من أن تدعوا مرّة واحدة.

(١٠٤٧) وروى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول من يكسى من أهل النار يوم القيامة إبليس ، يكسى حلّة من النّار فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريّته خلفه وهو يقول : ووا ثبوراه ، وهم ينادون : يا ثبورهم ، حتى يقفوا على النار ، فينادي : يا ثبوراه ، وينادون : يا ثبورهم ، فيقول الله عزوجل : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً).

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

قوله تعالى : (قُلْ أَذلِكَ) يعني : السّعير (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) وهذا تنبيه على تفاوت ما بين المنزلتين ، لا على أنّ في السّعير خيرا. وقال الزّجّاج : قد وقع التّساوي بين الجنّة والنار في أنهما منزلان ، فلذلك وقع التّفضيل بينهما. قوله تعالى : (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً) أي : ثوابا (وَمَصِيراً) أي : مرجعا. قوله تعالى : (كانَ عَلى رَبِّكَ) المشار إليه ، إمّا الدّخول ، وإمّا الخلود (وَعْداً) وعدهم الله إيّاه على ألسنة الرّسل. وفي معنى «مسؤولا» قولان : أحدهما : مطلوبا. وفي الطّالب له قولان. أحدهما : أنهم المؤمنون ، سألوا الله في الدنيا إنجاز ما وعدهم به. والثاني : أنّ الملائكة سألته ذلك لهم ، وهو قوله : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) (١). والثاني : أن معنى المسؤول : الواجب.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) قرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم : «يحشرهم» «فيقول» بالياء

____________________________________

(١٠٤٧) ضعيف. أخرجه أحمد ٣ / ١٥٢ ـ ١٥٤ ـ ٢٤٩ وابن أبي شيبة ١٣ / ١٦٨ والبزار ٣٤٩٥ «كشف» والطبري ٢٦٢٩٤ والخطيب ١١ / ٢٥٣ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٣٦ وأبو نعيم ٦ / ٢٥٦ من حديث أنس ، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد وقد تفرّد به. وصححه السيوطي في «الدر» ٥ / ١١٧ فلم يصب. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٨٦١١ : رجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد ، وقد وثق. وفيما قاله نظر إذ كان عليه أن يضعف علي بن زيد حيث ضعفه الجمهور ، وهو الذي استقر عليه ابن حجر في «التقريب» حيث قال : ضعيف. وعبارة الهيثمي توهم أنه لم يضعف ، وقد وثقه بعضهم.

__________________

(١) غافر : ٨.

٣١٤

فيهما. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «نحشرهم» بالنون «فيقول» بالياء. وقرأ ابن عامر : «نحشرهم» «فنقول» بالنون فيهما جميعا ؛ ويعني : المشركين ، (وَما يَعْبُدُونَ) قال مجاهد : يعني عيسى وعزيرا والملائكة. وقال عكرمة ، والضّحّاك : يعني الأصنام ، فيأذن الله للأصنام في الكلام ، ويخاطبها : (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي) أي : أمرتموهم بعبادتكم (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) أي : أخطئوا الطّريق. (قالُوا) يعني الأصنام (سُبْحانَكَ) نزّهوا الله تعالى أن يعبد غيره (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) نواليهم ؛ والمعنى : ما كان ينبغي لنا أن نعبد نحن غيرك ، فكيف ندعو إلى عبادتنا؟! فدلّ هذا الجواب على أنهم لم يأمروا بعبادتهم. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، وابن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وأبو جعفر ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : «أن نتّخذ» برفع النون وفتح الخاء. ثم ذكروا سبب تركهم للإيمان ، فقالوا : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ) أي : أطلت لهم العمر وأوسعت لهم الرّزق (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) أي : تركوا الإيمان بالقرآن والاتّعاظ به (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) قال ابن عباس : هلكى. وقال في رواية أخرى ، البور : في لغة أزد عمان : الفاسد. قال ابن قتيبة : هو من بار يبور : إذا هلك وبطل ، يقال : بار الطعام : إذا كسد ، وبارت الأيّم : إذا لم يرغب فيها.

(١٠٤٨) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوّذ من بوار الأيّم.

قال : وقال أبو عبيدة : يقال رجل بور وقوم بور ، لا يجمع ولا يثنّى ، واحتجّ بقول الشاعر :

يا رسول المليك إنّ لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور (١)

قال : وقد سمعنا ب «رجل بائر» ، ورأيناهم ربّما جمعوا «فاعلا» على «فعل» ، نحو عائذ وعوذ ، وشارف وشرف. قال المفسّرون : فيقال للكفّار حينئذ (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) أي : فقد كذّبكم المعبودون في قولكم : إنهم آلهة. وقرأ سعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومعاذ القارئ ، وابن شنبوذ عن قنبل : «بما يقولون» بالياء ؛ والمعنى : كذّبوكم بقولهم : (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا) الآية ؛ هذا قول الأكثرين. وقال ابن زيد : الخطاب للمؤمنين ؛ فالمعنى : فقد كذّبكم المشركون بما تقولون : إنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) قرأ الأكثرون بالياء. وفيه وجهان : أحدهما : فما يستطيع المعبودون صرفا للعذاب عنكم ولا نصرا لكم. والثاني : فما يستطيع الكفّار صرفا لعذاب الله عنهم ولا نصرا لأنفسهم. وقرأ حفص عن عاصم : «تستطيعون» بالتاء ؛ والخطاب للكفّار. وحكى ابن قتيبة عن يونس البصري أنه قال : الصّرف : الحيلة من قولهم : إنه ليتصرّف. قوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) أي : بالشّرك (نُذِقْهُ) في الآخرة. وقرأ عاصم الجحدري ، والضّحّاك ، وأبو الجوزاء وقتادة : «يذقه» بالياء (عَذاباً كَبِيراً) أي : شديدا. (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال الزّجّاج : في الآية محذوف ، تقديره : وما أرسلنا قبلك رسلا من المرسلين ، فحذفت رسلا لأنّ قوله : (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) يدلّ عليها.

قوله تعالى : (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) أي : إنهم كانوا على مثل حالك ،

____________________________________

(١٠٤٨) لا أصل له في المرفوع ، وإنما هو من كلام بعض السلف. وانظر «تفسير القرطبي» ١٣ / ١٤.

__________________

(١) البيت لعبد الله بن الزبعرى السهمي كما في «اللسان» ـ بور ـ و «مجاز القرآن» : ٢ / ٧٣.

٣١٥

فكيف تكون بدعا منهم؟! فإن قيل : لم كسرت «إنّهم» ها هنا ، وفتحت في براءة في قوله تعالى : (أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ) (١) فقد بيّنّا علّة فتح تلك ؛ فأمّا كسر هذه فذكر ابن الأنباري فيه وجهين : أحدهما : أن تكون فيها واو للحال مضمرة ، فكسرت بعدها «إنّ» للاستئناف ، فيكون التقدير : إلّا وإنّهم ليأكلون الطعام ، فأضمرت الواو ها هنا كما أضمرت في قوله تعالى : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٢) ، والتأويل ، أو وهم قائلون. والثاني : أن تكون كسرت لإضمار «من» قبلها ، فيكون التقدير : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلّا من إنهم ليأكلون ، قال الشاعر :

فظلّوا ومنهم دمعه سابق له

وآخر يثني دمعة العين بالمهل (٣)

أراد : من دمعه.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) الفتنة : الابتلاء والاختبار. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال : أحدها : أنه افتتان الفقير بالغني ، يقول : لو شاء لجعلني غنيّا ، والأعمى بالبصير ، والسّقيم بالصّحيح ، قاله الحسن. والثاني : ابتلاء الشّريف بالوضيع ، والعربيّ بالمولى ، فإذا أراد الشّريف أن يسلم فرأى الوضيع قد سبقه بالإسلام أنف فأقام على كفره ، قاله ابن السّائب. والثالث : أنّ المستهزئين من قريش كانوا إذا رأوا فقراء المؤمنين ، قالوا : انظروا إلى أتباع محمّد من موالينا ورذالتنا ، قاله مقاتل. فعلى الأول : يكون الخطاب بقوله : (أَتَصْبِرُونَ) لأهل البلاء. وعلى الثاني : للرّؤساء ، فيكون المعنى : أتصبرون على سبق الموالي والأتباع. وعلى الثالث : للفقراء ؛ والمعنى : أتصبرون على أذى الكفار واستهزائهم ، فالمعنى : قد علمتم ما وعد الصّابرون ، (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بمن يصبر وبمن يجزع.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يخافون البعث (لَوْ لا) أي : هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فكانوا رسلا إلينا وأخبرونا بصدقك ، (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا أنّك رسوله ، (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي : تكبّروا حين سألوا هذه الآيات (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) قال الزّجّاج : العتوّ في اللغة : مجاوزة القدر في الظّلم. قوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) فيه قولان : أحدهما : عند الموت. والثاني : يوم القيامة. قال الزّجّاج : وانتصب اليوم على معنى : لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة ، و «يومئذ» مؤكّد ل «يوم يرون الملائكة» ؛ والمعنى أنهم يمنعون البشرى في ذلك اليوم ؛ ويجوز أن يكون «يوم» منصوبا على معنى : اذكر يوم يرون الملائكة ، ثم أخبر فقال : (لا بُشْرى) والمجرمون ها هنا : الكفّار.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) وقرأ قتادة ، والضّحّاك ، ومعاذ القارئ : «حجرا» بضمّ الحاء. قال الزّجّاج : وأصل الحجر في اللغة : ما حجرت عليه ، أي : منعت من أن يوصل إليه ، ومنه حجر

__________________

(١) التوبة : ٥٤.

(٢) الأعراف : ٤.

(٣) البيت لذي الرمّة كما في ديوانه ص ٥٧٠.

٣١٦

القضاة على الأيتام. وفي القائلين لهذا قولان (١) : أحدهما : أنهم الملائكة يقولون للكفّار : حجرا محجورا ، أي : حراما محرّما. وفيما حرّموه عليهم قولان : أحدهما : البشرى ، فالمعنى : حرام محرّم أن تكون لكم البشرى ، قاله الضّحّاك ، والفرّاء وابن قتيبة ، والزّجّاج. والثاني : أن تدخلوا الجنّة ، قاله مجاهد. والثاني : أنه قول المشركين إذا عاينوا العذاب ، ومعناه الاستعاذة من الملائكة ، روي عن مجاهد أيضا. وقال ابن فارس : كان الرّجل إذا لقي من يخافه في الشهر الحرام ، قال : حجرا محجورا أي : حرام عليك أذاي ، فإذا رأى المشركون الملائكة يوم القيامة ، قالوا : حجرا محجورا ، يظنّون أنه ينفعهم كما كان ينفعهم في الدنيا.

قوله تعالى : (وَقَدِمْنا) قال ابن قتيبة : أي : قصدنا وعمدنا ، والأصل أنّ من أراد القدوم إلى موضع عمد له وقصده. قوله تعالى : (إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) أي : من أعمال الخير (فَجَعَلْناهُ هَباءً) لأنّ العمل لا يتقبّل مع الشّرك. وفي الهباء خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنه ما رأيته يتطاير في الشمس التي تدخل في الكوّة مثل الغبار ، قاله عليّ رضي الله عنه ، والحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، واللغويون ؛ والمعنى أنّ الله أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء. والثاني : أنه الماء المهراق ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث : أنه ما تنسفه الرّياح وتذريه من التراب وحطام الشجر ، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس. والرابع : أنه الشّرر الذي يطير من النار إذا أضرمت ، فإذا وقع لم يكن شيئا ، رواه عطيّة عن ابن عباس. والخامس : أنه ما يسطع من حوافر الدّواب ، قاله مقاتل. والمنثور : المتفرّق.

قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة ، (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) أفضل منزلا من المشركين (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) قال الزّجّاج : المقيل : المقام وقت القائلة ، وهو النّوم نصف النهار. وقال الأزهريّ : القيلولة عند العرب : الاستراحة نصف النهار إذا اشتدّ الحرّ وإن لم يكن مع ذلك نوم. وقال ابن مسعود ، وابن عباس : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٩ / ٣٧٨ : يقول تعالى ذكره : يوم يرى هؤلاء الذين قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) بتصديق محمد الملائكة ، فلا بشرى لهم بخير (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) يعني أن الملائكة يقولون للمجرمين حجرا محجورا ، حراما محرّما عليكم اليوم البشرى أن تكون لكم من الله. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك لأن الملائكة هي التي تخبر أهل الكفر أن البشرى عليهم حرام.

ووافقه ابن كثير رحمه‌الله ٣ / ٣٩٠.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٣٩١ : وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية ، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء ، فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا ، إذ إنها لا شيء بالكلية. وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق ، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ). وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) وهذا يوم القيامة ، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشرّ فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي ، إما الإخلاص فيها ، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية ، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين ، وقد تجمعهما معا ، فتكون أبعد من القبول حينئذ.

٣١٧

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) هذا معطوف على قوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) ، وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «تشقّق» بالتشديد ، فأدغموا التاء في الشين ، لأنّ الأصل : تتشقّق. قال الفرّاء : المعنى : تتشقّق السماء عن الغمام ، وتنزل فيه الملائكة ، و «على» و «عن» و «الباء» في هذا الموضع بمعنى واحد ، لأنّ العرب تقول : رميت عن القوس ، وبالقوس ، وعلى القوس ، والمعنى واحد. وقال أبو عليّ الفارسي : المعنى : تتشقّق السماء وعليها غمام ، كما تقول : ركب الأمير بسلاحه ، وخرج بثيابه ، وإنما تتشقّق السماء لنزول الملائكة. قال ابن عباس : تتشقّق السماء عن الغمام ، وهو الغيم الأبيض ، وتنزل الملائكة في الغمام. وقال مقاتل : المراد بالسماء : السّموات ، تتشقّق عن الغمام ، وهو غمام أبيض كهيئة الضّباب ، فتنزل الملائكة عند انشقاقها. وقرأ ابن كثير : «وننزل» بنونين ، الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة ، واللام مضمومة ، و «الملائكة» نصبا. وقرأ عاصم الجحدري ، وأبو عمران الجوني : «ونزّل» بنون واحدة مفتوحة ونصب الزاي وتشديدها وفتح اللام ونصب «الملائكة». وقرأ ابن يعمر : «ونزل» بفتح النون واللام والزاي والتخفيف «الملائكة» بالرفع. قوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) قال الزّجّاج : المعنى : الملك الذي هو الملك حقّا للرّحمن (١). فأمّا العسير ، فهو الصّعب الشديد يشتدّ على الكفار ، ويهون على المؤمنين فيكون كمقدار صلاة مكتوبة.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) في سبب نزولها ثلاثة أقوال :

(١٠٤٩) أحدها : أنّ أبيّ بن خلف كان يحضر عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجالسه من غير أن يؤمن به ، فزجره عقبة بن أبي معيط عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس.

(١٠٥٠) والثاني : أنّ عقبة دعا قوما فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لطعام فأكلوا ، وأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأكل ، وقال : «لا آكل حتى تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله» ، فشهد بذلك عقبة ، فبلغ ذلك

____________________________________

(١٠٤٩) أخرجه الطبري ٢٦٣٤٧ ، وإسناده ضعيف جدا ، فيه عنعنة ابن جريج ، وهو مدلس ، وفيه إرسال بين عطاء الخراساني وابن عباس.

(١٠٥٠) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٦٣٥١ عن مجاهد به. وأخرجه أبو نعيم في «الدلائل» ٤٠١ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس فذكره ، والكلبي كذاب متهم ، وأبو صالح ضعيف. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٥٧ م و «الوسيط» ٣ / ٣٣٩ بدون إسناد.

الخلاصة : الخبر واه ، وتخصيص الآية بواحد من بدع التأويل ، بل «ال» في الظالم لاستغراق الجنس ، فالآية تعم كل ظالم كافر ، وعقبة داخل في العموم ومثله أبي بن خلف وغيرهما.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٣٩٣ : وقوله (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) كما قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وفي الصحيح : «أن الله يطوي السموات بيمينه ويأخذ الأرضين بيده ثم يقول : أنا الملك ، أنا الديان ، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟».

٣١٨

أبيّ بن خلف ، وكان خليلا له ، فقال : صبوت يا عقبة؟ فقال : لا والله ، ولكنه أبى أن يأكل حتى قلت ذلك ، وليس من نفسي ، فنزلت هذه الآية ، قاله مجاهد.

(١٠٥١) والثالث : أنّ عقبة كان خليلا لأميّة بن خلف ، فأسلم عقبة ، فقال أميّة : وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمّدا ، فكفر وارتدّ لرضى أميّة ، فنزلت هذه الآية ، قاله الشّعبيّ.

فأمّا الظالم المذكور ها هنا ، فهو الكافر ، وفيه قولان :

أحدهما : أنه أبيّ بن خلف ، رواه العوفيّ عن ابن عباس.

والثاني : عقبة بن أبي معيط ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ، وقتادة. وقال عطاء : يأكل يديه حتى تذهبا إلى المرفقين ، ثم تنبتان ، فلا يزال هكذا كلّما نبتت يده أكلها ندامة على ما فعل.

قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ) الأكثرون يسكّنون «يا ليتني» ، وأبو عمرو يحرّكها ، قال أبو عليّ : والأصل التّحريك ، لأنها بإزاء الكاف التي للخطاب ، إلّا أنّ حرف اللّين تكره فيه الحركة ، ولذلك أسكن من أسكن ؛ والمعنى : ليتني اتّبعته فاتّخذت معه طريقا إلى الهدى.

قوله تعالى : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً) في المشار إليه أربعة أقوال : أحدها : أنه عنى أبيّ بن خلف ، قاله ابن عباس. والثاني : عقبة بن أبي معيط ، قاله أبو مالك. والثالث : الشيطان ، قاله مجاهد. والرابع : أميّة بن خلف ، قاله السّدّيّ. فإن قيل : إنما يكنّى من يخاف المبادأة أو يحتاج إلى المداجاة ، فما وجه الكناية؟ فالجواب : أنه أراد بالظالم : كلّ ظالم ، وأراد بفلان : كلّ من أطيع في معصية الله وأرضي بسخط الله ، وإن كانت الآية نزلت في شخص ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) أي : صرفني عن القرآن والإيمان به (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) مع الرسول ، وها هنا تمّ الكلام. ثم قال الله تعالى : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ) يعني : الكافر (خَذُولاً) يتبرّأ منه في الآخرة.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١))

قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ) يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا عند كثير من العلماء أنه يقوله يوم القيامة ؛ فالمعنى : ويقول الرّسول يومئذ. وذهب آخرون ، منهم مقاتل ، إلى أنّ الرّسول قال ذلك شاكيا من قومه إلى الله تعالى حين كذّبوه (١). وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «إن قومي اتخذوا» بتحريك الياء ؛ وأسكنها عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ.

____________________________________

(١٠٥١) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٦٣٤٨ عن الشعبي هكذا مرسلا.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٣٩٤ : يقول الله تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دائما إلى يوم الدين ـ أنه قال : (يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً). وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يسمعونه ، وكانوا إذا تلي عليهم أكثروا اللغط والكلام في غيره ، حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه ، وترك علمه وحفظه أيضا من هجرانه وترك تفهمه وتدبره من هجرانه ، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه ،

٣١٩

وفي المراد بقوله : (مَهْجُوراً) قولان : أحدهما : متروكا لا يلتفتون إليه ولا يؤمنون به ، وهذا معنى قول ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : هجروا فيه ، أي : جعلوه كالهذيان ، ومنه يقال : فلان يهجر في منامه ، أي : يهذي ، قاله ابن قتيبة. وقال الزّجّاج : الهجر : ما لا ينتفع به من القول : قال المفسّرون : فعزّاه الله عزوجل ، فقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) أي : كما جعلنا لك أعداء من مشركي قومك ، جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا من كفّار قومه ؛ والمعنى : لا يكبرن هذا عليك ، فلك بالأنبياء أسوة (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً) لك (وَنَصِيراً) يمنعك من عدوّك. قال الزّجّاج : والباء في قوله : (بِرَبِّكَ) زائدة ؛ فالمعنى : كفى ربّك هاديا ونصيرا.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))

قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي : كما أنزلت التّوراة والإنجيل والزّبور ، فقال الله عزوجل : (كَذلِكَ) أي : أنزلناه كذلك متفرّقا ، لأنّ معنى ما قالوا : لم نزّل عليه متفرّقا؟ فقيل : إنما أنزلناه كذلك (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي : لنقوّي به قلبك فتزداد بصيرة ، وذلك أنه كان يأتيه الوحي في كلّ أمر وحادثة ، فكان أقوى لقلبه وأنور لبصيرته وأبعد لاستيحاشه ، (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي : أنزلناه على التّرتيل ، وهو التّمكّث الذي يضادّ العجلة.

قوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ) يعني المشركين (بِمَثَلٍ) يضربونه لك في مخاصمتك وإبطال أمرك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) أي : بالذي هو الحقّ لنردّ به كيدهم (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) من مثلهم ؛ والتفسير : البيان والكشف. قال مقاتل : ثم أخبر بمستقرّهم في الآخرة ، فقال : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) وذلك أنّ كفّار مكّة قالوا : إنّ محمّدا وأصحابه شرّ خلق الله ، فنزلت هذه الآية. قوله تعالى : (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) أي : منزلا ومصيرا (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) دينا وطريقا من المؤمنين.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩))

قوله تعالى : (اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا). إن قيل : إنما عاينوا الآيات بعد وجود الرسالة ، فكيف يقع التّكذيب منهم قبل وجود الآيات؟ فالجواب : أنهم كانوا مكذّبين أنبياء الله وكتبه

____________________________________

وترك العمل به من امتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه ، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره ، من هجرانه. فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء ، أن يخلصنا مما يسخطه ، ويستعملنا فيما يرضيه ، من حفظ كتابه وفهمه ، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار ، على الوجه الذي يحبه ويرضاه ، إنه كريم وهّاب.

٣٢٠