زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

(وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنه من تصديق الله تعالى لقولها ، قاله الزّجّاج. والثاني : من تمام كلامها ؛ والمعنى : وكذلك يفعل سليمان وأصحابه إذا دخلوا بلادنا ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) قال ابن عباس : إنما أرسلت الهديّة لتعلم أنه إن كان نبيّا لم يرد الدّنيا ، وإن كان ملكا فسيرضى بالحمل ، وأنها بعثت ثلاث لبنات من ذهب في كلّ لبنة مائة رطل ؛ وياقوتة حمراء طولها شبر مثقوبة ، وثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة ، وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف الذّكر من الأنثى ، ثم كتبت إليه : إنّي قد بعثت إليك بهديّة فاقبلها ، وبعثت إليك بياقوتة طولها شبر ، فأدخل فيها خيطا واختم على طرفي الخيط بخاتمك ، وقد بعثت إليك ثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة ، فميّز بين الجواري والغلمان ؛ فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثت إليه ، فقال له : انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال لبنا من الذهب ؛ فانطلق ، فبعث الشياطين ، فقطعوا اللّبن من الجبال وطلوه بالذهب وفرشوه ، ونصبوا في الطريق أساطين الياقوت الأحمر ، فلمّا جاء الرّسل ، قال بعضهم لبعض : كيف تدخلون على هذا الرجل بثلاث لبنات ، وعنده ما رأيتم؟! فقال رئيسهم : إنما نحن رسل ، فدخلوا عليه ، فوضعوا اللّبن بين يديه ، فقال : أتمدّونني بمال؟ ثم دعا ذرّة فربط فيها خيطا وأدخلها في ثقب الياقوتة حتى خرجت من طرفها الآخر ، ثم جمع بين طرفي الخيط فختم عليه ودفعها إليهم ، ثم ميّز بين الغلمان والجواري ؛ هذا كلّه مرويّ عن ابن عباس (١). وقال مجاهد : جعلت لباس الغلمان للجواري ولباس الجواري للغلمان ، فميّزهم ولم يقبل هديّتها. وفي عدد الوصائف والوصفاء خمسة أقوال : أحدها : ثلاثون وصيفا وثلاثون وصيفة ، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني : خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ، قاله وهب. والثالث : مائتا غلام ومائتا جارية ، قاله مجاهد. والرابع : عشرة غلمان وعشر جوار ، قاله ابن السّائب. والخامس : مائة وصيف ومائة وصيفة ، قاله مقاتل. وفيما ميّزهم به ثلاثة أقوال : أحدها : أنه أمرهم بالوضوء ، فبدأ الغلام من مرفقه إلى كفّه ، وبدأت الجارية من كفّها إلى مرفقها ، فميّزهم بذلك ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : أنّ الغلمان بدءوا بغسل ظهور السّواعد قبل بطونها ، والجواري على عكس ذلك ، قاله قتادة. والثالث : أنّ الغلام اغترف بيده ، والجارية أفرغت على يدها ، قاله السّدّيّ. وجاء في التفسير أنها أمرت الجواري أن يكلّمن سليمان بكلام الرجال ، وأمرت الرجال أن يكلّموه كلام النساء ، وأرسلت قدحا أن يملأه ماء ليس من ماء السماء ولا من ماء الأرض ، فجرّى الخيل وملأه من عرقها.

قوله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) أي : بقبول أم بردّ. قال ابن جرير : وأصل «بم» : بما ، وإنما أسقطت الألف لأنّ العرب إذا كانت «ما» بمعنى «أيّ» ثم وصلوها بحرف خافض ، أسقطوا ألفها ، تفريقا بين الاستفهام والخبر ، كقوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) (٢) و (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) (٣) ، وربما أثبتوا فيها الألف كما قال الشاعر :

على ما قام يشتمنا لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد؟ (٤)

__________________

(١) هو متلقى عن أهل الكتاب. ولا يصح شيء في تعيين الهدية أو وصفها ، وكل ذلك من الإسرائيليات.

(٢) النبأ : ١.

(٣) النساء : ٩٧.

(٤) البيت لحسان بن ثابت ، ديوانه : ١٤٣.

٣٦١

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠))

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) قال الزّجّاج : لمّا جاء رسولها ، ويجوز : فلمّا جاء برّها.

قوله تعالى : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «أتمدّونني» بنونين وياء في الوصل. وروى المسيّبي عن نافع : «أتمدّوني» بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، والكسائيّ : «أتمدّونن» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ حمزة : «أتمدّونّي بمال» بنون واحدة مشددة ووقف على الياء.

قوله تعالى : (فَما آتانِيَ اللهُ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «فما آتان» بكسر النون من غير ياء. وقرأ أبو عمرو ، ونافع ، وحفص عن عاصم : «أتاني الله» بفتح الياء. وكلّهم فتح التاء غير الكسائيّ ، فإنه أمالها من «أتاني الله» وأمال حمزة : «أنا آتيك به» أشمّ النون شيئا من الكسر ، والمعنى : فما آتاني الله ، أي : من النبوّة والملك (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) من المال (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) يعني إذا أهدى بعضكم إلى بعض فرح ، فأمّا أنا فلا ، ثم قال للرّسول : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ) أي : لا طاقة (لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) يعني بلدتهم. فلمّا رجعت رسلها إليها بالخبر ، قالت : قد علمت أنّه ليس بملك وما لنا به طاقة ، فبعثت إليه : إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما تدعو إليه ، ثم أمرت بعرشها فجعل وراء سبعة أبواب ، ووكّلت به حرسا يحفظونه ، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك ، تحت يدي كلّ ملك ألوف. وكان سليمان مهيبا لا يبتدئ بشيء حتى يسأل عنه ، فجلس يوما على سرير ملكه فرأى رهجا قريبا منه ، فقال : ما هذا؟ قالوا : بلقيس قد نزلت بهذا المكان ، وكان قدر فرسخ ، وقد كان بلغه أنها احتاطت على عرشها قبل خروجها ، و (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) وفي سبب طلبه له خمسة أقوال (١) : أحدها : ليعلم صدق الهدهد ، قاله ابن عباس. والثاني : ليجعل ذلك دليلا على صدق نبوّته ، لأنها خلّفته في دارها واحتاطت عليه ، فوجدته قد تقدّمها ، قاله وهب بن منبّه. والثالث : ليختبر عقلها وفطنتها ، أتعرفه أم تنكره ، قاله سعيد بن جبير. والرابع : لأنّ صفته أعجبته ، فخشي أن تسلم فيحرم عليه مالها ، فأراد أخذه قبل ذلك ، قاله قتادة.

__________________

(١) قال الطبري في «تفسيره» ٩ / ٥٢١ : وأولى الأقوال بالصواب في السبب الذي من أجله خص سليمان بسؤاله الملأ من جنده بإحضار عرش المرأة دون سائر ملكها عندها ليجعل ذلك حجة عليها في نبوته ويعرّفها بذلك قدرة الله وعظيم شأنه ، أنها خلفته في بيت في جوف أبيات بعضها في جوف بعض مغلق مقفل فأخرجه الله من ذلك كله بغير فتح أغلاق وأقفال حتى أوصله إلى وليه من خلقه وسلمه إليه فكان لها في ذلك أعظم حجة على حقيقة ما دعاها إليه سليمان وعلى صدقه فيما أعلمها من نبوته.

٣٦٢

والخامس : ليريها قدرة الله تعالى وعظم سلطانه ، حكاه الثّعلبي.

قوله تعالى : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) قال أبو عبيدة : العفريت من كلّ جنّ أو إنس : الفائق المبالغ الرّئيس. وقال ابن قتيبة : العفريت : الشرير الوثيق. وقال الزّجّاج : العفريت : النّافذ في الأمر ، المبالغ فيه مع خبث ودهاء. وقرأ أبيّ بن كعب ، والضّحّاك ، وأبو العالية ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : «قال عفريت» بفتح العين وكسر الراء ، وروى ابن أبي شريح عن الكسائيّ : «عفرية» بفتح الياء وتخفيفها ، وروي عنه أيضا تشديدها وتنوين الهاء على التأنيث. وقرأ ابن مسعود ، وابن السّميفع : «عفراة» بكسر العين وفتح الراء وبألف من غير ياء.

قوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي : من مجلسك ؛ ومثله : «في مقام أمين» (١). وكان سليمان يجلس للقضاء بين الناس من وقت الفجر إلى طلوع الشمس ، وقيل : إلى نصف النهار. (وَإِنِّي عَلَيْهِ) أي : على حمله (لَقَوِيٌ). وفي قوله تعالى : (أَمِينٌ) قولان : أحدهما : أمين على ما فيه من الجوهر والدّرّ وغير ذلك ، قاله ابن السّائب. والثاني : أمين أن لا آتيك بغيره بدلا منه ، قاله ابن زيد. قال سليمان : أريد أسرع من ذلك. (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) وهل هو إنسيّ أم ملك؟ فيه قولان : أحدهما : إنسيّ ، قاله ابن عباس ، والضّحّاك ، وأبو صالح ، ثم فيه أربعة أقوال : أحدها : أنّه رجل من بني إسرائيل ، واسمه آصف بن برخياء ، قاله مقاتل. قال ابن عباس : دعا آصف ـ وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف ـ فبعث الله الملائكة فحملوا السّرير تحت الأرض يخدّون الأرض خدّا ، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان. والثاني : أنه سليمان عليه‌السلام ، وإنما قال له رجل : أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك ، فقال : هات ، قال : أنت النبيّ ابن النبيّ ، فإن دعوت الله جاءك ، فدعا الله فجاءه ، قاله محمّد بن المنكدر. والثالث : أنّه الخضر ، قاله ابن لهيعة (٢). والرابع : أنه عابد خرج يومئذ من جزيرة في البحر فوجد سليمان فدعا فأتي بالعرش ، قاله ابن زيد. والقول الثاني : أنه من الملائكة ، ثم فيه قولان : أحدهما : أنه جبريل عليه‌السلام. والثاني : ملك من الملائكة أيّد الله تعالى به سليمان ، حكاهما الثّعلبي. وفي العلم الذي عنده من الكتاب ثلاثة أقوال : أحدها : أنه اسم الله الأعظم ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور. والثاني : أنه علم كتاب سليمان إلى بلقيس. والثالث : علم ما كتب الله لبني آدم ، وهذا على أنه ملك ، حكى القولين الماوردي. وفي قوله تعالى : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أربعة أقوال : أحدها : قبل أن يأتيك أقصى ما تنظر إليه ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : قبل أن ينتهي طرفك إذا مددته إلى مداه ، قاله وهب. والثالث : قبل أن يرتدّ طرفك حسيرا إذا أدمت النّظر ، قاله مجاهد. والرابع : بمقدار ما تفتح عينك ثم تطرف ، قاله الزّجّاج : قال مجاهد : دعا فقال : يا ذا الجلال والإكرام ، وقال ابن السّائب : إنما قال : يا حيّ يا قيّوم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَآهُ) في الكلام محذوف تقديره : فدعا الله فأتي به ، فلمّا رآه ، يعني : سليمان (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أي : ثابتا بين يديه (قالَ هذا) يعني التّمكّن من حصول المراد.

قوله تعالى : (أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) فيه قولان : أحدهما : أأشكر على السّرير إذ أتيت به ، أم أكفر إذا

__________________

(١) الدخان : ٥١.

(٢) ابن لهيعة : ضعيف إذا وصل الحديث فكيف إذا أرسله ، وقد استغرب ابن كثير هذا القول جدا.

٣٦٣

رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم منّي ، قاله ابن عباس. والثاني : أأشكر ذلك من فضل الله عليّ ، أم أكفر نعمته بترك الشّكر له ، قاله ابن جرير.

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

قوله تعالى : (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) قال المفسّرون : خافت الشياطين أن يتزوّج سليمان بلقيس فتفشي إليه أسرار الجنّ ، لأنّ أمّها كانت جنيّة ، فلا ينفكّون من تسخير سليمان وذرّيّته بعده ، فأساؤوا الثناء عليها وقالوا : إنّ في عقلها شيئا ، وإنّ رجلها كحافر الحمار ، فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها ، وينظر إلى قدميها ببناء الصّرح. قال ابن قتيبة : ومعنى «نكّروا» : غيروا ، يقال : نكّرت الشيء فتنكّر ، أي : غيّرته فتغيّر. وللمفسّرين في كيفية تغييره ستة أقوال :

أحدها : أنه زيد فيه ونقص منه ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنهم جعلوا صفائح الذهب التي كانت عليه مكان صفائح الفضّة ، وصفائح الفضّة مكان صفائح الذهب ، والياقوت مكان الزّبرجد ، والدّرّ مكان اللؤلؤ ، وقائمتي الزّبرجد مكان قائمتي الياقوت ، قاله ابن عباس أيضا. والثالث : أنهم نزعوا ما عليه من فصوصه وجواهره ، روي عن ابن عباس أيضا. والرابع : أنهم جعلوا ما كان منه أحمر أخضر ، وما كان أخضر أحمر ، قاله مجاهد. والخامس : أنهم جعلوا أسفله أعلاه ، ومقدّمه مؤخّره ، وزادوا فيه ، ونقصوا منه ، قاله قتادة. والسادس : أنهم جعلوا فيه تماثيل السّمك ، قاله أبو صالح.

وفي قوله تعالى : (كَأَنَّهُ هُوَ) قولان : أحدهما : أنها لمّا رأته جعلت تعرف وتنكر ، ثم قالت في نفسها : من أين يخلص إلى ذلك وهو في سبعة أبيات والحرس حوله؟! ثم قالت : كأنه هو ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال قتادة : شبّهته بعرشها. وقال السّدّيّ : وجدت فيه ما تعرفه فلم تنكر ، ووجدت فيه ما تنكره فلم تثبت ، فلذلك قالت : كأنه هو. والثاني : أنّها عرفته ، ولكنها شبّهت عليهم كما شبّهوا عليها ، فلو أنهم قالوا : هذا عرشك ، لقالت : نعم ، قاله مقاتل. قال المفسّرون : فقيل لها : فإنه عرشك ، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب؟!

وفي قوله تعالى : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قول سليمان ، قاله مجاهد ، ثم في معناه قولان : أحدهما : وأوتينا العلم بالله وقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة. والثاني : أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنّا مسلمين لله. والقول الثاني : أنه من قول بلقيس ، فإنها لمّا رأت عرشها ، قالت : قد عرفت هذه الآية ، وأوتينا العلم بصحّة نبوّة سليمان بالآيات المتقدّمة ، تعني أمر الهدهد والرّسل التي بعثت من قبل هذه الآية ، وكنّا مسلمين منقادين لأمرك قبل أن نجيء. والثالث : أنه من قول قوم سليمان ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) قال الفرّاء : معنى الكلام : هي عاقلة ، إنّما صدّها عن عبادة الله عبادتها الشمس والقمر ، وكان عادة من دين آبائها ؛ والمعنى : وصدّها أن تعبد الله ما كانت

٣٦٤

تعبد ، قال : وقد قيل : صدّها سليمان ، أي : منعها ما كانت تعبد. قال الزّجّاج : المعنى : صدّها عن الإيمان العادة التي كانت عليها ، لأنها نشأت ولم تعرف إلّا قوما يعبدون الشمس ، وبيّن عبادتها بقوله : (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) وقرأ سعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : «أنّها كانت» بفتح الهمزة.

قوله تعالى : (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) قال المفسّرون : أمر الشياطين فبنوا له صرحا كهيئة السّطح من زجاج. وفي سبب أمره بذلك ثلاثة أقوال : أحدهما : أنه أراد أن يريها ملكا هو أعزّ من ملكها ، قاله وهب بن منبّه. والثاني : أنه أراد أن ينظر إلى قدمها من غير أن يسألها كشفها ، لأنه قيل له : إنّ رجلها كحافر الحمار ، فأمر أن يهيّأ لها بيت من قوارير فوق الماء ، ووضع سرير سليمان في صدر البيت ، هذا قول محمّد بن كعب القرظي. والثالث : أنه فعل ذلك ليختبرها كما اختبرته بالوصائف والوصفاء ، ذكره ابن جرير. فأمّا الصّرح ، فقال ابن قتيبة : هو القصر ، وجمعه : صروح ، ومنه قول الهذليّ :

تحسب أعلامهنّ الصّروحا (١)

قال : ويقال : الصّرح بلاط اتّخذ لها من قوارير ، وجعل تحته ماء وسمك ، قال مجاهد : كانت بركة من ماء ضرب عليها سليمان قوارير. وقال مقاتل : كان قصرا من قوارير بني على الماء وتحته السّمك. قوله تعالى : (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) وهي : معظم الماء (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لدخول الماء ، فناداها سليمان (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي : مملّس (مِنْ قَوارِيرَ) أي : من زجاج ؛ فعلمت حينئذ أنّ ملك سليمان من الله تعالى ، ف (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي : بعبادة غيرك. وقيل : ظنّت في سليمان أنه يريد تغريقها في الماء ، فلمّا علمت أنه صرح ممرّد قالت : ربّ إنّي ظلمت نفسي بذلك الظّنّ ، وأسلمت مع سليمان ، ثم تزوّجها سليمان. وقيل : إنه ردّها إلى مملكتها وكان يزورها في كلّ شهر مرّة ويقيم عندها ثلاثة أيام ، وأنها ولدت منه. ويقال : إنه زوّجها ببعض الملوك ولم يتزوجها هو.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧))

قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ) مؤمن وكافر (يَخْتَصِمُونَ) وفيه قولان : أحدهما : أنه قولهم : (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) الآيات (٢). والثاني : أنه قول كلّ فريق منهم : الحقّ معي. قوله تعالى : (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) وذلك حين قالوا : إن كان ما أتيتنا به حقّا فائتنا بالعذاب. وفي السّيّئة والحسنة قولان : أحدهما : أنّ السّيّئة : العذاب ، والحسنة : الرّحمة ، قاله مجاهد. والثاني : أنّ السّيّئة : البلاء ، والحسنة ، العافية ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (لَوْ لا) أي : هلّا (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) من الشّرك (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فلا تعذّبون. (قالُوا اطَّيَّرْنا) قال ابن قتيبة : المعنى : تطيّرنا وتشاءمنا (بِكَ) ، فأدغمت التاء في الطاء ، وأثبتت الألف ، ليسلم

__________________

(١) هو جزء من عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي وهو في «ديوان الهذليين» ١ / ١٣٦ وتمامه :

على طرق كنحور الركاب

تحسب أعلامهن الصروحا

(٢) الأعراف : ٧٥ ـ ٨٠.

٣٦٥

السكون لما بعدها. وقال الزّجّاج : الأصل : تطيّرنا ، فأدغمت التاء في الطاء ، واجتلبت الألف لسكون الطاء ؛ فإذا ابتدأت قلت : اطّيّرنا ، وإذا وصلت لم تذكر الألف وتسقط لأنها ألف وصل ، وإنما تطيّروا به ، لأنهم قحطوا وجاعوا ، ف (قالَ) لهم (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) وقد شرحنا هذا المعنى في الأعراف. وفي قوله تعالى : (تُفْتَنُونَ) ثلاثة أقوال : أحدها : تختبرون بالخير والشرّ ، قاله ابن عباس. والثاني : تصرفون عن دينكم ، قاله الحسن. والثالث : تبتلون بالطاعة والمعصية ، قاله قتادة.

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

قوله تعالى : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) وهي الحجر التي نزلها صالح (تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يريد : في أرض الحجر ، وفسادهم : كفرهم ومعاصيهم ، وكانوا يسفكون الدّماء ويثبون على الأموال والفروج ، وهم الذين عملوا في قتل النّاقة. وروي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح قالا : كان فسادهم كسر الدّراهم والدّنانير ، (قالُوا) فيما بينهم (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي : احلفوا بالله (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي : لنقتلنّ صالحا (وأهله) ليلا (ثم لنقولن) وقرأ حمزة ، والكسائيّ : «لتبيتنّه وأهله ثم لتقولنّ» بالتاء فيهما. وقرأ مجاهد ، وأبو رجاء ، وحميد بن قيس : «ليبيتنّه» بياء وتاء مرفوعتين «ثم ليقولنّ» بياء مفتوحة وقاف مرفوعة وواو ساكنة ولام مرفوعة (لِوَلِيِّهِ) أي : لوليّ دمه إن سألنا عنه (ما شَهِدْنا) أي : ما حضرنا (مَهْلِكَ أَهْلِهِ) قرأ الأكثرون بضمّ الميم وفتح اللام ؛ والمهلك يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإهلاك ، ويجوز أن يكون الموضع. وروى أبو بكر ، وأبان عن عاصم : بفتح الميم واللام ، يريد الهلاك ؛ يقال : هلك يهلك مهلكا. وروى عنه حفص ، والمفضّل : بفتح الميم وكسر اللام ، وهو اسم المكان ، على معنى : ما شهدنا موضع هلاكهم ؛ فهذا كان مكرهم ، فجازاهم الله عليه فأهلكهم. وفي صفة إهلاكهم أربعة أقوال : أحدها : أنهم أتوا دار صالح شاهرين سيوفهم ، فرمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم ، قاله ابن عباس. والثاني : رماهم الله بصخرة فقتلتهم ، قاله قتادة. والثالث : أنهم دخلوا غارا ينتظرون مجيء صالح ، فبعث الله صخرة سدّت باب الغار ، قاله ابن زيد. والرابع : أنهم نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح ، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «أنّا دمّرناهم» بفتح الألف. وقرأ الباقون بكسرها. فمن كسر استأنف ، ومن فتح ، فقال أبو عليّ : فيه وجهان : أحدهما : أن يكون بدلا من (عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ). والثاني : أن يكون محمولا على مبتدأ مضمر ، كأنه قال : هو أنّا دمّرناهم.

قوله تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) قال الزّجّاج : هي منصوبة على الحال ؛ المعنى : فانظر إلى بيوتهم خاوية.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ

٣٦٦

دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨))

قوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) فيه قولان : أحدهما : وأنتم تعلمون أنّها فاحشة. والثاني : بعضكم يبصر بعضا. قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) قال ابن عباس : تجهلون القيامة وعاقبة العصيان. قوله تعالى : (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي : جعلناها بتقديرنا وقضائنا عليها من الباقين في العذاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم : «قدرناها» خفيفة ، وهي في معنى المشدّدة. وباقي القصّة قد تقدّم تفسيره.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١))

قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) هذا خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يحمد الله على هلاك الأمم الكافرة ، وقيل : على جميع نعمه ، (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) فيهم أربعة أقوال :

أحدها : الرّسل ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وروى عنه عكرمة ، قال : اصطفى إبراهيم بالخلّة ، وموسى بالكلام ، ومحمّدا بالرّؤية. والثاني : أنهم أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رواه أبو مالك عن ابن عباس ، وبه قال السّدّيّ. والثالث : أنهم الذين وحّدوه وآمنوا به ، رواه عطاء عن ابن عباس. والرابع :

أنه أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن السّائب.

قوله تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) قال أبو عبيدة : مجازه : أو ما تشركون ، وهذا خطاب للمشركين ؛ والمعنى : الله خير لمن عبده ، أم الأصنام لعابديها؟! ومعنى الكلام : أنه لمّا قصّ عليهم قصص الأمم الخالية ، أخبرهم أنّه نجّى عابديه ، ولم تغن الأصنام عنهم. قوله تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ) تقديره : أمّا يشركون خير ، أمّن خلق السّموات (وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) فأمّا الحدائق ، فقال ابن قتيبة : هي البساتين ، واحدها : حديقة ، سمّيت بذلك لأنه يحدق عليها ، أي : يحظر ، والبهجة : الحسن.

قوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي : ما ينبغي لكم ذلك لأنكم لا تقدرون عليه. ثم قال مستفهما منكرا عليهم : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : ليس معه إله (بَلْ هُمْ) يعني : كفّار مكّة (قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) وقد شرحناه في فاتحة (الأنعام). (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي : مستقرّا لا تميد بأهلها (وَجَعَلَ خِلالَها) أي : فيما بينها (أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) أي : مانعا من قدرته بين العذب والملح أن يختلطا ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قدر عظمة الله عزوجل.

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما

٣٦٧

 تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) وهو : المكروب المجهود ؛ (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) يعني الضّرّ (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي : يهلك قرنا وينشئ آخرين ، و (تَذَكَّرُونَ) بمعنى تتّعظون. وقرأها أبو عمرو بالياء ، والباقون بالتاء (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) أي : يرشدكم إلى مقاصدكم إذا سافرتم (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) وقد بيّنّاها في الأنعام (١) وشرحنا ما يليها من الكلمات فيما مضى (٢) إلى قوله : (وَما يَشْعُرُونَ) يعني من في السّموات والأرض (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي : متى يبعثون بعد موتهم.

قوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «بل أدرك» قال مجاهد : «بل» بمعنى «أم» والمعنى : لم يدرك علمهم ، وقال الفرّاء : المعنى : هل أدرك علمهم علم الاخرة؟ فعلى هذا يكون المعنى : إنهم لا يقفون في الدنيا على حقيقة العلم بالآخرة. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «بل ادّارك» على معنى : بل تدارك ، أي : تتابع وتلاحق ، فأدغمت التاء في الدال. ثم في معناها قولان : أحدهما : بل تكامل علمهم يوم القيامة لأنهم مبعوثون ، قاله الزّجّاج : وقال ابن عباس : ما جهلوه في الدّنيا ، علموه في الاخرة. والثاني : بل تدارك ظنّهم وحدسهم في الحكم على الاخرة ، فتارة يقولون : إنها كائنة ، وتارة يقولون : لا تكون ، قاله ابن قتيبة. وروى أبو بكر عن عاصم : «بل ادّرك» على وزن افتعل من أدركت. قوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أي : بل هم اليوم في شكّ من القيامة (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) قال ابن قتيبة : أي : من علمها. وما بعد هذا قد سبق بيانه (٣) إلى قوله : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) يعنون : العذاب الذي تعدنا. (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) قال ابن عباس : قرب لكم. وقال ابن قتيبة : تبعكم ، واللام زائدة ، كأنه قال : ردفكم. وفي ما تبعهم ممّا استعجلوه قولان :

أحدهما : يوم بدر. والثاني : عذاب القبر.

قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) قال مقاتل : على أهل مكّة حين لا يعجّل عليهم

__________________

(١) الأنعام : ٦٣ ، ٩٧.

(٢) الأعراف : ٥٧ ، يونس : ٤.

(٣) النحل : ١٢٧ ، المؤمنون : ٣٥ ، ٨٢.

٣٦٨

العذاب. قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي : ما تخفيه (وَما يُعْلِنُونَ) بألسنتهم من عداوتك وخلافك ؛ والمعنى أنه يجازيهم عليه. (وَما مِنْ غائِبَةٍ) أي : وما من جملة غائبة ، (إِلَّا فِي كِتابٍ) يعني اللّوح المحفوظ ؛ والمعنى : إنّ علم ما يستعجلونه من العذاب بيّن عند الله وإن غاب عن الخلق.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢))

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وذلك أنّ أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابا يطعن بعضهم على بعض ، فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه ، فلو أخذوا به لسلموا. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) يعني بين بني إسرائيل (بِحُكْمِهِ) وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : «بحكمه» بكسر الحاء وفتح الكاف.

قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) قال المفسّرون : هذا مثل ضربه الله للكفّار فشبّههم بالموتى. قوله تعالى : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) وقرأ ابن كثير : «ولا يسمع الصّمّ» بفتح ميم «يسمع» وضمّ ميم «الصّمّ». قوله تعالى : (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي : أنّ الصّمّ إذا أدبروا عنك ثم ناديتهم ولم يسمعوا ، فكذلك الكافر. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ) أي : ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى ، (إِنْ تُسْمِعُ) سماع إفهام (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا).

قوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) «وقع» بمعنى وجب ، وفي المراد بالقول ثلاثة أقوال : أحدها : العذاب ، قاله ابن عباس. والثاني : الغضب ، قاله قتادة. والثالث : الحجّة ، قاله ابن قتيبة. ومتى ذلك؟ فيه قولان : أحدهما : إذا لم يأمروا بمعروف ، ولم ينهوا عن منكر ، قاله ابن عمر ، وأبو سعيد الخدري. والثاني : إذا لم يرج صلاحهم ، حكاه أبو سليمان الدّمشقي ، وهو معنى قول أبي العالية. والإشارة بقوله : (عَلَيْهِمْ) إلى الكفار الذين تخرج الدّابّة عليهم. وللمفسّرين في صفة الدّابّة أربعة أقوال :

(١٠٦٨) أحدها : أنها ذات وبر وريش ، رواه حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عباس : ذات زغب وريش لها أربع قوائم.

والثاني : أنّ رأسها ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن إيّل ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كلّ مفصلين اثنا عشر ذراعا ، رواه ابن جريج عن أبي الزّبير.

____________________________________

(١٠٦٨) هو الحديث الآتي.

٣٦٩

والثالث : أنّ وجهها وجه رجل ، وسائر خلقها كخلق الطّير ، قاله وهب.

والرابع : أنّ لها أربع قوائم وزغبا وريشا وجناحين ، قاله مقاتل.

وفي المكان الذي تخرج منه خمسة أقوال : أحدها : من الصّفا.

(١٠٦٩) روى حذيفة بن اليمان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون ، تضطرب الأرض تحتهم ، وينشقّ الصّفا ممّا يلي المسعى ، وتخرج الدّابّة من الصّفا ، أول ما يبدو منها رأسها ، ملمّعة ذات وبر وريش ، لن يدركها طالب ، ولن يفوتها هارب».

(١٠٧٠) وفي حديث آخر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «طولها ستون ذراعا» ، وكذلك قال ابن مسعود : تخرج من الصّفا.

(١٠٧١) وقال ابن عمر : تخرج من صدع في الصّفا كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها.

وقال عبد الله بن عمر : تخرج الدّابّة فيمسّ رأسها السّحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا.

(١٠٧٢) والثاني : أنها تخرج من شعب أجياد ، روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعن ابن عمر مثله.

والثالث : تخرج من بعض أودية تهامة ، قاله ابن عباس. والرابع : من بحر سدوم ، قاله وهب بن منبّه. والخامس : أنها تخرج بتهامة بين الصّفا والمروة ، حكاه الزّجّاج.

(١٠٧٣) وقد روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تخرج الدّابّة معها خاتم سليمان ، وعصا موسى ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم ، حتى إنّ أهل البيت ليجتمعون ، فيقول

____________________________________

(١٠٦٩) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٧١٠٠ من حديث حذيفة بن اليمان ، وإسناده ضعيف لضعف روّاد بن الجراح.

وقال ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ٤٦٤ عن هذا الحديث : لا يصح. وورد من حديث أبي طفيل عن أبي سريحة أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» ص ٤٠١ والطيالسي ١٠٦٩ والحاكم ٤ / ٤٨٤ ح ٨٤٩٠ وإسناده ضعيف لضعف طلحة بن عمرو الحضرمي كما قال الذهبي متعقبا للحاكم في تصحيحه للحديث.

(١٠٧٠) عزاه الحافظ في «تخريجه» ٣ / ٣٨٤ للثعلبي من حديث حذيفة اه. ولم يبين إسناده ، وتفرّد الثعلبي به دليل على وهنه ، وهذا بالنسبة لصدر الحديث (أن طولها ستون ذراعا) وأما باقي لفظ حديث حذيفة فهو المتقدم.

وانظر تفاصيل ذلك في «الفتن» لنعيم بن حماد ص ٤٠١ و «الدر» ٥ / ٢١٧ ـ ٢٢٠ وابن كثير ٣ / ٣٨٧ و «المستدرك» ٤ / ٤٨٤ ـ ٤٨٦. وانظر «تفسير القرطبي» ١٣ / ٢١١ بتخريجنا.

(١٠٧١) موقوف ضعيف. أخرجه الطبري ٢٧٠٩٤ من حديث ابن عمر ، وإسناده ضعيف لضعف عطية بن سعد العوفي. وأخرجه نعيم بن حماد ص ٤٠٣ من طريق فضيل بن مرزوق به لكن عن ابن عمرو ، وهو أشبه فإن هذا الأثر متلقى عن أهل الكتاب ، وابن عمر ما روى عن أهل الكتاب بخلاف ابن عمرو ، والله أعلم.

(١٠٧٢) ضعيف. مداره على رباح بن عبيد الله ، وهو منكر الحديث. أخرجه ابن عدي ٣ / ٧٣ و ٧ / ١١٢ والواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٨٥ والذهبي في «الميزان» ٢ / ٣٧ / ٢٧٢٣ من طرق عن هشام بن يوسف عن رباح بن عبيد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.

(١٠٧٣) أخرجه الترمذي ٣١٨٧ وابن ماجة ٤٠٦٦ وأحمد ٢ / ٢٩٥ والطبري ٢٧١٠١ والحاكم ٤ / ٤٨٥ ونعيم بن حماد في «الفتن» ص ٤٠٣ والحاكم ٤ / ٤٨٥ من طرق عن حماد بن سلمة به ، سكت عليه الحاكم! وكذا الذهبي! وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد ، فقد ضعفه غير واحد ، روى مناكير كثيرة ، وهذا منها.

ـ وأخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٤٨٥ من طريق حماد بن سلمة بهذا الإسناد موقوفا على أبي هريرة. وهو أصح من المرفوع ، والله أعلم.

٣٧٠

هذا : يا مؤمن ، ويقول هذا : يا كافر».

(١٠٧٤) وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تسم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه : مؤمن ، وتسم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه : كافر ، وتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين». وقال حذيفة بن أسيد : إنّ للدّابّة ثلاث خرجات : خرجة في بعض البوادي ثم تنكتم ، وخرجة في بعض القرى ثم تنكتم ، فبينما الناس عند أشرف المساجد ـ يعني المسجد الحرام ـ إذ ارتفعت الأرض ، فانطلق الناس هرابا ، فلا يفوتونها ، حتى إنّها لتأتي الرجل وهو يصلّي ، فتقول : أتتعوّذ بالصّلاة ، والله ما كنت من أهل الصّلاة ، فتخطمه ، وتجلو وجه المؤمن. وقال عبد الله بن عمرو : إنها تنكت في وجه الكافر نكتة سوداء فتفشو في وجهه فيسودّ وجهه ، وتنكت في وجه المؤمن نكتة بيضاء فتفشو في وجهه حتّى يبيضّ وجهه ، فيعرف الناس المؤمن والكافر ، ولكأنّي بها قد خرجت في عقب ركب من الحاجّ.

قوله تعالى : (تُكَلِّمُهُمْ) قرأ الأكثرون بتشديد اللام ، فهو من الكلام. وفيما تكلّمهم به ثلاثة أقوال : أحدها : أنها تقول لهم : إنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، قاله قتادة. والثاني : تكلّمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام ، قاله السّدّيّ. والثالث : تقول : هذا مؤمن ، وهذا كافر ، حكاه الماوردي. وقرأ ابن أبي عبلة ، والجحدري : بتسكين الكاف وكسر اللام وفتح التاء فهو من الكلم ؛ قال ثعلب : والمعنى : تجرحهم. وسئل ابن عباس عن القراءتين ، فقال : كلّ ذلك والله تفعله تكلّم المؤمن ، وتكلم الفاجر والكافر ، أي : تجرحه.

قوله تعالى : (أَنَّ النَّاسَ) قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ بفتح الهمزة ، وكسرها الباقون ؛ فمن فتح أراد : تكلّمهم بأنّ الناس ، وهكذا قرأ ابن مسعود وأبو عمران الجوني : «تكلّمهم بأنّ الناس» بزيادة باء مع فتح الهمزة ؛ ومن كسر فلأنّ معنى «تكلّمهم» تقول لهم : إنّ الناس ، والكلام قول.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) الفوج : الجماعة من الناس كالزّمرة ، والمراد به : الرّؤساء والمتبوعين في الكفر ، حشروا وأقيمت الحجّة عليهم. وقد سبق معنى (يُوزَعُونَ) (١) (حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى موقف لحساب (قالَ) الله تعالى لهم : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) هذا استفهام إنكار عليهم ووعيد لهم (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) فيه قولان : أحدهما : لم تعرفوها حقّ معرفتها. والثاني : لم تحيطوا علما ببطلانها. والمعنى : إنكم لم تتفكّروا في صحّتها ، (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في الدنيا فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه؟! قوله تعالى : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) قد شرحناه آنفا (٢) (بِما ظَلَمُوا) أي : بما أشركوا (فَهُمْ لا

____________________________________

(١٠٧٤) صدره تقدم برقم ١٠٦٩ ، وهو حديث حذيفة ، واختصره المصنف.

ـ وقوله «تصرخ ثلاث ...» هو من حديث أبي هريرة ، وتقدم تخريجه برقم ١٠٧٢.

__________________

(١) النمل : ١٧.

(٢) النمل : ٨٢.

٣٧١

 يَنْطِقُونَ) بحجّة عن أنفسهم. ثم احتجّ عليهم بالآية التي تلي هذه. ومعنى قوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) يبصر فيه لابتغاء الرّزق.

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) قال ابن عباس : هذه النّفخة الأولى.

قوله تعالى : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) قال المفسّرون : المعنى : فيفزع من في السّموات ومن في الأرض ، والمراد أنهم ماتوا ، بلغ بهم الفزغ إلى الموت.

وفي قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم الشهداء ، قاله أبو هريرة ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير. والثاني : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، ثم إنّ الله تعالى يميتهم بعد ذلك ، قاله مقاتل. والثالث : أنهم الذين في الجنة من الحور وغيرهنّ ، وكذلك من في النار ، لأنهم خلقوا للبقاء ، ذكره أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا. قوله تعالى : (وَكُلٌ) أي : من الأحياء الذين ماتوا ثم أحيوا «آتوه» وقرأ حمزة وحفص عن عاصم : «أتوه» بفتح التاء مقصورة ، أي : يأتون الله يوم القيامة (داخِرِينَ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : صاغرين. قال أبو عبيدة : «كلّ» لفظه لفظ الواحد ، ومعناه يقع على الجميع ، فهذه الآية في موضع جمع.

قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ) قال ابن قتيبة : هذا يكون إذا نفخ في الصّور ، تجمع الجبال وتسيّر فهي لكثرتها تحسب (جامِدَةً) أي : واقفة (وَهِيَ تَمُرُّ) أي : تسير سير السّحاب ، وكذلك كلّ جيش عظيم يحسبه النّاظر من بعيد واقفا وهو يسير ، لكثرته ، قال الجعديّ يصف جيشا :

بأرعن مثل الطّود تحسب أنّهم

وقوف لحاج والرّكاب تهملج (١)

قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ) قال الزّجّاج : هو منصوب على المصدر ، لأنّ قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) دليل على الصّنعة ، فكأنه قال : صنع الله ذلك صنعا ، ويجوز الرفع على معنى : ذلك صنع الله. فأمّا الإتقان ، فهو في اللغة : إحكام الشيء.

قوله تعالى : (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «يفعلون» بالياء. وقرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ بالتاء.

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) قد شرحنا الحسنة والسيّئة في آخر الأنعام (٢). وفي قوله تعالى : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قولان : أحدهما : فله خير منها يصل إليه ، وهو الثواب ، قاله ابن عباس والحسن

__________________

(١) الرّعن : الأنف العظيم من الجبل تراه متقدما ، ويقال : الجيش الأرعن : هو المضطرب لكثرته. والطود : الجبل العظيم. والحاج : جمع حاجة. والهملجة والهملاج : حسن سير الدابة في سرعة.

(٢) الأنعام : ١٦٠.

٣٧٢

وعكرمة. والثاني : فله أفضل منها ، لأنه يأتي بحسنة فيعطى عشر أمثالها ، قاله زيد بن أسلم.

قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر : «من فزع يومئذ» مضافا. وقرأ عاصم. وحمزة ، والكسائيّ : «من فزع» بالتنوين «يومئذ» بفتح الميم. وقال الفرّاء : الإضافة أعجب إليّ في العربية ، لأنه فزع معلوم ، ألا ترى إلى قوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (١). فصيّره معرفة ، فإذا أضفت مكان المعرفة كان أحبّ إليّ ، واختار أبو عبيدة قراءة التنوين وقال : هي أعمّ التأويلين ، فيكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم. قال أبو عليّ الفارسيّ : إذا نون جاز أن يعنى به فزع واحد ، وجاز أن يعنى به الكثرة ، لأنه مصدر ، والمصادر تدلّ على الكثرة وإن كانت مفردة الألفاظ ، كقوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (٢) ، وكذلك إذا أضيف جاز أن يعنى به فزع واحد ، وجاز أن يعنى به الكثرة ؛ وعلى هذا القول ، القراءتان سواء ، فإن أريد به الكثرة ، فهو شامل لكلّ فزع يكون في القيامة ، وإن أريد به الواحد ، فهو المشار إليه بقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ). وقال ابن السّائب : إذا أطبقت النّار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها ، وأهل الجنّة آمنون من ذلك الفزع. قوله تعالى : (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ) قال المفسرون : هي الشرك (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ) يقال كببت الرجل : إذا القيته لوجهه ؛ وتقول لهم خزنة جهنم : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إلاجزاءَ ما كنتم تعملون في الدنيا من الشرك.

(إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَـٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))

قوله تعالى : (إِنَّمَا أُمِرْتُ) المعنى : قل للمشركين : (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَـٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : «التي حرمها» وهي مكة ، وتحريمها : تعظيم حرمتها بالمنع من القتل فيها والسبي والكف عن صيدها وشجرها ، (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) لأنه خالقه ومالكه ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : المخلصين لله بالتوحيد ، (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) عليكم (فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أي : فله ثواب اهتدائه (وَمَن ضَلَّ) أي : أخطا طريق الهدى (فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ) أي : ليس على الا البلاغ ، وذكر المفسرون أن هذا منسوخ بأية السيف. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : قل لمن ضَل : الحمدلله الذي وفقنا لقبول ما امتنعتم منه (سَيُرِيكُمْ ـ ءايته) ومتى يريهم؟ فيه قولان : أحدهما : في الدنيا ثم فيها ثلاثة أقوال : أحدها : أن منها الدخان وانشقاق القمر ، وقد أراهم ذلك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : سيريكم آياته فتعرفونها في السماء وفي انفسكم ، وفي الرّزق ، قاله مجاهد ، والثالث : القتل ببدر ، قاله مقاتل. والثاني : سيريكم آياته في الأخرة فتعرفونها على ما قال في الدنيا ، قاله الحسن. قوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «تعملون» بالتاء ، على معنى : قل لهم. وقرأ الباقون بالياء ، على أنه وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم. والله أعلم بالصّواب.

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٣.

(٢) لقمان : ١٩.

٣٧٣

سورة القصص

وهي مكّيّة كلّها غير آية منها ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) (١) فإنها نزلت عليه وهو بالجحفة في وقت خروجه للهجرة ، هذا قول ابن عباس. وروي عن الحسن ، وعطاء ، وعكرمة : أنها مكّيّة كلّها. وزعم مقاتل : أنّ فيها من المدنيّ : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢)) إلى قوله تعالى : (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٢) وفيها آية ليست بمكّيّة ولا مدنيّة وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) نزلت بالجحفة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

قوله تعالى : (طسم) قد سبق تفسيره (٣). قوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي : طغى وتجبّر في أرض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي : فرقا وأصنافا في خدمته (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) وهم بنو إسرائيل ، واستضعافه إيّاهم : استعبادهم ، (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) بالقتل والعمل بالمعاصي. (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) وقرأ أبو رزين ، والزّهري ، وابن محيصن ، وابن أبي عبلة : «يذبح» بفتح الياء وسكون الذال خفيفة. قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) أي : ننعم (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم بنو إسرائيل ، (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) يقتدى بهم في الخير ؛ وقال قتادة : ولاة وملوكا (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لملك فرعون بعد غرقه. قوله تعالى : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) وقرأ حمزة ، والكسائيّ ، وخلف : «ويرى» بياء مفتوحة وإمالة الألف التي بعد الراء «فرعون وهامان وجنودهما» بالرفع. ومعنى الآية : أنهم أخبروا أنّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل ، فكانوا على وجل منهم ، فأراهم الله ما كانوا يحذرون.

__________________

(١) القصص : ٨٥.

(٢) القصص : ٥٥.

(٣) مضى الكلام على ذلك في أول سورة البقرة.

٣٧٤

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩))

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّه إلهام ، قاله ابن عباس. والثاني : أنّ جبريل أتاها بذلك ، قاله مقاتل. والثالث : أنّه كان رؤيا منام ، حكاه الماوردي. قال مقاتل : واسم أمّ موسى «يوخابذ» (١). قوله تعالى : (أَنْ أَرْضِعِيهِ) قال المفسّرون : كانت امرأة من القوابل مصافية لأمّ موسى ، فلما وضعته تولّت أمرها ثم خرجت فرآها بعض العيون فجاؤوا ليدخلوا على أمّ موسى ، فقالت أخته : يا أمّاه هذا الحرس بالباب ، فلفّت موسى في خرقة ووضعته في التّنّور وهو يسجر ، فدخلوا ثم خرجوا ، فقالت لأخته : أين الصّبيّ ، قالت : لا أدري ، فسمعت بكاءه من التّنّور فاطلعت وقد جعل الله عليه النار بردا وسلاما ، فأرضعته بعد ولادته ثلاثة أشهر ، وقيل : أربعة أشهر ، فلمّا خافت عليه صنعت له التّابوت (٢). وفي قوله : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) قولان (٣) : أحدهما : إذا خفت عليه القتل ، قاله مقاتل. والثاني : إذا خفت عليه أن يصيح أو يبكي فيسمع صوته ، قاله ابن السّائب. وفي قوله تعالى : (وَلا تَخافِي) قولان : أحدهما : أن يغرق ، قاله ابن السّائب. والثاني : أن يضيع ، قاله مقاتل. قال الأصمعيّ : قلت لأعرابيّة : ما أفصحك! فقالت : أو بعد هذه الآية فصاحة وهي قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) جمع فيها بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين؟!

قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) الالتقاط : إصابة الشيء من غير طلب. والمراد بآل فرعون : الذين تولّوا أخذ التّابوت من البحر. وفي الذين التقطوه ثلاثة أقوال : أحدها : جواري امرأة فرعون ، قاله السّدّيّ. والثاني : ابنة فرعون ، قاله محمّد بن قيس. والثالث : أعوان فرعون ، قاله ابن إسحاق. قوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) أي : ليصير بهم الأمر إلى ذلك ، لا أنهم أخذوه لهذا ، وهذه اللام تسمّى لام العاقبة ، وقد شرحناها في يونس (٤) ، وللمفسّرين في معنى الكلام قولان : أحدهما : ليكون لهم عدوّا في دينهم وحزنا لما يصنعه بهم. والثاني : عدوّا لرجالهم وحزنا على نسائهم ، فقتل الرجال بالغرق ، واستعبد النساء. (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) وهي آسية بنت مزاحم ، وكانت من بني إسرائيل تزوّجها فرعون : (قُرَّتُ عَيْنٍ) قال الزّجّاج : رفع «قرّة عين» على إضمار «هو». قال المفسّرون : كان فرعون لا

__________________

(١) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو غير حجة.

(٢) هذه الأقوال مصدرها كتب الأقدمين.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٠ / ٣٠ : وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : إن الله تعالى ذكره أمر أم موسى أن ترضعه ، فإذا خافت عليه من عدو الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليم وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادتها إياه. واليم الذي أمرت أن تلقيه فيه هو النيل.

(٤) يونس : ٨٨.

٣٧٥

يولد له إلّا البنات ، فقالت : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فنصيب منه خيرا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فيه أربعة أقوال : أحدها : لا يشعرون أنّه عدوّ لهم ، قاله مجاهد. والثاني : أنّ هلاكهم على يديه ، قاله قتادة. والثالث : لا يشعر بنو إسرائيل أنّا التقطناه ، قاله محمّد بن قيس. والرابع : لا يشعرون أنّي أفعل ما أريد لا ما يريدون ، قاله محمّد بن إسحاق.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) فيه أربعة أقوال : أحدها : فارغا من كلّ شيء إلّا من ذكر موسى ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والضّحّاك. والثاني : أصبح فؤادها فزعا ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وهي قراءة أبي رزين ، وأبي العالية ، والضّحّاك ، وقتادة ، وعاصم الجحدري ، فإنهم قرءوا : «فزعا» بزاي معجمة. والثالث : فارغا من وحينا بنسيانه ، قاله الحسن ، وابن زيد. والرابع : فارغا من الحزن ، لعلمها أنّه لم يقتل ، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة : وهذا من أعجب التفسير ، كيف يكون كذلك والله يقول : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها)؟! وهل يربط إلّا على قلب الجازع المحزون؟!

قوله تعالى : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) في هذه الهاء قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى موسى. ومتى أرادت هذا؟ فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه حين فارقته ؛ روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كادت تقول : يا بنيّاه. قال قتادة : وذلك من شدة وجدها. والثاني : حين حملت لرضاعه كادت تقول : هو ابني ، قاله السّدّيّ. والثالث : أنّه لمّا كبر وسمعت الناس يقولون : موسى بن فرعون ، كادت تقول : لا بل هو ابني ، قاله ابن السّائب. والقول الثاني : أنها ترجع إلى الوحي ؛ والمعنى : إن كادت لتبدي بالوحي ، حكاه ابن جرير.

قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) قال الزّجّاج : المعنى : لو لا ربطنا على قلبها ، والرّبط : إلهام الصّبر وتشديد القلب وتقويته. قوله تعالى : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : من المصدّقين بوعد الله. (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) قال ابن عباس : قصّي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا ، أي : أحيّ هو ، أو قد أكلته الدّوابّ؟ ونسيت الذي وعدها الله فيه. وقال وهب : إنّما قالت لأخته : قصّيه ، لأنّها سمعت أنّ فرعون قد أصاب صبيّا في تابوت. قال مقاتل : واسم أخته : مريم. قال ابن قتيبة : ومعنى «قصّيه» : قصّي أثره واتبعيه (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي : عن بعد منها عنه وإعراض ، لئلّا يفطنوا ، والمجانبة من هذا. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو مجلز : «عن جناب» بفتح الجيم والنون وبألف بعدهما. وقرأ ابن مسعود ، وأبو عمران الجوني : «عن جانب» بفتح الجيم وكسر النون وبينهما ألف. وقرأ قتادة ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري : «عن جنب» بفتح الجيم وإسكان النون من غير ألف. قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فيه قولان : أحدهما : وهم لا يشعرون أنّه عدوّ لهم ، قاله مجاهد. والثاني : لا يشعرون أنّها أخته ، قاله السّدّيّ.

٣٧٦

قوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) وهي جمع مرضع (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل أن نردّه على أمّه ، وهذا تحريم منع ، لا تحريم شرع. قال المفسّرون : بقي ثمانية أيام ولياليهنّ ، كلّما أتي بمرضع لم يقبل ثديها ، فأهمّهم ذلك واشتدّ عليهم (فَقالَتْ) لهم أخته : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) فقالوا لها : نعم ، من تلك؟ فقالت : أمّي ، قالوا : وهل لها لبن؟ قالت : لبن هارون. فلمّا جاءت قبل ثديها. وقيل : إنّها لمّا قالت : (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) قالوا : لعلّك تعرفين أهله ، قالت : لا ، ولكني إنما قلت : وهم للملك ناصحون.

قوله تعالى : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) قد شرحناه في طه (١).

قوله تعالى : (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ) برد ولدها (حَقٌ) وهذا علم عيان ومشاهدة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ الله وعدها أن يردّه إليها.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧))

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قد فسّرنا هذه الآية في سورة يوسف (٢) ، وكلام المفسّرين في لفظ الآيتين متقارب ، إلّا أنهم فرّقوا بين بلوغ الأشدّ وبين الاستواء. فأما بلوغ الأشد فقد سلف بيانه في سورة الأنعام (٣). وفي مدّة الاستواء لهم قولان : أحدهما : أنه أربعون سنة ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد. والثاني : ستون سنة ، ذكره ابن جرير. قال المفسّرون : مكث عند أمّه حتى فطمته ، ثم ردّته إليهم ، فنشأ في حجر فرعون وامرأته واتّخذاه ولدا.

قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) فيها قولان : أحدهما : أنها مصر. والثاني : مدينة بالقرب من مصر. قال السّدّيّ : ركب فرعون يوما وليس عنده موسى ، فلمّا جاء موسى ركب في إثره فأدركه المقيل في تلك المدينة. وقال غيره : لمّا توهّم فرعون في موسى أنّه عدوّه أمر بإخراجه من مدينته ، فلم يدخل إلّا بعد أن كبر ، فدخلها يوما (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها). وفي ذلك الوقت أربعة أقوال : أحدها : أنّه كان يوم عيد لهم ، وكانوا قد اشتغلوا فيه بلهوهم ، قاله عليّ عليه‌السلام. والثاني : أنه دخل نصف النهار ، رواه جماعة عن ابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير. والثالث : بين المغرب والعشاء ، قاله وهب بن منبّه. والرابع : أنّهم لمّا أخرجوه لم يدخل عليهم حتى كبر ، فدخل على حين غفلة عن ذكره ، لأنّه قد نسي أمره ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) أي : من أصحابه من بني إسرائيل (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) أي : من أعدائه من القبط ، والعدوّ يذكر للواحد وللجمع. قال الزّجّاج : وإنما قيل في الغائب : «هذا» و «هذا» ،

__________________

(١) طه : ٤٠.

(٢) يوسف : ٢٢.

(٣) الأنعام : ١٥٢.

٣٧٧

على جهة الحكاية للحضرة ؛ والمعنى : أنه إذا نظر إليهما النّاظر قال : هذا من شيعته ، وهذا من عدوّه. قال المفسّرون : وكان القبطيّ قد سخّر الإسرائيليّ ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون (فَاسْتَغاثَهُ) أي : فاستنصره ، (فَوَكَزَهُ) قال الزّجّاج : الوكز : أن يضربه بجمع كفّه. وقال ابن قتيبة : «فوكزه» أي : لكزه ، يقال : وكزته ولكزته ولهزته : إذا دفعته ، (فَقَضى عَلَيْهِ) أي : قتله ؛ وكلّ شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه. وللمفسّرين فيما وكزه به قولان : أحدهما : كفّه ، قاله مجاهد. والثاني : عصاه ، قاله قتادة. فلمّا مات القبطيّ ندم موسى لأنه لم يرد قتله ، و (قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي : هو الذي هيّج غضبي حتى ضربت هذا ، (إِنَّهُ عَدُوٌّ) لابن آدم (مُضِلٌ) له مبين عداوته. ثم استغفر ف (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي : بقتل هذا ، ولا ينبغي لنبيّ أن يقتل حتى يؤمر. (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) بالمغفرة (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) قال ابن عباس : عونا للكافرين. وهذا يدلّ على أنّ الإسرائيليّ الذي أعانه موسى كان كافرا.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠))

قوله تعالى : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ) وهي التي قتل بها القبطيّ (خائِفاً) على نفسه (يَتَرَقَّبُ) أي : ينتظر سوءا يناله منهم ويخاف أن يقتل به (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ) وهو الإسرائيليّ (يَسْتَصْرِخُهُ) أي : يستغيث به على قبطيّ آخر أراد أن يسخّره أيضا (قالَ لَهُ مُوسى) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى القبطيّ. الثاني : إلى الإسرائيليّ ، وهو أصحّ. فعلى الأول يكون المعنى : (إِنَّكَ لَغَوِيٌ) بتسخيرك وظلمك. وعلى الثاني فيه قولان : أحدهما : أن يكون الغويّ بمعنى المغوي ، كالأليم بمعنى المؤلم والوجيع بمعنى الموجع والمعنى : إنّك لمضلّ حين قتلت بالأمس رجلا بسببك ، وتدعوني اليوم إلى آخر. والثاني : أن يكون الغويّ بمعنى الغاوي ؛ والمعنى : إنّك غاو في قتالك من لا تطيق دفع شرّه عنك.

قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي : بالقبطيّ (قالَ يا مُوسى) هذا قول الإسرائيليّ من غير خلاف علمناه بين المفسّرين ؛ قالوا : لمّا رأى الإسرائيليّ غضب موسى عليه حين قال له : «إنّك لغويّ مبين» ورآه قد همّ أن يبطش بالفرعونيّ ، ظنّ أنّه يريده فخاف على نفسه ف (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي) وكان قوم فرعون لم يعلموا من قاتل القبطيّ ، إلّا أنّهم أتوا إلى فرعون فقالوا : إنّ بني إسرائيل قتلوا رجلا منّا فخذ لنا بحقّنا ، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه لآخذ لكم حقّكم ، فبينا هم يطوفون ولا يدرون من القاتل ، وقعت هذه الخصومة بين الإسرائيليّ والقبطيّ في اليوم الثاني فلمّا قال الإسرائيليّ لموسى : «أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس» انطلق القبطيّ إلى فرعون فأخبره أنّ موسى هو الذي قتل الرجل ، فأمر بقتل موسى ، فعلم بذلك رجل من شيعة موسى فأتاه فأخبره ، فذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى). فأمّا الجبّار ، فقال السّدّيّ : هو القتّال ، وقد شرحناه في

٣٧٨

هود (١) ، وأقصى المدينة : آخرها وأبعدها ، ويسعى ، بمعنى يسرع. قال ابن عباس : وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون ، وسيأتي الخلاف في اسمه في سورة المؤمن (٢). فأمّا الملأ ، فهم الوجوه من الناس والأشراف. وفي قوله : (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) ثلاثة أقوال : أحدها : يتشاورون فيك ليقتلوك ، قاله أبو عبيدة. والثاني : يهمّون بك ، قاله ابن قتيبة. والثالث : يأمر بعضهم بعضا بقتلك ، قاله الزّجّاج.

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

قوله تعالى : (فَخَرَجَ مِنْها) أي : من مصر (خائِفاً) وقد مضى تفسيره (٣).

قوله تعالى : (نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني المشركين أهل مصر. (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) قال ابن قتيبة : أي : تجاه مدين ونحوها ، وأصله : اللّقاء ، وزيدت فيه التاء ، قال الشاعر :

فاليوم قصّر عن تلقائك الأمل (٤)

أي : عن لقائك. قال المفسّرون : خرج خائفا بغير زاد ولا ظهر ، وكان بين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام ، ولم يكن له بالطريق علم ، ف (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي : قصده. قال ابن عباس : لم يكن له علم بالطريق إلّا حسن ظنّه بربّه. وقال السّدّيّ : بعث الله تعالى له ملكا فدلّه ، قالوا : ولم يكن له في طريقه طعام إلّا ورق الشّجر ، فورد ماء مدين وخضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال ؛ والأمّة ؛ الجماعة ، وهم الرّعاة ، (يَسْقُونَ) مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) أي : من سوى الأمّة (امْرَأَتَيْنِ) وهم ابنتا شعيب ؛ قال مقاتل : واسم الكبرى : صبورا ، والصّغرى : عبرا (تَذُودانِ) قال ابن قتيبة : أي : تكفّان غنمهما ، فحذف الغنم اختصارا. قال المفسّرون : إنما فعلتا ذلك ليفرغ الناس وتخلو لهما البئر ، قال موسى : (ما خَطْبُكُما) أي : ما شأنكما لا تسقيان؟! (قالَتا لا نَسْقِي) وقرأ ابن مسعود وأبو الجوزاء وابن يعمر وابن السّميفع : «لا نسقي» برفع النون (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) وقرأ أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر : «يصدر» بفتح الياء وضمّ الدال ، أي : حتى يرجع الرّعاء. وقرأ الباقون : «يصدر» بضمّ

__________________

(١) هود : ٥٩.

(٢) غافر : ٢٨.

(٣) القصص : ١٨.

(٤) هو عجز بيت للراعي النميري وصدره : أملت خيرك هل تأتي مواعده

٣٧٩

الياء وكسر الدال ، أرادوا : حتى يردّ الرّعاء غنمهم عن الماء. والرّعاء : جمع راع ، كما يقال : صاحب وصحاب. وقرأ عكرمة وسعيد بن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري : «الرّعاء» بضمّ الراء ، والمعنى : نحن امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال ، (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر ؛ فلذلك احتجنا نحن إلى أن نسقي ، وكان على تلك البئر صخرة عظيمة ، فإذا فرغ الرّعاء من سقيهم أعادوا الصخرة ، فتأتي المرأتان إلى فضول حياض الرّعاء فتسقيان غنمهما. (فَسَقى) موسى (لَهُما). وفي صفة ما صنع قولان : أحدهما : أنه ذهب إلى بئر أخرى عليها صخرة لا يقتلعها إلّا جماعة من الناس ، فاقتلعها وسقى لهما ، قاله عمر بن الخطّاب وشريح. والثاني : أنه زاحم القوم على الماء وسقى لهما ، قاله ابن إسحاق ، والمعنى : سقى غنمهما لأجلهما.

(ثُمَّ تَوَلَّى) أي : انصرف (إِلَى الظِّلِ) وهو ظلّ شجرة (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما) اللام بمعنى إلى ، فتقديره : إنّي إلى ما (أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) وأراد بالخير : الطّعام. وحكى ابن جرير أنه أسمع المرأتين هذا الكلام تعريضا أن تطعماه. (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) المعنى : فلمّا شربت غنمهما رجعتا إلى أبيهما فأخبرتاه خبر موسى ، فبعث إحداهما تدعو موسى. وفيها قولان : أحدهما : الصّغرى. والثاني : الكبرى. فجاءته (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) قد سترت وجهها بكمّ درعها. وفي سبب استحيائها ثلاثة أقوال : أحدها : أنه كان من صفتها الحياء ، فهي تمشي مشي من لم تعتد الخروج والدّخول. والثاني : لأنها دعته لتكافئه ، وكان الأجمل عندها أن تدعوه من غير مكافأة. والثالث : لأنّها رسول أبيها.

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) قال المفسّرون : لمّا سمع موسى هذا القول كرهه وأراد أن لا يتبعها ، فلم يجد بدّا للجهد الذي به من اتّباعها ، فتبعها ، فكانت الرّيح تضرب ثوبها فيصف بعض جسدها ، فناداها : يا أمة الله ، كوني خلفي ودلّيني الطريق (فَلَمَّا جاءَهُ) أي : جاء موسى شعيبا (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي : أخبره بأمره من حين ولد والسبب الذي أخرجه من أرضه (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : لا سلطان لفرعون بأرضنا ولسنا في مملكته. (قالَتْ إِحْداهُما) وهي الكبرى : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي : اتّخذه أجيرا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي : خير من استعملت على عملك من قوي على عملك وأدّى الأمانة ؛ وإنّما سمّته قويّا ، لرفعه الحجر على رأس البئر ، وقيل : لأنه استقى بدلو لا يقلّها إلّا العدد الكثير من الرجال ، وسمّته أمينا ، لأنه أمرها أن تمشي خلفه. وقال السّدّيّ : قال لها شعيب : قد رأيت قوّته ، فما يدريك بأمانته؟ فحدّثته. قال المفسّرون : فرغب فيه شعيب ، فقال له : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) أي : أزوّجك (١) (إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي

__________________

(١) قال القرطبي في «التفسير» ١٣ / ٢٧٢ : استدل أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح ، وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف منه. وقال علماؤنا في المشهور : ينعقد النكاح بكل لفظ. وقال أبو حنيفة. ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد.

ـ وقال الإمام الموفق في «المغني» ٩ / ٤٦٠ : وينعقد النكاح بلفظ الإنكاح والتزويج والجواب عنهما إجماعا ، وهما اللذان ورد بهما نص الكتاب في قوله تعالى : (زَوَّجْناكَها) وقوله سبحانه (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) ولا ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج ، وبهذا قال ابن المسيب وعطاء والزهري وربيعة والشافعي.

وقال الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأبو عبيد وداود : ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع والتمليك ، وفي لفظ الإجارة روايتان عن أبي حنيفة ، وقال مالك ينعقد بذلك إذا ذكر المهر اه ملخصا.

٣٨٠