زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٣

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٣

(٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))

قوله تعالى : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) والمعنى : هل يسمعون دعاءكم. وقرأ سعيد بن جبير وابن يعمر وعاصم الجحدري : «هل يسمعونكم» بضمّ الياء وكسر الميم ، (إِذْ تَدْعُونَ) قال الزّجّاج : إن شئت بيّنت الذال ، وإن شئت أدغمتها في التاء وهو أجود في العربية لقرب الذال من التاء. قوله تعالى : (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) أي : إن عبدتموهم (أَوْ يَضُرُّونَ) إن لم تعبدوهم؟ فأخبروا عن تقليد آبائهم. قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) فيه وجهان : أحدهما : أنّ لفظة لفظ الواحد والمراد به الجميع ؛ فالمعنى : فإنّهم أعداء لي. والثاني : فإنّ كلّ معبود لكم عدوّ لي. فإن قيل : ما وجه وصف الجماد بالعداوة؟ فالجواب : من وجهين. أحدهما : أنّ معناه : فإنهم عدوّ لي يوم القيامة إن عبدتهم. والثاني : أنه من المقلوب ؛ والمعنى : فإنّي عدوّ لهم ، لأنّ من عاديته عاداك ، قاله ابن قتيبة. وفي قوله تعالى : (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) قولان : أحدهما : أنه استثناء من الجنس ، لأنه علم أنهم كانوا يعبدون الله مع آلهتهم ، قاله ابن زيد. والثاني : أنه من غير الجنس ؛ فالمعنى : ولكنّ ربّ العالمين ليس كذلك ، قاله أكثر النّحويين.

قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي : إلى الرّشد ، لا ما تعبدون (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي هو رازقي الطّعام والشّراب.

فإن قيل : لم قال : «مرضت» ، ولم يقل : «أمرضني»؟ فالجواب : أنه أراد الثناء على ربّه فأضاف إليه الخير المحض ، لأنه لو قال : «أمرضني» لعدّ قومه ذلك عيبا ، فاستعمل حسن الأدب ؛ ونظيره قصّة الخضر حين قال في العيب : «فأردت» (١) ، وفي الخير المحض : «فأراد ربّك» (٢).

فإن قيل : فهذا يردّه قوله : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي). فالجواب : أنّ القوم كانوا لا ينكرون الموت ، وإنما يجعلون له سببا سوى تقدير الله عزوجل ، فأضافه إبراهيم إلى الله تعالى ، وقوله تعالى : (ثُمَّ يُحْيِينِ) يعني للبعث ، وهو أمر لا يقرّون به ، وإنما قاله استدلالا عليهم ؛ والمعنى : أنّ ما وافقتموني عليه موجب لصحّة قولي فيما خالفتموني فيه. قوله تعالى : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) يعني : ما يجري على مثلي من الزّلل ؛ والمفسّرون يقولون : إنما عنى الكلمات الثلاث التي ذكرناها في الأنبياء (٣) ، (يَوْمَ الدِّينِ) يعني : يوم الحشر والحساب ؛ وهذا احتجاج على قومه أنه لا تصلح الإلهيّة إلّا لمن فعل هذه الأفعال.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))

قوله تعالى : (هَبْ لِي حُكْماً) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : النبوّة ، قاله أبو صالح ، عن ابن عباس. والثاني : اللّبّ ، قاله عكرمة. والثالث : الفهم والعلم ، قاله مقاتل ، وقد بيّنّا قوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)

__________________

(١) الكهف : ٧٩.

(٢) الكهف : ٨٢.

(٣) الأنبياء : ٦٣.

٣٤١

في سورة يوسف (١) ، وبيّنّا معنى (لِسانَ صِدْقٍ) في مريم (٢) ؛ والمراد بالآخرين : الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة.

قوله تعالى : (وَاغْفِرْ لِأَبِي) قال الحسن : بلغني أنّ أمّه كانت مسلمة على دينه ، فلذلك لم يذكرها. فإن قيل : فقد قال : (اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) (٣). قيل : أكثر الذكر إنما جرى لأبيه ، فيجوز أن يسأل الغفران لأمّه وهي مؤمنة ، فأمّا أبوه فلا شكّ في كفره. وقد بيّنّا سبب استغفاره لأبيه في براءة (٤) ، وذكرنا معنى الخزي في آل عمران (٥). قوله تعالى : (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) يعني : الخلائق. قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فيه ستة أقوال : أحدها : سليم من الشرك ، قاله الحسن وابن زيد. والثاني : سليم من الشّكّ ، قاله مجاهد. والثالث : سليم ، أي صحيح ، وهو قلب المؤمن ، لأنّ قلب الكافر والمنافق مريض ، قاله سعيد بن المسيّب. والرابع : أنّ السّليم في اللغة : اللّديغ ، فالمعنى : كاللّديغ من خوف الله عزوجل ، قاله الجنيد. والخامس : سليم من آفات المال والبنين ، قاله الحسين بن الفضل. والسادس : سليم من البدعة ، مطمئنّ على السّنّة ، حكاه الثّعلبي.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

قوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي : قربت إليهم حتى نظروا إليها ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي : أظهرت (لِلْغاوِينَ) وهم الضّالّون ، (وَقِيلَ لَهُمْ) على وجه التّوبيخ (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) أي : يمنعونكم من العذاب ، أو يمتنعون منه.

قوله تعالى : (فَكُبْكِبُوا) قال السّدّيّ : هم المشركون. قال ابن قتيبة : ألقوا على رؤوسهم ، وأصل الحرف «كبّبوا» من قولك : كببت الإناء ، فأبدل من الباء الوسطى كافا ، استثقالا لاجتماع ثلاث باءات ، كما قالوا : «كمكموا» من «الكمّة» ، والأصل : «كمّموا». وقال الزّجّاج : معناه : طرح بعضهم على بعض : ؛ وحقيقة ذلك في اللغة تكرير الانكباب ، كأنه إذا ألقي ينكبّ مرّة بعد مرّة حتى يستقرّ فيها. وفي الغاوين ثلاثة أقوال : أحدها : المشركون ، قاله ابن عباس. والثاني : الشّياطين ، قاله قتادة ، ومقاتل. والثالث : الآلهة ، قاله السّدّيّ. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) أتباعه من الجنّ والإنس. (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) يعني : هم وآلهتهم ، (تَاللهِ إِنْ كُنَّا) قال الفراء : لقد كنّا. وقال الزجاج : ما كنّا إلا في ضلال.

قوله تعالى : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ) أي : نعدلكم بالله في العبادة (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) فيهم قولان : أحدهما : الشّياطين. والثاني : أوّلوهم الذين اقتدوا بهم ، قال عكرمة : إبليس وابن آدم القاتل. قوله

__________________

(١) يوسف : ١٠١.

(٢) مريم : ٥٠.

(٣) إبراهيم : ٤١.

(٤) التوبة : ١١٣.

(٥) آل عمران : ١٩٢.

٣٤٢

تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) هذا قولهم إذا شفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون.

(١٠٦٠) وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الرّجل يقول في الجنّة : ما فعل صديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم ، فيقول الله عزوجل : أخرجوا له صديقه إلى الجنّة ، فيقول من بقي في النار : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم؟. والحميم : القريب الذي تودّه ويودّك والمعنى : ما لنا من ذي قرابة يهمّه أمرنا ، (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي : رجعة إلى الدنيا (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لتحلّ لنا الشّفاعة كما حلّت للموحّدين.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠))

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) قال الزّجّاج : القوم مذكّرون ؛ والمعنى كذّبت جماعة قوم نوح. قوله تعالى : (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) كانت الأخوّة من جهة النّسب بينهم ، لا من جهة الدّين ، (أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله بتوحيده وطاعته ، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) على الرّسالة فيما بيني وبين ربّكم. (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي : على الدّعاء إلى التّوحيد.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦))

قوله تعالى : (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) وقرأ يعقوب بفتح الهمزة وتسكين التاء وضم العين : «وأتباعك الأرذلون» ، وفيهم ثلاثة أقوال : أحدها : الحاكة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : الحاكة والأساكفة ؛ قاله عكرمة. والثالث : المساكين الذين ليس لهم مال ولا عزّ ، قاله عطاء. وهذا جهل منهم ، لأنّ الصّناعات لا تضرّ في باب الدّيانات.

قوله تعالى : (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : لم أعلم أعمالهم وصنائعهم ، ولم أكلّف ذلك ، إنما كلّفت أن أدعوهم ، (إِنْ حِسابُهُمْ) فيما يعملون (إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) بذلك ما عبتموهم في صنائعهم ، (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : ما أنا بالذي لا أقبل إيمانهم لزعمكم أنهم الأرذلون. وفي قوله تعالى : (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) ثلاثة أقوال : أحدها : من المشتومين ، قاله الضّحّاك. والثاني : من المضروبين بالحجارة ، قاله قتادة. والثالث : من المقتولين بالرّجم ، قاله مقاتل.

(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢))

____________________________________

(١٠٦٠) أخرجه الواحدي في «الوسيط» ٣ / ٣٥٧ من حديث جابر ، وإسناده ضعيف جدا ، الوليد بن مسلم يدلس عن كذابين ، وهاهنا شيخه لم يسم ، وباقي الإسناد ثقات. وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس.

٣٤٣

قوله تعالى : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ) أي : اقض بيني وبينهم قضاء ، يعني : بالعذاب (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ) من ذلك العذاب. والفلك قد تقدّم بيانه. والمشحون : المملوء ، يقال : شحنت الإناء : إذا ملأته ؛ وكانت سفينة نوح قد ملئت من الناس والطّير والحيوان كلّه ، (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ) بعد نجاة نوح ومن معه (الْباقِينَ).

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥))

قوله تعالى : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) وقرأ عاصم الجحدري ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : «بكلّ ريع» بفتح الراء. قال الفرّاء : هما لغتان. ثم فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه المكان المرتفع ؛ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : بكلّ شرف. قال الزّجّاج : هو في اللغة : الموضع المرتفع من الأرض. والثاني : أنه الطريق ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس ، وبه قال قتادة. والثالث : الفجّ بين الجبلين ، قاله مجاهد. والآية : العلامة. وفيما أراد بهذا البناء ثلاثة أقوال. أحدها : أنه أراد : تبنون ما لا تسكنون ، رواه عطاء عن ابن عباس ؛ والمعنى أنه جعل بناءهم ما يستغنون عنه عبثا. والثاني : بروج الحمام ، قاله سعيد بن جبير ومجاهد. والثالث : أنهم كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ليشرفوا على المارّة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم ، وهو معنى قول الضّحّاك. قوله تعالى : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) فيها ثلاثة أقوال : أحدها : قصور مشيّدة ، قاله مجاهد. والثاني : مصانع للماء تحت الأرض ، قاله قتادة. والثالث : بروج الحمام ، قاله السّدّيّ. وفي قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) قولان : أحدهما : كأنّكم تخلدون ، قاله ابن عباس ، وأبو مالك. والثاني : كيما تخلدوا ، قاله الفرّاء ، وابن قتيبة. وقرأ عكرمة ، والنّخعيّ ، وقتادة ، وابن يعمر : «تخلدون» برفع التاء وتسكين الخاء وفتح اللام مخفّفة. وقرأ عاصم الجحدري ، وأبو حسين : «تخلدون» بفتح الخاء وتشديد اللام. قوله تعالى : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) المعنى : إذا ضربتم ضربتم بالسّياط ضرب الجبّارين ، وإذا عاقبتم قتلتم ؛ وإنما أنكر عليهم ذلك ، لأنه صدر عن ظلم ، إذ لو ضربوا بالسّيف أو بالسّوط في حقّ ما ليموا. وفي قوله : (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) قولان : أحدهما : ما عذبوا به في الدنيا. والثاني : عذاب جهنم.

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥))

قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائيّ : «خلق» بفتح الخاء وتسكين اللام ؛ قال ابن قتيبة : أرادوا اختلاقهم وكذبهم ، يقال : خلقت الحديث واختلقته ، أي : افتعلته ،

٣٤٤

قال الفرّاء : والعرب تقول للخرافات : أحاديث الخلق. وقرأ عاصم ، ونافع وابن عامر وحمزة وخلف «خلق الأولين» بضمّ الخاء واللام. وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، وعاصم الجحدري : «خلق» برفع الخاء وتسكين اللام ؛ والمعنى : عادتهم وشأنهم. قال قتادة : قالوا له : هكذا كان الناس يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ، ولا بعث لهم ولا حساب.

قوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي : على ما نفعله في الدنيا.

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢))

قوله تعالى : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا) أي : فيما أعطاكم الله في الدنيا (آمِنِينَ) من الموت والعذاب. قوله تعالى : (طَلْعُها هَضِيمٌ) الطّلع : الثّمر. وفي الهضيم سبعة أقوال : أحدها : أنه الذي قد أينع وبلغ ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنه الذي يتهشّم تهشّما ، قاله مجاهد. والثالث : أنه الذي ليس له نوى ، قاله الحسن. والرابع : أنه المذنّب من الرّطب ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : اللّين ، قاله قتادة ، والفرّاء. والسادس : أنه الحمل الكثير الذي يركب بعضه بعضا ، قاله الضّحّاك. والسابع : أنه الطّلع قبل أن ينشقّ عنه القشر وينفتح ، يريد أنه منضمّ مكتنز ، ومنه قيل : رجل أهضم الكشحين ، إذا كان منضمّهما ، قاله ابن قتيبة.

قوله تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «فرهين». وقرأ الباقون : «فارهين» بألف. قال ابن قتيبة : «فرهين» : أشرين بطرين ، ويقال : الهاء فيه مبدلة من حاء ، أي : فرحين ، و «الفرح» قد يكون السّرور ، وقد يكون الأشر ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١) أي : الأشرين ، ومن قرأ : «فارهين» فهي لغة أخرى ، يقال : فره وفاره ، كما يقال : فرح وفارح ، ويقال : «فارهين» أي : حاذقين ؛ قال عكرمة : حاذقين بنحتها.

قوله تعالى : (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) قال ابن عباس : يعني : المشركين. وقال مقاتل : هم التّسعة الذين عقروا النّاقة.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤))

__________________

(١) القصص : ٧٦.

٣٤٥

قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) قال الزّجّاج : أي : ممّن له سحر ، والسّحر : الرّئة ، والمعنى : أنت بشر مثلنا. وجائز أن يكون من المفعّلين من السّحر ؛ والمعنى : ممّن قد سحر مرّة بعد مرّة. قوله تعالى : (لَها شِرْبٌ) أي : حظّ من الماء. وقال ابن عباس : لها شرب معروف لا تحضروه معها ، ولكم شرب لا تحضر معكم ، فكانت إذا كان يومهم حضروا الماء فاقتسموه ، وإذا كان يومها شربت الماء كلّه. وقال قتادة : كانت إذا كان يوم شربها ، شربت ماءهم أول النهار ، وسقتهم اللبن آخر النهار. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو المتوكّل ، وأبو الجوزاء ، وابن أبي عبلة : «لها شرب» بضمّ الشين. قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) قال ابن عباس : ندموا حين رأوا العذاب ، على عقرها ، وعذابهم كان بالصّيحة.

(أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))

قوله تعالى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ) وهو جمع ذكر (مِنَ الْعالَمِينَ) أي : من بني آدم ، (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) قال الزّجّاج : وقرأ ابن مسعود : «ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم» يعني به الفروج. وقال مجاهد : تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرّجال.

قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أي : ظالمون معتدون. (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) أي : لئن لم تسكت عن نهينا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) من بلدنا. (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ) يعني : إتيان الرّجال (مِنَ الْقالِينَ) قال ابن قتيبة : أي : من المبغضين ، يقال : قليت الرّجل : إذا أبغضته.

قوله تعالى : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي : من عقوبة عملهم (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) وقد ذكرناهم في هود (١) ، (إِلَّا عَجُوزاً) يعني امرأته (فِي الْغابِرِينَ) أي : الباقين في العذاب. (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أهلكناهم بالخسف والحصب ، وهو قوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) يعني الحجارة.

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠))

قوله تعالى : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : «أصحاب ليكة» ها هنا ، وفي (ص) (٢) بغير همز والتاء مفتوحة ؛ وقرأ الباقون : «الأيكة» بالهمزة فيهما والألف. وقد سبق هذا الحرف (٣). (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) إن قيل : لم لم يقل : أخوهم ، كما قال في (الأعراف) (٤)؟ فالجواب : أنّ شعيبا لم يكن من نسل أصحاب الأيكة ، فلذلك لم يقل : أخوهم ؛ وإنما أرسل إليهم بعد أن أرسل

__________________

(١) هود : ٨٠.

(٢) ص : ١٣.

(٣) الحجر : ٧٨.

(٤) الأعراف : ٨٥.

٣٤٦

إلى مدين ، وهو من نسل مدين ، فلذلك قال هناك : أخوهم ، هذا قول مقاتل بن سليمان. وقد ذكرنا في سورة (هود) (١) عن محمّد بن كعب القرظي ، أنّ أهل مدين عذّبوا بعذاب الظّلّة ، فإن كانوا غير أصحاب الأيكة كما زعم مقاتل ، فقد تساووا في العذاب ، وإن كان أصحاب مدين هم أصحاب الأيكة ، وهو مذهب ابن جرير الطّبري كان حذف ذكر الأخ تخفيفا ، والله أعلم.

(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤))

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي : من النّاقصين للكيل ، يقال : أخسرت الكيل والوزن : إذا نقصته. وقد ذكرنا القسطاس في (بني إسرائيل) (٢).

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ) أي : وخلق الجبلّة. وقيل : المعنى : واذكروا ما نزل بالجبلّة (الْأَوَّلِينَ). وقرأ الحسن ، وأبو مجلز ، وأبو رجاء ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : «الجبلّة» برفع الجيم والباء جميعا مشدّدة اللام. وقرأ أبو عبد الرّحمن السّلمي ، والضّحّاك ، وعاصم الجحدري : بكسر الجيم وتسكين الباء وتخفيف اللام. قال ابن قتيبة : الجبلّة : الخلق ، يقال : جبل فلان على كذا ، أي : خلق ، قال الشاعر :

والموت أعظم حادث

ممّا يمرّ على الجبلّه

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))

قوله تعالى : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً) قال ابن قتيبة : أي قطعة (مِنَ السَّماءِ) ، و «كسف» جمع «كسفة» ، كما يقال : قطع وقطعة.

قوله تعالى : (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) أي : من نقصان الكيل والميزان ؛ والمعنى : إنه يجازيكم إن شاء ، وليس عذابكم بيدي ، (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) قال المفسّرون : بعث الله عليهم حرّا شديدا ، فأخذ بأنفاسهم ، فخرجوا من البيوت هربا إلى البرّيّة ، فبعث الله عليهم سحابة أظلّتهم من الشمس ، فوجدوا لها بردا ، ونادى بعضهم بعضا ، حتى إذا اجتمعوا تحتها ، أرسل الله عليهم نارا ، فكان ذلك من أعظم العذاب ، فالظّلّة : السّحابة التي أظلّتهم.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أََلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩))

__________________

(١) هود : ٩٤.

(٢) الإسراء : ٣٥.

٣٤٧

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ) يعني القرآن (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم : «نزل به» خفيفا «الرّوح الأمين» بالرفع. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم : «نزّل» مشددة الزاي «الرّوح الأمين» بالنّصب. والمراد بالرّوح الأمين جبريل ، وهو أمين على وحي الله تعالى إلى أنبيائه ، (عَلى قَلْبِكَ) قال الزّجّاج : معناه : نزل عليك فوعاه قلبك ، فثبت ، فلا تنساه أبدا. قوله تعالى : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي : ممّن أنذر بآيات الله المكذّبين ، (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) قال ابن عباس : بلسان قريش ليفهموا ما فيه.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) وقرأ الأعمش : «زبر» بتسكين الباء. وفي هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى القرآن ؛ والمعنى : وإنّ ذكر القرآن وخبره ، هذا قول الأكثرين. والثاني : أنها تعود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مقاتل. والزّبر : الكتب.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائيّ : «أو لم يكن» بالياء «آية» بالنّصب. وقرأ ابن عامر ، وابن أبي عبلة : «تكن» بالتاء «آية» بالرفع. وقرأ أبو عمران الجوني ، وقتادة : «تكن» بالتاء «آية» بالنصب ، قال الزّجّاج : إذا قلت : «يكن» بالياء ، فالاختيار نصب «آية» وتكون «أن» اسم كان ، وتكون «آية» خبر كان ، المعنى : أولم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّ ، وأنّ نبوّته حقّ؟! «آية» : علامة موضّحة ، لأنّ العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل وجدوا ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل. ومن قرأ «أولم تكن» بالتاء جعل «آية» هي الاسم ، و «أن يعلمه» خبر «تكن». ويجوز أيضا «أو لم تكن» بالتاء «آية» بالنّصب ، كقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) (١) وقرأ الشّعبيّ ، والضّحّاك ، وعاصم الجحدري : «أن تعلمه» بالتاء.

(١٠٦١) وقال ابن عباس : بعث أهل مكّة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إنّ هذا لزمانه ، وإنّا لنجد في التوراة صفته ، فكان ذلك آية لهم على صدقه.

قوله تعالى : (عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) قال الزّجّاج : هو جمع أعجم ، والأنثى عجماء ، والأعجم : الذي لا يفصح ، وكذلك الأعجميّ ؛ فأمّا العجمي : فالذي من جنس العجم ، أفصح أو لم يفصح. قوله تعالى : (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي : لو قرأه عليهم أعجميّ لقالوا : لا نفقه هذا ، فلم يؤمنوا.

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩))

____________________________________

(١٠٦١) لا أصل له. ذكره البغوي في «تفسيره» ٣ / ٣٩٨ والقرطبي ١٣ / ١٢٦ كلاهما عن ابن عباس بدون إسناد.

__________________

(١) الأنعام : ٢٣.

٣٤٨

قوله تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) قد شرحناه في الحجر (١). والمجرمون ها هنا : المشركون. قوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) قال الفرّاء : المعنى : كي لا يؤمنوا. فأمّا العذاب الأليم ، فهو عند الموت. (فَيَقُولُوا) عند نزول العذاب (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي : مؤخّرون لنؤمن ونصدّق.

(١٠٦٢) قال مقاتل : فلمّا أوعدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعذاب ، قالوا : فمتى هو؟ تكذيبا به ، فقال الله تعالى : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ).

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) قال عكرمة : عمر الدنيا. قوله تعالى : (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) أي : من العذاب. (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) بالعذاب في الدنيا (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) يعني : رسلا تنذرهم العذاب. (ذِكْرى) أي : موعظة وتذكيرا.

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢))

قوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ).

(١٠٦٣) سبب نزولها أنّ قريشا قالت : إنما تجيء بالقرآن الشياطين فتلقيه على لسان محمّد ، فنزلت هذه الآية ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) أي : أن ينزلوا بالقرآن (وَما يَسْتَطِيعُونَ) أن يأتوا به من السماء ، لأنهم قد حيل بينهم وبين السّمع بالملائكة والشّهب. (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) أي : عن الاستماع للوحي من السماء (لَمَعْزُولُونَ) فكيف ينزلون به؟! وقال عطاء : عن سماع القرآن لمحجوبون ، لأنهم يرجمون بالنجوم.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

قوله تعالى : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) قال ابن عباس : يحذّر به غيره ، يقول : أنت أكرم الخلق عليّ ، ولو اتّخذت من دوني إلها لعذّبتك.

قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).

(١٠٦٤) روى البخاريّ ومسلم من حديث أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزل الله تعالى

____________________________________

(١٠٦٢) لا أصل له. ذكره البغوي في «تفسيره» ٣ / ٣٩٩ عن مقاتل بدون إسناد. ومقاتل متهم بوضع الحديث.

(١٠٦٣) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو متروك يضع الحديث.

(١٠٦٤) صحيح. أخرجه البخاري ٢٧٥٣ و ٣٥٢٧ و ٤٧٧١ ومسلم ٢٠٦ والترمذي ٣١٨٥ والنسائي ٦ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩ وأحمد ٢ / ٣٣٣ وابن حبان ٦٤٦ و ٦٥٤٩ والبيهقي ٦ / ٢٨٠ والبغوي ٣٧٤٤ من طرق من حديث أبي هريرة.

واللفظ الأول للبخاري ، واللفظ الأخير لمسلم. قال : «لما أنزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا ، فاجتمعوا فعم وخص ، فقال : يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، فإني لا أملك لكم من الله شيئا ، غير أن لكم رحما سأبلّها ببلالها».

__________________

(١) الحجر : ١٢.

٣٤٩

«وأنذر عشيرتك الأقربين» فقال : «يا معشر قريش : اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا عبّاس بن عبد المطّلب لا أغني عنك من الله شيئا ، يا صفية عمّة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة بنت محمّد سليني ما شئت ما أغني عنك من الله شيئا» وفي بعض الألفاظ : «سلوني من مالي ما شئتم». وفي لفظ : «غير أنّ لكم رحما سأبلّها ببلالها».

ومعنى قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) : رهطك الأذنين. (فَإِنْ عَصَوْكَ) يعني : العشيرة (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) من الكفر. و (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي : ثق به وفوّض أمرك إليه ، فهو عزيز في نقمته ، رحيم لم يعجّل بالعقوبة. وقرأ نافع ، وابن عامر : «فتوكّل» بالفاء ، وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشّام. (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : حين تقوم إلى الصلاة ، قاله ابن عباس ، ومقاتل. والثاني : حين تقوم من مقامك ، قاله أبو الجوزاء. والثالث : حين تخلو ، قاله الحسن. قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ) أي : ونرى تقلّبك (فِي السَّاجِدِينَ) وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : وتقلّبك في أصلاب الأنبياء حتى أخرجك ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني : تقلّبك في الرّكوع والسجود والقيام مع المصلّين في الجماعة ؛ والمعنى : يراك وحدك ويراك في الجماعة ، وهذا قول الأكثرين منهم قتادة. والثالث : وتصرّفك في ذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين ، قاله الحسن.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣))

قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) هذا ردّ عليهم حين قالوا : إنما يأتيه بالقرآن الشياطين. فأمّا الأفّاك فهو الكذّاب ، والأثيم : الفاجر ؛ قال قتادة : وهم الكهنة.

قوله تعالى : (يُلْقُونَ السَّمْعَ) أي : يلقون ما سمعوه من السماء إلى الكهنة. وفي قوله تعالى : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) قولان : أحدهما : أنهم الشياطين. والثاني : الكهنة.

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

قوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) وقرأ نافع : «يتبعهم» بسكون التاء ؛ والوجهان حسنان ، يقال : تبعت واتّبعت ، مثل حفرت واحتفرت.

(١٠٦٥) وروى العوفيّ عن ابن عباس ، قال : كان رجلان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تهاجيا ، فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه ، فقال الله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ). وفي رواية أخرى عن ابن عباس ، قال : هم شعراء المشركين ، قال مقاتل : منهم عبد الله بن الزّبعري ، وأبو سفيان بن حرب ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ، في آخرين ، قالوا : نحن نقول مثل قول محمّد ، وقالوا الشّعر ، فاجتمع

____________________________________

(١٠٦٥) واه. أخرجه الطبري ٢٦٨٣٨ عن عطية العوفي عن ابن عباس ، وهو واه لأجل عطية العوفي.

٣٥٠

إليهم غواة من قومهم يسمعون أشعارهم ويروون عنهم (١).

وفي الغاوين ثلاثة أقوال : أحدها : الشياطين ، قاله مجاهد ، وقتادة. والثاني : السّفهاء ، قاله الضّحّاك. والثالث : المشركون ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) هذا مثل بمن يهيم في الأودية ؛ والمعنى أنهم يأخذون في كلّ فنّ من لغو وكذب وغير ذلك ؛ فيمدحون بباطل ويذمّون بباطل ، ويقولون : فعلنا ، ولم يفعلوا : قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا). قال ابن عباس :

(١٠٦٦) لمّا نزل ذمّ الشعراء ، جاء كعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وحسّان بن ثابت ، فقالوا : يا رسول الله ، أنزل الله هذا وهو يعلم أنّا شعراء ، فنزلت هذه الآية.

وقال المفسّرون : وهذا الاستثناء لشعراء المسلمين الذين مدحوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذمّوا من هجاه ، (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) أي : لم يشغلهم الشّعر عن ذكر الله ولم يجعلوا الشّعر همّهم. قال ابن زيد : وذكروا الله في شعرهم. وقيل : المراد بالذّكر : الشّعر في طاعة الله عزوجل.

قوله تعالى : (وَانْتَصَرُوا) أي : من المشركين (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) لأنّ لمشركين بدءوا بالهجاء. ثم أوعد شعراء المشركين ، فقال : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : أشركوا وهجوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) قال الزّجّاج : «أيّ» منصوبة بقوله : «ينقلبون» لا بقوله : «سيعلم» ، لأنّ «أيّا» وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها. ومعنى الكلام : إنهم ينقلبون إلى نار يخلّدون فيها. وقرأ ابن مسعود ، ومجاهد عن ابن عباس ، وأبو المتوكّل ، وأبو رجاء : «أيّ متقلّب يتقلّبون» بتاءين مفتوحتين وبقافين على كلّ واحدة منهما نقطتان وتشديد اللام فيهما. وقرأ أبيّ بن كعب ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وأبو مجلز ، وأبو عمران الجوني ، وعاصم الجحدري : «أيّ منفلت ينفلتون» بالفاء فيهما وبنونين ساكنين وبتاءين. وكان شريح يقول : سيعلم الظّالمون حظّ من نقصوا ، إنّ الظّالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النّصر. والله أعلم.

____________________________________

(١٠٦٦) خبر منكر ، لا يصح. أخرجه الطبري ٢٦٨٤٨ و ٢٦٨٥٩ عن سالم البراد وهو مرسل ، والمتن غريب ، فالسورة مكية والخبر مدني. وأخرجه ابن أبي حاتم عن عروة بنحوه كما في «تفسير ابن كثير» ٣ / ٤٤٠ وقال ابن كثير بعده : وهكذا قال ابن عباس ، وعكرمة وغير واحد وهذه مرسلات لا يعتمد عليها ، فالسورة مكية وهؤلاء الشعراء من الأنصار اه. بتصرف واختصار.

__________________

(١) عزاه المصنّف لمقاتل ، وهو متروك متهم.

٣٥١

سورة النّمل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨))

قوله تعالى : (طس) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قسم أقسم الله به ، وهو من أسمائه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه ، قال : هو اسم الله الأعظم. والثاني : اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة. والثالث : الطّاء من اللطيف ، والسين من السّميع ، حكاه الثّعلبي. قوله تعالى : (وَكِتابٍ مُبِينٍ) وقرأ أبو المتوكّل ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة : «وكتاب مبين» بالرفع فيهما. قوله تعالى : (وَبُشْرى) أي : بشرى بما فيه من الثواب للمصدّقين.

قوله تعالى : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) أي : حبّبنا إليهم قبيح فعلهم. وقد بيّنّا حقيقة التّزيين والعمه في سورة البقرة (١). وسوء العذاب : شديدة.

قوله تعالى : (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار.

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) قال ابن قتيبة : أي : يلقى عليك فتتلقّاه أنت ، أي : تأخذه. (إِذْ قالَ مُوسى) المعنى : اذكر إذ قال (٢) موسى.

__________________

(١) البقرة عند الآيات : ١٥ ، ٢١٢.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٤٤٢ : أي اذكر حين سار موسى بأهله ، فأضل الطريق وذلك في ليل وظلام ، فآنس من جانب الطور نارا ، فقال لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أي عن الطريق ، وكان كما قال ، فإنه رجع منها بخبر عظيم ، واقتبس منها نورا عظيما ، ولهذا قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي : فلما أتاها رأى منظرا هائلا عظيما حيث انتهى إليها ، والنار تضطرم في شجرة خضراء ، لا تزداد النار إلا توقدا ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس : لم تكن نارا ، إنما كانت نورا يتوهج.

٣٥٢

قوله تعالى : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائيّ ، ويعقوب إلّا زيدا : «بشهاب» بالتنوين. وقرأ الباقون على الإضافة غير منوّن. قال الزّجّاج : من نوّن الشّهاب ، جعل القبس من صفة الشّهاب ، وكلّ أبيض ذي نور ، فهو شهاب. فأمّا من أضاف ، فقال الفرّاء : هذا ممّا يضاف إلى نفسه إذا اختلفت الأسماء ، كقوله تعالى : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) (١). قال ابن قتيبة : الشّهاب : النّار ، والقيس : النار تقبس : يقال : قبست النّار قبسا ، واسم ما قبست : قبس.

قوله تعالى : (تَصْطَلُونَ) أي : تستدفئون ، وكان الزمان شتاء.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَها) أي : جاء موسى النّار ، وإنما كان نورا فاعتقده نارا ، (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ المعنى : قدّس من في النّار ، وهو الله عزوجل ، قاله ابن عباس ، والحسن ؛ والمعنى : قدّس من نادى من النّار ، لا أنّ الله عزوجل يحلّ في شيء. والثاني : أنّ «من» زائدة ؛ فالمعنى : بوركت النّار ، قاله مجاهد. والثالث : أنّ المعنى بورك على من في النّار ، أو فيمن في النّار ؛ قال الفرّاء : والعرب تقول : باركه الله ، وبارك عليه ، وبارك فيه ، بمعنى واحد ، والتقدير : بورك في من طلب النار ، وهو موسى ، فحذف المضاف. وهذه تحيّة من الله تعالى لموسى بالبركة ، كما حيّا إبراهيم بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ، فقالوا : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) (٢). فخرج في قوله تعالى : (بُورِكَ) قولان : أحدها : قدس. والثاني : من البركة. وفي قوله تعالى : (وَمَنْ حَوْلَها) ثلاثة أقوال : أحدها : الملائكة ، قاله ابن عباس ، والحسن. والثاني : موسى والملائكة ، قاله محمّد بن كعب. والثالث : موسى ؛ فالمعنى : بورك فيمن يطلبها وهو قريب منها.

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

قوله تعالى : (إِنَّهُ أَنَا اللهُ) الهاء عماد في قول أهل اللغة ؛ وعلى قول السّدّيّ : هي كناية عن المنادي ، لأنّ موسى قال : من هذا الذي يناديني؟ فقيل : «إنّه أنا الله».

قوله تعالى : (وَأَلْقِ عَصاكَ) في الآية محذوف ، تقديره : فألقاها فصارت حيّة ، (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) قال الفرّاء : الجانّ : الحيّة التي ليست بالعظيمة ولا بالصغيرة (٣).

قوله تعالى : (وَلَمْ يُعَقِّبْ) فيه قولان : أحدهما : لم يلتفت ، قاله قتادة. والثاني : لم يرجع ، قاله

__________________

(١) يوسف : ١٠٩.

(٢) هود : ٧٣.

(٣) قال ابن كثير رحمه‌الله ٣ / ٤٤٣ : الجانّ ضرب من الحيات ، أسرعه حركة ، وأكثره اضطرابا.

ـ وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل الجنّان التي في البيوت». أخرجه البخاري ٣٣١٢ و ٣٣٣١٣ ومسلم ٢٢٣٣ وأبو داود ٥٢٥٣ وابن حبان ٥٦٣٩.

٣٥٣

ابن قتيبة ، والزّجّاج. قال ابن قتيبة : وأهل النّظر يرون أنه مأخوذ من العقب ..

قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي : لا يخافون عندي. وقيل : المراد : في الموضع الذي يوحى إليهم فيه ، فكأنه نبّهه على أنّ من آمنة الله بالنبوّة من عذابه لا ينبغي أن يخاف من حيّة. وفي قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) ثلاثة أقوال (١) :

أحدها : أنه استثناء صحيح ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومقاتل ؛ والمعنى : إلّا من ظلم منهم فإنه يخاف. قال ابن قتيبة : علم الله تعالى أنّ موسى مستشعر خيفة من ذنبه في الرّجل الذي وكزه ، فقال : «إلّا من ظلم ثمّ بدّل حسنا» أي : توبة وندما ، فإنه يخاف ، وإني غفور رحيم.

والثاني : أنه استثناء منقطع ؛ والمعنى : لكنّ من ظلم فإنه يخاف ، قاله ابن السّائب ؛ والزّجّاج. وقال الفرّاء : «من» مستثناة من الذين تركوا في الكلام ، كأنه قال : لا يخاف لديّ المرسلون ، إنما الخوف على غيرهم ، إلّا من ظلم ، فتكون «من» مستثناة. وقال ابن جرير : في الآية محذوف ، تقديره : إلّا من ظلم ، فمن ظلم ثم بدّل حسنا.

والثالث : أنّ «إلّا» بمعنى الواو ، فهو كقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (٢) ، حكاه الفرّاء عن بعض النحويين ، ولم يرضه.

وقرأ أبيّ بن كعب ، وسعيد بن جبير ، والضّحّاك ، وعاصم الجحدري ، وابن يعمر : «ألا من ظلم» بفتح الهمزة وتخفيف اللام. وللمفسّرين في المراد بالظّلم ها هنا قولان (٣) :

أحدهما : المعاصي. والثاني : الشّرك. ومعنى «حسنا» توبة وندما.

وقرأ ابن مسعود ، والضّحّاك ، وأبو رجاء ، والأعمش ، وابن السّميفع ، وعبد الوارث عن أبي عمرو : «حسنا» بفتح الحاء والسين (بَعْدَ سُوءٍ) أي : بعد إساءة ، وقيل : الإشارة بهذا إلى أنّ موسى وإن كان قد ظلم نفسه بقتل القبطيّ ، فإنّ الله يغفر له ، لأنه ندم على ذلك وتاب.

قوله تعالى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) الجيب حيث جيب من القميص ، أي : قطع. قال ابن جرير : إنّما أمر بإدخال يده في جيبه ، لأنه كان عليه حينئذ مدرعة من صوف ليس لها كمّ. والسّوء : البرص. قوله تعالى : (فِي تِسْعِ آياتٍ) قال الزّجّاج : «في» من صلة قوله : «وألق عصاك» «وأدخل يدك» ، فالتأويل :

__________________

(١) قال الزمخشري في «الكشاف» ٣ / ٣٥٦ : و (إِلَّا) بمعنى لكن ، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان مظنّة لطروق الشبهة ، فاستدرك ذلك. والمعنى : ولكن من ظلم منهم أي فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء ، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى بوكزه القبطي ، وسماه ظلما ، كما قال موسى : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) ـ القصص : ١٦ ـ والحسن ، والسوء : حسن التوبة ، وقبح الذنب. وقال الطبري في «تفسيره» ٩ / ٥٠٠ : والصواب من القول في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ) أنه استثناء صحيح وهو قول الحسن البصري وابن جريج ومن قال قولهما. وقال ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ٤٤٣ : وهذا استثناء منقطع ، وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على شيء ثم أقلع عنه ورجع وأناب. فإن الله يتوب عليه كما قال تعالى (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) والآيات في هذا كثيرة.

(٢) البقرة : ١٥٠.

(٣) تقدم معنى الظلم بقول الزمخشري رحمه‌الله ، وابن كثير رحمه‌الله.

٣٥٤

أظهر هاتين الآيتين في تسع آيات. و «في» بمعنى «من» ، فتأويله : من تسع آيات ؛ تقول : خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان ، أي : منها فحلان. وقد شرحنا الآيات في بني إسرائيل (١). قوله تعالى : (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أي : مرسلا إلى فرعون وقومه ، فحذف ذلك لأنه معروف. (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) أي : بيّنة واضحة ، وهو كقوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) (٢) وقد شرحناه.

قوله تعالى : (قالُوا هذا) أي : هذا الذي نراه عيانا (سِحْرٌ مُبِينٌ). (وَجَحَدُوا بِها) أي : أنكروها (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) أنها من عند الله ، (ظُلْماً) أي : شركا وعلوّا أي : تكبّرا. وقال الزّجّاج : المعنى : وجحدوا بها ظلما وعلوّا ، أي : ترفّعا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) قال المفسّرون : علما بالقضاء وبكلام الطّير والدّوابّ وتسبيح الجبال (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بالنبوّة والكتاب وإلانة الحديد وتسخير الشياطين والجنّ والإنس (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) قال مقاتل : كان داود أشدّ تعبّدا من سليمان ، وكان سليمان أعظم ملكا منه وأفطن.

قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي : ورث نبوّته وعلمه وملكه ، وكان لداود تسعة عشر ذكرا ، فخصّ سليمان بذلك ، ولو كانت وراثة مال لكان جميع أولاده فيها سواء (٣).

قوله تعالى : (وَقالَ) يعني سليمان لبني إسرائيل (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) قرأ أبيّ بن كعب : «علمنا» بفتح العين واللام. قال الفرّاء : «منطق الطّير» : كلام الطّير كالمنطق إذا فهم ، قال الشاعر :

عجبت لها أنّى يكون غناؤها

فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما (٤)

ومعنى الآية : فهمنا ما تقول الطّير. قال قتادة : والنّمل من الطّير. (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قال الزّجّاج : أي : من كلّ شيء يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس. وقال مقاتل : أعطينا الملك والنبوّة والكتاب والرّياح ومنطق الطّير ، وسخّرت لنا الجنّ والشياطين. وروى جعفر بن محمّد عن أبيه ، قال : أعطي

__________________

(١) الإسراء : ١٠٨.

(٢) الإسراء : ٥٩.

(٣) هذا القول لا حجة فيه ، وهو قول الكلبي كما في «تفسير القرطبي» ١٣ / ١٤٩ ، والكلبي كذاب متروك.

ـ وانظر الكلام على توريث الأنبياء في سورة مريم : ٧.

(٤) البيت لحميد بن ثور يصف حمامة ، كما في «اللسان» فغر ، فغر فاه : فتحه ، ويعني بالمنطق : بكاؤه.

٣٥٥

سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر ، وملك أهل الدنيا كلّهم من الجنّ والإنس والشياطين والدّوابّ والطّير والسّباع ، وأعطي علم كلّ شيء ومنطق كلّ شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجّبة ، فذلك قوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). قوله تعالى : (إِنَّ هذا) يعني : الذي أعطينا (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي : الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا. (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي : جمع له كلّ صنف من جنده على حدة ، وهذا كان في مسير له ، (فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال مجاهد : يحبس أوّلهم على آخرهم. قال ابن قتيبة : وأصل الوزع : الكفّ والمنع. يقال : وزعت الرّجل ، أي : كففته ، ووازع الجيش : الذي يكفّهم عن التّفرّق ، ويردّ من شذّ منهم.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا) أي : أشرفوا (عَلى وادِ النَّمْلِ) وفي موضعه قولان :

أحدهما : أنه بالطّائف ، قاله كعب. والثاني : بالشّام ، قاله قتادة.

قوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ) وقرأ أبو مجلز ، وأبو رجاء وعاصم الجحدري ، وطلحة بن مصرّف : «نملة» بضمّ الميم ؛ أي : صاحت بصوت ، فلما كان ذلك الصوت مفهوما عبّر عنه بالقول ؛ ولمّا نطق النّمل كما ينطق بنو آدم ، أجري مجرى الآدميين ، فقيل : (ادْخُلُوا) ، وألهم الله تلك النّملة معرفة سليمان معجزا له ، وقد ألهم الله النّمل كثيرا من مصالحها تزيد به على الحيوانات ، فمن ذلك أنها تكسر كلّ حبّة تدّخرها قطعتين لئلا تنبت ، إلّا الكزبرة فإنها تكسرها أربع قطع ، لأنها تنبت إذا كسرت قطعتين ، فسبحان من ألهمها هذا! وفي صفة تلك النّملة قولان : أحدهما : أنها كانت كهيئة النّعجة ، قال نوف الشّامي : كان النّمل في زمن سليمان بن داود كأمثال الذئاب (١). والثاني : كانت نملة صغيرة. (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو المتوكّل ، وعاصم الجحدري : «مسكنكم» على التوحيد. قوله تعالى : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) الحطم : الكسر. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو رجاء : «ليحطمنّكم» بغير ألف بعد اللام. وقرأ ابن مسعود : «لا يحطمكم» بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون. وقرأ عمرو بن العاص ، وأبان : «يحطمنكم» بفتح الياء وسكون الحاء والنون جميعا. وقرأ ابن أبو المتوكّل ، وأبو مجلز : «لا يحطمنّكم» بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعا. وقرأ ابن السّميفع ، وابن يعمر ، وعاصم الجحدري : «يحطمنّكم» برفع الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون. والحطم : الكسر ، والحطام : ما تحطّم. قال مقاتل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وفي قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) قولان : أحدهما : وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النّملة ، قاله ابن عباس. والثاني : وأصحاب سليمان لا يشعرون بمكانكم ، لأنها علمت أنّه ملك لا بغي فيه ، وأنهم لو علموا بالنّمل ما توطّؤوهم ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) قال الزّجّاج ؛ «ضاحكا» منصوب ، حال مؤكّدة ، لأنّ «تبسّم» بمعنى «ضحك». قال المفسّرون : تبسّم تعجّبا ممّا قالت ، وقيل : من ثنائها عليه. وقال بعض العلماء : هذه الآية من عجائب القرآن ، لأنها بلفظة «يا» نادت «أيها» نبّهت «النّمل» عيّنت «ادخلوا» «مساكنكم» نصت «لا يحطمنكم» حذّرت «سليمان» خصّت «وجنوده» عمّت «وهم لا يشعرون» عذرت. قوله

__________________

(١) قال ابن كثير بعد أن ذكر قول نوف البكالي. هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت (الذياب) وإنما هو بالياء الموحدة ، وذلك تصحيف والله أعلم. فصوابه «بالباء» «ذباب» وإلا فهو من مجازفات نوف البكالي.

٣٥٦

تعالى : (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) قال ابن قتيبة : ألهمني ، أصل الإيزاع : الإغراء بالشيء ، يقال : أوزعته بكذا ، أي : أغريته به ، وهو موزع بكذا ، ومولع بكذا ، وقال الزّجّاج. تأويله في اللغة : كفّني عن الأشياء إلّا عن شكر نعمتك ؛ والمعنى : كفّني عمّا يباعد منك ، (وَأَنْ أَعْمَلَ) أي : وألهمني أن أعمل (صالِحاً تَرْضاهُ) قال المفسّرون : إنما شكر الله تعالى لأنّ الريح أبلغت إليه صوتها ففهم ذلك.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) التّفقّد : طلب ما غاب عنك ؛ والمعنى أنه طلب ما فقد من الطّير ؛ والطّير اسم جامع للجنس ، وكانت الطّير تصحب سليمان في سفره تظلّه بأجنحتها (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) قرأ ابن كثير ، وعاصم ، والكسائيّ : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) بفتح الياء. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة بالسكون ، والمعنى : ما للهدهد لا أراه؟! تقول العرب : مالي أراك كئيبا ، أي : مالك؟ فهذا من المقلوب الذي معناه معلوم. قال المفسّرون : لمّا فصل سليمان عن وادي النّمل ، وقع في قفر من الأرض ، فعطش الجيش فسألوه الماء ، وكان الهدهد يدلّه على الماء ، فإذا قال له : ها هنا الماء ، شقّقت الشياطين الصّخرة وفجّرت العيون قبل أن يضربوا أبنيتهم ، وكان الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزّجاجة ، فطلبه يومئذ فلم يجده. وقال بعضهم : إنما طلبه لأنّ الطّير كانت تظلّهم من الشمس ، فأخلّ الهدهد بمكانه ، فطلعت الشمس عليهم من الخلل.

قوله تعالى : (أَمْ كانَ) قال الزّجّاج : معناه : بل كان. قوله تعالى : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) فيه ستة أقوال : أحدها : نتف ريشه ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : نتفه وتشميسه ، قاله عبد الله بن شدّاد. والثالث : شدّ رجله وتشميسه ، قاله الضّحّاك. والرابع : أن يطليه بالقطران ويشمّسه ، قاله مقاتل بن حيّان. والخامس : أن يودعه القفص. والسادس : أن يفرّق بينه وبين إلفه ، حكاهما الثّعلبي. قوله تعالى : (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي) وقرأ ابن كثير : «ليأتينّني ، بنونين ، وكذلك هي في مصاحفهم. فأمّا السلطان ، فهو الحجّة ، وقيل : العذر.

وجاء في التفسير أنّ سليمان لمّا نزل في بعض مسيره ، قال الهدهد : إنه قد اشتغل بالنّزول فارتفع أنا إلى السماء فأنظر إلي طول الدنيا وعرضها ، فارتفع فرأى بستانا لبلقيس ، فمال إلى الخضرة فوقع فيه ، فإذا هو بهدهد قد لقيه ، فقال : من أين أقبلت؟ قال : من الشّام مع صاحبي سليمان ، فمن أين أنت؟ قال : من هذه البلاد ، وملكها امرأة يقال لها : بلقيس ، فهل أنت منطلق معي حتى ترى ملكها؟ قال : أخاف أن يتفقّدني سليمان وقت الصّلاة إذا احتاج إلى الماء ، قال : إنّ صاحبك يسرّه أن تأتيه بخبر هذه الملكة ، فانطلق معه ، فنظر إلى بلقيس وملكها ، (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) قرأ الجمهور بضمّ الكاف ، وقرأ

٣٥٧

عاصم بفتحها ، وقرأ ابن مسعود : «فتمكّث» بزيادة تاء ؛ والمعنى : لم يلبث إلّا يسيرا حتى جاء ، فقال سليمان : ما الذي أبطأ بك؟ (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي : علمت شيئا من جميع جهاته ممّا لم تعلم به (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «سبأ» نصبا غير مصروف ، وقرأ الباقون خفضا منوّنا (١).

(١٠٦٧) وجاء في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ سبأ رجل من العرب». وقال قتادة : هي أرض باليمن يقال لها : مأرب. وقال أبو الحسن الأخفش : إن شئت صرفت «سبأ» فجعلته اسم أبيهم ، أو اسم الحيّ ، وإن شئت لم تصرف فجعلته اسم القبيلة ، أو اسم الأرض. قال الزّجّاج : وقد ذكر قوم من النّحويين أنه اسم رجل. وقال آخرون : الاسم إذا لم يدر ما هو لم يصرف ؛ وكلا القولين خطأ ، لأنّ الأسماء حقّها الصّرف ، وإذا لم يعلم هل الاسم للمذكّر أم للمؤنّث ، فحقّه الصّرف حتى يعلم أنّه لا ينصرف ، لأنّ أصل الأسماء الصّرف. وقول الذين قالوا : هو اسم رجل ، غلط ، لأنّ سبأ هي مدينة تعرف بمأرب من اليمن ، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام ، فمن لم يصرفه جعله اسم مدينة ، ومن صرفه فلأنّه اسم البلد ، فيكون مذكّرا سمّي بمذكّر.

قوله تعالى : (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي : بخبر صادق ، (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يعني بلقيس (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قال الزّجّاج : معناه : من كلّ شيء يعطاه الملوك ويؤتاه الناس. والعرش : سرير الملك. قال قتادة : كان عرشها من ذهب ، قوائمه من جوهر مكلّل باللؤلؤ ، وكان أحد أبويها من الجنّ ، وكان

____________________________________

(١٠٦٧) صحيح. أخرجه الترمذي ٣٢٢٢ وابن سعد في «الطبقات» ١ / ٣٨ والطبري ٢٨٧٨٣ من طرق عن أبي أسامة عن الحسن بن الحكم ثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك به. وإسناده لين ، لأجل أبي سبرة ، فإنه مقبول ، وباقي الإسناد ثقات. وقال الترمذي. حسن غريب. وورد من وجه آخر. أخرجه البخاري في «التاريخ» ٧ / ١٢٦ / ٥٦٨ والحاكم ٢ / ٤٢٤ من طريق الحميدي عن فرج بن سعيد حدثني عمي ثابت بن سعيد عن أبيه عن فروة به. وإسناده حسن في المتابعات والشواهد ، لأجل ثابت بن سعيد بن أبيض ، فإنه مقبول هو وأبوه. وباقي الإسناد ثقات. وسكت عليه الحاكم ، وصححه الذهبي ، وورد من وجه آخر. أخرجه الطبري ٢٨٦٨٢ من طريق أبي حيان عن يحيى بن هانئ عن عروة المرادي عن فروة به. وإسناده ضعيف ، فيه مجاهيل ، وورد من وجه آخر. أخرجه الطبري ٢٨٧٨٤ من طريق أسباط بن نصر عن يحيى بن هانئ المرادي عن أبيه أو عن عمه ـ شك أسباط ـ قال : قدم فروة ، فهذا مرسل. وفيه من لم يسم فهو ضعيف. وله شاهد من حديث يزيد بن حصين ، أخرجه الطبراني ٢٢ / ٢٤٥. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ٩٤ / ١١٢٨٧ : رجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني علي بن الحسن الصائغ ، ولم أعرفه. قلت : ذكره الخطيب في «التاريخ» ١١ / ٣٧٦ من غير جرح أو تعديل ، وبكل حال يصلح شاهدا لما قبله ، ويشهد له حديث ابن عباس ، أخرجه الحاكم ٢ / ٤٢٣ وصححه ، ووافقه الذهبي. الخلاصة : هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده ، وقال ابن كثير في «التفسير» ٣ / ٥٣٨ : إسناده حسن قوي. وانظر «تفسير القرطبي» ١١٢ و «تفسير الشوكاني» ٢٠٤٩ وكلاهما بتخريجي.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ٩ / ٥٠٩ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لأن سبأ إن كان رجلا كما جاء به الأثر ، فإنه إذا أريد به اسم الرجل أجري ، وإن أريد به اسم القبيلة لم يجر ، وإن كان سبأ جبلا ، أجري لأنه يراد به الجبل بعينه ، وإن لم يجر فلأنه يجعل اسما للجبل وما حوله من البقعة.

٣٥٨

مؤخّر أحد قدميها مثل حافر الدّابة ، وقال مجاهد : كان قدماها كحافر الحمار. وقال ابن السّائب : لم يكن بقدميها شيء ، إنما وقع الجنّ فيها عند سليمان بهذا القول ، فلمّا جعل لها الصّرح بان له كذبهم. قال مقاتل : كان ارتفاع عرشها ثمانين ذراعا في عرض ثمانين ، وكانت أمّها من الجنّ (١). قال ابن جرير : وإنما صار هذا الخبر عذرا للهدهد ، لأنّ سليمان كان لا يرى لأحد في الأرض مملكة سواه ، وكان مع ذلك يحبّ الجهاد ، فلمّا دلّه الهدهد على مملكة لغيره ، وعلى قوم كفرة يجاهدهم ، صار ذلك عذرا.

قوله تعالى : (أَلَّا يَسْجُدُوا) قرأ الأكثرون : «ألّا» بالتشديد. قال الزّجّاج : والمعنى : وزيّن لهم الشيطان ألّا يسجدوا ، أي : فصدّهم لئلّا يسجدوا. وقرأ ابن عباس ، وأبو عبد الرّحمن السّلمي ، والحسن ، والزّهريّ وقتادة ، وأبو العالية ، وحميد الأعرج ، والأعمش ، وابن أبي عبلة ، والكسائيّ : «ألا يسجدوا» مخفّفة ، على معنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، فيكون في الكلام إضمار «هؤلاء» ويكتفى منها ب «يا» ، ويكون الوقف «ألا يا» والابتداء «اسجدوا» ؛ قال الفرّاء : فعلى هذه القراءة هي سجدة ، وعلى قراءة من شدّد لا ينبغي لها أن تكون سجدة. وقال أبو عبيدة : هذا أمر من الله مستأنف ، يعني : ألا يا أيّها الناس اسجدوا. وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ : «هلا يسجدوا» بهاء.

قوله تعالى : (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال ابن قتيبة : أي : المستتر فيهما ، وهو من خبأت الشيء : إذا أخفيته ، ويقال : خبء السموات : المطر ، وخبء الأرض : النبات. وقال الزّجّاج : كلّ ما خبأته فهو خبء ، فالخبء : كلّ ما غاب ؛ فالمعنى : يعلم الغيب في السموات والأرض. وقال ابن جرير : «في» بمعنى «من» فتقديره : يخرج الخبء من السموات.

قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) قرأ حفص عن عاصم ، والكسائيّ ، بالتاء فيهما. وقرأ الباقون بالياء. قال ابن زيد : من قوله : (أَحَطْتُ) إلى قوله : (الْعَظِيمِ) كلام الهدهد. وقرأ الضّحّاك ، وابن محيصن : «العظيم» برفع الميم.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١))

فلمّا فرغ الهدهد من كلامه (قالَ سَنَنْظُرُ) فيما أخبرتنا به (أَصَدَقْتَ) فيما قلت (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) وإنما شكّ في خبره ، لأنه أنكر أن يكون لغيره في الأرض سلطان. ثم كتب كتابا وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد وقال : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائيّ : «فألقهي» موصولة بياء. وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وحمزة : «فألقه» بسكون الهاء ، وروى قالون عن نافع : كسر الهاء من غير إشباع ؛ ويعني : إلى أهل سبأ ، (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) فيه قولان : أحدهما : أعرض. والثاني : انصرف ، (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي : ماذا يردّون من الجواب. فإن قيل : إذا تولّى عنهم فكيف يعلم جوابهم؟ فعنه جوابان (٢) : أحدهما : أنّ المعنى : ثم تولّ عنهم مستترا

__________________

(١) هذا وما قبله وأمثالها من الإسرائيليات المنكرة.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٣ / ٤٤٨ : كتب سليمان كتابا إلى بلقيس وقومها. وأعطاه للهدهد فحمله

٣٥٩

من حيث لا يرونك ، فانظر ماذا يردّون من الجواب ، وهذا قول وهب بن منبّه. والثاني : أنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، تقديره : فانظر ماذا يرجعون ثم تولّ عنهم ، وهذا مذهب ابن زيد. قال قتادة : أتاها الهدهد وهي نائمة فألقى الكتاب على نحرها فقرأته وأخبرت قومها. وقال مقاتل : حمله بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة ، فرفرف ساعة والناس ينظرون ، فرفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها ، فلمّا رأت الخاتم أرعدت وخضعت وخضع من معها من الجنود. واختلفوا لأيّ علّة سمّته كريما على سبعة أقوال : أحدها : لأنه كان مختوما ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني : لأنها ظنّته من عند الله عزوجل ، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث : أنّ معنى قولها : «كريم» : حسن ما فيه ، قاله قتادة ، والزّجّاج. والرابع : لكلام صاحبه ، فإنه كان ملكا ، ذكره ابن جرير. والخامس : لأنه كان مهيبا ، ذكره أبو سليمان الدّمشقي. والسادس : لتسخير الهدهد لحمله ، حكاه الماوردي. والسابع : لأنها رأت في صدره «بسم الله الرحمن الرحيم» ، حكاه الثّعلبي.

قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) أي : إنّ الكتاب من عنده (وَإِنَّهُ) أي : وإنّ المكتوب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) أي : لا تتكبّروا. وقرأ ابن عباس : «تغلوا» بغين معجمة وأتوني (مُسْلِمِينَ) أي : منقادين طائعين. ثم استشارت قومها ، ف (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) يعني الأشراف ، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر قائدا ، كلّ رجل منهم على عشرة آلاف. وقال ابن عباس : كان معها مائة ألف قيل ، مع كلّ قيل مائة ألف. وقيل : كانت جنودها ألف ألف ومائتي ألف.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

قوله تعالى : (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي : بيّنوا لي ما أفعل ، وأشيروا عليّ. قال الفرّاء : جعلت المشورة فتيا ، وذلك جائز لسعة اللغة. قوله تعالى : (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) أي : فاعلته (حَتَّى تَشْهَدُونِ) أي : تحضرون : والمعنى : إلّا بحضوركم ومشورتكم. (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) فيه قولان : أحدهما : أنهم أرادوا القوّة في الأبدان. والثاني : كثرة العدد والبأس والشجاعة في الحرب. وفيما أرادوا بذلك القول قولان : أحدهما : تفويض الأمر إلى رأيها. والثاني : تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم. ثم قالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي : في القتال وتركه. (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) قال الزّجّاج : المعنى : إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة. قوله تعالى : (أَفْسَدُوها) أي : خرّبوها (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي : أهانوا أشرافها ليستقيم لهم الأمر. ومعنى الكلام : أنها حذّرتهم مسير سليمان إليهم ودخوله بلادها. قوله تعالى :

____________________________________

وجاء قصر بلقيس إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها فألقاه إليها من كوة هناك بين يديها ، ثم تولى ناحية أدبا ورئاسة فتحيرت مما رأت وهالها ذلك ، ثم عمدت إلى الكتاب ، وقرأته وفتحت ختمه ، فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها ، ثم قالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره ، كون الطائر أتى به فألقاه إليها ثم تولى عنها أدبا وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك ، ولا سبيل لهم إلى ذلك.

٣٦٠